المَوتُ نَشوةً
لم تعد علاقتي به ذات جدوى، أنا لا أفكر بطريقة مادية أو براجماتية. لقد أحببت بإخلاص، أظن أنه كان وما زال مخلصًا في حبه لي، لكني الآن على مشارف الثلاثين من عمري، أريد أن أتزوج. في الحقيقة — بصورة أدق — أريد أن يكون لي طفل، أظن أن ذلك هدف نبيل وإنساني في مجتمع يدعي المحافظة والتمسح بقيم فوق ما نستطيع. مجتمع يقدس المظهر ولا يهمه جوهر الأشياء في شيء. في هذا السياق الذي هو واقع الحال لا يمكنني أن أنجب طفلًا بغير أب؛ لأن تلك جريمة في حق الطفل وحتى الأب وحقي. فالتربية الجيدة للطفل تبدأ من قبل ميلاده، ويجب أن يلاحظ أيضًا أنني لا أريد أي أب كما اتفق، أريد أن أنجب طفلًا من رجل أحبه، عندما أقول: رجل أحبه، لا أعني غيره هو بالذات.
الأمر ليس بهذه البساطة. فكرت كثيرًا فيما إذا كنت أحبه من أجل الطفل؛ أقصد من أجل تصوري الخاص للطفل الذي هو إنسان الغد. يعجبني أسلوبه في الحياة، على الرغم من أن هذه الجملة عامة، قد لا تعني شيئًا بالذات إلا أنها تعني الكثير بالنسبة لي، أو أنني أتوهم أنها كذلك. علمني حب الأطفال، كان يقول لي دائمًا: إن الرجل مثل ذكر النحل لا فائدة منه ترجى إذا لم يستطع أن يضع أطفالًا أقوياء في رحم سيدة، وإذا فعل ذلك فلا فائدة منه بعدها! عليه الرحيل. والمرأة الذكية هي التي لا تحتفظ بالرجل؛ لأنه سوف يسعى لنيل مكانة في الأسرة لا يستحقها في الغالب. يريد أن يصبح سيدًا، ملكًا وربًّا. كان الأحق بهذه المكانة الأطفال. هذه الفكرة رغم بدائيتها في عمقها تحمل كثيرًا من الدجل والاحتيال العاطفي، يهدف من ورائها بوضوح — هذا الوضوح أحبه فيه أكثر — أن يهبني طفلًا دون أي روابط شرعية؛ أي بغير ذلك الطقس الاجتماعي البغيض لدينا — نحن الاثنين — الذي لا مستقبل لأطفال في هذا المكان دونه. علمني حب الأطفال. علمني كيف أحب الأطفال، كل الأطفال في ذات اللحظة التي حرمني منهم فيها. كنا نراهم يوميًّا، يعومون في دفء سائلنا الأبيض الحميم، لهم طعمٌ لاذعٌ. كنا نراهم في المنازل، في الطرقات، المدارس، الأندية. ومن ثَمَّ ارتبط عملي بهم؛ فأنا أعمل في دار رعاية للمتشردين من الأطفال، أو باسم ألطف «الأطفال فاقدي الرعاية الأسرية». هي دار لمنظمة مجتمع مدني تطوعية. نقوم بتوفير الحد الأدنى لهم من متطلبات الحياة: إفطار بالفول المصري أو العدس، ماء للاستحمام، النظافة الشخصية وغسيل الملابس المتهرئة القديمة الممزقة، التي لا تتحمل الغسيل في الغالب، فتتمزق أكثر. نقدم لهم أيضًا خدمات طبية عند الطلب. لكننا في الحقيقة لا نقدم لهم شيئًا مهمًّا، فقط نبقي على الوضع كما هو. العمل الفردي أو في جزر بدون تخطيط اجتماعي حكومي للمدى الطويل والقصير لا فائدة ترجى منه، ويظل كل ما نقدمه مجرد إبقاء على الوضع كما هو، بل تعقيده أكثر؛ وذلك لشح الإمكانات وقلة المحسنين الذين يقتنعون بأن رعاية المتشردين بها أجر أو ثواب في الحياة الأخرى، أو تشبع حاجاتهم الآنية من المساهمة في دعم الخير الإنساني والمشاركة في استمرارية الحياة بألم أقل. مقابل الفكرة الأخرى، التي ترى في المتشردين الشر في اكتماله وكامل شيطانيته. بل يحس البعض بأن المتشرد مخلوق أدنى بكثير، ليس اجتماعيًّا فحسب بل إنسانيًّا أيضًا. كنا نحبهم ونحب بعضنا، كنت أحبه بغير شروط. نعم، أخذت الشروط تنمو قليلًا قليلًا مثل الطحلب فوق سطح حجر على ضفة النهر. عندما تحب المرأة فإنها تفكر بطريقة لا تشبه التي ورطتها في الحب، فإنها تفكر في الأطفال، البيت والزوج. وهذا طبيعي، لكنه قد يعيق فكرة الحب التي تنهض على سلطة الجسد: رغائبه واختياره داخل دوامة الانتخاب الطبيعي.
