ذاكرة المؤلف
الفصل القادم هو الفصل الأخير في هذه الرواية، بالتالي أريد أن أنتهز هذه الفرصة ككاتب للرواية — وأظن من حقي الأدبي أن أنتهز الفرص في رواية أنا أحد كُتَّابِها — أن أعتذر للشخصيات التي استخدمتها في هذه الرواية، الذين لم أستشر منهم سوى شخصية واحدة وهي شخصية سلوى؛ الساردة الأساسية في الرواية. لقد أعطيتها الفرصة كاملة لأن تعبر عما يجيش بخاطرها تجاهي من حب وكراهية وبعض ما لا يُقال مرتين، لكنها أيضًا لم تحسن القول، أو قل: إنها أخفت بعض الحقائق التي ربما تحسن من صورتي الشخصية أمام القراء، وحملتني مسئولية فشل العلاقة. بل لا تغيب عن فطنة القارئ أنها أشارت في غير ما موقع أنني انتهازي، وهي صفة أكرهها، لكن كما يقول أستاذنا الروائي عيسى الحلو: «من بعض مهام الكاتب أن يحافظ على نفسه.» ومن هذا الباب، أستمد الحق بأن أدفع عن نفسي، وأحكي أيضًا لكم كيف تعرفت بي سلوى.
لا أظنها ستنكر ما قالته لي بنفسها ذات صفاء، عندما كنا عاشقين هائمين ببعضنا حدَّ الجنون، في نزوة تلك المحبة تصارحنا بصورة فظيعة وجميلة. كانت تشاهد التلفاز، وهي إحدى العادات التي اكتسبتها منذ تخرجها من كلية البيطرة: القراءة ومشاهدة التلفاز. كانت تطوف على القنوات المحلية والعالمية، تختار ما يتناسب واستعدادها النفسي لمشاهدته، إلى أن عثرت على رجل في منتصف العمر، يحاوره مذيع ضليع فصيح، في قناة محلية، يتحدثان بجدية في موضوع الأدب، قالت: عجبتني في اللحظة اللي شفتك فيها، قبل ما أعرف أنك بتتكلم في شنو.
حسنًا، إلى الآن لا تُوجد أي مشكلة، لكنها أضافت لنفسها: هذا هو الشخص الذي أبحث عنه.
أيضًا لا أظن أن بالأمر مُشكلة ما، لكنها أكدت لنفسها — أنا أحاول أن أتذكر جملتها بالنص: سأحصل عليه مهما كلفني ذلك: بالحلال، بالحرام، بالحُسنى، بالقوة، بأي طريقة كانت! سيبدو الأمر أيضًا عاديًّا لولا أنها قررت بينها وبين نفسها، في حال فشلها في اصطيادي، أنها سوف لا تتجرأ في أن تستخدم ضدي أعظم سُلطة أُعطيتْ للمرأة، وهي السُّلطة التي سجد لها إبليس — حدث ذلك سرًّا قبل أعوام كثيرة، وكنت أحد شهود العيان — الذي رفض أن يسجد لآدم من قبل: سُلطة الجسد.
أول ما التقينا، بعد مكالمات كثيرة، في الخرطوم عند بيت أختها الكبرى بأم درمان، على بعد أمتار قليلة من مبنى المحلية. كعادة أم درمان في أوائل فصل الشتاء، كان اليوم مغبرًّا، تدور الأتربة في شكل دوامات صغيرة، نسميها نحن في القُرى: صُفَّارَة الشيطان، فتحمل معها الأوراق، أكياس البلاستيك الفارغة، والأتربة المكدسة على جوانب الطريق، المبعثرة على الأسفلت. تحمل كل شيء وتعيد توزيعه: على وجوه الناس، العربات الفارهة، أسطح المنازل، أسفلت آخر، وكل ما يلتقي به الإعصار الصغير. كنت نظيفًا أنيقًا، كأنني في موعد غرام، لولا أن صادفتني صفارة الشيطان فور هبوطي من الحافلة، ملأت فمي بحفنة من الغبار المشحون بوسخ المدينة وأمراضها، دخلت مطعمًا قريبًا غسلتُ وجهي. طرقتُ الباب، عرفتها مباشرة، كانت ترتدي فستانًا قصيرًا جميلًا مرقطًا مثل جلد النمر، يظهر ساقين جميلتين بل مدهشتين، لم تحدثني عنهما بالتلِفون إطلاقًا، على الرغم من أنها حدثتني عن أشياء أقل قيمة عندي، مثل عينيها. أنا أحب العطر، أحب أن أشمه في المرأة، عبر كل مسام جسدي المنغلقة بالغبار الأم درماني، تسلل عطرها إلى مجرى دمي. كان صدرها معمولًا بحيث ينتفض معلنًا عن أنثى مثيرة، أعدت نفسها لتقتلني بالدهشة والشبق، ألا يكون لدي حل آخر غير الإعجاب بها، وأنا أرمل في منتصف عمره، رقيق القلب ملَّ الكتب وصرير الأقلام؟! هذا ما حدث، أُخذتُ بجسدها، احتضنتني برقة وحميمية؛ مما أكد لي أنه لا يوجد شخص مضجر في هذه اللحظة بالمنزل. في الصالون الأنيق، بعد لحظات قلائل لدخولي قدمت لي زوج أختها، ثم أختها، ثم أمها، ثم انسحب الجميع. ثم مضيت أنا أيضًا أخوض في أغبرة أم درمان، تسلمني صفارة شيطان لأخرى. وكان يغمرني إحساس واحد ساخن وعنيد: تلك المُهرة لي، سأحصل عليها مهما كلفني ذلك: بالحلال، بالحرام، بالحُسنى، بالقوة، بأي طريقة كانت!
