الرئيس الجديد
وأحسَّ فرعونُ في العهد الجديد بطمأنينة، فسكن غضبه، وترك الأمور بين يدَي الرجل الذي يثق به، وولَّى وجهه نحو المرأة التي استولَت على نفسه وقلبه وحواسِّه؛ ففي جوارها كان يَشعُر بطيب الحياة وبهجة الدنيا وأفراح النفس.
أمَّا سوفخاتب فكان ينوء بالتبِعة على عاتقه، ويعلم علم اليقين أنَّ مصر تستقبل توليتَه بحذَر وتجهُّم، وسخطٍ مكتوم. وقد أحسَّ بالوحشة منذ اللحظة الأولى التي وطِئَت فيها قدماه دار الحكومة؛ فالملك يرضى من الدنيا بالحبِّ، ويُولي كشحه الهموم والواجبات جميعًا، وحكَّام الأقاليم يوالونه بوجوههم، وقلوبهم تتبع كهنتَهم في كلِّ مكان. وتلفَّت الوزير حوله، فلم يجد سوى القائد طاهو عونًا ومشيرًا، وهما رجلان يختلفان في أمورٍ كثيرة، ولكنَّهما يأتلفان على حبِّ فرعون والإخلاص له، فلبَّى القائد نداءه، ومدَّ يده إليه، وشاركَه في وحشته وجلِّ متاعبه، وكافحا معًا لإنقاذ سفينة يطوف بها موجٌ صاخب، وتتجمَّع في أُفقها السحب والزوابع. على أنَّ سوفخاتب كانت تنقصُه مزايا القبطان المحنَّك، كان مخلصًا ينضَح قلبه بالأمانة والوفاء، حكيمًا تنجلي له حقائق الأمور، ولكن كانت تُعوِزه صفات الشجاعة والحزم، فرأى الخطأ منذ البدء، ولكنَّه لم يُحاوِل إصلاحه بقَدْر ما مضى في مداراته وتهوين عُقباه خشيةَ غضب مولاه أو إيلامه، وهكذا اطَّردتِ الأمور في السبيل الذي شقَّه الغضب.
وجاءت عيون طاهو الساهرة بخبرٍ هامٍّ. قالوا إنَّ خنوم حتب ارتحل بغتةً إلى منف، العاصمة الدينية، فأحدَث الخبر دهشةً لدى الوزير والقائد، واحتارا في السبب الذي من أجله رضي الرجل بمشقَّة الانتقال من الجنوب إلى الشمال، وتوقَّع سوفخاتب شرًّا، ولم يشكَّ في أنَّ خنوم حتب سيتصل بكبار رجال الكهنوت، وجميعهم ساخطون لما حلَّ بهم من ضنك، ولعلمهم بأنَّ الأموال التي ضُنَّ بها عليهم تُبعثر تحت قدمَي راقصة بيجة بغير حساب؛ فما من أحدٍ منهم يجهل هذه الحقيقة الآن، ومن يجهلها سيعلم بها بغير ريب، وسيَلْقى الكاهن فيهم تُربةً صالحة لبذر تعاليمه وترديد شكواه.
وظهَرتِ النذُر الأولى لسخط الكهنة؛ فقد عاد الرسل الذين أذاعوا نبأ اختيار سوفخاتب وزيرًا في أنحاء القطر، بالتهاني الرسمية من الأقاليم، أمَّا الكهنة فقد انطوَوْا على صمتٍ رهيب، حتَّى قال طاهو: «لقد بدءونا بالتحدِّي.»
ثم حُملَت الرسائل تترى من جميع المعابد، وعليها توقيعُ جميع الكهنة من جميع الطبقات تلتمس من فرعون إعادة النظر في مسألة أراضي المعابد، فكان إجماعًا خطير الشأن، زاد من متاعب سوفخاتب.
وفي يوم من الأيام دعا سوفخاتب طاهو إلى دار الحكومة، وجاءه القائد يَسْعى، فأشار الوزير إلى كرسيِّ الوزارة، وهو يتنهَّد، وقال: يكاد هذا الكرسي أن يميد بي.
فقال طاهو: إنَّ رأسك أكبرُ من أن يميد به هذا الكرسي.
فتنهَّد الرجل حزنًا، وقال: أغرقوني بسيلٍ من الالتماسات.