كنت أقتنع بكثير من آرائه. القليل منها يستهويني، الآخر أتحمله بفريضة المحبة. وهو يفعل كذلك تجاه أفكاري الشاذة أيضًا، وترددي المتكرر. لكل منا ما يخصه من جنون وخير، لكن يبقى الحب القاسم المشترك، وهو ما يبقينا على صلة. وهذا التحليل مضللٌ أيضًا؛ لأننا لسنا دائمًا على ما يرام ولسنا دائمًا في حالات حب، قد يقع خصام بيننا يدوم لأيام طويلة، قد أكرهه، وتمر بي أيام قد أقع في حب شخص آخر، وحدث ذلك مرتين خلال فترة علاقتي به، وهي الآن في عامها الرابع. إذن، ليس الحب هو الذي يبقينا معًا، إنهم الأطفال! هذا ما توصلت إليه أخيرًا. الأطفال الذين تستحيل عملية إنجابهم وتتعقد كلما مضى يوم من حياتي بدون أن يكون ذلك الشيء قد تخلق في رحمي.
كنا نمر سريعًا أمام مستشفى أم درمان التعليمي. في اتجاه قبة الإمام المهدي. الجو كما هو في مايو حار جدًّا. كنا مرحين وقريبين من بعضنا البعض على الرغم من الحزن الذي يغمر قلبينا، لولا خوفنا من الشرطيين، وخشيتنا من أن يرانا أحد أفراد النظام العام المتنكرين في هيئة مدنيين، لتلامسنا بأيدينا بل لأمسكنا بكفينا معًا ونحن نسير في هذا الطريق الفسيح. كانت دائمًا ما تغمرنا تلك النشوةُ الإنسانيةُ الجميلة كلما اختلينا ببعضنا في مكان آمن، نستطيع فيه أن نتعرى، نقبل بعضنا ونصلي صلاة الجسد. لقد فعلنا ذلك قبل ساعتين في بيت الخليفة عبد الله التعايشي تحت رعاية وحماية بعض الرسميين. هو أكثر الأمكنة أمانًا لدينا نرتاده عندما نشتاق لبعضنا البعض، حتى ولو كنا متشاجرين؛ لأن الجسد لا علاقة له بالخصومة، إذا وقعت فإنه يصلحها. اكتشفنا ذلك المكان بالصدفة البحتة، أقصد الغرفة السرية التي تقع تحت غرفة الخليفة مباشرة. بوابتها تفتح في الحمام المهجور، لا ندري في ماذا كان يستخدمها الخليفة، هل كان يخاف أن يتآمر عليه البعض وهو نائم؛ لذا كان ينتقل لهذه الغرفة الآمنة ليلًا لينام بدون كوابيس؟ أم أنها كانت سجنًا سريًّا أو بيت أشباح يستضيف فيه الخليفة وأخوه يعقوب جراب الرأي بعض المارقين الكفرة من جدودنا المشاكسين؟ لقد زعمنا حين اكتشافها أن إدارة السياحة نفسها قد لا تعلم عنها شيئًا. قمنا بمرور الأيام بفرشها بمفارش من الخيش وملاءات كنا نهربها إلى هنالك كلما سنحت لنا فرصة لحملها في حقيبة اليد. قد شَردْنَا القطط المسكينة، التي كانت تظن نفسها سيدة المكان الوحيدة، آخذة ذلك الحق من كونها أول من اكتشفه؛ أي بوضع اليد. كنا نسمي الغرفة: بيت جدنا التعايشي، وهو مؤسس الدولة السودانية الحديثة، بالتالي الأب الشرعي لعلاقتنا المربكة والراعي التاريخي لها. حيينا الحرس. كانوا يعرفوننا لكثرة ترددنا إلى البيت مدعين بأننا نقوم بدراسة أكاديمية عن بيت الخليفة، لكننا لم ندخل مرة أخرى، بل عبرناه إلى الحديقة الصغيرة التي تقع في مثلث تحيط بها طرقات الأسفلت. كانت الحديقة مزدهرة في يوم ما، لكنها أصبحت الآن بفعل الإهمال ما يشبه المزبلة، ولو أن الغرف التي استخدمت في الماضي كبوفيه ما زالت قائمة.
