نهاية طاهو
وسَهمَت إليه بنظرةٍ غريبة كأنَّها لا تعرفه، وحاولَت أن تخلِّص ذراعها، ولكنَّه لم يمكِّنها من غايتها، فقالت له بعنف: دعني أذهب.
فهزَّ رأسه يمنةً ويسرةً ببطء كأنَّه يقول لها: كلَّا كلَّا .. وكان وجهه رهيبًا مخيفًا ونظرة عينَيه جنونيَّة، وتمتم قائلًا: إنَّهم ذاهبون إلى مكانٍ لا يجوز أن تلحقيهم إليه.
– دعني أذهب. لقد خطفوا سيِّدي.
فاربدَّ وجهه، وقال لها بلهجةٍ عنيفة كأنَّه يُلقي أمرًا عسكريًّا: لا تُقاومي رغبة الملكة الحاكمة.
فسكَت عنها الغضب في خوف وكفَّت عن المقاومة.
واستسلمت استسلامًا غريبًا، وقطَّبتْ جبينها، ثم هزَّت رأسها في حَيرة كأنَّها تحاول أن تستجمع قوى إدراكها المشتَّت الذاهل، وحدَجتْه بنظرة غرابة وإنكار وقالت: ألا ترى أنَّهم قتلوا مولاي .. قتلوا الملك؟!
وكانت عبارة «قتلوا الملك.» تقع من أذنيه موقعًا غريبًا مروِّعًا فسكن هياجه، وقال: نعم يا رادوبيس، قتلوا الملك، وما كنتُ أحسب قبل اليوم أنَّ سهمًا يمكن أن يقضي على حياة فرعون.
فقالت ببساطة البُلْه: فكيف تدعُهم يخطفونه منِّي بعد ذلك؟!
فانفجر ضاحكًا ضحكةً جنونيَّة مخيفة، وقال: أتريدين أن تَتبعي أثَرهم؟ .. يا لك من مجنونة يا رادوبيس! إنَّك تعمَين عن العواقب؛ فقد أذهلك الحزن، اصحي أيَّتُها الفاتنة؛ فالجالسة على عرش مصر الآن امرأة قضَيتِ عليها بالهوان، وانتزعتِ زوجها من بين يدَيها، وأهويتِ بها من سامق المجد والسعادة إلى زوايا النسيان والشقاء .. إنَّها سرعان ما تبعثُ إليك من يسوقكِ إليها مكبَّلة بالسلاسل، ثمَّ تدفع بكِ إلى أيدي جلَّادين لا يعرفون الرحمة يحلقون شعركِ الحريري، ويَسملون عينَيك السوداوَين، ويجدعون أنفك الدقيق، ويصلمون أُذنَيك الرقيقتَين، ثم يحملونك على ظَهر عربة قطعة من البشاعة المشوَّهة يعرضونك على أنظار الساخطين الشامتين، ويسير بين يدَيك مُنادٍ يصيح بأعلى صوته أن انظُروا إلى العاهرة المشئومة التي أتلفَت على الملك نفسه، ثم أتلفَته على شعبه.
وكان طاهو يتكلَّم بلهجةٍ تشفُّ عن غِلٍّ وعيناه تبرقان بنورٍ مخيف، ولكنَّها لم تتأثَّر بكلامه كأنَّما حِيل بينه وبين حواسِّها، وسَهمَت إلى شيءٍ غير منظور في هدوءٍ غريب، ثم هزَّت منكبَيْها في استهانة وبساطة، فاحتدَم في قلبه الغيظ والحنق لبرودها وذهولها، واندفَع الغضب من قلبه إلى قبضة يده فشدَّ عليها، وشعَر برغبة في أن يوجِّه إلى وجهها ضربةً هائلة جنونية فيُحطِّمه تحطيمًا، ويمتِّع ناظرَيْه بتشوُّهه، وتفجَّر الدمُ من مسامِّه ومنافذه، ولبث دقيقةً يتفرَّس في وجهها الهادئ الذاهل، ويُحاور رغبته الشيطانية، ولكنَّها رفعَت عينَيها إليه دون أن يلوح فيهما معنًى من معاني الحياة، فاضطرب وتخاذل وبدا عليه رعب من يُضْبط متلبسًا بجريمة، فتراخت أصابعه، وتنهَّد تنهُّدًا عميقًا ثقيلًا، ثم قال: أراكِ لا تكترثين لشيء.
وكانت لا تُلقي إلى ما يقول بالًا، ولكن تصادَف أن قالت وكأنَّها تُحادِث نفسها: كان ينبغي أن نتبعَهم.
فقال طاهو بغضب: كلَّا .. كلَّا .. ما عاد كلانا يصلح للدنيا .. ولن يفتقدنا بعد اليوم أحد.
فقالت ببساطة وهدوء: أخَذَته منِّي .. أخَذَته منِّي.
فعلم أنَّها تعني الملكة. وهزَّ منكبَيه قائلًا: لقد استوليتِ عليه حيًّا، واستردَّته ميتًا.
فحدَجتْه بنظرةٍ غريبة، وقالت له: يا أحمق، يا جاهل، ألا تعلم؟ .. لقد قتلَته الخائنة لتستردَّه.
