الهتاف
وقصد فرعون إلى جناحه الخاص، ودعا إليه رجلَيه المخلصَين سوفخاتب وطاهو، فلبَّى الرجلان دعوته سريعًا، وكانا شديدَي التأثُّر، يقدِّران حرج الموقف حقَّ قدره. ووجدا الملك كما توقَّعا مهتاجًا غاضبًا، يَذْرع حجرته من جانب إلى جانب، وَيْهدر بوحشيةٍ جنونية، فلمَّا انتبه إليهما حدَجهما بنظرةٍ زائغة، وقال والشرر يتطاير من عينَيه: خيانة .. إنِّي أشمُّ رائحة خيانةٍ خبيثة في هذا الجو الخانق.
فانكفأ طاهو وقال: مولاي. لا أنفي عن نفسي التشاؤم وسوء الظنِّ، ولكن لا يذهب بي الحَدْس إلى هذا الفرض الكبير.
فضرب الملك الأرض بقدمه وقال وهو يتميَّز من الغيظ والحنق: لماذا جاء هذا الوفد اللعين؟ .. بل كيف جاء اليوم؟ .. واليوم بالذات؟
فقال سوفخاتب، وكان غارقًا في التفكير والأحزان: تُرى هل هي مصادفةٌ حزينة غريبة؟
فقال الملك في دهشةٍ مروِّعة: مصادفة .. كلَّا .. كلَّا. هي الخيانة اللئيمة، أكاد ألمح وجهًا يستتر بالإطراق والدهاء. كلَّا أيُّها الوزير لم يجئ القوم مصادفةً لكنَّهم دُفِعُوا إلى هنا عمدًا ليقولوا سلامًا إذا ما قلتُ أنا حربًا، وهكذا وجَّه إليَّ عدوِّي ضربةً شديدة، وهو ماثل بين يديَّ يعلن الولاء.
فامتُقِع وجه طاهو ولاح في وجهه الحزن، ولم يكابر سوفخاتب فأطرق يائسًا وكأنَّه يُحادِث نفسه: إذا كانت خيانة فمن الخائن؟
فقال الملك وهو يلوِّح بقبضته في الهواء: نعم .. من الخائن؟ هل هنالك معضلةٌ لا تُحَلُّ؟ كلَّا .. أنا لا أخون نفسي، ولا يخون عهدي سوفخاتب ولا طاهو، ولا تخونُني رادوبيس، فلم يَبقَ إلَّا هذا الرسول الشقيُّ .. وا أسفاه! لقد خُدعَت رادوبيس.
فبرقَت عينا طاهو وقال: سأسوقه إلى هنا وأنتزع من فمه كلمة الحقِّ.
فهزَّ الملك رأسه وقال: رويدَك يا طاهو رويدك .. إنَّ المجرم لا ينتظركم حتى تذهب للقبض عليه، ولعلَّه الآن ينعم بثمن خيانته في مكانٍ آمن لا يعلم به إلَّا الكهنة. كيف تمَّت المكيدة؟ لا أدري كيف، ولكنِّي أستطيع أن أُقسم بالربِّ سوتيس أنَّهم علموا بالرسالة قبل تحرُّك الرسول فلم يتوانَوا، وبعثوا برسولٍ من لدنهم فجاء رسولي بالرسالة، وجاء رسولهم بالوفد .. خيانة .. نذالة، إنِّي أعيش وسط شعبي كالأسير .. ألا لعنة الآلهة على الدنيا وعلى الناس.
ولاذ الرجلان بالصمت، حزنًا وإشفاقًا، وكان طاهو يختلس من مولاه نظراتٍ حزينة، وأراد أن يُحاوِل إعادة الأمل إلى ذلك الجوِّ القاتم فقال: ليكن عزاؤنا أنَّنا سنضرب بالضربة القاضية.
فاحتدَّ الملك قائلًا: كيف لنا بتسديد هذه الضربة؟!
