روح الخشب
أخذت حكمة رابح تستعرض علينا بصورة دراماتيكية، المعلومات التي تحصلت عليها — في الحقيقة شاركنا جميعًا في الحصول عليها — عن الميثانول. ابتدرت العرض بمقدمة طويلة مرحة، لا أظننا نحتاج لكتابتها هنا؛ لسبب واحد هو أن مقدمتها تطرقت لما اعتبرناه هدفًا إستراتيجيًّا لا يمكن الإفصاح عنه. لذا، سنبدأ من هذه الجملة، وعذرًا لبترها: … ثم استطاع العالم روبرت بويل بعد تجارب كثيرة فاشلة عزل الميثانول النقي عن طريق التقطير الإتلافي للخشب؛ أي حرق الخشب، وتقطيره بمعزل عن الهواء، وذلك في عام ١٦٦١، أطلق عليه روح الخشب. في الحقيقة لم يكن هو المقطر الأول للكحول، فقد سبقه العلماء العرب بسنوات كثيرة، ذكر الرازي تلك المسألة في كتاب «الأسرار». الميثانول مثل رصيفه الأثينول «العرق» ينتميان إلى فصيلة «الكحول» — وهي كلمة عربية الأصل نقلها عالم سويسري للغات الأخرى بذات أصلها — في عام ١٨٣٤ تم تكوينه كعنصر كيميائي وأخذ يُعرف باسم الميثلين، ثم عُرف باسم الميثيل، ذلك في سنة ١٨٤٠ ولم يعرف باسم الميثانول إلا في ١٨٩٢، أقيم أول مصنع لإنتاج الميثانول في ١٩٢٣ في ألمانيا. «سنتجنب أيضًا فقرتين طويلتين عن أسماء المصانع التي شُيِّدت بعد ذلك والترتيب الزمني لها، وأيضًا سنغُضُّ الطرف عن عشرين اسمًا لعلماء طوروا صناعات خاصة بالميثانول والأثينول؛ لأسباب غير فنية ولكنها خاصة بموضوع الرواية.»
-
صناعة اللدائن.
-
صناعة الأسبرين.
-
صناعة الألياف.
-
صناعة السِليكون.
-
صناعة مطاط اليوتيل.
-
المبيدات الحشرية.
-
دباغة الجلود.
-
الصناعات البتروكميائية.
-
إنتاج ألياف البولي استر.
-
صناعة علب الأغذية والمشروبات وغيرها.
ويستخدم الميثانول في كثير من دول العالم الأكثر فقرًا في غش الخمور؛ حيث إنه أرخص بكثير من الأثينول. له تاريخ طويل من القتل والتسبب في حالات العمى، تليف الكبد، إتلاف خلايا الجسم، التهاب البنكرياس، وغير ذلك من كوارث بشرية مؤلمة.
أما صنوه الأثينول فيدخل في صناعة الخمور المتنوعة. ويستخدم كوقود حيوي، قد يحل محل البترول على خلفية ارتفاع أسعار النفط، على الرغم من أنَّ له آثارًا سالبة على البيئة لا تقل عن الوقود الأحفوري، بل قد تكون أكثر ضررًا؛ نسبة لسهولة امتصاصه في التربة ومزجه بالهواء، وسهولة تفاعله مع عناصر كيميائية وعضوية أخرى.
لكن المعلومة الأكثر إثارة هي التي تحصلنا عليها من العم «قوقل». فقد كتب صحفي ساخر نفضل عدم ذكر اسمه: في ١١ يونيو ٢٠٠٩ افتُتح مصنع لكحول الأثينول «العرقي البكر» وهو أول مصنع لإنتاج الأثينول بأفريقيا، بالتالي الأكبر حجمًا. أنشئ بخبرات برازيلية لها باع طويل في تقطير الخمور. وتشجيعًا لهذه الصناعة المباركة تم إعفاؤها من الرسوم الجمركية، كل أنواع الضرائب، الزكاة والعشور. ينتج مصنع كنانة ٦٥ مليون لتر سنويًّا وطاقته القصوى تعادل ٢٠٠ مليون لتر في العام، بذلك يعدُّ السودان أكبر الدول المنتجة للأثينول الذي يتم تصنيعه من مخلفات قصب السكر والمنتجات المصاحبة لإنتاج السكر مثل المولاص، في مصنع كنانة العملاق … ينافس بذلك دولة البرازيل صاحبة أكبر مخزون منه في العالم. يغزو الأثينول السوداني اليوم السوق الأوروبية المشتركة، يفضل الأوروبيون إنتاجه في دول أفريقية بائسة فقيرة؛ نسبة للمشاكل البيئية والاقتصادية المصاحبة لإنتاجه، فيستهلك إنتاجه ٧٪ من الحبوب الخشنة في العالم، و٩٪ من الزيوت النباتية عالميًّا، ٢٪ من الأراضي الصالحة لزراعة المحاصيل، وتعده منظمات عالمية من المنتجات التي تهدد بصنع ندرة غذائية في العالم، بالتالي يطلقون عليه المنتج الإجرامي. السوق الأوروبية المشتركة أكبر المستوردين للأثينول السوداني.
