إخوان في الرضاعة
حدثنا الفقيه المتشرد حكايات لا أدري مدى صحتها، لكننا اتفقنا على ألا نكذبها تمامًا وألا نصدقها تمامًا وأن نترك مهمة تصديقها وتكذيبها للأيام. قال الفِكي في تلك الليلة التي قضاها معنا في البيت، بينما نحن نحاول أن ننتزع منه معلومة مفيدة قد تقودنا إلى معرفة مصدر الميثانول القاتل: إن بعض المتشردين سرقوا جركانتين من الأسبرت من متجر لتركيب العطور من السوق الشعبي بالخرطوم، وقاموا ببيع الكمية بوحدات أصغر في قارورات المياه الصغيرة جدًّا، بعد أن أضافوا إليه جركانتين أخريين من المياه؛ مما جعل لونه أغبشَ. باعوا القارورة الواحدة بجنيهٍ واحدٍ؛ نسبة لأن هذا المبلغ كان كبيرا جدًّا بالنسبة للمتشردين الذين لا يعملون، لا يسألون الناس ولا يسرقون، فإن كل قارورة اشترك في شرائها أكثر من متشرد أو طفل. هذا حدث في الخرطوم، بل أكَّدَ لنا أن البعض تحصل عليها من غير نقود، ولم نسأل كيف.
– كويس بحري جاها من وين؟
– أم درمان جاها من وين؟
قال إنه اشترى من أمه، أمه اشترت من الأسطى، أين الأسطى؟ هو لا يعرف له سبيلًا، الأسطى هو صديق أمه، وأمه دقست واتلحست.
هو أيضًا لا يعرف شيئًا عن المتجر الذي سرق منه المتشردون الميثانول، كلُّ ما يعرفه عنه أنه في السوق الشعبي بالخرطوم. بقراءة بسيطة لمحكيات الفِكي تثار أسئلة مهمة:
أولًا: كيف عرف الفِكي أن اللصوص أضافوا جركانتين أخريين إلى الميثانول؟ لماذا لم تكن ثلاث جركانات أو أربع؟
من أين للفكي بالمال الذي يشتري به الميثانول؟
هل هنالك حقًّا شخصية اسمها الأسطى غير الفكي ذاته؟
لماذا كان الفكي مختبئًا في الحديقة مع الجثث وفضل الموت جوعًا على أن تقبض عليه الشرطة؟
ألم يقر الفكي أنه أول من باع الميثانول للشباب؟
ما هي حكاية أمه التي دقست واتلحست؟
لماذا تتدقس وتتلحس الآن؟
هل هؤلاء الأطفال أطفاله حقًّا؟
هل نونو هي زوجته فعلًا؟
هل هي زوجته فقط؟
ما هو دور الفكي في كارثة موت مئات المتشردين بالميثانول؟
هل هنالك من يعمد على التخلص من الفكي؛ لأنه يمتلك خيوطًا قد تقود إلى جرائم ارتكبها هو أو ارتكبها آخرون يجب حمايتهم؟
ووجدنا أنفسنا فيما يشبه فيلمًا بوليسيًّا معقدًا، أو دوامة من الاحتمالات لا قبل لنا بها ولا مقدرة أو وقتًا لدينا لحل طلاسمها؛ مما وضع الأمر برمته في حيز الاستحالة، وأُصِبْنَا جميعًا بالإحباط واليأس. مما زاد الأمر تعقيدًا هو اعتقال صديقنا الصحفي الباشا وحجزه من قِبل جهة غير معروفة:
لا هي جهاز الأمن الوطني.
لا هم رجال الشرطة.
ليست الاستخبارات العسكرية.
وليسوا الشعبي.
ليسوا القوات المسلحة.
ليست شرطة النظام العام.
ليسوا قوات أب طيرة.
ليسوا قوات الدفاع الشعبي.
ليست قوات حرس الحدود.
ليست شرطة الدفاع المدني.
ليست القوات الخاصة لمستشاري ونواب الرئيس.
ليست الشرطة الشعبية.
لقد طرق أصحابه، الناشطون الإنسانيون، وكثير من المحامين، كل تلك الأبواب الخشنة، فكانت إجابتهم واحدة: ليس لدينا اسم كهذا، بل لم نسمع به إطلاقًا.
الما بخاف من الحكومة، ما بخاف من الله.
الما بخاف من الله، خاف منه.
الخواف ربى عياله.
