الصندل
عاد الموكب الملكي إلى السراي الفرعونية، وظلَّ الملك يحافظ على جلاله وهدوئه، إلى أن خلا إلى نفسه، فتبدَّى الغضب على وجهه الجميل بصورةٍ وحشيَّة، وجبَت لها قلوب الجواري اللائي يخلعن ثيابه، فانتفخَت أوداجه وتصلَّبتْ عضلات جسمه، وكان سريع الانفعال شديد الغضب، لا تطمئنُّ نفسه حتى تُنزِل العقاب الصارم بمن أثارها، وكان يدوِّي في أذنيه الهتاف الأخرق، فيظنُّه إنذارًا جريئًا موجَّهًا إلى رغباته، فيشتدُّ به الغضب ويُنذِر بالويل والثبور.
وكان عليه أن ينتظر ساعةً كاملة، قبل أن يستقبل رجال مملكته الرسميين، الذين جاءوا من أقصى البلاد للاشتراك في عيد النيل، ولكنَّه لم يستطع صبرًا، فهُرع كالريح الهوج إلى جناح الملكة، واقتحم بابها بعنف. وكانت الملكة نيتوقريس جالسة بين وصيفاتها، تلوح في عينَيها الصافيتَين آي السلام والطمأنينة، فلمَّا رأى الوصيفاتُ الملك، وشاهدن الغضب يصرخ في وجهه، وقفن مرتبكاتٍ مضطربات، وانحنَين له وللمملكة، وانسحبن مسرعاتٍ لا يلوين على شيء .. ولبثَت الملكة جالسةً هنيهةً، ترمقُه بعينَين هادئتَين، ثم قامت في جلال، ودنَت منه، ثم شبَّت على أطراف قدمَيها وقبَّلت كتفَه وقالت: أغاضبٌ أنت يا مولاي؟
كان يحسُّ بالحاجة القصوى إلى إنسانٍ يُطلِعه على النار الموقَدة في دمائه، فارتاح إلى سؤالها وقال بشدة: كما تَرينَ يا نيتوقريس!
وكانت الملكة تشعُر شعورًا قويًّا بعد درايتها بأخلاقه، بأنَّ واجبها الأول هو أن تُذهِب عنه حدَّة الغضب إذا أهاجه، فقالت بهدوء وهي تبتسم إليه: الحِلم أحرى بالملك.
ولكنَّه هزَّ كتفَيه العريضَين استخفافًا وقال: أتُوصينَني بالحلم أيَّتُها الملكة؟ إنَّه لثوبٌ زائف يتقنَّع به الضعفاء.
فقالت الملكة في تألُّمٍ ظاهر: مولاي .. لماذا تضيق بالفضائل ذرعًا؟
– أحقًّا أنا فرعون؟ .. وهل حقًّا أتمتَّع بشبابي وقوَّتي؟ .. فكيف إذن أريد، ولا أستطيع نَيْل ما أريد؟ .. كيف تنظُر عيناي إلى أراضي مملكتي فيتصدَّى لي عبد ويقول: لن يكون هذا لك؟
فوضعت يدها على ذراعه، وأرادت أن تجذبه إلى الديوان، ولكنَّه تخلَّص منها، ومضى يَذْرع الحجرة جيئةً وذهابًا، غاضبًا ساخطًا، فقالت بلهجة تنمُّ على الأسف العميق: لا تُصوِّر الأمور لنفسكَ على هذا النحو .. واذكُر دائمًا أنَّ الكهنة رعاياك المخلصون، وأنَّ أراضي المعابد كانت مِنحًا تنازل عنها أجدادنا ولكنَّها اكتسبَت صفة الحقوق الكاملة، وأنت تريد يا مولاي أن تستردَّها، فمن الطبيعي أن يقلقوا.
قال الملك الشابُّ بحدَّة: أريد أن أُشيِّد قصورًا ومقابر، وأن أتمتَّع بحياةٍ سعيدة عالية، ولا يقف في سبيل رغباتي إلَّا أنَّ نصف أراضي المملكة في أيدي أولئك الكهنة .. أيجوز أن تُعذِّبَني رغباتي كالفقراء؟ ألا سُحقًا لهذه الحكمة الفارغة، أوتعلمين ماذا حدث اليوم؟ .. لقد هتف نفرٌ منهم في أثناء سير الموكب باسم ذلك الرجل خنوم حتب، أرأيتِ أيَّتُها الملكة؟ .. إنهم يتحدَّون فرعون عينًا لعين!
