طاهو
كانت قلقةً مبَلبَلة موزَّعة النفس، فيئسَت من النوم، وغادَرتِ السرير مرَّةً أخرى، ودلفَت إلى نافذةٍ تُطلُّ على الحديقة، وفتحَتْها على مِصراعَيها، ووقفَت وراءها كالتمثال، ثم حلَّت عقدة شعرها، فانساب في خصلاتٍ مرتعشة على عنقها ومنكبَيها، ولفَح جلبابها الأبيض بسوادٍ عميق، وملأَت رئتَيها بهواء الليل الرطب، ثمَّ وضعَت مرفقيها على حافة النافذة، وأسندَت ذقنَها إلى كفَّيها، وتاهت عيناها في الفضاء الشامل للحديقة، والنيل الجاري وراءها. كانت ليلةً ظلماء معتدلة الجو، يهبُّ نسيمها متقطِّعًا خفيفًا ضعيفًا فيراقص الغصون والأوراق رقصًا رحيمًا رقيقًا، وكان النيل يُرى عن بُعد كقطعة من الظلماء. أمَّا السماء فمزدانة بالنجوم اللوامع، تُرسِل شعاعًا باهتًا ما إن يقترب من الأرض حتَّى يغرق في بحار الظُّلمة.
هل يستطيع الليل المظلم والسكون المُطبِق أن يلقيا على رأسها القَلِقِ ظلًّا من السكينة والطمأنينة؟ هيهاتَ .. وبلغ بها اليأس من الطمأنينة منتهاه، فأتت بوسادة ووضعَتها على حافة النافذة، وأسلمَت إليها خدَّها الأيمن، وأغمضَت عينَيها.
وطرقَت ذاكرتها بغتةً عبارة الفيلسوف هوف: «فالجميع يشكو، وما من فائدة تُرجى من التغيير، فاقنعي بما قُسِمَ لكِ.» وتنهَّدتْ من أعماق قلبها، وتساءلَت في حزن .. أما من فائدة تُرجى من التغيير حقًّا؟ .. أحقًّا أنَّ الشكوى تُلاحِق الإنسان أبدًا؟ .. ولكن كيف تستطيع أن تؤمن بهذا إيمانًا صادقًا يصرف قلبها عن طلب التغيير؟ إنَّ ما بقلبها ثورةٌ جامحة، تودُّ لو تدمِّر بها حاضرها وماضيها، وتفرُّ خالصةً إلى آفاقٍ غامضة مجهولة، فكيف تجد الراحة والقناعة؟ إنَّها تحلُم بحالة تبطل فيها الشكوى، ولكنَّها جَزِعَة بَرِمَة بكلِّ شيء.
ولم تُترك لأفكارها وأحلامها، إذ سمعَت طرقًا خفيفًا على باب مخدعها، فأرهفَت أُذنَيها دهشةً، ونادت قائلةً وهي ترفع رأسها: مَنْ؟
فأجاب صوتٌ تعرفه حقَّ المعرفة: أنا يا مولاتي .. أتسمحين لي بالدخول؟
فقالت: تعالَي يا شيث.
ودخلَت الجارية على أطراف أصابعها، ودُهشَت لوقوف سيِّدتها، وأن سريرها لم يُمَسَّ، وعاجلَتها الغانية قائلةً: ماذا وراءكِ يا شيث؟
– ورائي رجلٌ ينتظر الإذن بالدخول.
فقطَّبتْ جبينها، وقالت بصوتٍ ينطوي على الغضب: أيُّ رجلٍ! .. اطرديه دون تردُّد.
– كيف يا مولاتي؟ .. إنَّه رجلٌ لا يُغلَق دونه بابُ هذا القصر.
– طاهو؟
– هو بعينه.
– وما الذي جاء به في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
فلاحت في عينَي الجارية نظرةٌ ماكرة، وقالت: هذا ما سوف تعلمينه بعد حينٍ يا مولاتي.