أما خوفنا الأعظم فهو من الأجهزة غير الحكومية التي قد لا يكون خلفها قانون أو أي نوع من الرقابة أو المحاسبة مهما كانت ضئيلة وغير فاعلة، وهي جهات متطرفة أقرب إلى فرق الموت!
قررنا جميعا أن نترك موضوع المجزرة جانبًا، وأن نقوم بعملنا الروتيني في حماية ما تبقى من أطفال ومتشردين. أن نعمل على عودتهم للمنظمة كما هو في السابق … حيث يتناولون الإفطار، يغسلون ملابسهم، ويستحمون إذا أرادوا، ثم يعودون للشارع! للأسف هو المكان الذي يفضلونه على غيره. تعلمنا من خلال عملنا الطويل مع المتشردين، أنهم لا يحبون أن يُحْجَزُوا إطلاقًا في أي مكان كان، حتى إذا توافرت لهم فيه كل سُبل العيش. إنهم تواقون للحرية ويدفعون ثمنها بكل سخاء، الحرية بفهمهم الخاص، الذي تكون من الأزقة، المزابل، المطاردات اليومية من قِبل حملات الشرطة، المخازي، المآسي، الخيانات، الاغتصاب، الجوع، التسمم المزمن، التسمم الحاد، والقتلة المجهولين. مع شروق كل شمس مخافة أو فكرة تستهدفهم. هم صامتون في عفنهم اليومي وحَزَنِهم المقيم، يكونون آراءهم في الحرية: الرأي الذي لا يستطيعون التعبير عنه إلا بالهروب المتواصل والانكماش في الذات، عندما يصبح الآخر، كل الآخر عدوًّا، تصبح الذات هي الملاذ الوحيد الآمن.
العمل الروتيني ليس بالسهل في هذه الأيام، حيث اختفى المتشردون تمامًا. كان عددهم يقارب ٢٠ ألفًا، إما أُخذوا في الحملات اليومية، أو اعتقلوا لتهم غير واضحة ومبررة، أو اختبئوا في المجاري والغابات البعيدة عن يد الشرطة، أو أنهم قُتِلوا بالميثانول. كثير منهم هرب خارج مدينة الخرطوم، قِيل إنه تم ترحيلهم إجباريًّا. البحث عنهم قد يقود إلى صدام مع جهات ذات قوة ونفوذ لا قِبل لنا بها. في واقع الأمر نحن نتجنب الدخول في صراع مع أي جهة كانت، نحب أن نقوم بعملنا بهدوء وصبر وأمان، فليست مسئوليتنا أن نغير العالم في ليلة وضحاها، ولسنا أيضًا الوحيدين المسئولين من ذلك، والتفكير بهذه الطريقة هو المخرج الوحيد لنا من الأزمات النفسية. قد تدربنا على ذلك، إلا أننا كنا دائمًا ما ننسى ما تعلمناه في غرف وحجرات التدريب إلى ما تعلمناه ونتعلمه يوميًّا في الحياة من صراعنا ومعاناتنا اليومية، أو ما ورثناه من قيم إنسانية غير معيارية؛ أي أننا لا نستطيع أن نفرق بين ما هو واجب عملي نأخذ عليه أجرًا شهريًّا، وبين ما هو واجب إنساني علينا القيام به، بدافع وجودنا في هذا الكون معًا.
كنا محبطين وحزانى … لم نستطع أن نخرج من جحر تأنيب النفس والضمير، ودائمًا ما نجد سببًا لذلك. كنا نحس بالتقصير، بودنا أن نفعل أكثر من ذلك. هناك آلاف الفرص التي إذا كنا قد استغللناها بصورة مختلفة لحققنا نتائج أفضل، ولكان الواقع أفضل مما هو عليه الآن ولو بنسبة ضئيلة. اقترحت دكتورة مريم أن نخرج من جُب الأحزان هذا وأن نرفه عن أنفسنا، بأن نذهب في رحلة جماعية إلى مكان بعيد عن العاصمة البائسة. كان اقتراحًا وجيهًا جدًّا، لكن من يحمينا من المتشائمين، مثل الأستاذة حكمة رابح التي عندما اتصلنا بها تليفونيًّا لكي تنضم إلينا قالت: إذا كانت عندكم قروش ما عايزنها، أنا بعرف طالبات فقيرات ما عندهم حق الفطور، ويحتاجون لكتب ودفاتر للمحاضرات.