كانت دكتورة مريم في انتظارنا ترتجف قلقًا، تسيل الدموع من عينيها الطيبتين الواسعتين. أعطاها عبد الباقي القارورة البلاستيكية، فتحتها بيد مرتعشة. مضينًا خلفها إلى الحجرة الخلفية حيث تخفى الأطفال. كانوا يموتون ببطء شديد، يتلوون من آلام مبرحة في بطونهم، قد تقيئوا كل شيء، يشتكون من صداع يجعلهم يصرخون في ألم آلمنا نحن أيضًا. سقتهم بترتيب بدا لنا عشوائيًّا، لكنها بكلمات متقطعة قالت: إنها تفعل ذلك وفقًا للمرحلة المرضية التي فيها كل طفل. والغريب في الأمر كان الأطفال يتحسنون بصورة سريعة! أو هكذا بدا لنا. وبعد نصف ساعة تكلم اثنان وبقي اثنان في حالة احتضار. بعد ساعة مات واحد وتحدث الآخر. كنا قد قمنا بتهريبهم من أحد الشوارع الطرفية حيث كانوا يقيمون بصورة دائمة في مصرف للمياه. وهو مكان مكشوف بالنسبة للفرقة؛ حيث إنهم يستطيعون الوصول إليهم بسهولة ويسر، وما يعده الأطفال مخبأ يراه الجماعة قلب المصيدة. أصيب الثلاثة بالعشى. وتوقعت دكتورة مريم أنهم سوف لا ينجون من العمى إذا نجوا من الموت؛ لأن مادة الميثانول التي أسرفوا في شربها خلال الساعات العشر الماضية، تقوم بتدمير شبكية العين. طبعًا هذا بالإضافة إلى تدمير كثير من الأنسجة الحساسة بالأحشاء، مثل: الكبد والبنكرياس وغيرهما. سقيناهم كل العرق الذي استطعنا أن نحصل عليه بما لدينا من نقود قليلة. بعض بائعات العرق الكريمات عندما عرفن أننا نحتاجه لإنقاذ أطفال مهددين بالموت أعطيننا من لدنهن وُسْعَهُنَّ، ودعين من قلوبهن الجميلة النقية السوداء لهم بالشفاء ولنا التوفيق.
أنا — عبد الباقي ودكتورة مريم — نمثل فريقًا واحدًا من عدة فرقٍ أخرى تقوم بالمَهَمَّةِ ذاتها في الخرطوم بحري وأم درمان. الهدف الرئيسي هو الوصول للأطفال المصابين قبل أن تصلهم الفرقة، وليس الوصول إليهم فحسب بل إخفاؤهم؛ لأنهم في حالة خطر دائمة وسيصبح مصيرنا مثل مصير أصدقائنا في فريق آخر تم القبض عليهم وجُلدوا بحد حامل الخمر، وغرموا ولعنوا ثم أُبقوا تحت الإقامة الجبرية بمنازلهم. وأصبح العمل أكثر تعقيدًا، خاصة بعد أن أفتى مُسلمٌ طيبٌ حريصٌ على الدين أن العلاج بالعرق والأثينول حرام قطعًا، وأن الأفضل لهؤلاء الصبية الموت؛ لأنهم إذا ماتوا سيموتون شهداء ويدخلون الجنة مع الشهداء والصديقين وحسنُ أولئك رفيقًا. خيرٌ لهم من أن يحيوا ويعيشوا مجرمين ثم يموتوا بسوء الخاتمة: اللهم احفظنا واحفظ المسلمين، آمين يا رب العالمين. كنا نشعر أن واجبنا الإنساني يحتم علينا إنقاذ ما يمكن إنقاذه بأي أسلوب كان. ونشك بعمق في أن الفقيه المفتي طيب الذكر قادر على ضمانة دخوله هو نفسه وبعض عشيرته الأقربين إلى الجنة، دعك من ترشيح الآخرين لها. أو كما أفتى لنا أحد الأصدقاء، وهو يرمي في وجهنا أرقامًا