فأشارت لها بيدها أن تَدعُوَه، وغابت الجارية لحظات، ثم لم يلبث أن ملأ فراغ الباب جسمُ القائد ذو الطول والعرض. وحيَّاها بانحناءةٍ من رأسه ووقف أمامها ينظر إلى وجهها بارتباك. ولم يخفَ عليها شحوب لونه، وتجعُّد جبينه، وظُلمة عينَيه، فأنكَرته، وسارت إلى الديوان، وجلسَت عليه وسألَته: أراكَ مُتْعَبًا .. هل أجهدكَ العمل؟
فهزَّ رأسه بالنفي، وقال باقتضاب: كلَّا.
– لستَ كعهدي بك.
– حقًّا؟!
– لا شك أنَّك تعلم هذا .. ماذا بك؟
هو يعلم كلَّ شيء بلا ريب، وستَعلَمه بعد حينٍ سواء أدَّاه إليها بنفسه أم لم يؤدِّه. وهو يُشفِق من الإقدام على الكلام لأنَّه يغامر بسعادته، ويخشى أن تفلت من يده إلى الأبد. ولو أنَّه كان يستطيع أن يتسلَّط على إرادتها لهان كلُّ شيء، ولكنَّه يكاد أن ييأس من هذا، فاستولى عليه ألمٌ مُمِض وقال لها: آه يا رادوبيس! لو كنتِ تبادلينني الحبَّ لأمكن أن أتوسَّل إليكِ باسم حبِّنا.
تُرى ما حاجته إلى التوسُّل؟ .. عهدها به رجلًا عنيفًا يكره التوسُّل والرجاء، وطالما قنع بفتنة جسمها، فما الذي أفزَعه؟! وخفَضَت عينَيها وقالت: هذا حديثٌ قديم مُعاد.
فأغضبه قولها على صِدقه، واحتدَّ قائلًا: أعلم ذلك .. ولكنِّي أُعيده لدواعٍ حاضرة .. آه! .. لكأنَّ قلبكِ غارٌ أجوف في قاع نهرٍ بارد.
كانت أَلِفَت أمثال هذا المقال، ولكنَّها قالت مُتملمِلة: هل منعتُكَ شيئًا تشتهيه؟
– كلَّا يا رادوبيس. لقد وهَبتِني جسمك الفاتن الذي خُلق عذابًا للبشر، ولكن طالما طَمِعتُ في قلبكِ. يا له من قلب يا رادوبيس! .. إنَّه يقف وسط زوابع الشهوات جامدًا كأنَّه ليس منك، ولطالما ساءلتُ نفسي متحيِّرًا مغيظًا، ماذا يعيبني؟ ألست رجلًا بل أنا رجولةٌ كاملة. والحقيقة أنَّكِ بدون قلب.
وازداد إنكارها له، ليست هذه المرة الأولى التي تسمع فيها هذا الكلام، ولكنَّه كان يقوله ساخرًا أو غاضبًا غضبًا خفيفًا .. أمَّا في هذه الساعة المتأخرة من الليل، فإنَّه يتكلَّم بصوتٍ متهدِّج ويتميَّز غيظًا وحنقًا، فما الذي أهاجه؟ وكأنَّها أرادت أن تستحثَّه فسألَته: أجئتَ في هذه الساعة من الليل يا طاهو لتُعيد على أُذنيَّ هذا الحديث؟
– كلَّا لم أجئ من أجل هذا الحديث .. ولكنَّني جئتُ من أجل أمرٍ خطير .. إن لم يُسعفني الحبُّ فيه، فلتُسعفني حرِّيتُكِ التي تَحرصين عليها.
فنظَرتْ إليه في اهتمامٍ شديد، وانتظَرتْ أن يتكلم، وبلَغ به الضيق أشدَّه، فعزم على أن يخلُص إلى غرضه بلا لفٍّ ولا دوران، فقال لها بهدوء وحزم وهو يصوِّب عينَيه إلى عينَيها: ينبغي أن تهجري قصر بيجة، وأن تفرِّي من الجزيرة فرارًا في أقرب وقت .. قبل أن ينبلج الصباح.
فارتاعت المرأة لقوله، ونظَرتْ إليه بعينَين لا تصدِّقانه وسألَته: ما هذا الذي تقوله يا طاهو؟
– أقول إنَّه ينبغي أن تختفي .. أو تفقدي حرِّيتَكِ.