إذا شئتُ أن أحدثكم عن عبد الباقي صديقي، هو شخص في واقع الأمر — أي خارج هذا النص — له شخصية مختلفة، لا أعني أن شخصيته أفضل أو أسوأ، هذا ليس من اختصاصي ولا اختصاص الرواية، كما أن المثالية العالية، التي ظهر بها هنا، هي مثالية مبالغ فيها كثيرًا بالنسبة لشخص لا يؤمن في الواقع بغير طموحه الذاتي المتمثل في المعرفة. وهو أيضًا تقيٌّ ومتدينٌ وله بعض الميول الصوفية الواضحة. كما يُرْجَى ويُنْتَظَر من شخص مثله أن يكون محبًّا للشعر والنساء. هو أيضًا أعزب ولا ينوي الزواج قريبًا ما لم يتحصل على عمل ثابت بدخل معقول وزوجة تعمل في وظيفة ما: امرأة لا يشترط فيها أن تكون جميلة بصورة قاطعة في ملامحها الخارجية، لا يقترح لها لونًا محددًا، لا وزنًا ولا عينين تشبهان شيئًا ما. يريدها متعلمة وتخرجت في جامعة ما، طيبة، تحترم أمه كبيرة السن، تقبل أن تقيم معها في البيت. بإمكانها أن تنجب أكبر عدد ممكن من الأطفال، ليست تمامًا مثل أمه التي أنجبت أربعة عشر طفلة وطفلًا، لكن امرأة تنجب وسعها. لا يكفر بقا بما يُسمى تنظيم النسل أو التخطيط الإنجابي، يؤمن بأن كل طفل سيولد برزقه. لكن الشرط الأهم، أنه لا يمتلك مالًا للشيلة أو مهرًا أو ما ينفقه للولائم والضيوف. كل ما يستطيع أن يقدمه لها هو الاحترام المتبادل، ماء حيويًّا طازجًا، يضيف: الصبر عليها في السراء والضراء. قلت له: إنَّ مُعظم النساء اللائي نعرفهن بهذه المواصفات، ويقبلن بشروطه تلك.
قال في جد: إذن، أنت لم تفهمني يا صديق!