فاستولَت الدهشة على الملكة، واصفرَّ وجهها الوديع، وتمتمَت بكلماتٍ غير مسموعة، فقال الملك بلهجةٍ ساخرة مريرة: ماذا دهاكِ أيَّتُها الملكة؟
أحسَّت بلا شكٍّ بانزعاج واستياء، ولولا أن الملك غاضبٌ إلى حدِّ الثورة لما حاولَت أن تُخفي غضبها، ولكنَّها تسلَّطتْ على انفعالاتها بإرادةٍ من حديد، وقالت بهدوء: دَعْ هذا الحديث إلى وقتٍ آخر؛ فإنَّك على وشك استقبال رجال مملكتك وعلى رأسهم خنوم حتب، وينبغي أن تقابلهم المقابلة الرسمية الكاملة.
فنظر فرعون إليها نظرةً غامضة، وقال بسكينةٍ مخيفة: إنِّي أعرف ما أريد، وما ينبغي أن أفعل.
وفي الوقت المحدَّد، استقبل الملك رجال مملكته في البهو الرسمي العظيم، واستمع إلى خُطَب الكهنة، وآراء حكَّام الأقاليم، ولاحظ كثيرون أنَّ الملك «لم يكن راضيًا»، وحين تفرَّق الجمع استبقى الملك رئيس وزرائه وحده واختلى به زمنًا غير يسير، وملَكَت الحَيْرة النفوس، ولكن لم يجرؤ أحد على التساؤل، ثم ظهر رئيس الوزراء، وحاول كثيرون أن يقرءوا صفحة وجهه، لعلَّهم يعثُرون على بيِّنة، ولكنَّ وجهه كان جامدًا كالصخر لا يبين.
وأمر الملك مستشاريه المقرَّبين، سوفخاتب كبير الحجَّاب وطاهو رئيس الحرس، أن يسبقاه إلى موضع سَمرهم على شاطئ بركة الحديقة، ودار في الممرَّات المعشوشبة، يبدو على وجهه الأسمر ارتياح، كأنَّه أرضى الغضب العنيف الذي طالبَه بالثأر منذ حينٍ قليل، فمشى الهُوينَى يستروح الشذا الطيِّب الذي تبعث إليه به الأشجار تحيَّةً وسلامًا، ويُنقِّل ناظرَيه بين الأزهار والثمار، ثم اتَّخذ سبيله إلى البِركة الغنَّاء، فوجد رجُلَيه في انتظاره؛ سوفخاتب بجسمه النحيل الطويل، ورأسه الأشيب، وطاهو بجسمه القويِّ الفولاذيِّ الذي تربَّى على متون الخيل والعَجَلات.
وحاول كلا الرجلَين أن يقرأ صفحة وجه الملك بإمعان ليَسْتَكْنِه باطنه ويطمئنَّ على السياسة التي يشير باتِّباعها نحو الكهنة، وكانا سمعا الهتاف الجريء الذي عُدَّ في جميع الدوائر تحدِّيًا لسلطة فرعون، وكانا يتوقَّعان له رَجعًا شديدًا في نفس الملك الشاب، وعَلِما بعد ذلك باستبقاء فرعون لرئيس وزرائه بعد انتهاء التشريفات، فخفَق قلباهما، وأشفق سوفخاتب من عواقب غضبة الملك؛ لأنَّه كان ينصح دائمًا بالتؤدَة والأناة والصبر، وبمعالجة مشكلة الأراضي بمنتهى الاعتدال، أمَّا طاهو فكان يرجو أن يدفع غضبُ الملك إلى الانضمام إلى رأيه، فيُصدِر أمره بنزع أملاك المعابد ويُنذِر الكهنة إنذارًا نهائيًّا.
وجعل الرجلان المخلصان ينظران إلى وجه مولاهما، يرجوان، ويكابدان قلقًا أليمًا، ولكنَّ فرعون كتم عواطفه، وطالعهما بوجه كأبي الهول. وكان يعلم بما تضطرم به نفساهما، وكأنَّه رغب في أن يمدَّ لهما حبل الوساوس، فجلس على أريكة في هدوء، وأمرهما بالجلوس، وسرعان ما عاودَت وجهَه هيئةُ الجدِّ والاهتمام، فقال: يحقُّ لي اليوم أن أغضب وأن أتألَّم.
