إقرار مهم
جرت أحداثُ هذه الروايةِ في دولةٍ شديدةِ الشبهِ بجمهوريةِ السودان، قد تتطابقُ أسماءُ المدن، القرى، الأشخاص، الوزارات والصحف. قد تتطابق الأحداث، السياسات، الأزمنة والأزمات أيضًا، لكن تظلُّ أحداثُ الرواية تجري في دولة خيالية لا وجود لها في الواقع؛ لأن ما يحدث في هذه الرواية يستحيل حدوثه في واقع السودان. هي من شطحات الخيال المريض لكاتبها بركة ساكن، بالتالي الأفكار التي تطرحها هذه الرواية لا تعبر بأي حال من الأحوال عن رأي المؤلف، بل تعبر عن أفكار القارئ، وهو من يتحمل مسئوليتها والدفاع عنها.
وقبل أن أحدثكم لماذا أتبنى هذا الرأي الصريح المتطرف، هو أن الآراء في قاموسي أربعة: آراء خيرة، آراء شريرة، آراء خيرة وشريرة، آراء لا خيرة ولا شريرة. طبعًا كما هو معروف ومؤكد، لا تُوجد آراء بين بين. فالرأيان الأولان هما رأيان قد يصدران من الكاتب الأول للنص — في هذه الحالة هو شخصي الضعيف. أما الرأيان الأخيران فهما رأيا القارئ، الذي لسوء حظه يتطلع إلى الرأيين الأولين، لكنه للأسف يفهمهما كما يشاء، ويؤوِّل النص وفقًا لما يريده هو. فما أراه أنا خيرًا مطلقًا وجمالًا متكاملًا مفرطًا في إنسانيته، قد يراه هذا القارئ الشرير شيطانيًّا قبيحًا وحيوانًا مفترسًا. العكس أيضًا صحيح؛ قد يُقْرَأ ما أعني به أنا شرًّا جميلًا خيرًا مُطْلقًا، بالتالي مَن يتحمل سوء أو حسن ظن القارئ غير القارئ نفسه؟ وهذا يقود إلى الرجال والنساء الذين يستخدمهم البعض لتقييم أعمال أدبية صرفة أو سياسية أو حتى علمية؛ بغرض تجريمها وتحريمها أو صرف صك مرور خجول من أجلها.
في ظني أن السلطات الرشيدة، يجب عليها أن تقاضي أو تحاكم القارئ الذي عُين حكمًا؛ لأنه لا يقوم سوى بعرض قراءة خاصة به للعمل الفني، بالتالي يفضح سريرة نفسه وقبحها أو يستعرض جمالها. وسأحكي لكم قصة هنا — أفكر فيها الآن — ستكون جميلة في رأينا وعفيفة، إذا سمحتم لي باستخدام هذا المصطلح الخُلُقي في وصف عمل أدبي، ولو أنني أتفق مع الكثيرين بأن العمل الأدبي حَمَّال قِيَم، طالما اعتمد على اللغة التي قال عنها كارل ماركس ذلك.
ذات يوم مطير، وأنت تخاف من المطر والبرق، يخيفك أكثر الرعد الذي يصحب البرق الفجائي، ليس ذلك خوفًا من الموت، لكنها فوبيا صاحبتك منذ أن كنت طفلًا صغيرًا ترضع من ثدي أمك، يوم أن خطفت الصاعقة روح والدك أمام عينيك. عندما احتشدت السحب السوداء الخيرة الحبلى بالمياه في السماء، في الشرق، فأسرعت الخُطا نحو بيتك. أنت تعرف أن السحب القبلية مطرها مؤكد، وهي معرفة شائعة. وأنت تهتم بكل ما ينذرك بالمطر، فليست في بلدك هيئة أرصاد تهتم بصحتك وسلامتك. تحركت من السوق الكبيرة حيث تعمل قبل ميعاد خروجك الطبيعي بساعتين، على بعد خمسة كيلومترات من بيتك في حي الموظفين. حتى لا نفضحك فإننا سوف لا نذكر في أي مدينة أنت، أو اسمك كاملًا، أو رقم بيتك أو تليفونك، سوف لا نصف هيئتك كيف تبدو، فبعض الناس بإمكانهم حَذْرُ من تكون، وسيرسلون لك رسائل نصية يقولون لك فيها: بركة ساكن كان يقصدك، وبذلك يزيفون الواقع، وهم الذين يقصدونك في حقيقة الأمر.