مجنونةً عن أن السودان هو من أكبر المصادر للميثانول والأثينول، وهما من فصيلة الكحول، واللذين يستخدمهما الغرب بعد تنقيتهما لصنع ألذ أنواع الخمور المحرمة هنا في السودان. ولا تفوقه في ذلك غير دولة البرازيل؛ حيث إنها تمتلك أكبر مخازن الميثانول في العالم. وإذا كان هذا المفتي تقيًّا بما يكفي ولا يخشى لعنة رأس المال الإسلامي بالسودان، التي سوف تصيبه في مقتل؛ لتطرق ولو بحرف واحد لتقطير الكحول في مصنع السكر العملاق. وكأنما سمعه مفتٍ أكثر ذكاء، وأكثر منه مالًا؛ حيث إنه قال بالحرف الواحد: لا حرمة في إنتاج وبيع الميثانول والأثينول، فالبلح والعنب حلالان طيبان، وهما مصدران للنبيذ الخبيث وهو محرم. فالعبرة في الاستخدام وليس في إنتاج المادة ذاتها، وإلا حرمنا البطاطس والسكر والذرة بجميع أنواعها، بل كثيرًا ما أحل الله لنا من نعم الدنيا والعياذ بالله من غضب الله! أتحرمون ما أحل الله؟!
إلى اليوم ٢٠ / ٧ / ٢٠١١ تم التأكد من موت ستة وسبعين متشردًا وفقًا للصحافة، وذلك في غضون أربعة وعشرين ساعة منذ أن اكتُشف أول حالة، واتضح من خلال المؤتمر الصحفي الذي أقامته جريدة السودان في اليوم نفسه أن وزير الرعاية الإنسانية قد فوجئ هو نفسه بالأمر وبدا عليه الحزنُ العميق، ووصف الأمر بالمأساة. ربما كان مشغولًا بالإعداد لزيارته الأخيرة للبرازيل. أما مسئول الشرطة فقد نفى نفيًا قاطعًا أن هنالك جهة حكومية وراء اغتيال المتشردين. إنه يحتفظ الآن بعشرة من المدنيين المشتبه في تورطهم في القضية، لكنه يؤكد أيضًا أن الأمر غير منظم وغير مقصود. اندهشنا جميعًا لآرائه القاطعة قبل انتهاء التحقيق. همست دكتورة مريم في أذني قائلة: إذا أردنا معرفة الرقم السليم للمقتولين فعلينا دائمًا أن نضرب رقم الصحافة في ثلاثة على الأقل.
قلت لها وبقلبي حسرة: هذا متفق عليه، للأسف.
كان الصحفيون حذرين كعادتهم تحت قانون الصحافة والمطبوعات الحازم، الذي روعيت في صياغته مصلحة البلاد العليا! إلا أن أحدهم سأل سؤالًا لم يجبه عليه أحد، وتجاهلته حتى جريدته ذاتها. قيل: إنه لم تقم له قائمة بعد ذلك؛ أقصد استغنت الصحيفة عن خدماته الجليلة بخطاب شكر ضافٍ مهذب، مرتب ثلاثة شهور، وأمنية حارة له بالتوفيق في جريدة أخرى! المشكلة كلها أنَّ سؤاله الضال، غير المسئول، الذي لم يراعِ فيه حُرمة المصالح الوطنية والدور الرسالي للأمم السودانية، حرمها من إعلانات بمبلغ يعادل مليون مرة مرتب الصحفي وأبيه وأمه — إذا كانت حية وتعمل — وأبناء عمومته إلى يوم الدين؛ لأنَّ الشركة المعلنة الخَيرة تقصد من وراء الإعلان دعم خط الصحيفة الملتزم الوطني، ورفع المقدرات المالية لمالكها الهمام! قد بدا لَنَا واضحًا الآن أنَّ جريدتكم تستخدم براغيث وجرذان، وليس صحفيين محترمين!