وفهم الرجلان ما يعني، ورنَّ في أُذنَيهما الهتاف الجريء مرةً أخرى، فرفع سوفخاتب يدَيه تألُّمًا وإشفاقًا، وقال بصوت متهدِّج: تعالى مولاي عن دواعي الألم والغضب!
وقال طاهو بقوَّة: لا يجوز أن يألم مولاي وفي المملكة سلاحٌ لا ينثلم، ورجالٌ يفتدونه بالأرواح، حقًّا إنَّ هؤلاء الكهنة على علمهم وخبرتهم يتنكَّبون سبيل الرشاد، ويركبون رءوسهم، ويُعرِّضون أنفسهم إلى تهلُكةٍ لا قِبَل لهم بها.
فأحنى الملك رأسه ناظرًا إلى ما تحت قدمَيه، وقال: إنِّي أتساءل: هل قُوبل أحدٌ من آبائي وأجدادي طَوال عهد حكمه بمثل ما قُوبلتُ به اليوم من هُتاف، وما مضى على جلوسي سوى بضعة أشهر؟
فالتَمعَت عينا طاهو بنورٍ خاطف مخيف، وقال بيقين: القوَّة يا مولاي .. القوَّة يا مولاي .. كان أجدادك المقدَّسون أقوياء، يُحقِّقون إرادتهم بعزيمةٍ كالجبال، وسيفٍ كالقضاء، كن مثلهم يا مولاي، لا تتردَّد ولا تركَن إلى الحلم، واضرب إذا ضربتَ ضربةً شديدة لا تعرف الرحمة، تُذهِل الجبَّار عن نفسه، وتخنق في صدره أوهى الأمل.
ولم يَرُقْ هذا الكلام في عينَي الشيخ الحكيم سوفخاتب، وذُعر من حماس قائله، وأشفق من عواقبه، فقال: مولاي .. إنَّ الكهنة منبثُّون في أقطار المملكة كالدم في الجسم، منهم الولاة والقضاة والكتَّاب والمربُّون، وسلطانهم على القلوب مباركٌ بيد الأرباب منذ القِدَم، وليس لدينا من قوَّةٍ حربيَّة سوى الحرس الفرعوني وحامية بيلاق، فالضربة القاسية قد تأتي بعواقبَ غير محمودة.
ولم يكن طاهو يؤمن بغير القوَّة، فقال: وما عسى أن نفعل أيُّها المشير الحكيم؟ .. أنستوصي بالصبر حتَّى يقتحمنا عدوُّنا، ونُردَّ في عينَيه إلى الهوان؟
– ليس الكهنة بأعداء لفرعون، ومعاذ الربِّ أن يُوجد لفرعون من شعبه عدوٌّ، فالكهنة طائفةٌ مخلصة أمينة، وما نأخذ عليهم إلَّا أنَّ امتيازاتهم أكثر ممَّا يقتضي الحال، وأُقسم إنِّي ما يئستُ يومًا من إيجاد الحلِّ الموفَّق الذي يُحقِّق رغبة مولاي، ويحفظ للكهنة حقوقهم.
وكان الملك يستمع إليهما في هدوء، وعلى فمه العريض ابتسامةٌ غامضة، فلمَّا أتمَّ سوفخاتب كلامه، قال بهدوء وهو يرمقهما بعينَين ساخرتَين: أريحا نفسَيكما أيُّها الرجلان المخلصان؛ فقد أطلقتُ سهمي.
واستولت الدهشة على الرجلَين، ونظرا إلى الملك في إشفاق وأمل وخوف. وكان طاهو أدنى إلى الأمل، أمَّا سوفخاتب فامتُقع وجهه وعضَّ على شفتَيه، وانتظر صامتًا سماع الكلمة الفاصلة. وقال الملك بلهجةٍ نمَّت عن الزهو والتشفِّي: تعلمان أنِّي استبقيتُ الرجل بعد انصراف الناس جميعًا، ولمَّا أن خلا المكان ابتدرتُه قائلًا: إنَّ الهُتاف باسمه تحت سمعي وبصري عملٌ حقير خئون. وأكَّدتُ له أنِّي لا أعدم الهاتفين من شعبي النبيل الأمين، فرأيتُه يضطَرب ويُبهَت، ويحني رأسه الكبير على صدره الضيِّق، وفتح فمه ليتكلم، ولعله كان يريد أن يعتذر بصوته الهادئ البارد.