– إنَّ الحُكَّام في طريقهم إلى الأقاليم لحشد الجنود.
– وهل تظنُّ أنَّ الكهنة يقفون مكتوفي الأيدي بإزاء الجيش الذي عَلِموا أنَّه يُحشَد لسحقهم؟!
وكان سوفخاتب ينوء بهمٍّ ثقيلٍ كان يؤمن بما يقول الملك، ولكن أراد أن يُنفِّس عن صدره، فقال وكأنَّه يتمنَّى: عسى أن يكون ريبُنا وهمًا، ويكون ما نظنُّه خيانةً محض مصادفة، فتنقشع هذه السحابة الدكناء بأهون الأسباب.
ولكنَّ فرعون ثار على العزاء وقال: لا أزال أذكُر صورة أولئك الكهنة المطرقين، كانوا بلا شك ينطوون على سرٍّ رهيبٍ، ولمَّا قام رئيسهم ليتكلَّم، تحدَّى حماس الحُكَّام باطمئنان، وألقى كلمته بثقةٍ لا حدَّ لها، ولعلَّه الآن يتكلَّم بعشرة ألسنة، آه! .. الويل للخيانة .. لن يعيش مرنرع الثاني تحت رحمة الكهنة.
وغضب طاهو لحزن مولاه فقال: مولاي .. تحت إمرتك حرسٌ قويٌّ يزن الرجل منه ألف رجل من رجالهم، ويجود بنفسه في سبيل مولاه عن طيب خاطر.
فأعرض فرعون عنه، وارتمى على مقعدٍ وثير مستسلمًا لأفكار رأسه الساخن، تُرى هل يمكن أن يتحقَّق أمله بالرغم من هذه الأحزان؟ أم يفشل مشروعه إلى الأبد؟ يا لها من ساعةٍ فاصلة في حياته! .. هي مفترق الطرق بين المجد والهوان، والقوَّة والانهيار، والحبِّ والشقاء. لقد رفض مرَّةً أن يتنازل عن الأراضي حيلةً، فهل يجد نفسه يومًا مضطرًّا إلى التنازُل عنها محافظةً على عرشه؟ آه! .. لن يأتي هذا اليوم، وإن أتى فلن يُسامَ الخسف أبدًا. وسيبقى إلى آخر لحظة من حياته كريمًا مجيدًا عزيزًا. وتنهَّد بالرغم منه حسرةً، وقال لنفسه آسفًا .. آه لو لم يعثُر حظِّي بالخيانة! وقطع عليه صوت سوفخاتب وهو يقول: مولاي، دنا موعد الحفل.
فنظر إليه كمن يصحو من نومٍ عميق، وتمتم: «حقًّا.» ثمَّ قام واقفًا وذهب إلى الشرفة وكانت تطلُّ على فناء القصر العظيم — وقوَّة العجلات متراصَّة به في الانتظار — وتراءى الميدان عن بُعدٍ تتلاطم فيه أمواج القوم المحتفلين، فألقى على تلك الدنيا الحافلة نظرةً باهتة وعاد إلى مكانه، ثم دخل إلى مخدعه وغاب هُنيهة، ورجَع لابسًا جلد النمر شارة الكهنوت والتاج المزدوج. وتأهَّبوا جميعًا للخروج، ولكن سبقَهم بالدخول حاجب من حجَّاب القصر حيَّا مولاه وقال: السيد طام رئيس شرطة آبو يستأذن في المثول بين يدَي مولاه.
فأذن له الملك ومشيراه لما شاهدوه على وجهه من آي الاضطراب. وحيَّا الشرطيُّ الكبير مولاه، وقال مبادرًا بعَجَلة واضطراب: مولاي! لقد جئت الآن لأضرع إلى ذاتكم المقدَّسة أن تعدلوا عن الذهاب إلى معبد النيل!
