فترة الانتظار
وكان القصر الفرعوني، وقصر بيجة، ودار الحكومة تنتظر أوبة الرسول بفارغ الصبر، ولكن في طمأنينة وثقة بالمستقبل، وكان كلُّ يوم يدنو يُدنيها من الفوز، ويُدفئ صدرها بحرارة الأمل. وما كان لينقطع هذا الشعور الطيب الجميل، لولا أن وصلَت إلى رئيس الوزراء رسالةٌ خطيرة من رجال الكهنوت، وكان سوفخاتب يُهمِل أمثال هذه الرسالة، أو يقنع مُضطرًّا بعرضها على الملكة، ولكنَّه وجد فيها معنًى جديدًا خطيرًا، لم يشأ أن يتحمَّل تبعة إخفائه عن مولاه، ولو لاقى في سبيل ذلك بعض غضبه، فقابل فرعون وتلا عليه الرسالة، وكانت التماسًا خطيرًا موقَّعًا عليه من جميع رجال الكهنوت، وعلى رأسه كهنةُ رع وآمون وبتاح وأبيس، يرجون مولاهم أن يردَّ أراضي المعابد إلى أصحابها الآلهة المعبودة التي تُوليه عنايتها، ويؤكِّدون أنَّهم ما كانوا يتقدَّمون بالتماسهم لو وجدوا من الأسباب ما يدعو إلى وجوب نزع الأراضي.
كان الخطاب قويًّا حازمًا، فغضِب الملك، ومزَّقه إرْبًا، ورمى به على أرض الحجرة وصاح: سوف أُجيبهم بعد حينٍ قليل.
فقال سوفخاتب: إنَّهم يلتسمون جماعة، وكانوا يلتمسون فرادى.
فقال الملك الغاضب: وسأضربهم جميعًا، فليحتجُّوا كيف شاء لهم الجهل.
على أنَّ الحوادث جاوزَت هذا الحدَّ؛ فقد أرسل حاكم طيبة إلى رئيس الوزراء يقول إنَّ خنوم حتب زار مقاطعته، وإنَّه استُقبِل استقبالًا شعبيًّا رائعًا اشترك فيه كهنة آمون وكاهناته وجموعٌ غفيرة من الأهالي، وإنَّ الهُتافات تصاعدَت باسمه، وهتف القوم أيضًا لحقوق الآلهة التي ينبغي أن تُصان وتُخدم، وجاوزَ هذا القَدْر قوم، فصاحوا باكين: «وا حسرتاه! إنَّ أموال آمون تُنفَق على راقصة.»
ووجم الرئيس أسفًا وحزنًا، وغلب إخلاصه تردُّده هذه المرة أيضًا، فأحاط مولاه بهذه الأخبار بلباقة، وغضِب الملك كعادته وقال آسفًا: إنَّ حاكم طيبة يسمع ويرى ولا يستطيع شيئًا.
فقال سوفخاتب بحزن: ليس لديه يا مولاي إلَّا قوة الشرطة، وهي لا تُجدي في مقاومة جموعٍ غفيرة.
فقال الملك بغضب: وليس لديَّ إلَّا الانتظار على مضض، لقد أدميتَ وحقِّ الرب كبريائي!
وخيَّمتْ سحابة من الحزن على آبو المجيدة، شملَت قصورها الشامخة ودور الحكم فيها. وكانت الملكة نيتوقريس تقبع في جناحها رهينة حبس ووحشة، تعاني آلام قلبها المنفطر وكبريائها الجريح، وترقُب الحادثات بعينَين حزينتَين أسيفتَين. وكان سوفخاتب يتلقى الأخبار بقلبٍ حزين، ويقول آسفًا لطاهو الصامت الكئيب: «هل شَهِدَت مصر قبل اليوم مثل هذا الغضب المتمرِّد؟! وا حزناه!»
واستحالت سعادة الملك غضبًا وغيظًا، وكان لا يذوق الراحة إلَّا حين يرتمي بين يدَي المرأة التي أسلَمها نفسه، وكانت تُدرِك ما به، فكانت تُداعِبه وتحنو عليه وتهمس في أذنه: «صبرًا.» فيتنهَّد ويقول حانقًا: «نعم .. حتَّى أقبض على ناصية القوَّة.»