وقطَّب الملك جبينه، وصمَت لحظة، ثم استطرد قائلًا بعنف: ولم أتركه يعتذر، فقطعتُ عليه بإشارة من يدي، وصارحتُه بكلامٍ صارم، مؤكدًا له أنَّه من تفاهة العقل أن يظنَّ مثل ذاك الهُتاف يردُّني عن رأيٍ اعتزمتُه، ثمَّ أخبرته بأنَّ نيَّتي انتهت إلى ضم أملاك المعابد إلى أراضي التاج، وأنَّه لن يُتركَ للمعابد منذ اليوم إلَّا ما يقوم بحاجتها من الأراضي والنذور.
وكان الرجلان يُصغيان بكلِّ حواسِّهما إلى حديث الملك، أما سوفخاتب فكان ممتقع اللون، منكفئ الوجه، يعاني مرارة الخيبة، وأمَّا طاهو فكان متهللًا فرحًا، كأنَّه يستمع إلى لحنٍ جميل، يتغنَّى بمجده وعظمته، واستدرك الملك قائلًا: لا شكَّ أنَّ قراري أذهل خنوم حتب، وأخرجه عن طوره، فبدا عليه الجزع، وتوسَّل إليَّ قائلًا: إنَّ أراضي المعابد هي أراضي الأرباب، وإنَّ خيراتها تعود في الغالب إلى الشعب والفقراء، وينفق في وجوه التعليم والتربية الخلقيَّة، وحاول أن يُفيض، ولكنِّي أوقفتُه بإشارة من يدي، وقلتُ له: إنَّ هذه هي إرادتي، وإنَّ عليه تنفيذها دون إبطاء، وآذنته بانتهاء المقابلة.
فلم يتمالك طاهو أن صاح فرحًا: باركَتْك الأرباب جميعًا يا مولاي!
فابتسم الملك ارتياحًا، ولاحت منه نظرةٌ إلى وجه سوفخاتب في ساعة خِذلانه، فأحسَّ نحوه بعطف وقال: أنتَ رجلٌ مخلص يا سوفخاتب، ومُشيرٌ نصوح .. فلا يحزنكَ أن خُولف رأيك.
فقال الرجل: لستُ يا مولاي من قومٍ مغرورين، يغضبون أشدَّ الغضب إذا خُولفَت نصيحتهم، لا خوفًا من العواقب، ولكن ذودًا عن كرامتهم، حتى ليبلُغ الغرور بأحدهم أن يتمنَّى لو يقع شرٌّ كان أنذَر به، ليعرف من لا يعرف قَدْره .. أعوذ بالربِّ من شرِّ الغرور، فما يدفعني إلى محض النصيحة سوى الإخلاص وما يحزنُني حين مخالفتها سوى الإشفاق من صدق حدَسي، وما أتمنَّى على الربِّ من شيء إلَّا أن يكذب رأيي، ليطمئنَّ قلبي.
وكأنَّ فرعون أراد أن يُطمئنه، فقال: لقد نلتُ بغيتي، ولن ينالوا شيئًا مِنِّي؛ فمصر تعبد فرعون، ولا ترضى عنه بدلًا.
فأمَّن الرجلان على قول مولاهما بإخلاص، ولكن كان سوفخاتب مضطربًا، يحاول عبثًا أن يُقلِّل من خطورة الأمر الذي أصدَره فرعون، ويذكُر في ضيقِ صدر أنَّ الكهنة سيتلقَّون الأمر الشديد وهم مجتمعون في آبو، فيتَّسع لهم المقام لتبادُل الرأي، وتباثِّ الشكوى، فيعودون إلى ولاياتهم وقد أطبقَت أفواههم على التذمُّر والحزن، وإنَّه ليعلم علم اليقين من هم الكهنة وما هو نفوذهم على القلوب والعقول .. ولكنَّه لم يُبِنْ عن آرائه؛ لأنَّه وجد الملك فرحًا راضيًا ضاحك الثغر، فأشفق من تعكير صفوه، وبسَط صفحة وجهه، ورسم على شفتَيه ابتسامةً راضية.
وقال الملك بسرور: لم أشعر بمثل نشوة الظفَر هذه منذ اليوم الذي انتصرتُ فيه على قبائل المعصايو جنوب النوبة في حياة أبي، فلنشرب نخب هذا الفوز السعيد.