فخفق قلب الرجلين، وسأل الملك منزعجًا: وما الذي حمَلكَ على هذا؟
فقال الرجل وهو يلهث: قبضتُ في هذه الساعة على كثيرين كانوا يوجِّهون هُتافاتٍ شريرة إلى شخصيةٍ نبيلة يُكرمُها مولاي وأخشى أن تُكرَّر هذه الهتافات في أثناء الموكب.
فخفق قلب الملك وغلت مراجل الغضب في دمه، وسأله بصوتٍ متهدِّج: ماذا قالوا؟
فابتلع الرجل ريقه، وقال باضطراب وارتباك: قالوا لتسقُط العاهرة! لتسقُط ناهبة المعابد!
فاشتدَّ الغضب بالملك، وصاح بصوتٍ كالرعد: يا للويل! .. لا بدَّ أن أضرب ضربةً تنفِّس عن صدري أو ينفجر بنياني.
واستطرد الرجل مذعورًا: وقد قاوم المجرمون رجالي، فوقعَت معارك بيننا وبينهم، وساد الاضطراب والهَرْج برهة، وفي أثناء ذلك تعالت هُتافاتٌ أكبر شرًّا وأوغَل غيًّا.
فسأل الملك قائلًا وهو يُصرُّ على أسنانه غضبًا ومقتًا: وماذا قالوا أيضًا؟
فأحنى الرجل رأسه: وقال بصوتٍ خافت: تجاسر المجرمون على ما هو أجلُّ.
فقال الملك في صوت ذاهل: أنا؟!
فلاذ الرجل بالصمت وقد امتُقِع وجهه، ولم يتمالك سوفخاتب نفسه فصاح: كيف يمكن أن أصدِّق أذنيَّ؟
وصاح طاهو بغضب: هذا جنونٌ لا يُعقل.
وضحك فرعون ضحكةً عصبيَّة، وقال بسخريةٍ مريرة: كيف ذكَرني شعبي يا طام؟ تكلَّم، إنِّي آمرك.
فقال الرجل: قال الأوغاد .. «ملكنا يلهو.» .. «نريد ملكًا جادًّا.»
فضحك الملك ضحكة كالأولى، وقال متهكِّمًا: وا أسفاه! .. ما عاد مرنرع يصلح لعرش الكهنة! .. وماذا قالوا أيضًا يا طام؟
فقال الرجل بصوتٍ خافت لا يكاد يُسمَع: وهتفوا يا مولاي طويلًا بحياة حضرة صاحبة الجلالة الملكة نيتوقريس!
فلاح بريقٌ خاطف بعينَي الملك، وردَّد اسم نيتوقريس بين شفتَيه بصوتٍ خافت كأنَّما يذكُر شيئًا قديمًا طال به عهد النسيان، وتبادل المشيران نظرة الدهشة، وأحسَّ فرعون بدهشة الرجلَين وتحرَّج رئيس الشرطة، فلم يرضَ أن يجعل من الملكة حديثًا مريرًا، وإن سأل نفسه حَيرةً: تُرى ما عسى أن يكون شعور الملكة حيال هذه الهُتافات؟ .. واشتدَّ الضيق بصدره، وأحسَّ بموجةٍ عنيفة من الغضب والتمرُّد والاستهتار، فوجَّه كلامه إلى سوفخاتب قائلًا بخشونة: هل حان موعد الذهاب؟
فقال طام بذهول: ألن يعدل مولاي عن الذهاب؟
فقال الملك بعنف: ألا تسمعني أيُّها الوزير؟
فاضطَرب سوفخاتب وقال بخشوع: بعد برهةٍ قصيرة يا مولاي .. حسبتُ مولاي سيعدل عن الذهاب.
فقال الملك بهدوءٍ كالذي يسبق العاصفة: سأذهب إلى معبد النيل خلل الجموع الساخطة، وسنرى ما يكون .. عد يا طام إلى واجبك.