– مَن الخائنة؟
– الملكة، هي التي أفشت سرَّنا وأثارت الشعب. هي التي قتلَت مولاي.
وكان يُنصِت إليها في صمت، وعلى فمه ابتسامةٌ شيطانية ساخرة، فلمَّا انتهت ضحك ضحكته الجنونيَّة المخيفة، ثم قال: أخطأتِ يا رادوبيس، ليست الملكة خائنة ولا قاتلة.
وحملق في وجهها ودنا منها خطوة، وكانت تنظر إليه بدهشة وإنكار، ثم قال بصوتٍ رهيب: إن كان يهمُّك أن تعرفي الخائن، فها هو ذا يقف أمامك .. أنا الخائن يا رادوبيس .. أنا.
ولم يهمُّها قوله كما كان يتوقَّع، ولا بدَت عليها اليقظة. ولكنَّها هزَّت رأسها هزَّاتٍ خفيفة كأنَّما تريد أن تَنفضَ عن نفسها الخمول والإعياء، فاستولى عليه الغضب، وأمسك بكتفَيها بغلظة، وهزَّها بعنفٍ شديد، وصاح بها: اصحي، ألا تسمعين ما أقول؟ .. أنا الخائن .. طاهو الخائن .. أنا علَّة الكوارث جميعًا.
وارتعد جسمها بعنف، وانتفضَت انتفاضًا شديدًا خلصَت به من يدَيه وتقهقَرتْ خطوات وهي تنظر إلى وجهه الفزع بخوف وجنون، فسكت غضبُه وهياجه، وأحسَّ بتخاذل جسمه ورأسه فأظلمَت عيناه، وقال بهدوء وبلهجةٍ حزينة: إنِّي أنطق بكلماتٍ هائلة بكل بساطة؛ لأنِّي أشعر شعورًا صادقًا أنِّي لستُ من أهل الدنيا. لقد انقطع ما بيني وبين العالم جميعًا، ولا شكَّ فيما أحدثَه اعترافي لكِ من الفزع، ولكنَّها الحقيقة يا رادوبيس، لقد تحطَّم قلبي بقسوةٍ شنيعة، ومزَّق نفسي الألم البالغ في تلك الليلة الجنونيَّة التي فقدتُكِ فيها إلى الأبد.
وسكت القائد ريثما تهدأ أنفاسه المضطربة، ثمَّ استطرد قائلًا: وانطويتُ على الألم، واستوصيتُ بالصبر والتجلُّد، واعتزمتُ صادقًا أن أؤدِّي واجبي إلى النهاية، حتَّى كان ذلك اليوم الذي دعَوتِني فيه إلى قصركِ لتستوثقي من إخلاصي. في ذلك اليوم جُنَّ جنوني، واشتعلَت النار في دمائي، فهذيتُ هَذيانًا غريبًا، واستاقني الجنون إلى عدوٍّ متربِّص، فأفضيتُ له بسرِّنا، وهكذا انقلب القائد الأمين خائنًا غادرًا يطعن من وراء الظهور.
وأهاجته الذكرى فتقلَّص وجهه ألمًا وخزيًا، ونظر إلى وجهها الفزع بقسوة، فعاودَه الغضب والحنق، وصاح: أيَّتُها المرأةُ الهَلُوك المُدمِّرة. لقد كان جمالُكِ لعنةً على كلِّ من رآه. لقد عذَّبَ قلوبًا بريئة، وخرَّبَ قصرًا عامرًا، وزلزل عرشًا مكينًا، وأثار شعبًا أمينًا، ولوَّثَ قلبًا شريفًا .. إنَّه لشؤمٌ ولعنة.
وسكت طاهو، وما زال الغضب يغلي في شرايينه، ورآها كصورة للعذاب والخوف، فأحسَّ ارتياحًا ولذَّة، وتمتم قائلًا: ذوقي العذاب والهوان، وانظري الموت فما ينبغي لأحدنا أن يحيا، وقد متُّ منذ زمنٍ بعيد، ولم يَبقَ لي من طاهو إلَّا ثيابه المزركشة المجيدة، أمَّا طاهو الذي اشترك في غزو النوبة، وأبلى بلاءً حسنًا استحق به ثناء بيبي الثاني، طاهو قائد حرس مرنرع الثاني، وصفيُّه، ومشيره، فلا وجود له.
وألقى الرجل نظرةً سريعة على ما حوله، وبدا على وجهه الضيق والجزع الشديد، ولم يعُد يحتمل السكون المطبِق، ولا رؤية رادوبيس التي استحالت تمثالًا جامدًا، فنفخ في الهواء بقوَّة وسخط واشمئزاز، وقال: ينبغي أن ينتهي كلُّ شيء، ولكنِّي لن أحرم نفسي من العقاب الصارم، سأذهب إلى القصر، وأدعو كلَّ من يُحسن بي الظنَّ، ثم أعلن جريمتين للملأ، وأمزِّق الستار عن الخائن الذي طعن مولاه وهو يُسارُّه، وأنزع النياشين التي تُحلِّي صدري الآثم، وأرمي بسيفي، ثم أطعن قلبي بهذا الخنجر .. فالوداع يا رادوبيس، والوداع أيَّتُها الحياة التي تستأدينا فوق ما تستحقُّ.
نطق طاهو بهذه الكلمات، ثم ذهب.