وجاءت الجواري بإبريقٍ من خمرِ مريوط وكئوسٍ ذهبيَّة، وصبَبن الخمر، وقدَّمن كئوسًا مترعات إلى الملك والرجلَين المخلصَين، فشربوا في صفاء وهناء وعلُّوا في نشوة، وجعل سوفخاتب يذبُّ عن قلبه الخواطر المقلقة، ليركِّز حواسَّه في رحيقِ مريوط، ويُشارك الملك والقائد سعادتهما، وكانوا جلوسًا صامتين تتبادل أعينهم المودَّة والصفاء، والبِركةُ من تحتهم يَستَحم في مائها الطَّرِب شعاعُ الشمس المائل، والأشجار من حولهم ترقُص أغصانها على شَدْو الأغاريد، وتنبثق الأزهار من بين أوراقها انبثاقَ الخواطر السعيدة من غيابات النفوس .. واستسلموا إلى يقظةٍ ناعسة زمنًا غير يسير حتى انتبهوا على حادثةٍ غريبة انتزعَتْهم من أحلامهم بعنف؛ إذ سقط شيء في حجر الملك من علٍ، فانتفض واقفًا، وتبعَه الرجلان، فسقط الشيء عند قدمَيه، وإذا به صندلٌ ذهبي، ونظروا إلى أعلى دَهِشين، فرأَوا نسرًا هائلًا يُحلِّق في سماء الحديقة فوق رءوسهم ويبعث في الفضاء صرصرةً مخيفة، ويُصْليهم نظراتٍ ملتهبة من عينَين متَّقدتَين، ثم ضرب بجناحَيه الهواء ضربةً عنيفة حلَّق بها في آفاقٍ بعيدة.
وعادُوا بالنظر إلى الصندل، والتقَطه الملك بيده، وجلس يتأمله بعينَين مبتسمتَين تلُوح فيهما آي الدهشة. ونظر الرجلان إلى الصندل بغرابة، وتبادلا نظراتِ الإنكار والدهشة والارتياب.
ومضى الملك في تأمُّلِه، ثم غمغَم قائلًا: هذا صندلُ امرأة، بلا ريب، ما أجمله وما أثمنه!
وتساءل طاهو وعيناه تلتهمان الصندل: تُرى هل خطفه النسر؟
فابتسم الملك قائلًا: لا يُوجد في حديقتي شجرٌ يتساقط منه نبتٌ طيِّب كهذا.
وقال سوفخاتب: يعتقد العامَّة يا مولاي أنَّ النسر يتعشَّق الحسان، وأنَّه يخطف من العذارى من تَهوِي إليها نفسه، ويطير بها إلى قمم الجبال، فلعلَّ هذا النسر عاشقٌ هبط منف وابتاع الصندل لحبيبته، ثم خانه الحظ فأفلَت من بين مخالبه، وسقط عند قدمَي مولاي.
وجعل الملك يتأمَّله مسرورًا منفعلًا، ويقول: تُرى كيف خطفه؟ .. أخشى أن يكون لإحدى ساكنات السماء.
فعاد سوفخاتب يقول باهتمام: أو لإحدى ساكنات الأرض يا مولاي، خلَعتْه مع ثيابها على شاطئ بِركة، وتعرَّت تستحم، فجاء النسر وخطفه.
– ورمى به إلى حِجْري .. يا لَلعجب، لكأنِّي به يعلم بحبِّي للحسان!
فابتسم سوفخاتب ابتسامةً ذات معنى، وقال: أسعدَت الآلهة أيَّامكَ يا مولاي.
وتبدَّت الأحلام في عينَي الملك، وابتسمَت أساريره، ولان جبينُه، وتورَّدتْ وجنتاه، وكان ينظر إلى الصندل لا تُفارِقه عيناه، ويُسائِل نفسه: تُرى من صاحبته؟ وما صورتها؟ وهل هي جميلة كصندلها؟ وكيف لا تدري أنَّ صندلها سقَط في حجر الملك؟ وما شأنُ الأقدار التي نصبَته هدفًا له؟ وعثَر بصره بصورةٍ منقوشة على باطنه، فقال وهو يشير إليها: ما أجمل هذه الصورة! .. إنَّه فارسٌ وسيم، يقدِّم قلبه هديَّة على يده المبسوطة.