ولكن اشتدَّ الحرج، فتعدَّدتْ زيارات خنوم حتب للمقاطعات، واستُقبِل بالمظاهرات في كل مكان، وتعالى الهُتاف باسمه في البلدان. وضاق بذلك كثيرٌ من الحُكَّام، ورأَوْا فيه معنًى لم يرتَحْ إليه إخلاصهم لفرعون. فاجتمع حُكَّام أمبوس، وفرمونتس، ولاتولس، وطيبة، وتشاورا فيما بينهم، وقرَّ رأيهم على مقابلة الملك. وقصَدوا إلى آبو وطلبوا المقابلة، فاستقبلَهم فرعون استقبالًا رسميًّا حضره سوفخاتب، وتقدَّم حاكم طيبة بين يدَيه وحيَّاه تحيَّة العبودية والإخلاص ثم قال: مولاي، الإخلاص الحقُّ لا ينفع بأن يكون عاطفةً في القلب، ولا بدَّ أن يُقرنَ بإسداء النصح والعمل الصالح والافتداء إذا حزب الأمر، ونحن حيال أمرٍ قد يعرِّضنا الصدق فيه إلى موجدة، ولكنَّا لا نأمن مع السكوت عليه من وخز ضمائرنا، فلا بدَّ من قولة الحقِّ.
فصمت فرعون هنيهة ثم قال للحاكم: تكلَّم أيُّها الحاكم فإنِّي مصغٍ إليك.
فقال الرجل بشجاعة: مولاي، الكهنة غاضبون، وقد انتقلَت عدوى غضبهم إلى نفوس الشعب المُنصِت إلى حديثهم في الصباح والمساء، وكان من جرَّاء ذلك أن اتفقَت كلمة الجميع على وجوب ردِّ الأراضي إلى أصحابها.
فبدا الغضب على وجه الملك وقال بحنق: هل يصحُّ أن يذعن فرعون لإرادة الناس؟
فقال الرجل بصراحة وجسارة: مولاي، إنَّ سعادة الشعب أمانة عَهِدَت بها الآلهة إلى ذات فرعون، فلا إذعان، لكن تعطُّف من مولًى قادر على عباده.
فضرب الملك الأرض بصولجانه وقال: لا أرى في التراجع سوى الخنوع.
فقال الرجل: معاذ الربِّ أن أشير إلى مولاي بالخنوع، ولكنَّ السياسة بحرٌ لُجِّيٌّ، والحاكم كالربَّان يتفادى الريح العاصفة، وينتهز الفرصة السعيدة.
ولكنَّ الملك لم يعجبه قوله، وهزَّ رأسه باحتقار وعناد، واستأذن سوفخاتب طالبًا الكلام، وسأل حاكم طيبة قائلًا: هل لديكَ دليلٌ على أنَّ الشعب يُشاطِر الكهنة عواطفهم؟
فقال الحاكم بثبات ويقين: نعَم يا صاحب القداسة، لقد بثثتُ عيوني في الأقاليم، فشَهِدوا غضب الشعب عن كثَب، وسمعوه يخوض فيما لا يجوز الخوض فيه.
وقال حاكم فرمونتس: وهذا ما فعلتُه فجاءَتْني أنباءٌ مؤسفة.
وأدلى كلُّ حاكم بدَلْوه، ودلَّت أقوالهم على خطورة الحال، وانتهت بذلك أوَّلُ مقابلة من نوعها تشهدُها قصور الفراعنة.
واجتمع الملك على الأثَر بوزيره وقائد حرسه في جناحه الخاص، وكان غاضبًا مهتاجًا يتهدَّد ويتوعَّد وقد قال للرجلَين: إنَّ هؤلاء الحكَّام مخلصون أمناء، ولكنَّهم ضعاف، ولو أخذتُ بنصائحهم لعرَّضتُ عرشي للهوان.
وسرعان ما أمَّن طاهو على رأي مولاه وقال: إنَّ التراجع هزيمة يا مولاي!
كان سوفخاتب يفكِّر في احتمالاتٍ أخرى فقال: ينبغي أن نحسب حساب عيد النيل، وهو لا يفصل بيننا وبينه سوى أيَّامٍ معدودات، والحقُّ أنَّ قلبي لا يرتاح إلى حشد الآلاف من الشعب الغاضب في آبو.
فبادر طاهو قائلًا: إننا نُسيطِر على آبو.