ظل عازفًا عن الزواج إلى اليوم. أريد أيضًا أن أقدم اعتذارًا خاصًّا للأستاذة حكمة رابح، التي تم ذكر اسمها عدة مرات في هذه الرواية، لكنها لم تنل دورًا كبيرًا يليق بمكانتها الطبيعية خارج الرواية أو على الأقل بمكانتها عندي. فهي صديقة عزيزة لي، ولزوجتي سابقًا وأطفالنا أيضًا أصدقاء، ودرسنا معًا بكلية الآداب جامعة أسيوط بجمهورية مصر العربية. هي فلسطينية من ناحية الأب، مصرية من ناحية الأم، تحمل الجنسيتين. التقينا بعد ذلك كثيرًا في القاهرة، عمَّان وفرانكفورت. أحيانًا صدفة، أحيانًا بتدبير متعمد من أطفالنا، فزوجها متوفى، زوجتي أيضًا متوفاة. لها بنت وولد، ولي ولدان وبنت اسمها مريم. أنا تفصلني شهور قلائل عن الخمسين، هي في العام القادم سيصبح عمرها ثمانية وأربعين عامًا. حكمة رابح نوع المرأة التي تجذبك بطريقة لبسها أولًا، ثم عندما تكتشف أن بعينيها غربة وسحرًا، وتكسبك تمامًا إلى صفها إذا حدثتك. جمعتنا في الماضي الجامعة، ثم موت الزوجين، ثم العلاقة الجميلة التي بدأت تنمو بين أطفالنا. أما ما يجعلنا مختلفين لكن بمحبة هو إشكاليات الهوية، حيث كان يغيظها جدًّا أن أعلن لها كلما دعا الأمر أنني كاتب سوداني أكتب باللغة العربية، ولست كاتبًا عربيًّا؛ لأنني ببساطة لا طاقة لي أن أتحمل الإرث العربي الثقيل، بدءًا بحروب البسوس، داحس والغبراء، انتهاء بالحروبات العربية الإسرائيلية ومآلات القضية الفلسطينية، مرورًا بتفجيرات سبتمبر، حرب دارفور، احتلال العراق، معارك جبال النوبة، النيل الأزرق، وما سوف يلي هذا وذاك. وأرى بصورة واضحة وجلية أنَّ دخول السودان للجامعة العربية ما هو إلا ورطة حاكها السيد جمال عبد الناصر لأغراض تخص الأمن القومي المصري لا أكثر، وهي الآن تُؤَجِّج الصراع السوداني السوداني القائم على اختلاف المفاهيم في مسألة الهُوية؛ أي تم حسم المسألة دون استطلاع لآراء الشعوب السودانية … هذا كله لا يهم. لولا أنني في ذلك الحين كنت أرتبط بعلاقة جادة مع سلوى عبد الله؛ لتزوجت حكمة رابح في عيد ميلادها الخامس والأربعين، فقد كانت المرأة الصحيحة لي، وأنا أكثر ما يناسبها من رجال، ذلك حسب قولها؛ لذا ظللنا أصدقاء على خلفية باهتة من المحبة وظلال الاشتهاء. الشخصية الأخرى التي لا تختلف في واقعها كثيرًا عما هي في الرواية، بل يكاد أن يتطابق السردي فيها مع الواقعي، هي شخصية الشاعر عثمان بشرى. ربما الاختلاف الوحيد بين الشخصيتين أن عثمان بشرى الحقيقي لا يكتب الشعر أو الرواية أو أيًّا من أصناف الأدب، له اهتمامات بالتصميم الهندسي والفن التشكيلي. أسوأ ما فيه ليست مسألة السُّكر، لكن سعيه الدءوب نحو التغيير بأي صورة كانت! هذا ما يجعله كل ستة أشهر ينتمي لحزب سياسي مختلف. وهو الآن ترك كل شيء وانضم لجيش التحرير الوطني بإحدى صحاري دارفور: نصف إسلامي، نصف علماني ومجنون كامل! يتصل بي من وقت لآخر، يسأل عن أمه وبعض أقاربه.
الفِكي المتشرد رجل تعرفت عليه بينما كنت أعمل في منظمة بلان سودان بمدينة خشم القرية. رجل يعاني من شلل الأطفال في رجله اليسرى، لكنها تعيقه من المشي بصورة مرعبة، مؤثرة على رجله الأخرى السليمة، بل أصبح جسده كله مائلًا لجهة اليمين — «أفكاره تميل دائمًا لليسار» — حتى فمه وأنفه وعيناه، وكتفه يميل كثيرًا إلى جهة اليمين، كأنه يضع عليه حملًا ثقيلًا يجذبه للأسفل. بهذا الشكل الغريب غير المألوف، يعمد دائمًا على البقاء في المنزل ولا يخرج إلا للضرورة القصوى؛ لذا يحتفظ في حجرته الصغيرة بعدد من الحجارة الرخامية الملساء، كل منها يمثل أحد أصدقائه الحميمين، من بينهم حجر كبير أسود: هو أنا. لهذا الفقيه المتشرد — أنا الذي أطلقت عليه هذا اللقب، فاسمه الحقيقي الطيب أوهاج — عادة غريبة، فهو عندما يغضب من أحد أصدقائه لأي سبب كان، مهما كان بسيطًا تافهًا، فإنه يعاقب صديقه بالبول عليه. إذا كان غضبه كبيرًا جدًّا، قد يغوط عليه مرارًا وتكرارًا … كم هي الحجارة الملوثة ببوله وبرازه مرمية خلف حجرته الصغيرة! أما إذا تشهى إحدى صديقاته فلا محالة أنه يستمني عليها، ويترك سائله هنالك إلى أن تيبسه الشمس الحارقة. يعجبني فيه أنه لا ينسى أي حدث مر به، أو كلامًا سمعه، أو أحد أصدقائه مهما أساء إليه. كان دائمًا ما يشكو لي من ذاكرته: إنها تؤلمني، إنها مليئة بكل شيء، الصالح والطالح، أحس بها ستنفجر في يوم ما، أريد أن أنسى. كان يكثر من شرب العرق إلى أن يُغمى عليه من السُّكر، لا يمكنك أن تكرمه إذا لم توفر له بعض زجاجات العرق البكر. ورث عن أبيه مالًا كثيرًا، لديه أختان ثريتان جميلتان.