ووقعَت هذه العبارة من قلب الرجلَين موقع الانتباه الشديد فالتمعَت أعينهما بنورٍ خاطف، وتطلَّعا إلى الصندل باهتمامٍ عظيم، وقال سوفخاتب: هل يتنازل مولاي عن الصندل لحظة؟
فأعطاهه، ونظر إليه كبير الحجَّاب، كما نظر إليه طاهو، ثم ردَّه الرجل إلى الملك وهو يقول: صدَق حَدْسي يا مولاي .. هذا صندلُ رادوبيس غانيةِ بيجة الشهيرة.
فتساءل الملك قائلًا: رادوبيس .. يا له من اسمٍ جميل! .. مَن عسى أن تكون صاحبته؟!
وساور القلقُ قلبَ طاهو واختلجَت عيناه فقال: هي راقصةٌ يا مولاي يعرفها أهل الجنوب جميعًا.
فابتسم فرعون وقال: ألسنا من أهل الجنوب؟ حقًّا إنَّ الملوك قد تخترق أعينُها سجف الأفق القصيِّ، وتعمى عمَّا يقع عليه ظلُّها.
واشتَد القلق بطاهو، فقال وقد امتُقِع لونه: إنَّها امرأة يا مولاي قد طرق بابَها رجالُ آبو وبيجة وبيلاق.
وكان سوفخاتب يعلم بما يُساوِر قلب صاحبه من المخاوف، فقال وهو يبتسم ابتسامةً غامضة ماكرة: على أيَّة حال هي صورةٌ أنثويَّة يا مولاي، جعلَتْها الآلهة آيةً على قُدرتها وإعجازها.
فردَّد الملك ناظرَيْه بين الرجلَين وقال مبتسمًا: وحقِّ الربِّ سوتيس إنَّكما لأخبرُ أهل الجنوب بها.
فقال سوفخاتب بهدوء: إنَّ بهو استقبالها يا مولاي ملتقى أهل الرأي والفنِّ والسياسة.
– حقًّا إنَّ الجمال عالمٌ ساحر، يطالعنا كلَّ يومٍ بالمعجزات، هل هي أجمل مَن رأيتَ؟
فقال سوفخاتب باطمئنان: هي الجمالُ عينه يا مولاي، هي فتنةٌ قهَّارة، وعاطفةٌ لا تُقاوَم. لقد صدَق الفيلسوف هوف وهو من أصدقائها المقرَّبين إذ قال يومًا: إنَّه من أخطر الأمور في حياة الرجل أن تقع عيناه على وجه رادوبيس.
وتنهَّد طاهو يائسًا، وحدَج كبير الحجَّاب بنظرةٍ خاطفة فَهِم معناها، ثم قال: إنَّ جمالها يا مولاي جمالٌ شيطانيِّ رخيص، لا تضنُّ به على طالب!
فضحك الملك بصوتٍ عالٍ، وقال: كلاكما يُغريني وصفُه.
فقال سوفخاتب: ألا فلتَروِكَ سماءُ مصر بأجملِ ما تُظلُّ من السعادة يا مولاي.
ونزَع خيال الملك به إلى النسر، فتولَّاه عَجبٌ ساحر، أضفى عليه ما سمعه نسيجًا رقيقًا من الفتنة والأحلام، فتساءل وكأنَّه يُحادِث نفسه: تُرى أأحسن النسر في اختيارنا هدفًا له أم أساء؟
واختلَس طاهو نظرةً عاجلة من وجه مولاه المُكبِّ على ما بين يدَيه، وقال في حَيْرة: ما هي إلَّا مصادفة يا مولاي. وما يؤسفني إلَّا أن أرى هذا الصندل الملوَّث بين يدَي مولاي المعبودتَين.
ولحظ سوفخاتب صاحبه بنظرةٍ ساخرة متشفِّية، وقال بهدوء: مصادفة؟ .. إنَّ هذه الكلمة يا مولاي مهضومة الحق، يُظنُّ بها التخبُّط والعمى، ومع هذا فهي المرجع الوحيد لأغلب السعادات وأجلِّ الكوارث؛ فلم يَبقَ للآلهة إلَّا القليل النادر من حادثات المنطق، كلَّا يا مولاي، إنَّ كلَّ حادثةٍ في هذا العالم لا شكَّ مُوكَلَة بإرادة ربٍّ من الأرباب، ولا يجوز أن تخلُق الآلهة الحادثات — جلَّت أو تفهَت — عبثًا أو لهوًا.