لا بأس أن نسهم كسودانيين في «تظبيط» الأمزجة الخواجاتية الراقية، ونعمل بصورة فاعلة في تنشيط الأخيلة وهياج حالات العشق الأوروبي الرزين الأكثر فسقًا وجمالًا أيضًا. ولا أظننا سنخسر شيئًا إذا زدنا من حوادث السير والجرائم الخفيفة التي يفتعلها السكارى العاديون بنسبة ضئيلة لا تكاد تحسب. قد يلهم خندريسنا الطيب شعراء مغمورين في تأليف قصائد عظيمة، لا تقل جمالًا عن «الأرض اليباب» أو «أوراق العُشب» أو كتابة روايات في عظمة «أطفال منتصف الليل». كما أن هذا الخندريس الطيب سيزيد الصادر السوداني بنسبة ١٠٪ بذلك يتحسن الميزان التجاري الوطني … خاصة أن الموازنة السودانية العامة قد فقدت ٩٠٪ من مواردها بانفصال الجنوب ببتروله وموارده الغابية، وهما البقرتان الحلوبتان اللتان أرضعتا البلاد التي تعاني من سوء تغذية منذ الاستقلال إلى أعوام كثيرة قادمة بإذن الله. (هنا سنضطر إلى حذف بعض الأرقام وجداول الكميات التي توضح كمية الصادر السوداني من الأثينول للسوق الأوروبية المشتركة، كما أننا سوف لا نتطرق للمسائل الاقتصادية البحتة، مثل: الميزان التجاري، التحويلات الائتمانية والنمو الاقتصادي الخاص بمسألة التبادل التجاري المحدد مع السوق الأوروبية المشتركة، يمكن الحصول على ذلك عن طريق معامل البحث «قوقل».)
أمي ذكرتني بأمر مهم. وهو أن صناعة الأثينول في السودان تجذَّرت عميقًا في المجتمع السوداني، لكنها بدأت بقدماء النوبة الذين يستخدمونه في شكله الخام في التحنيط، العلاج والنظافة، وذلك قبل آلاف السنين. ثم دخل مرة أخرى كخمور أكثر نقاء عند اتفاقية البغض — البغط — التجارية، التي وُقِّعَتْ ما بين جدودنا النوبة والعرب المسلمين، الذين جاءوا بقيادة عبد الله بن أبي السرح، في محاولتين فاشلتين لاحتلال بلاد النوبة الغنية بالذهب والعاج؛ حيث إنه من بنود الاتفاقية أن يقدم العرب المسلمون إلى النوبة الوثنيين قدرًا كبيرًا من الخندريس «الأثينول» وقناطير مقنطرة من العدس والتوابل سنويًّا، مقابل بعض ما تنتجه بلاد النوبة من خيرات. ولم ينقطع تصنيع الأثينول بعد ذلك محليًّا، فالنساء العربيات المهاجرات لأرض السودان بحثًا عن المراعي وهربًا من الجفاف، كن الفداديات الأوائل؛ حيث إنَّ آلاف اللترات تُصْنَع يوميًّا عن طريق حفيداتهن الوريثات الحديثات للتقطير، وهن صانعات: عرق البلح، العيش، الجنزبيل، الجوافة والمولاص. والعرق كما يعرفه الجميع عبارة عن الأثينول مضافًا إليه الميثانول. الفداديات الخبيرات يستطعن أن يفصلن بين الاثنين، وذلك في مراحل التقطير المختلفة؛ حيث يطلقن على الأثينول النقي الأكثر قيمة اسم: العرق البكر، السكوسكو، أو السيكو، تيمنًا بتلك الساعة السويسرية الجميلة الأنيقة الدقيقة، وهو يُنْتج أولًا عندما تصل درجة حرارة المادة موضوع التقطير ٧٣، ثم بعد ذلك ينتج العرق التني؛ وهو الميثانول والأثينول مختلطان معًا، مع كثير من الشوائب والغازات بعضها سام جدًّا.