فسأله القائد باهتمام: هل عرضتَها على فرعون؟
– كلَّا أيها القائد، إنَّ فرعون لا يأذن لإنسان بمفاتحته في هذا الموضوع، وأنا لا أحظى بالمثول بين يدَيه إلَّا في فتراتٍ متباعدة جدًّا .. إنِّي أشعر بالارتباك والوحدة.
وصمت الرجلان برهة، فخلا كلُّ منهما إلى أفكاره، ثم هزَّ سوفخاتب رأسه متعجبًا، وقال وكأنَّه يحدِّث نفسه: إنَّه لَلسِّحر بعينه.
ونظر طاهو إلى الوزير نظرةً غريبة، وبغتَه المعنى الذي يقصده الرجل، فسَرتْ في جسده قشعريرة وامتُقِع لونه، ولكنَّه كبح جماح نفسه، وكان تعوَّد ذلك في المدَّة الجافَّة الأخيرة من حياته، وسأله ببساطةٍ كلَّفتْه جهدًا جهيدًا: أيَّ سحرٍ تعني يا صاحب القداسة؟
فقال سوفخاتب: رادوبيس، أليست تنفُث في فرعون سحرًا، بلى وحقِّ الأرباب، إنَّ ما بجلالته لسِحرٌ مبين ..
واهتزَّت نفس طاهو لذكر هذا الاسم، وخال أنَّه يسمع شيئًا عجيبًا يلمس بوقعه السحريِّ جميع الحواسِّ والعواطف، وكان يُزيل الصمام الذي أحكَمه بقسوةٍ على فُوَّهة وجدانه، فأصرَّ على أسنانه بشدة وقال: يقول الناس إنَّ الحبَّ سحرٌ، والسحرة يقولون إنَّ السحرَ حبٌّ.
فقال الوزير الحزين: بتُّ أعتقد أنَّ جمال رادوبيس سحرٌ ملعون.
فحدَجه طاهو بنظرةٍ قاسية وقال: ألم تتلُ الرقية التي مكَّنتْ لهذا السحر؟
فأَحسَّ الرجل بلَوم القائد وامتُقِع لونه، وقال بسرعة كأنَّما يدفع تُهمة: لم تكن أوَّل امرأة.
– ولكنها كانت رادوبيس!
– رجوتُ لمولاي سعادة.
– فقدَّمتَ له سحرًا وا أسفاه!
– نعم أيُّها القائد، إنِّي أشعر بأنِّي أخطأتُ خطأً بليغًا .. ولكن ينبغي عمل شيء.
فقال طاهو وكان لا يزال يُحسُّ بمرارة: هذا واجبك يا صاحب القداسة.
– إنِّي أطلب مشورتك.
– إنَّ الإخلاص يبلُغ غايته في النصيحة الصادقة.
– إنَّ فرعون لا يقبل أن يطرق إنسان بين يدَيه مسألة الكهنة.
– ألا تفضي برأيك إلى جلالة الملكة؟
– هذا سبيلٌ أودى بخنوم حتب إلى التعرُّض إلى غضب جلالة الملك.
فلم يجدْ طاهو ما يقوله، وخطر لسوفخاتب خاطر فقال بصوتٍ خافت: ألا يمكن أن تُرجى فائدة من تدبير اجتماع بينك وبين رادوبيس؟
فسَرتِ القشعريرة إلى جسده مرَّةً أخرى، وانخلع قلبه في صدره، وكادت العواطف التي يبالغ في كتمانها تنفجر، وقال لنفسه: إنَّ الشيخ لا يدري ماذا يقول، ويظنُّ أنَّ مولاه هو المسحور وحده .. ثم قال له: لماذا لا تجتمع بها أنت؟
فقال سوفخاتب: لعلَّك أقدرُ منِّي على التفاهُم معها.
فقال طاهو ببرود: أخشى أن تجد عليَّ رادوبيس، وتُسيء بي الظنَّ فتشوِّه مسعاي لدى فرعون .. كلَّا يا صاحب القداسة.
وتهيَّب سوفخاتب مواجهة فرعون بالحقيقة.
ولم يستطع طاهو ملازمة مكانه لأنَّ أعصابه ثارت، وزعزعَت أركان نفسه عاطفةٌ هوجاء شديدة الاغبرار، فاستأذن من الوزير وانطلق لا يلوي على شيء، تاركًا وراءه سوفخاتب غارقًا في لجَّةٍ عميقة من الأفكار والأحزان.