– وماذا يهدِّد حُرِّيتي في بيجة؟
فأصرَّ على أسنانه، وسألها بدوره: ألم تفقدي شيئًا ثمينًا؟
فقالت داهشة: بلا. فقدتُ فردة صندلي الذهبيَّ الذي أهديتَنيه.
– كيف؟
– خطَفه النسر وأنا أستحم في بِرْكة الحديقة .. ولكنِّي لا أدري أيُّ علاقة تُوجَد بين حُرِّيتي المهدَّدة وصندلي المفقود؟
– مهلًا يا رادوبيس .. لقد خطَفه النسر حقًّا، ولكن ألا تدرين أين سقط؟
وجدَته يتكلَّم بلهجة العارف، فاستولى عليها العجَب وتمتمَت قائلةً: من أين لي بهذا يا طاهو؟
فتنهَّد قائلًا: سقط في حِجْرِ فرعون.
وقَرعَت هذه الكلمة أُذنَيها في هالةٍ من دويٍّ هائل، وملأ حواسَّها جميعًا، وأذهلَها عن كلِّ شيء، فنظرت إلى طاهو بعينَين حائرتَين، ولم تستطيع أن تخرُج عن صمتها، وكان القائد يتفرَّس بعينَين قلقتَين مرتابتَين، ويتساءل: ترى ما وقْع الخبر في نفسها؟ وما الإحساس الذي يعتلج في صدرها؟ وضاق ذرعًا، فسألها بصوتٍ خافت: ألم أكُن محقًّا في طلبي؟
ولكنَّها لم تردَّ عليه، ولم يبدُ عليها أنَّها كانت تُصغي إليه. كانت غارقة في لُججٍ تلتطم في قلبها الحائر، فهالَه جمودُها، وكبُرتْ عليه حَيْرتها، ورأى في ذلك آيةً نفَر منها قلبه، فذهب صبره، واستَنفَره الغضب، فغشَّى بصَرَه، وصاح بها بصوتٍ أجشَّ شديد: في أيِّ وادٍ تتيهين يا هذه؟ .. ألم يُفزعكِ هذا الخبر الهائل؟
فارتجف جسمها من شدَّة صوته .. والْتهَب الغضب بقلبها، وحدَجَته بنظرةِ حقدٍ شديدة، ولكنَّها كظمَت ما بنفسها لتحصُل منه على ما تريد، وسأَلته ببرود: أتُرى أنَّه كذلك؟
– أرى أنَّك تتغابَيْن يا رادوبيس.
– كم أنَّكَ ظالم .. هَبْ أنَّ الصندل سقَط في حجر فرعون، فهل تُراه قاتلي لذلك؟
– كلَّا، ولكنَّه قلَّب الصندل بين يدَيه، وتساءل عمَّن عسى أن تكون صاحبته.
فخفق قلب الغانية بشدَّة وسألَته: وهل وجد الجواب؟
فأظلمَت عيناه، وقال بصوتٍ متهدِّج: كان هناك إنسانٌ يتربَّصُ بي، جعلَته الأقدار صديقًا عدوًّا وعدوًّا صديقًا، فانتهَز الفرصة السانحة، وطعنَني طعنةً نجلاء، فذكَركِ عند فرعون ذكرًا جميلًا مغريًا، قدَح الرغبة في قلبه، وأهاج الشهوة في صدره.
– سوفخاتب؟!
– هو بعينه ذاك الصديقُ العدوُّ، وقد عَبثَ الإغراء بقلب الملك الشابِّ.
– وماذا يريد؟
فعقد طاهو ذراعيه على صدره، وقال بشدَّة: ليس فرعونُ بالإنسان الذي يرغب في شيء ويعزُّ عليه، وهو إذا هوى شيئًا يعرف كيف يستأثر به.