أكد الأطباء أن أسرع علاج للتسمم الميثانولي الحاد هو شرب جرعات خيرات من أخيه الأثينول، وهو كما يعرفه العرب بالعرق، الذين هم أول الشعوب التي قامت بتقطيره في العالم. كلاهما سم قاتل، لكنهما يتعادلان. تشرح لنا دكتورة مريم ذلك علميًّا كما يلي: التركيبة الكيميائية للميثانول …
كان الأطفال يرجوننا ألا نتركهم يموتون، هم أيضًا يريدون استعادة نظرهم، يرغبون في أن يروا العالم مثلما كانوا يرونه من قبل: ملونًا جميلًا ويجري أمامهم مثل القطط الضالة، نحن لا نملك الشيئين … كان يقول لهم بُقا: عليهم بالصبر والإصرار على الحياة. في الحقيقة كانوا أكثر إصرارًا على الحياة من أي مخلوق رأيته في حياتي. أبي كان رجلًا ميسور الحال، فهو ليس ثريًّا، لكنه لم يكن ينقصه شيء. بالتأكيد لا مجال لمقارنة حياته مع حياة هؤلاء البائسين. على الرغم من ذلك لم يكن شديد التمسك بالحياة، كان سعيدًا جدًّا لم يصب بأي أمراض مؤلمة، لم يخنه أحد، لم يدخل السجن، لم يقضِ ليلةً واحدة باكيًا شاكيًا. وكان يمتلك زوجة رائعة وفية؛ التي هي أمي الجميلة. يحب الحياة، يعيشها بمتعة خاصة، وله الحق في ذلك؛ فلقد أعطته الحياة كل شيء. مات وهو في ريعان شبابه، وما ذلك في رأيي إلا لأنه لم يكن متمسكًا بالحياة تمسك هؤلاء المحرومين. الذين لم يعيشوا يومًا واحدًا طيبًا بأي مقاييس كونية، لكن الحياة في تقديرهم ثروة لا يمكن التفريط فيها. قالت لي أمي ذات يوم، وكنت قد حدثتها عن طفلين مشردين مصابين بالسل ماتا ذات صباح: الموت خير لهم هؤلاء المساكين!
ولو أن الوقت غير ملائم للتحقيق، إلا أننا كنا نريد أن نعرف من أين لهم بهذا المشروب القاتل؟ كيف تحصلوا عليه وهو غير مشاع، غير رخيص ولا يباع في البقالات أو عند الطبليات أو الباعة المتجولين؟! كانت لهم إجابات مختلفة، لكن أغربها هي إجابة آدم سانتو — توفي فيما بعد — الذي قال: إنه تحصل عليه من المصري، كأن هذا المصري علم على رأسه نار! لكن البقية تحصلوا عليه من زملائهم الذين تحصلوا عليه من زملاء آخرين، هكذا بلا نهاية ولا بداية. يفضل الأطفال المشرودن مادة السلسيون، وهو مادة تستخدم للصق يدخل الميثانول في تصنيعها. رخيصة ويستنشق عبقها المثير. أنبوب واحد صغير يكفي لسكر عشرة متشردين وينيمهم مجنبًا إياهم مشقة البحث عن طعام. يهبهم في الحلم الحياة، الراحة والجمال الذي ينشدونه. قد يستخدمون ما يقع في أيديهم من مسكرات أو مخدرات، خاصة الأشهر: البنقو. المشكلة الوحيدة التي تمنعهم من تعاطي كل شيء هي المال. إنهم فقراء، عاطلون عن العمل، حتى التسول فإنهم لا يتسولون، لا يسرقون، لا يرقصون ويغنون ويضحكون ويبكون في الطرقات مثل مشردي البرازيل؛ لكي يحصلوا على ثمن وجبة تافهة وجرعة كراك. لكنهم يرقدون هناك تحت ظل حائط أو نيمة أو وكر أو في بناية مهجورة. يأكلون البقايا باستمتاع قذر! المزبلة هي أعظم سوبر ماركت طبيعي وهبه الله للمتشردين. يتسلون بممارسة الجنس فيما بينهم. قد تكفي سيدة مجنونة واحدة نزوة شلة من المتشردين. أما المتشردة الجميلة — وهي كذلك دائمًا — فلا يمكن مسها بغير مقابل. ويصعب اغتصابها لشراستها. الأكثر عرضة للاغتصاب هم المتشردون الجدد؛ نساء كانوا أم رجالًا، طفلاتٍ أم أطفالًا، وذلك قبل انتمائهم لشلة تقوم بحمايتهم وقائد يرعاهم. في الغالب يصبح المُغْتَصِبُ الأقوى هو من يقوم بالحماية لاحقًا؛ حيث يصبح المُغْتَصَب واحدًا من ممتلكاته الخاصة وفردًا من شلته: وفيًّا ذليلًا طائعًا ولقوية ممتعة.