كانت تتحدث بجدية غريبة، قلت لها: نحن لسنا مسئولين عن حل مشاكل الشعوب السودانية، الدولة هي المسئولة، وزارة الرعاية الإنسانية، مثلًا: ما تعكري مزاجنا ونحن ماشيين الرحلة، بلاش مثاليات، بلاش كلام فارغ.
قالت إنها ستحضر، ما لشيء إلا لتعكر مزاجنا أكثر … وقالت: ح أجيب معاي الشاعر عثمان بشرى!
ومن الذي يخاف عثمان بشرى؟! فليأتِ الشيطان ذاته، ربما تكون هي جادة فيما تقول، لكنها تشير أيضًا لحادثة غير حميدة حدثت لنا في رحلة سابقة كان عثمان بشرى طرفًا فاعلًا فيها. للذين لا يعرفونه هو شاعر مجيد لكنه يفعل كل شيء وفقًا لقوانين تخصه هو، لقد شتم شرطيًّا — ولا يفعل ذلك شخص طبيعي كامل الأهلية، كما تقول أمي — عندما طلب منه شرطي النظام العام، إما أن يبتعد قليلًا عن سيدة جميلة كان يجلس قربها في الحديقة العامة، أو أن يبرز له قسيمة الزواج أو شهادتي الميلاد أو البطاقتين الشخصيتين اللتين توضحان أنهما أخوان، وذلك وفقًا لقانون النظام العام: ودا ما من راسي يا زول!
فقال له عثمان بشرى: إن البنت التي يجلس لصقها الآن، هي أخته في الرضاعة. لأنه لا يمكن إثبات ذلك؛ طلب من الشرطي ترك ما يريبه لما لا يريبه، وهي قاعدة فقهية لا غبار عليها، وعثمان بشرى ذو الخلفية الدينية، أدرى بها. فقالت له السيدة الجميلة الناهد المعجبة بنفسها كثيرًا، وبصدرها أكثر، بينما تفوح منها رائحة عطر نسائي ساحر: في إمكانها إثبات ذلك الآن، بأن تُرْضِع عثمان بُشرى ثلاث رضعات مُشبعات أمام الشرطي، وبشهادتنا نحن الحضور جميعًا، بذلك تصبح أخته وأمه أيضًا في الرضاعة! فاعتبر الشرطي أن ذلك ليس سوى تلاعب مكشوف ودعارة بينة، وأنه ليس أكثر من حق أُريد به باطل. في الحقيقة كان الشرطي رجلًا عاقلًا وسيمًا أسود ذا ذقن حليقة بإتقان … كان يستخدم المنطق والحوار، لا يحمل معه بندقية ولا حتى سوطًا من الجلد، يجادل عثمان بشرى بالتي هي أحسن، واضعًا على فمه الدقيق ابتسامة لا بأس بها. لكن عثمان بشرى فاجأنا بأن شتم الشرطي! هذا يعني أن الرحلة انتهت، وعلينا الهرب بأسرع ما يمكن، ولو أن الشرطي قبل اعتذارنا إلا أنه لم يتنازل عن أخذ عثمان معه للقسم الأوسط، متهمًا إيَّاه بالسُّكر البين. أكدنا له أنها رائحة فمه الطبيعية وأنه لا يتناول الكحول. إلا أن الشرطي أخذ يتصل بالرقم ٩٩٩ عبر تليفونه النقال؛ مما عجل بهروبنا جميعًا بما فينا عثمان بشرى، الذي اختفى كما تختفي الريح بين العُشب.
حسنًا، وافق الكثيرون على الرحلة، تبرعت لنا أمي بخروف، لكنها تريد أيضًا أن يكون هذا الخروف سماية، إنها تريد أن تغير اسمي الطفلين، من حسكا وجُلجُل، إلى جلال وحسبو، وتخرج لهما شهادتي تقدير العمر. لا أحد يعرف الاسم الحقيقي للفكي، ويستحيل معرفة اسم أبيه أيضًا، كما أننا نشك أيضًا في أبوته لهذين الطفلين، وهذا لا يمنع أن ندعوهما له. أما الأم فكان أمرها أيضًا غريبًا ومضللًا، فهي ليست سوى نونو، هل يحق لنا أن نبتكر لها اسمًا كاملًا يتكون من اسم لها ولأبيها وجدها؟
ما قانونية ذلك يا أستاذتنا حكمة رابح؟