طاهو يهذي
وكان الانتظار مُرًّا من أول عهدها به؛ لأنَّه كان لا يفتأ يهتف بها هاتفُ رجاء يقول بحسرة: ليت الملك لم يُفشِ سرَّ الرسالة لإنسان. كانت تتمنَّى هذا بحُرقة لم يخفِّف من لوعتها ما أبدى الملك من ثقةٍ عظيمة برجُلَيه المقرَّبَين. ولم تكن وساوسها ريبةً صريحة، ولكنْ ثَمَّةَ قلق دفعَها إلى التساؤل: تُرى ماذا يحدث لو سعى ساعٍ بفحوى الرسالة إلى رجال الكهنوت؟ هل يتردَّدون في الدفاع عن أنفسهم إزاء هذا الشرِّ المبيَّت؟ .. ربَّاه! .. إنَّ إفشاء سرِّ الرسالة أمرٌ خطير .. لا يجرؤ على إدراك كنه خطورته عقل وطني. وأحسَّت بقُشَعريرة تسري في جسمها الرقيق، وهزَّت رأسها بعنف تطرد عن مخيِّلتها أوهام الوساوس، وهمسَت لضميرها تُسكتُه قائلةً: إنَّ كلَّ شيءٍ يسير وفق الخطة التي رسمناها، وليس من داعٍ إلى إثارة هذه المخاوف، وما هذه الأوهام المرتعبة إلَّا وساوسُ قلبٍ مغرم لا يهدأ ولا ينام.
على أنَّها كانت لا تكاد تطمئنُّ حتى يحوم خيالها مرَّةً أخرى حول هاتيك المخاوف، وتخال أنَّها ترى وجه طاهو الغاضب المتقلِّص من الألم، وأنَّها تسمع صوتَه الأجشَّ ذا النبرات المتألِّمة المجروحة. وقد عانت من مخاوفها الآلام، ولكنَّها لم تجسُر على تفسيرها أو إزالة الغموض الذي يكتنفها.
تُرى هل يحقُّ لها أن تخشى طاهو أو أن تُسيء به الظنَّ؟ .. إنَّ كل الدلائلِ تدُل على أنَّه نَسِي، ولكن هل كان بوسعه أن يفعل شيئًا وامتنَع عنه طواعيةً؟ فما كان يستطيع أن يطرق بابها بعد أن أصبح حرمًا محرَّمًا، وما كان بوسعه إلَّا الإذعان والتسليم، ولا يعني هذا أنَّه نسي أو برأ.
تُرى هل يبقى شيء من زوايا الماضي عالقًا بقلبه؟ .. إنَّ طاهو جبَّارٌ عنيد، وقد يستحيل الحبُّ في قلبه حقدًا موريًا، فيتحفَّز عند سنوح الفرصة للانتقام .. على أنَّها لم تنسَ في أحزانها أن تُنصِف طاهو، وأن تذكُر له إخلاصَه وتفانيَه في حبِّ مولاه، وأنَّه رجل الواجب الذي لا يحيد به عن سبيله نزوعٌ ولا مطمع.
كان كلُّ شيء يدعو إلى الطمأنينة، ولكنَّ وساوسها لم تدَعها في طمأنينتها قَط، وكان الرسول برح قصرها منذ ساعاتٍ قلائل فقط، فكيف لها بالانتظار شهرًا أو يزيد؟ .. لقد لحقها الفزع، وخطر لها خاطرٌ غريب أن تدعو طاهو إلى مقابلتها. وكان خاطرًا لا يخطر لها على بالٍ قبل يوم، أمَّا اليوم فقد وجدَت به راحة وإليه رغبة. وكان يدفعها إليه ما يدفع الإنسان إلى احتضان خطر يتَّقيه ولا يجد سبيلًا إلى دفعه أو الإفلات منه، وفكَّرتْ في ذلك تفكيرًا مضطربًا، وقالت لنفسها: فلأدْعُه ولأُحادثه لاستبطان ذاته، وعسى أن أفوز بدفع شرِّه — إن كان هناك شرٌّ يُدفَع — فأُنقِذه من نفسه، وأُنقِذ مولاي من شرِّه، وما لبثَت رغبتها أن تحوَّلَت إلى عزيمةٍ لا تقبل التردُّد، فاستَمسكَت بها بكلِّ ما أُوتيَت من قوَّة وقلق .. ودعَت من فَورها شيث وأَمرتْها بالذهاب إلى قصر القائد طاهو واستدعائه. وذهبَت شيث وانتظَرتْ هي في بَهْو استقبالها على قلقٍ؛ ولم يكن يُداخلها ريبٌ في تلبيته لدعوتها. وذكَرتْ في انتظارها اضطرابها، وقَرنَت به ما كانت عليه من القوة والبرود في الأيام الخوالي، فأدركت أنَّها منذ الساعة التي نزل فيها الحبُّ بقلبها، انقَلبَت امرأةً ضعيفة قلقة، يطرد النوم عن عينَيها وهمٌ ساخر، أو قلقٌ كاذب.