حسنًا، فلننظر لشخصية أخرى، السيدة نونو التي ظهرت في ذاكرة الخندريس كزوجة أو ما شابه ذلك للفكي المتشرد. هي سيدة أيضًا عادية، كل ما أذكره منها فعلتها تلك التي كررتها في فصل منطق الجسد. لا أدري أين هي الآن وماذا تفعل، لكن سمعت بعض قريباتي يتحدثن عن ابنة لها تزوجت وأنجبت أطفالًا في إحدى قرى مدينة القضارف.
أما التوءم، فأنا أدين لهما باعتذار بالغ، لقد استخدمتهما فيما سبق في روايتي «الجنقو مسامير الأرض»، باسمي عبد الرازق وعبد الرزاق. كثيرون منكم يذكرون ذلك. واسماهما الصحيحان هما: حسن وحسين، أصدقاء طفولتي في مدينة القضارف. في الحقيقة هما أعداء طفولتي، كلما أحاول أن أتخلص من ذكراهما بكتابتهما، يقفزان مرة أخرى إلى وعيي. لم تكن علاقتي معهما حسنة، كانا يجيدان المصارعة والرمي بالحجارة، وكل فنون القتال الصغيرة التي تناسب أعمارنا؛ لذا دائمًا ما كنت أخرج من معركتي الصغيرة ضدهما مهزومًا ويسيل الدم من رأسي ومنخري. كانا لا ينهزمان ولا يكفان عن الشجار بل يفتعلانه، ولم أستطع طوال فترة طفولتي أن أبتكر وسيلة تحميني منهما.
– الهرب؟!
كانا مثل صاروخين من الريح، يدركانِّي دائمًا قبل أن أقترب من باب بيتنا بمسافة كافية تفصلني عن كل سُبل النجدة المحتملة.
– العض؟!
يمتلكان أسنان سمكة قرش وأظافر قطط، ويردان لعضتي بقرمتين من لحم الكتفين، كل بجهة.
– الصُّراخ؟!
كانا مثل شيطانين قُدَّا من هزيم الرعد وفُسَاءِ الشياطين، قد صرخا مرة في أذنيَّ — كل من جانب — إلى أن أُغمي عليَّ.
– الرفس؟!
كانا مثل جحشين وحشيين من فصيلة منقرضة، يرسلان الركلات من كل جهات الدنيا وبكل الأوضاع، لا يفرقان بين ما هو رأس وما هي كلية أو ساق، ينزلان بي من الأذى ما يجعلني ألزم السرير أسبوعًا كاملًا.
الحل الوحيد أن أمتثل لطرائقهما في التفكير وأذعن لأمرهما بأن أدفع لهما الجزية اليومية: نصف وجبة إفطاري اليومي، أو نصف سعر الإفطار. بعد ذلك قد يلعبان معي، يضحكان ويحكيان لي حكايات ما أنزل الله بها من سلطان، مثلًا كيف يتحولان لقطين أو عقربين وأحيانًا عفريتين من الجن، ولقد قالا لي ذات مرة: إنهما تحولا إلى رجلين عجوزين! حكاياتهما هذه أحيانًا ترعبني بقدر ما تفعل رفساتهما. ربما لهذا السبب انتقمت منهما وصورتهما بتلك الصورة البشعة في هذا النص كمتشردين عفنين متسخين قذرين، وحبستهما في رواية «الجنقو مسامير الأرض» في سجن بالحُمَرة بإثيوبيا، وجعلت أحدهما يطلق الهواء من دُبره مثل آلة الضغط الهوائي «كمبرسون»، تمامًا كما كنت أطلق الهواء عندما يوقعان بي في إحدى كمائنهما البغيضة. أتمنى أن يكونا بصحة جيدة الآن ويستطيعان القراءة — لقد تركا المدرسة في سن مبكرة — ليطلعا على اعتذاري الكبير لهما!