إذا توفر لدى المتشرد بعض ما يسكر، قليل مما يطعم، وشيء من الجنس من نوعه أو النوع الآخر لا يهم؛ فهو الأكثر سعادة والأكثر غنًى من رئيس دولة في العالم الثالث.
ما يقلقنا الآن أكثر، كيفية التعامل مع الجثة التي ترقد أمامنا مغطاة بأسمال باليات تفوح من فمها رائحة الموت مختلطة بقيء الأطفال على أنغام شخير بعض من نام منهم. كنا نعي جيدًا خطورة أن تُضبط الجثةُ في حوزتنا. يحزننا أيضًا تركها في هذه الغرفة المهجورة مع الأطفال المرضى الذين لم يحدد مصيرهم بعد، الذين سيصبح مستقبلهم «على كف عفريت» إذا وجدتهم الفرقة. فسيحقنون في الحال — حسب ظننا، وبعض الظن إثم — بمادة الفورمالين الرخيصة القاتلة، ويودعون الحياة التي يحبونها جدًّا — رغم قسوتها — إلى الجنة البغيضة التي أعدها لهم ذلك المفتي الفصيح، نحن لا نستطيع أن نفعل شيئًا أكثر مما فعلنا، أن سقيناهم العرق وأطعمناهم اللبن الطازج ووهبنا لهم جرعات كبيرة من زيت الخردل لتقوية معداتهم الملتهبة. كان الأمر كابوسًا حقيقيًّا. لكننا أُجبرنا على المغادرة السريعة وتركهم كما هم عندما اتصلت بنا حكمة رابح صديقتي وأخبرتنا أن الفرقة في طريقها إلينا. شاهدهم البعض قريبًا جدًّا من مسرح البقعة يتعثرون في زحمة المرور، يطلقون صفير إنذار ونجدة، يردد العسكر المتحمسون صرخات الحرب وهم محشورون في عربة لنقل البضائع «دفار جامبو» عملاقة. أضافت: لقد قاموا باعتقالات واسعة لناشطين في أم درمان والخرطوم، ولا ندري مَنْ هم وكم عددهم حتى الآن.
تقع الحديقة قريبًا جِدًّا من مسرح البقعة، جنوب بيت الخليفة التعايشي، شرق سجن الخليفة، في الطريق إلى مستشفى الدايات، تحتل الحديقة المهجورة هذا المثلث الصغير. كان علينا أن نهرب في اتجاه بيت الخليفة، هذا هو الحل الوحيد. اقترحت دكتورة مريم أن نقوم بزيارة البيت، سوف لا يشك فينا أحد. تبادلتُ النظرات مع عبد الباقي، ابتسمنا لبعضنا ونحن نسرع الخطا نحو البوابة القديمة الأثرية، التي تحرسها جماعة من الرسميين. قمنا بزيارتنا الثانية للبيت في اليوم نفسه. اندهشت دكتورة مريم عندما شاهدت الحفاوة التي استقبلنا بها الرسميون. في الحقيقة كانت هذه الحفاوة الدافئة نتاج علاقة قديمة مستمرة سوف لا تخطر ببال صديقتنا الدكتورة. خاطبونا بالأساتذة ولم يأخذوا منا رسوم الزيارة المعتادة. كانوا يحسون من أعماقهم بأنهم يجب أن يقدموا لنا المساعدة المرجوة؛ لربما تكرمنا بذكر أسمائهم في البحث الذي نقوم بإعداده أنا وعبد الباقي عن بيت الخليفة، ذلك المشروع الوهمي الذي سوف لن يُنجز أبدًا!