وجاء طاهو كما توقَّعتْ، وكان مرتديًا لباسه الرسمي، فوجدَت في ذلك معنًى مطمئنًّا، فكأنَّه يقول لها إنَّه نسي رادوبيس غانية القصر الأبيض، وإنَّه يحظى الآن بمقابلةِ صديقةِ مولاه فرعون.
وأحنَى القائد رأسه باحترامٍ وإجلالٍ، وقال بهدوء وبلا أدنى تأثُّر: أسعَد الربُّ أيَّامكِ أيَّتُها السيدة الجليلة.
فقالت وهي تتفرَّس في وجهه: وأيَّامكَ أيُّها القائد الجليل، وإنِّي أشكركَ على قَبول دعوتي.
فقال طاهو وهو يَحني رأسه: إنِّي رهنُ إشارتكِ يا سيِّدتي.
رأته كما كان قويًّا متين الأَسر، دمويَّ البشرة، ولكن لم يخفَ عن عينَيها الفاحصتَين أن ترى تغيُّرًا طارئًا لا يمكن لغير عينَيها أن تراه. وجدت حول وجهه هالةً من ذبول أفقدَت نظرة العينَين بريقَهما، وأطفأَت روحًا شاملًا كان يشعُّ من وجه الرجل .. وأشفقَت من أن يكون ذلك بسبب ما حدث في تلك الليلة الغريبة التي فصلَت بينهما منذ قريبٍ من عام .. وا أسفاه! كان طاهو كجوٍّ عاصفٍ، فأمسى كجوٍّ راكد .. وقالت له: إنِّي دعوتُكَ أيُّها القائد لأهنِّئك على الثقة العظيمة التي يُوليك إيَّاها الملك.
فبدت الغرابة على وجه القائد وقال: شكرًا لك يا سيدتي، هذه نعمةٌ قديمة منَّت بها عليَّ الأرباب.
فابتسمَت ابتسامةً متكلَّفة وقالت بدهاء: ولأشكركَ على ما أسديتَ إلى فكرتي من جميل الثناء.
وتفكَّر الرجل لحظة، ثم تذكَّر فقال: لعلَّكِ يا سيِّدتي تَعْنين الفكرة النيِّرة التي أوحى بها عقلُكِ الراجح؟
فهزَّت رأسها أن نعم، فاستطرد: إنَّها فكرةٌ رائعة، جديرةٌ بذكائك اللامع.
فقالت وهي لا تُبدي السرور: إنَّ تحقيقها يكفُل لمولانا القوَّة والسيادة، وللوطن السلام والطمأنينة.
فقال القائد: هذا حقٌّ لا ريب فيه، وهو ما جعلنا نُهلِّل لها ونُكِّبر.
فنظَرتْ إليه نظرةً عميقة وقالت: سيأتي يومٌ قريب تحتاج فكرتي إلى قوَّتِكَ لتحقيقها، وتتويجها بالنجاح والفوز.
فأحنى الرجل رأسه وقال: شكرًا لكِ على ثقتكِ الغالية.
وصمتَتِ المرأة قليلًا. كان طاهو وقورًا رزينًا جادًّا لا كما عهدَته قديمًا، ولم تكن تنتظر منه غير ذلك واستشعرت نحوه بطمأنينةٍ وثقة. وكانت تلحُّ عليها رغبةٌ قوية في أن تفاتحه في الموضوع القديم، وأن تسأله العفو والنسيان، ولكن خانها البيان ولم تَدْرِ ما تقول، وغلَبتْها الحَيرة فأشفقَت من الزلل، وتركَت هذا الحديث كارهةً حائرة، ورأت في اللحظة الأخيرة أن تعلن له عواطفها الطيبة بطريقةٍ أخرى، فمدَّت له يدها وقالت وهي تبتسم إليه: أيُّها القائد الجليل، إنِّي أمدُّ لك يد التقدير والصداقة.
فوضع الرجل يده الغليظة في يدها الرخصة الرقيقة، وبدا عليه التأثُّر فلم يحُرْ جوابًا، وانتهت عند ذلك المقابلة القصيرة الفاصلة.
وفي طريق العودة إلى السفينة تساءل محمومًا: لماذا دعَتْني هذه المرأة؟ ترك العِنان لعواطفه التي كبح جماحها في حضرتها فاختلَّ توازنُه، وانكفأ لونُه، وارتجفَت أوصاله، ومضى يفقد عقلَه ورشده بسرعةٍ فائقة. وضربَت المجاديف جانب الماء وهو يترنَّح كالثمل، كأنَّه عائد من معركةٍ خاسرة أفقدَته حكمته وشرفه. وخال النخيل المنطلق على الشاطئ يرقص رقصًا جنونيًّا، والجو يُعفِّره غبارٌ ثائر خانق. وكان الدم يتدفَّق في عروقه ساخنًا هائجًا مجنونًا مسمومًا، ووجد إبريقًا من الخمر على خوان المقصورة، فصبَّه في فمه حتى أتى عليه في استهتارٍ جنوني، وارتمى على الديوان في حالة يأسٍ قاتل.