بقية الشخصيات لا تحتاج مني إلى اعتذار؛ لأنها في الواقع ليست سوى شخصيات تخيلية بحتة، ابتكرتها مخيلتي، مثلها مثل شخصية ود أمونة، وسارة، ونوار سعد، وجبارة الحفار وغيرها من الشخصيات الحبرية.
على الرغم مما يبدو، على أنني قد أنهيت ملحوظاتي عن الأبطال هنا، لكني تذكرت شخصية في غاية الأهمية والغنى الفني في واقع الحياة، ولو أنها مرت في هذه الرواية مرورًا عابرًا، وأنها ستظهر ظهورًا مفاجئًا قبل نهاية الرواية بقليل، وهي شخصية الصحفي أحمد الباشا، الذي جِيء به في هذه الرواية كشخصية مشاكسة، قد فقد وظيفته من جراء سؤال أحرج إدارة الجريدة وفصمها (فطمها) من إعلان تقتاتُ عليه. الباشا في الواقع الفعلي، أي خارج رواية «ذاكرة الخندريس»، رجل سياسي شرس، ومغنٍّ في غاية الرقة، ولو أنه يغني عينة تلك الكلمات التي يغنيها أمير موسى، التي تجعلك بعد الاستماع إليها تسرع لأقرب متجر عطور، تشتري خمسين لترًا من الأثينول، تحتسيها في جرعتين كبيرتين، ناسيًا أن لك كبدًا قد يُهلك؛ لأنك إذا لم تفقد الوعي ستفقد روحك في أقرب مخفر للسلطة، إذا ما سولت لك نفسك بأن تخرج في مظاهرة غير محسوبة العواقب ولا سبب لها معروف غير انفعالك الوقتي أو جنونك الطارئ. أقصد عينة الأغاني التي يؤلفها شباب مثل: عاطف خيري، الصادق الرضي، طه القدال، أزهري الحاج، والمُريبين عاصم الحزين وعثمان بشرى. تتجنب الشاعرات كنجلاء عثمان التوم، حكمة رابح وسارة حسبو كتابة نوع هذه الأغاني لرقة إنسانية ورثنها من الأم الأولى حواء وبعض الجدات اللاحقات. تتشكل عقليته من حروبات وأدبيات العصر الجيفاري الحار. مثله الأعلى هذا الرجل الثائر. تعرفت عليه عن طريق حبيبتي سلوى وبعض صديقاتها، حيث كُنَّ يجبرونني على حضور الحفلات التي يقيمها كجلسات استماع، في مقر الحزب الشيوعي بأم درمان أو في بيته أو بيت أحد أصدقائه، أحيانًا قليلة عند مكتبة عم سيف سمعريت بالصحافة. بالتأكيد، أيٌّ منكم يستطيع أن يتخيل أين الباشا في هذه اللحظة، وما هو المصير الذي آل إليه! إنه مفقود منذ ديسمبر ٢٠٠٩، لا أحد يعلم عنه شيئًا، ويُقال ما يُقال في شأنه. البعض يؤمن به كمَهدِيٍّ مُنْتَظَر في يوم ما سيعود، ابنتي مريم واحدة من المؤمنين به.
قال لي ذات مرة، كنا قد احتسينا بعض الجن الحبشي الذي أتيتُ به من موقع عملي في مدينة الكرمك بالنيل الأزرق، أو لربما اشتريته من أحد الموردين السريين بالخرطوم: صديقي بركة ساكن (وضع العود جانبًا، مسح فمه العريض وشفتيه الغليظتين من بقايا الجن) الكتابة زي الغُنا يا بركة (وهو ينطق حرف الراء مشددًا)، ما عندها جدوى، من الأحسن نمشي نحارب؛ لأن الحكومات الشريرة لا تسمع غير قعقعة الرصاص ولا تسجد إلا للبندقية. بل لا تحاور أصحاب الرأي المدنيين، لا تعترف بهم في الأصل … الرصاص، الرصاص يا صديق!