– لا ريب في هذا، ولكن لا يجوز أن ننسى أنَّه في العيد الماضي تصاعدَت بضعة هُتافاتٍ خائنة، ولم يكن مولانا الملك قد حقَّق إرادته، فينبغي أن نتوقَّع هتافاتٍ أخرى أشدَّ صُراخًا.
فقال الملك: إنَّ الأمل معقودٌ بعودة الرسول قبل العيد.
ولكن لم ينفكَّ سوفخاتب يزن الأمور من وجهة نظره، فقال وكان يؤمن في قلبه باقتراح الحكَّام: سيأتي الرسول في القريب، وسيتلو رسالته على الملأ، ولا شكَّ أنَّ الكهنة الحائزين على عطف مولاهم، المتمتِّعين بما يعتقدون أنَّه حقُّهم، يكونون أعظمَ اطمئنانًا إلى التعبئة وأشدَّ حماسة، حتى إذا قبض مولاي على ناصية القوَّة، أملى إرادته، ولا رادَّ لمشيئته.
وضاق الملك ذرعًا برأي سوفخاتب، وأحسَّ بوحشة في جناحه الخاص، فهُرع إلى قصر بيجة الذي لا تُلاحِقه الوحشة إليه قط. وكانت رادوبيس تجهل ما دار في الاجتماع الأخير، فكانت أدنى إلى الطمأنينة منه، ولكنَّها لم تلقَ صعوبة في قراءة صفحة وجهه الحسَّاس، والشعور بما يضطرم في قلبه من الغضب والسخط، واعتوَرَها القلق ونظَرتْ إليه متسائلة والكلام يضطربُ خلف شفتَيها مشفقًا من الظهور، فقال متذمِّرًا: أما علمتِ يا رادوبيس؟ إنَّ الحكَّام والوزراء يشيرون عليَّ بردِّ الأراضي إلى الكهنة، والرضاء بالهزيمة؟
فتساءلَت بانزعاج: ما الذي حثَّهم على إبداء هذه المشورة؟
فروى الملك ما قال الحكَّام، وما نصحوه به، وكانت تزداد انزعاجًا وحزنًا، وما تمالكَت نفسها أن قالت: إنَّ الجوَّ يغبَرُّ ويُظلِم، وما حمل الحكَّام على المكاشفة بآرائهم إلَّا خطرٌ فادح.
فقال الملك بازدراء: إن شعبي غاضب.
– مولاي، إنَّ الناس كالسفينة الضالَّة بلا سكَّان، تحملها الرياح كيفما تشاء.
فقال بوعيدٍ مخيف: سأُذهِب ريحهم.
وعاودَتْها المخاوف والشكوك، وخانها صبرها في تلك اللحظة فقالت: ينبغي أن نستوصي بالحكمة، وأن نتراجع زمنًا قصيرًا مختارين، وإنَّ يوم النصر لقريب.
فنظر إليها بغرابة وقال: أتشيرين عليَّ بالخضوع يا رادوبيس؟
فضمَّته إلى صدرها وقد آلمتها لهجته، ثم قالت وقد فاضت عيناها بدمعٍ سخين: أحرى بمن يتحفَّز للوثبة الكبرى أن ينكمش أقدامًا، والنصر رهينٌ بالنهاية.
فتأوَّه الملك قائلًا: آه يا رادوبيس! .. إذا كنتِ أنتِ تتجاهلين نفسي، فمن ذا الذي يمكن أن يعرفها؟ أنا من إذا نزل مرغمًا على إرادة إنسان ذبُل كمدًا كوردةٍ سَفَّتْها الرياح.
فبدا التأثُّر في عينَيها السوداوَين، وقالت في حزنٍ عميق: فداؤك نفسي يا حبيبي لن تذبُل قَط وصدري يرويك حبًّا صافيًا.
– سأعيش منتصرًا في كلِّ لحظة في حياتي، ولن أمكِّن خنوم حتب من أن يقول يومًا إنَّه أذلَّني ساعةً!
فابتسمَت إليه ابتسامةً حزينة وتساءلَت: أتريد أن تسوس شعبًا بغير التجاء إلى الحيلة أحيانًا؟
– التسليم حيلة العاجز، سأظلُّ ما حييتُ مستقيمًا كالسيف تتحطَّم على أسنانه قوى الخائنين.