عندما هبطت النقطة الأولى على رأسك الكبير الأصلع أصبت بهلع فوبوي عنيف. سالت نقاط الماء من أعلى رأسك متدلية في دلال مرعب ناحية فمك من أنفك الأفطس الذي بدأ يرتجف الآن. مرت النقاط خلال شفتك العليا عابرة شاربك الكبير إلى شفتك السفلى. احتفظ شارباك ببعض الماء على الشعيرات الخشنة السوداء، مررت عليهما كفك اليسرى بطريقة غير إرادية. في ذلك الحين لم يبيض شعرك كما هو الآن، لم تصبح ذقنك ولحيتك مثل مزرعة قطن منسية بعد. لم تستطع أن تفتح فمك لبلع النقاط الطيبات التي جاءتك من السماء مباشرة، تركتها تسقط على الأرض لتنضم إلى أخواتها السماويات تحت قدميك، ما كنت تحتاج للبرق المرعب وهزيم رعد طائش؛ لكي تقفز على أقرب جدار بيت من بيوت جيرانك لتنجو بنفسك. جدار من الطوب الأحمر مطلي بالجير والأسمنت، بيت جارك العزيز. الماء يتبعه البرق، البرق تتبعه الصاعقة، الصاعقة قد أخذت روح أبيك وقد تأخذ روحك بذات العنف والقسوة. لقد حرقت أباك حريقًا تامًّا ونهائيًّا، إلى أن أصبح أسود مثل جوال الفحم. لم تتركه لكي يصرخ أو يطلب النجدة، لم تنذره، لم تمهله لكي يودعك بنظرة قصيرة، عندما هبطت في بيت جارك، الذي كنت تعرف أنه يقيم وحده، فلقد ذهبت بنتاه وزوجه إلى بيت أبيها؛ احتجاجًا على الشجار الدائم الذي يدور بينهما. أقصد هنا أنه ضربها ضربًا مبرحًا؛ مما جعل أخاها وأباها يأتيان إليه من مدينة الخرطوم، يضربانه، يفصدانه بسكين المطبخ مرتين في بطنه وذراعه. ولم ينجده سوى تدخلك وبعض الجيران في الوقت المناسب؛ أي بعد أن أخذ عقابه جيدًا وبوفرة، وقبل أن يقتله الرجلان الغاضبان، مع العلم أن أخا الزوجة كان أعز أصدقائه، كما ستعرفون لاحقًا.
دخلت حوش جارك الواسع، بغريزة الحياة الفاعلة فيك، وجنون الفوبيا، الذي ظل يطاردك منذ سنوات طوال. توجهت مباشرة إلى غرفة المعيشة، وبكل ما لديك من قوة دفعت الباب لتدخل، ففوجئت بشيء غريب، وجدت زوجتك الحبيبة، تقفز على مِسْبَار جسد جارك الطيب، مثل فرس في سباق فاشل، كانا في تمام عريهما. على الرغم من صدمة الحدث إلا أنك لاحظت أن ظهر زوجتك كان جميلًا كما لم يكن من قبل، وأنها كانت تستمتع بالفعل، شاهدك جارك أولًا، حيث إن زوجتك كانت تعطي ظهرها للباب، ظهرها العَرِق الجميل الذي لم تتعرف عليه من الوهلة الأولى؛ لأنك عندما فوجئت بهما يرقصان رقصة الحب، صرخت قائلًا: آسف، آسف.
بالطبع كنت تظنها امرأة أخرى صادها جارك، يشاع عنه أنه صائد ماهر للنساء، ويُهْمَس بأنه يعجبهن.
في اللحظة التي أردت أن تنسحب فيها، وتعود لأمطارك المرعبة في الخارج، التفتتْ زوجتُك الجميلةُ إليك، كان وجهها عَرِقًا، ومغطًى بشعرها الغزير الأسود، شفتاها كبيرتان مكتنزتان، بدا الجانب الذي يواجهك من صدرها ناهدًا، جموحًا وبارزًا كأنه كوخ صغير من الشيكولاتة. أنت تعرف أن المرأة تصبح في قمة جمالها، ومنتهى أنوثتها، أثناء ممارستها الجنس. عندها قفزت زوجتك الجميلة الحبيبة من أعلى شيء جارك، عارية كالبرق، مرعوبة، كل ما تتذكره أنت، أنها دارت دورتين حول نفسها، صرخت بأعلى صوتها الذي كنت تشبهه بنغمات الكمان، وأنت تسمعها أول مرة. في الحق، هو السحر الذي أوقعك في حُبها.