حكت لي والدتي قصة غريبة وقعت بين قاضٍ وشرطيين ومقطرة أثينول بلدي؛ حيث قُبِضَ على امرأة ذات حملة شرطية ضد المشروب الأكثر جماهيرية لدى الندماء في السودان، وجد عندها الشرطيون النبهاء الأتقياء الناهون عن مثل هذه المنكرات والآمرون بالمعروف، زجاجتين من العرق السيكو؛ أي الأثينول النقي. قُدمَتْ للمحكمة، معها المعروض من الخندريس. كانت الفدادية من الذكاء بحيث إنها تبينت أن لون العرق المعروض أمام القاضي مختلفٌ عما هو في الواقع، وظنت أنَّ ما يعرض الآن أمامها ليس هو العرق السيكو الذي أنتجته بيدها الماهرتين وبخبرة عشرين عامًا، وقبل أن ينطق القاضي المتعجل بالحكم قالت له: ممكن كلمة يا مولانا؟
قال لها من خلف نظارته السميكة، وقد ترك العبث بالقلم في الأوراق الداكنة اللون: تفضلي يا ميمونة، إذا كان عندك كلام، قوليه. قالت له وهي تشير إلى قارورتي العرق اللتين تقبعان في ركن قصي من المحكمة: العرقي ده ما حقي.
فانتهرها الشرطي الشاهد ومحرر البلاغ بأن هنالك خمسة شهود آخرين سوف يحلفون قسمًا على المصحف: ورقة ورقة وآية آية، على أن هذا العرق قد تم ضبطه في بيتها وبحضورهم شخصيًّا وحضورها هي … شهاداتهم مسجلة، قرأها القاضي. قالت له بعدما انتهى من تلاواته: أنا اسمي ميمونة سُكوسُكو يا مولانا! وخوفًا على سمعتي يا مولانا واسمي؛ ما بعمل عرقي زي ده بدون مؤاخذة يا مولانا.
مشيرة إلى القارورتين الحزينتين القابعتين في ركن قصي من المحكمة تنتظران تنفيذ الحكم الرادع عليهما وعلى سيدتهما.
قال لها مولانا بحكمة، وهو يعطيها انتباه عدالته كله: ما فاهم، ممكن تشرحي أكتر؟
قالت له، وهي ترمي ساعديها المثقلين بالذهب الفالصو في الهواء. فيصدران شخشخة خشنة مثل كشيش جرس صدئ: العرقي الأنا بعمله يا مولانا. إذا كشحته ما بيصل الواطا بيتبخر في الهواء قبل ما يصل الأرض، وإذا أشعلت فيه قشة كبريت يولع زي السبيرتو والعالم كله عارف الكلام ده، وجربه يا مولانا. أنا العرقي بتاعي يا مولانا يولع الرتينة.
وأمر القاضي الشرطي باختبار العرق، لم يتبخر لم يشتعل، لم تكن به رائحة العرق المتميزة، بل كان ماء نقيًّا طهورًا حلالًا، صالحًا للشرب الإنساني، لا مذاق، لا لون، لا رائحة، لدرجة أنَّ القاضي بلع منه بُقْةً كبيرة استقرت في معدة جلالته بكل سلام وبركة، فقام حضرته بشطب البلاغ ضدها على الفور، وطالب بتحرير آخر في حق الشرطيين اللذين قبضا عليها، بتهمة تزييف الأدلة، وهو يقصد بينه وبين نفسه: تهمة شُرب العَرَق، وهي تهمة يصعب على الادعاء إثباتها ويستحيل على المتهمين الشَّرَطِيين نفيها!