جلسنا عند الفسحة أمام العربات التاريخية المهلهلة المهملة المغطاة بطبقة من الغبار سميكة. كان الظل باردًا، تيار الهواء يمر شمالًا جنوًبا بحرية. كنا نحتاج لقدر كبير جدًّا من الهواء البارد؛ لإنعاشنا وإعادة الحياة إلينا. قلوبنا وآذاننا تقفز خلف الجدران لتعانق موجودات الحديقة في الخارج، تحوم حول الأطفال المشردين. كان هتافهم قاسيًا وعنيفًا، مختلطًا بصفارات الإنذار المرعبة، عندما أخذ الزوار يخرجون من بيت الخليفة مهرولين يتقصون ما يحدث في الخارج، خرجنا معهم. دارت العربة العملاقة دورتين قبيحتين حول الحديقة الصامتة، كانت مليئة بالجنود الشباب المتحمسين لفعل كل ما يؤمرون به. ليس بإمكانهم أن يلاحظوا شيئًا بهذه الطريقة الاستعراضية الفجة في البحث؛ لأن الأطفال كانوا يرقدون داخل الغرفة، ليس في حوش الحديقة. توقعنا أن يتوقفوا ويهبطوا ويدخلوا، لكنهم عندما أكملوا دورتهم الرابعة، اتخذت العربة الشارع الجانبي الشرقي الذي يقود إلى الإذاعة. تلاشى صراخهم الرهيب خلفهم تدريجيًّا، إلى أن اختفى نهائيًّا عندما انعطفت الشاحنة بهم يمين الإذاعة القومية متخذةً طريق الطابية إلى مستشفى القوات المسلحة بأم درمان، أو إلى أي جحيم آخر لا ندريه.
لم نعد إلى الأطفال والمتشردين بالحديقة، على الأقل الآن، كان هذا رأي الجميع، كما أننا لم نرجع إلى بيت الخليفة عبد الله التعايشي مرة أخرى.
تشير الساعة إلى الثانية بعد الظهر. دكتورة مريم ستعود للعمل بمستشفى الحوادث بالخرطوم عند الثالثة والنصف، قد تحتاج إلى ساعة كاملة تقضيها في المواصلات العامة بين أم درمان والسوق العربي؛ لأن الوقت هو زمن ذروة التزاحم المروري، فالطرقات ضيقة وهي مصممة في عصر الاستعمار لبضع عشرات من السيارات الصغيرة يستغلها السادة السياسيون والإنجليز. الآن على ذات الطرق أن تتحمل ما لا يقل عن مليوني سيارة في اليوم. فكان الخيار الأرجح أن نذهب معها أنا وبُقا إلى الخرطوم، من هنالك يذهب هو للسلمة وأنا لبحري، وسوف ننسق الخطوة القادمة عن طريق التلفونات أو الرسائل النصية القصيرة. تعرفت على دكتورة مريم منذ سنوات كثيرة مضت؛ أي منذ أن تخرجتُ في جامعة الأحفاد قبل خمس سنوات. كنت أقوم بقضاء فترة تدريبية بمنظمة رعاية الطفولة السويدية، التقيت بها هنالك، تعمل حينها منسقًا لمشروع حماية الطفل بالمنظمة. احتضنتني وشملتني برعايتها منذ اليوم الأول الذي تقابلنا فيه. هي التي جعلتني ألم بالجوانب النظرية والعلمية في مجال حقوق الأطفال. ولم يكن فارق العمر بيننا كبيرًا، كنت أصغر منها بثلاث سنوات، وهي تكبرني بخبرات عملية وإنسانية تفوق الخمسين عامًا. ومثل كل سودانيَّيْن يتقابلان في أي زمان أو أي مكان يجدان شخصًا مشتركًا بينهما، هذا إذا لم يكتشفا أنهما أقارب، فبيني وبينها شخص عابر في حياتي، لكنه خلف فيَّ أثرًا كبيرًا ونهائيًّا، وهو أحد أقربائها بل ابن خالتها حسن إدريس. المرأة لا يمكنها أن تنسى الشخص الأول في حياتها، حتى إذا كان وقحًا وناكرًا للجميل مثل هذا الإدريس. أنا لا أحب أن أخوض في هذه الحكاية التي يؤلمني ذكرها الآن، هو لم يخدعني لكنني كنت أتوقع منه موقفًا أكثر مروءة وإنسانية؛ أي ما تتوقعه كل فتاة من رجل تورطت معه في علاقة حميمة أدت إلى أن تجعلها حُبْلى بِطفل. أتمنى ألا أعود لهذه الحكاية مرة أخرى.