– سجمى؟ إدريس؟
قبل أن نحكي لك، لماذا كان ذلك آخر ما رأيته، اسمح لي أن أحدثك عن بعض التاريخ بشأنك وشأن زوجتك — لا تنسيا أنني أؤلف كل ذلك الآن ولا أعرف شيئًا عن تاريخ علاقتكما الزوجية أو غيرها، فأنا لا أعرفكما من الأساس، إنما توحي إلي بها الموحيات الآن — تزوجتما عن حب — لسلوى رأى آخر سنعرفه لاحقًا — هي مغرمة بك وأنت أيضًا مغرم بها، عندما تزوجتها كانت عذراء. بشهادتك وشهادة الطبيبة مريم — بنت خالتك — التي قامت بمساعدتك في فض عذريتها بطريق علمية حتى لا تؤذيها، فكانت المسكينة حبيبتك مختونة ختانًا فرعونيًّا قاسيًا، لدرجة أنك تحيرت كيف بإمكانها أن تتبول وأن ينزل منها دم الحيض؛ لأنك لم ترَ شيئًا في ذلك المكان يوم «دُخْلَتك» سوى ثقب لا يُدخل إبرة الخياطة! قالت لك: إنهم وضعوا قشة كبريت لضبط المقاس.
-
أن ملمس خيط الختان كان بارزًا خشنًا، أي أنه لم يكن قد أصبح مثل بقية الجلد حوله، إذا مررت أصابعك عليه لوجدته خشنًا مثل نشارة الخشب الملصقة على سطح أملس، وهذا يعني الكثير لرجل تقليدي مثلك إذا انتبه.
-
الشيء الآخر والمهم، أنك لم تسأل الطبيبة — طبعًا إذا كان يهمك ذلك، على فكرة، أنا لا يهمني — ما إذا كانت زوجتك عذراء أم أنها صارت عذراء قبل شهرين من الزواج!
-
الشيء الأهم، وأنت تحتفي بعذرية زوجتك، لقد حكيت ذلك لكثير من أصدقائك الحميمين بفخر، لم تسأل نفسك عن عذريتك أنت، وكم من النساء فضضت بكاراتهن بمتعة رهيبة، ولم تسأل نفسك كيف سيصير بهن الحال إذا شاءت أقدارهن الرهيبة أن يتزوجن من رجل يرى أن شرف البنت في عضوها؟
-
أقول لك هنا ما لم تشأ أن يُذكر في رواية سيقرؤها كثير من الناس: هل كنت غاضبًا تمامًا وأنت تفاجأ أن زوجتك كانت تستمتع بالجنس مع جارك الطيب العزيز؟
حسنًا، دارت زوجتك حول نفسها دورتين — كما قلنا لك ذلك سابقًا — هذا كل ما تتذكره، ثم وجدت نفسك في المستشفى فاقد الذاكرة بصورة كلية. أنت الآن تقيم في بيتك الهادئ تحت رعاية زوجتك الجميلة، وهي الوحيدة التي ترعاك، بعد أن انصرف عنك الجميع. كانت ترعاك بحب حقيقي وبصدق، لم تدخر جهدًا من أجلك وأجل أطفالك الثلاثة، إذا كانت لك ذاكرة إنسانية جيدة لسمعتها تقول لك كل يوم: أنا آسفة، لقد حدث كل شيء دون إرادتي، ما كنت لأصارحك وأحكي لك كل شيء، وتعني بينها وبين نفسها أنك لم تكن بالذكاء الكافي.
بالتأكيد ليس بإمكانك أن تستمع لحكايتها؛ لأنك إذا لم تكن بذاكرة خربة الآن، لسمعت ما يبكيك، وسامحتها ببساطة؛ لأن كل ما حصل بين زوجتك وجارك، حدث قبل سنوات كثيرة قبل أن تتزوجا، لكن عقلك المرتبك خلط الحابل بالنابل.
هذه هي القصة، ودعوني أرى أي خيرين أنتم وأي أشرار بينكم. ما رأيكم الآن؟ ويعني هذا السؤال فيما يعني الآتي: إنكم قرأتم ما تريدونه أن يحدث في القصة، وليست هي مسئوليتي إذا لم يحدث، أو أنه حدث بالفعل على المستوى الذهني أو مستوى النص، لكني لا أظن أن أحدكم قد بلغ من الفظاعة أشدها ونصب نفسه قاضيًا حكيمًا، أو حتى شاهدًا صالحًا؛ ليجيب على أسئلة الجلاد بكلمة واحدة مسالمة بائسة مثل كلمة: نعم، أقصد لا.
أنا سأنسحب عند هذا الحد، قد أتدخل أحيانًا في مجريات السرد، قد لا أتدخل؛ لأنني أريدكم أن تستمتعوا بهذه الرواية وأنتم تطرحون من خلالها وجهات نظركم المختلفة، تتحملون مسئوليات ما تصلون إليه من نتائج وتأويل قد يضر بالنص ضررًا بالغًا، فأنا لست سوى ميسر، بينكم وبينكم أيضًا، سلوى عبد الله، أمها، عبد الباقي الخضر، إدريس، الفقيه المتشرد … وغيرهم سيحكون لكم ما يربككم ويتطلب منكم وجهة نظر واضحة وفعلًا مباشرًا. مع السلامة.