قلت له، والقهوةُ تلعب بعقلي الذي يظل دائمًا يقظًا ولو أنني احتسيتُ خَنْدَرِيس العالم كله: لا تنسَ قَول المهاتما غاندي: «لا تحارب عدوك بالسلاح الذي تخاف أنت منه!»
قال، وهو يأخذ عوده فجأة، يعزف لحنًا مرتجلًا عنيفًا بنغمة دو شرسة: ومن الذي يخاف من الرصاص؟
على الرغم من سُكري البهي، إلا أنني كِدتُ أن أنفجر من الضحك أو الخوف، شربنا كثيرًا بعد ذلك، غنينا أغنية لا أذكر بدايتها، لكنني متأكد أنها انتهت بجملة: «وين نتلاقى تاني؟!»
نعم، تذكرت الآن الأغنية، لقد طلبتها بنفسي؛ لأنها الأغنية المفضلة لدى أمي، هي من أجمل أغنيات صديقها وابن مدينتها الفنان المرحوم عبد العظيم حركة. أمي من مواليد مدينة كسلا بشرق السودان. تذكرت أيضًا أنني الذي غنيتها، ليس صديقي الباشا، كان يعزف لي بالعود، أنا لا أجيد العزف، بل لم أجربه مطلقًا؛ لأنني في الواقع أشتر في العزف، في الرقص، أشتر أيضًا في الغناء، أكدت بعض الحبيبات أنني أيضًا أشتر في العاطفة.
ذات مرة، كنت أنا وهو وبنتي الصغرى مريم — عمرها في ذلك الوقت ١٣ عامًا — نتجول في السوق العربي، كانت مريم تريد أن تشتري حذاءً لا أظن أنهم فكروا في صناعته بعد! ظللنا نبحث عنه طوال النهار، بَدْءًا من شارع محمد نجيب انتهاءً بالسوق العربي؛ فأرهقنا المشي، جلسنا باقتراح منه في مقهى «أتنى»، هو مقهى من مخلفات عصور الجمال والحريات في السودان، الآن ليست به سوى ذكريات حقب الستينيات والسبعينيات؛ أي ما قبل أن يفكر النميري في حور وخندريس الجنان الحلال. يحتفي به المثقفون بأن يلتقوا فيه أو بالقرب منه، قد يحتسون الأثينول والعَرَق البلدي. يعشقون أيضًا على ذكرى العصور الغابرات، عصور لم يعشها معظمهم، لكنهم سمعوا بها وشاهدوا آثارها، مثل تلك الآلة الحاسبة الميكانيكية العجوز التي كل ما تبقى في مقهى أتنى من تلك الأزمنة، وهي ما زالت تعمل. ابنتي مريم لا تحب تلك الأمكنة، كما أنني لا أدري بالضبط ما تحب. كعادته، إما أن يغني أو يجادلني في الثورة التي يؤمن أنها قائمة لا محالة: ليست مثل أكتوبر أو أبريل، بل ثورة لا يمكن سرقتها؛ لأننا سنحميها بالسلاح، ثورة الشعب المُسلح يا صديقي! أثناء حديثه كان يرتجل خلفيةً موسيقيةً رقيقةً.
قلت له: أنا أفضل أن أسمع الغناء، الغناء الذي أختاره أنا، لكن ابنتي أصرت على الغناء الذي يختاره هو. قد ظهر لي جليًّا أنها من أشد المؤمنين به، تمامًا مثل سلوى حبيبتي وصديقاتها، بل الكثير من الشباب والشابات، أعرف أيضًا بعض العجائز الذين يحبونه وهم كثر. ولأنه فنان مشهور، خاصة بين المثقفين؛ تحول المقهى في لحظات إلى بيت عُرسٍ، عُرس الثورة المرتقبة. غنى لنا أغنيته المرعبة، التي لا أحبها أنا مطلقًا: بُكْرَة أحْلَى.
كانت تلك هي آخر مرة أراه فيها، أو يراه فيها أحد أصدقائه أو المعجبين والمؤمنين به، لقد ذاب في الحياة مثل ذرة ملح في البحر. أعرف أنني لم أطل كثيرًا، وأتمنى أن تستمتعوا بالفصل الأخير من رواية «ذاكرة الخَنْدَرِيس»، إذا كنتم قد استمتعتم بالفصول السابقة! أريد أن أذكركم بشيء أخير، وهو أنني أمارس حقي الطبيعي في الثرثرة.