وساد الصمت مرةً أخرى، ووقعَتَ المرأة فريسةَ عواطفَ مضطرمة، وجثَم الكابوس على صدر الرجل، واشتدَّ به الحنق لصمتها، ولأنَّها لم تفزع ولم ترتعب، فقال لها بغيظ: ألا ترين أنَّ حرِّيتك مهدَّدة بالأَسر؟ حرِّيتك يا رادوبيس التي تحرصين عليها، ولا تفرِّطين فيها. حرِّيتكِ التي دمَّرتْ قلوبًا وأهلكَت نفوسًا، وجعلَت اللوعة والحسرة واليأس أوبئةً تفتك بأهل بيجة جميعًا، لماذا لا تفزعين إلى الفِرار بها؟
واستاءت لوصفه هذا لحرِّيتها، وقالت له بسخط: أتقذفني بهذا الوصف الذي تقشعرُّ منه الأبدان، وكلُّ ذنبي أنِّي لم أَستبِح نفسي للرياء، وأقول لإنسان كذبًا إنِّي أُحبُّه؟
– ولماذا لا تُحبين يا رادوبيس؟ لقد أحبَّ طاهو الجنديُّ الجبَّار الذي خاض غمار الحرب في الجنوب والشمال، وتربَّى على ظهور العَجلات، فلماذا لا تُحبِّين أنت؟!
فابتسمَت ابتسامةً غامضة، وتساءلَت: تُرى هل أملك جوابًا على سؤالك؟
– لستُ أبالي هذا الآن، فما لهذا جئتُ .. أسألكِ ماذا أنتِ فاعلة؟
فقالت بهدوء واستسلامٍ عجيب: لست أدري.
فاضطَرمَت عيناه كجمرتَين، والتهمتاها بحنق، وأحسَّ برغبةٍ جنونية في تحطيم رأسها. وحدَث أن نظَرتْ إليه فتنفَّسَ تنفُّسًا عميقًا، وقال: حسبتُكِ أشدُّ حماسًا لحرِّيتكِ.
– وما عسى أن أفعل؟
فضرب يدًا بيد، وقال: تفرِّين يا رادوبيس! تفرِّين قبل أن تُحملي إلى قصر الحاكم جارية من الجواري، وتُودَعين حجرة من حجراته التي لا عِداد لها، ثم تعيشين هنالك في وحدة وعبودية، تنتظرين نوبتكِ مرَّة كل عام، تعيشين ما بقي من حياتك في جنَّةٍ حزينة يطوف بها سجنٌ كئيب .. هل خُلقتِ رادوبيس لمثل هذه الحياة؟!
وثارت ثائرتها غضبًا لكرامتها وكبريائها. تُرى من الممكن أن يكون حظَّها ونصيبها مثل هذه الحياة البائسة؟
أيُقدَّر لها في النهاية — هي التي يستبق إلى رضاها صفوة الرجال — أن تقاسم الجواري قلب فرعون الشابُّ، وأن تقنع من الدنيا بحجرة في الحريم الفرعونيِّ؟ أتهوي إلى الظلمات بعد النور، وتتلفَّع بالهوان بعد العزة، وتقنع بالعبودية بعد السيادة الجبَّارة الكاملة؟ .. أوَّاه! .. ما أبشعَ التصوُّر وأغربَ الخيال! .. ولكن هل تفِر كما يريد طاهو؟ .. أترضى بالفِرار؟ رادوبيس المعبودة التي لم يَحظَ بحُسنها وجه، ولم يُشحَن بسحرها جسم، تفرُّ من العبودية؟ .. فمن إذن التي تطمع في السيادة والاستئثار بالقلوب؟!
ودنا منها خطوة، وقال لها بتوسُّل: رادوبيس .. ماذا تقولين؟
فعاودَها الغضب، وقالت بسخرية: ألا يَسوءُكَ أيُّها القائد أن تُغريَني بالهرب من وجه مولاكَ؟
وأصابَتْه سخريتها في صميم قلبه، فترنَّح من هول الصدمة، وقال بسرعةٍ وقد أحسَّ بمرارة في فمه: لم يركِ مولاي بعدُ يا رادوبيس. أمَّا أنا فمسلوبُ القلب منذ أمدٍ بعيد. أنا أسيرٌ لهوًى جامح لا يعرف الرحمة، يُورِدني موارد الهلاك، ويَطَؤني بقدم الذُّلِّ والعذاب، إنَّ صدري أتونٌ من عذابٍ ملتهب، وقد اشتد لهيبه اندلاعًا حين أشفَق من فقدكِ إلى الأبد، فأنا إن أغريتُكِ بالهرب أُدافع عن حبِّي، ولا أخون مولاي المعبود قَط.