وفي الحقيقة لم يكن نَسِيها، ولكنَّها كانت تكمن في سردابٍ خفي من نفسه ما فتئ يسدُّه بالعزاء والصبر وشعوره القوي بالواجب، فلمَّا وقع نظره عليها بعد غيابِ عام، انفجر المستودع المختفي في نفسه، وتصاعد لهيبه حتى حرق روحه جميعًا، وأحسَّ بالعذاب والهوان واليأس والكبرياء الذبيح، فذاق الهزيمة والعذاب مرَّتَين في معركةٍ واحدة منتهية. وأحسَّ بدُوارٍ في رأسه المختل، وجعل يحدِّث نفسه في غضبٍ كاسر، إنَّه يعلم لماذا عُنيَت باستدعائه. دعته لتستوثق من إخلاصه، ليطمئنَّ قلبها على سيِّدها ومولاها الحبيب، وفي سبيل ذلك تكلَّفتْ مودَّته وتملُّقه، يا للغرابة! إنَّ رادوبيس العابثة القاسية تجدُّ وتحنو وتتعلَّم ما الحب وما مخاوفه وآلامه، وتُشفِق من خيانة طاهو، الذي كان يومًا يلتصق بنعلها كالتراب، ثم نفضَته في حالة تقزُّز وملل، الويل للسماء والأرض، والويل للدنيا جميعًا. إنَّه يشعر باليأس المميت والغضب القاتل، وبغيظٍ خانق يطحن نفسه الجبَّارة. إنَّه يغضب غضبًا جنونيًّا جارفًا، ويُشعِل دمه نارًا موقدة، يضغط على سمعه فلا يكاد يسمع شيئًا، ويخضِّب عينيه فيرى الدنيا شعلةً حمراء.
وما إن رسَت السفينة إلى سلَّم القصر الفرعوني، حتى غادرها مسرعًا، وسار يترنَّح في الحديقة لا يلتفت إلى تحيَّات الجنود، متَّجهًا إلى حجرة قائد الحرس بالثكنات، وفي أثناء سيره اعترض طريقَه رئيس الوزراء سوفخاتب. وكان عائدًا من جناح الملك. وقابله الوزير بابتسامةِ تحيَّة، ولكنَّه وقف حياله جامدًا كأنَّه لا يعرفه. وعجب سوفخاتب لجموده، وقال له: كيف حالك أيُّها القائد طاهو؟
فقال طاهو بسرعةٍ غريبة: أنا .. كأسد واقع في شراك .. أو كسلحفاةٍ راقدة على ظهر فُرنٍ موقدة!
فبدا الإنكار على وجه سوفخاتب وقال: ما هذا الكلام؟ .. أيُّ شَبه بين الأسد والسلحفاة، أو بين الشراك والفرن؟
فقال طاهو في ذهوله: أمَّا السلحفاة فتُعمِّرُ طويلًا، وتتحرك في بطء وتنوء بحملٍ ثقيل، وأمَّا الأسد فينكمش ويزأر ويثب في عنف فيقضي على فريسته.
فتفرَّس الرجل في وجهه دهشًا وقال: أغاضبٌ أنت؟ لستَ كعهدي بك!
– أنا غاضب .. كيف تُنكرني أيُّها الجليل؟ أنا طاهو ربيب الحرب والقتال .. آه! كيف يصبر العالم على هذا السلام الثقيل؟ .. إنَّ آلهة الموت عطشى ولا بدَّ يومًا أن أروي غلَّتها.
فهزَّ سوفخاتب رأسه متوهِّمًا أنَّه عرف ما هنالك، ثم قال: آه! .. الآن فهمتُ أيُّها القائد، إنَّها خمر مريوط المعتَّقة.
فقال طاهو بحدَّة: كلًّا .. كلَّا .. الحقُّ أنِّي شربتُ كأسًا من الدم. ثم تبيَّن أنَّه دم إنسانٍ شرِّير، فتسمَّم دمي، وزاد الأمر خطورةً أنِّي صادفتُ في طريقي إلى هنا ربَّ الخير نائمًا في المرج، فأغمدتُ سيفي في قلبه .. هيَّا إلى القتال .. فالدم شراب الجندي الباسل.
فقال سوفخاتب ذاهلًا.
– إنَّها الخمر ولا شك، ويحسُن بك أن تعود إلى قصرك في الحال.
ولكنَّ طاهو هزَّ رأسه استهانةً وقال: الحذَر الحذَر أيُّها الرئيس، إيَّاك والدم الفاسد؛ فهو السُّم بعينه، لقد انتهى صبر السلحفاة وسينقضُّ الأسد.
قال ذلك ثم سار في طريقه لا يلوي على شيء، تاركًا سوفخاتب في ذهول وغرابة.