فتنهَّدت حزينةً آسفةً ولم تُحاول مُعاودَته، ورضِيَت بالهزيمة أمام غضبه وكبريائه، ومنذ تلك اللحظة وهي تتساءل جزعة: متى يعود الرسول؟ .. متى يعود الرسول؟ .. متى يعود الرسول؟
ما أشقَّ الانتظار! .. لو يعلم المتمنُّون ما عذابُ الانتظار لآثَروا الزهد في الدنيا .. كم عدَّت الدقائق والساعات وترقَّبتْ شروق الشمس وانتظَرتْ مغيبها، وذابت عيناها من طول النظر إلى مجرى النيل الآتي من الجنوب. وكم حسبَت الزمن بتردُّد أنفاسها وخفقان قلبها، وكم صاحت وقد نال منها القلق كلَّ منال: أين أنت يا بنامون؟! حتى الحبُّ نفسه ذاقَتْه ذوق الشارد الحالم، فلا طمأنينة ولا سلام حتَّى يعود الرسول برسالته!
وتقضَّت الأيَّام تجرُّ ثقلها جرًّا بطيئًا، حتى كان يومٌ تجلس فيه مستغرقة في أفكارها، وإذا بشيث تدخل عليها مهرولة، فرفعَت رأسها وسألَتها: ما وراءكِ يا شيث؟
فقالت الجارية بلهفة تلهث: مولاتي، جاء بنامون.
وغمَرها الفرح، فانتفضَت واقفة كطيرٍ فزع وهي تصيح: بنامون!
فقالت الجارية: نعم يا مولاتي، إنَّه ينتظر في البهو، وطلب إليَّ أن أوذنكِ بقدومه. كم لوَّحه السفر!
وجرت تتخطَّى أدراج السلَّم إلى البهو، فألفَته واقفًا ينتظر مقدمها وفي عينَيه شوقٌ صارخ، وكانت تبدو كشُعلة من الفرح والأمل، فوقَر في نفسه أنَّ فرحها به، وله، فغمَرتهْ سعادةٌ إلهيَّة وارتمى على قدمَيها كالعابد، ولفَّ ذراعَيه حول ساقَيها بحنانٍ ووجد، وهوى بفمه إلى قدمَيها .. وقال: معبودتي، حلُمتُ مائة مرة أنِّي أُقبِّل هاتَين القدمَين، وها أنا ذا أحقِّق أحلامي.
فداعبَت شعره بأناملها وقالت برقَّة: بنامون العزيز .. بنامون .. أحقًّا عدتَّ إليَّ؟
فلمعَت عيناه بنور الحياة، ودسَّ يده في صدره فأخرج حُقًّا من العاج صغيرًا وفتحه، وإذا ما فيه تراب .. ثم قال: هذا ترابٌ مما كانت تطأ قدماكِ في الحديقة، جمعتُه بيدي واحتفظتُ به في هذا الحُقِّ، وحملتُه معي في سفري، وكنت أقبِّلُه كلَّ مساء قبل استسلامي للكرى، ثم أحفظه على قلبي.
وأصغَت إليه على جزع وتململ، وكان شعورها منصرفًا عن حديثه، ونفَد صبرها، فسألته برقَّة تُداري بها جزعها: ألا تحمل شيئًا؟!
فدسَّ يده في صدره مرَّة أخرى، وأخرج كتابًا مطويًّا ومدَّ لها يده به، فتسلَّمتْه بيدٍ مرتجفة وقد غمرها شعورٌ سعيد، وأحسَّت بتخدير في أعصابها وخَوَرٍ في قُواها، وألقت على الرسالة نظرةً طويلة، وشدَّت عليها بيدها، وكادت تنسى بنامون ووجده لولا أن وقع عليه بصرها فتذكَّرت أمرًا هامًّا وسألَته: ألم يأتِ معك رسول من قِبَل الأمير كارفنرو؟
فقال الشابُّ: بلى يا مولاتي، وهو الذي حمل الرسالة في أثناء العودة. وإنَّه لينتظر الآن في الحجرة الصيفية.
ولم تستطع أن تبقى في مكانها طويلًا؛ لأنَّ الفرح الذي غمر حواسها عدوٌّ للسكون والجمود فقالت: أستودعكَ الربَّ إلى حين، وإنَّ حجرة الصيف تنتظركَ وستصفو لنا الأيام.
وجرت حاملةً الرسالة، وكان قلبها يُنادي حبيبها ومولاها من أعماقها، ولولا التحرُّج، لطارت إليه في قصره كما فعل النسر من قبلُ، تزفُّ إليه البشرى السعيدة.