فجُنَّ جنون طاهو، وكظم بقوَّة تيار غضبٍ جنوني كاد أن يجرف هدوءه في حضرة الملك، وقال لسوفخاتب بلهجةٍ تنمُّ عن اللوم والتعنيف: أتريد أيُّها المعظَّم سوفخاتب أن تشغل بال مولاي، في هذه الساعة الجليلة، بأمثال هذه الأوهام؟
فقال سوفخاتب بهدوء: إنَّ الحياة جِدٌّ ولهوٌ، كما إنَّ اليوم نهارٌ وليل، والرجل الحكيم من لا يذكُر في أوقات جِدِّه أسباب لهوه، ولا يُعكِّر صفو لَهْوه بأمور جِدِّه، فمن أدراك أيُّها القائد؟ فلعلَّ الآلهة لسابق علمها بحبِّ مولانا الجمال، أرسلَت إليه هذا الصندل على يد النسر العجيب.
وقلَّب الملك عينَيه في وجهَيْهما واستضحك قائلًا: أدائمًا على اختلاف أيُّها الرجلان؟ كما تشاءان، ولكن كان ينبغي أن أجد في طاهو الرجل مغريًا بالهوى، وفي سوفخاتب الشيخ زاجرًا عنه، وعلى أيَّة حالٍ لا مندوحةَ لي من الميل مع رأي سوفخاتب في الحُبِّ، كما مِلتُ إلى رأي طاهو في السياسة.
وقام الملك واقفًا، فقام الرجلان، وألقى نظرة على الحديقة الواسعة وهي تُودِّع الشمس المائلة نحو الأُفق الغربيِّ، وقال وهو يهمُّ بالمسير: أمامنا ليلة عملٍ شاقَّة، فإلى الغد، ولسوف نرى.
وذهب فرعون والصندل في يده، فانحنى الرجلان في إجلال.
ووجدا نفسَيْهما منفردَين مرَّةً أخرى، فوقف كلٌّ منهما بإزاء صاحبه؛ طاهو بجسمه الطويل وصدره العريض وعضلاته الفولاذية، وسوفخاتب بجسمه الدقيق النحيل وعينَيه الصافيتَين العميقتَين وابتسامته الجميلة العظيمة.
وكان كلٌّ منهما يحسُّ بما اختلج في صَدْر صاحبه، فيبتسم سوفخاتب، ويقطِّب طاهو جبينه. ولم يستطع القائد أن يودِّع الحاجب بغير قولٍ ينفِّس به عن صَدْره الكظيم، فقال: غدرتَ بي أيُّها الصديق سوفخاتب، بعد أن لم تُطِق منازلتي وجهًا لوجه.
فرفع سوفخاتب حاجبَيه إنكارًا، وقال: يا له من كلام بعيد عن الحقِّ أيُّها القائد! ما لي أنا والحبِّ؟ ألم تعلم بأنِّي شيخٌ فانٍ، وأنَّ حفيدي سنب طالبٌ في جامعة أون؟
– ما أسهَل تزويرَ الكلام عليك أيُّها الصديق! ولكنَّ الحقيقة تهزأ بلسانكَ اللبقِ الحكيم .. ألم يَمِلْ قلبُكَ الفتي يومًا إلى رادوبيس؟ ألم يسُؤكَ أن تهَبَني عطفًا لم تظفَر به أنت؟
فرفَع الشيخ يدَيه يستعيد من كلام القائد، وقال: إنَّ خيالكَ لا يقلُّ عن عضلات ساعدك الأيمن، والحقُّ أنَّه إذا كان قلبي مالَ إلى هذه الغانية يومًا، فعلى طريقة الحُكَماء المبرَّأة من الطمع!
– أما كان يجمُل بك ألَّا تفتن خيال مولانا بحُسنِها إكرامًا لي؟
فبدَت الدهشة على سوفخاتب، وقال باهتمام وأسفٍ صادق: أحقًّا أنَّك تجد في الأمر جِدًّا؟ .. أم أنَّك ضِقتَ بدُعابتي ذرعًا؟
فقال طاهو بسرعة: لا هذا ولا ذاك أيُّها المعظَّم، ولكن يسوءُني فقط أن نختلف دائمًا.
فابتسم كبير الحُجَّاب، وقال بهدوئه الطبيعيِّ: لن يزال يجمعنا رباطٌ وثيق هو الإخلاص لصاحب العرش!