لم تُلقِ بالًا إلى شكواه، ولا إلى دفاعه عن إخلاصه لمولاه، كانت ما تزال تثور لكبريائها؛ ولذلك حين سألها الرجل عمَّا تنوي عملَه، هزَّت رأسها بعنفٍ كأنَّما تريد أن تَنفضَ عنها الوساوس الحقيرة وقالت بصوتٍ بارد مليء بالثقة: لن أفرَّ يا طاهو.
وسهمَ الرجل في ذهولٍ ويأس، وسألها: هل رضيتِ بالهوان وأسلمتِ للذُل؟
فقالَت وعلى فمها ابتسامة: لن تذوق رادوبيس الذلَّ أبدًا.
فاستشاط غضبًا، وقال: آه! لقد فهمتُ. تحرَّك شيطانكِ القديم، شيطان الغرور والكِبر والقوَّة، ذلك الشيطان يحتمي ببرودة قلبكِ الأبدية، ويلتذُّ بمشاهدة عذاب الآخرين والتحكُّم في المصائر، لقد لاح له اسم فرعون فتمرَّد، وأراد أن يجرِّب قوَّته وسطوته، ويمتحن سلطان هذا الجمال اللعين، غير عابئ بما يدوس في سبيله الشيطاني من أشلاء القلوب، وذَوْب النفوس، وأنقاض الآمال .. آه! .. لماذا لا أقضي على هذا الشرِّ بطعنة من هذا الخنجر؟
فنظَرت إليه بعينٍ مطمئنة، وقالت: لم أمنعكَ شيئًا، وطالما حذَّرتكَ من الإغراء!
– إنَّ هذا الخنجر كفيلٌ بتهدئة نفسي .. كم تكون نهايةً طبيعيَّة لرادوبيس؟
فقالت بهدوء: وكم تكون نهايةً أسيفة للقائد الوطنيِّ طاهو!
فنظَر إليها طويلًا بعينَين جامدتَين، وكان يشعر في تلك اللحظة الفاصلة بيأسٍ مميت وقنوطٍ خانق، ولكنَّ غضبه لم ينفجر، وقال بلهفةٍ باردة قاسية: ما أقبحَكِ يا رادوبيس! .. أنت صورةٌ بشعة مشوَّهة، ومن يحسبكِ جميلةً أعمى لا يبصر. إنَّ صورتكِ قبيحة لأنَّها صورةٌ مميتة، ولا جمال بلا حياة، لم تنبضِ الحياة بصدرك قَط، ولم تُدفئ قلبك أبدًا .. أنت جثَّةٌ وسيمة القسمات، ولكنَّها جثَّة. لم يبدُ الحنان في عينَيكِ، ولا انفرجَت شفتاكِ عن ألم، ولا خفَق قلبُكِ بالعطف. نظرتكِ جامدة وقلبك قُدَّ من حجر .. أنت جثَّةٌ ملعونة، وينبغي أن أكرهكِ، وأن أكرهكِ ما حييتُ .. وأنا أعلم أنَّك ستطغَين كيف شاء لك شيطانك، ولكنَّكِ ستُصرَعين يومًا محطمة النفس، وهذه نهاية كلِّ شرٍّ .. لماذا أقتلكِ إذن .. لماذا أحمل تبعة قتل جثَّةٍ ميتة؟
نطق طاهو بهذه الكلمات ثم ذهب.
ولبثَت رادوبيس تُنصِت إلى وقع قدمَيه الثقيلتَين، حتَّى غمرها سكون الليل.
ثم رجعَت إلى النافذة. كان الظلام شاملًا، والنجوم ساهرة في مأدبتها الأبديَّة، والسكون مخيِّمًا رهيبًا، فخالت أنَّها تستطيع أن تسمع خلجات قلبها الدفينة.
كان ما بها قويًّا عنيفًا بالحرارة والقلَق، يُقسِم إن جسمها جسمٌ نابض بالحياة، لا جثَّةٌ هامدة.