انحراف البنت
هل الرجل انتهازي بطبعه أم المرأة لم تستطعْ أن تفهمه كما يجب. أم العكس أن المرأة هي الانتهازية، والرجل ليس سوى كائن دائمًا ما يصعب عليه فهم المرأة؟ لكن في الأمر انتهازيًّا من جهة ما، هو أو هي … هذا ما أنا متأكدة منه تمامًا. ليست لدي تجربة كبيرة في الحياة تمكنني من إطلاق أحكام نهائية على الظواهر، لكن كما تقول أمي: إن وعي المرأة دائمًا ما يسبق عمرها، وكل النساء خبيرات في الحياة، وإلا لما استطعن أن ينجبن الرجال، يربينهم ويزوجنهم أيضًا. أمي دائمًا لها آراء حادة في هذا الأمر.
لقد قلت في مكان ما من هذه القصة: إنني أحب عبد الباقي، وإنني أريد أن أنجب منه أطفالًا أو طفلًا. لكن الشيء المحبط الذي لم أتطرق إليه هو أن عبد الباقي يعدُّ الحب هو الغاية النهائية، ولا علاقة للزواج به، والأسوأ أنه يعدُّ كل حبيبة تفكر في الزواج شخصيةً منحرفة، أو بدأت تنجرف في تيار الانحراف، فكيف لشخص أن يسعى لما هو أفضل تاركًا خلفه ما هو أجمل وأبقى؟! أعرف أن هذا ما يسميه البعض الانتهازية، أنا مثل أمي، أسميه التهرب من الذهاب بالعلاقات الإنسانية الجميلة إلى نهاياتها السعيدة المرجوة. وهذه النهايات ليست الزواج فحسب، هذا الاسم البرجوازي البغيض، لكن أن يعيش الشخصان معًا وينجبا أطفالًا يربيانهم تربية خَيِّرة. لكن كيف يتم ذلك في غير المؤسسة الزواجية التقليدية التي يعود لها الفضل في التقليل من عدد المتشردين والأطفال الذين هم خارج الرعاية الأسرية؟ وهي أيضًا المتسبب الأكبر — من جهة أخرى — في الزيادة الكبيرة في تعدادهم! نتحدث عن الفقر، الجهل، المرض، الأطفال غير المخطط لإنجابهم. ولو أن الرافد الأساس في السودان للمتشردين هو الحرب وسلم ما بعد الحرب، وهو ما يسميه كاتب مخبول «جثة الحرب». عبد الباقي لا بدائل لديه، دعونا نسمع عبد الباقي معبرًا عن نفسه، هذه مساحة إبداعية إنسانية نعطيها لعبد الباقي ليقول ما يشاء قوله؛ لأنه يستطيع أن يعبر عن حاله أكثر مني كراوية أنثى:
المرأة مثل أغنية جميلة لا تكتفي من الاستماع إليها مرة واحدة، وهي مثل البحر مجهولة الأعماق، ومثل الطائر لا يطمئن للهواء والشجرة معًا، يطمئن فقط لجناحيه. ستبدو أفكاري غريبة بعض الشيء، متناقضة بعض الشيء، أولًا بالنسبة لرجل متزوج ويقيم علاقات خارج المؤسسة الزواجية، بل يحب بعمق، الشيء الذي سوف لا تجدون وسيلة لفهمه هو أنني أحب زوجتي وأحب سلوى، هما سيدتان جميلتان، وطيبتان، المشكلة الفعلية في المؤسسة ذاتها. بالتأكيد ستقولون: «إن العامل الفاشل يلوم أدواته!» وأنا أفعل؛ لأن الحبيبة بعد العقد تتحول إلى امرأة تمتلك رجلًا، والرجل يتحول إلى أب يمتلك امرأة، أب بكل رموزه الشنيعة، ويعمل الاثنان لهدم المشروع بارتباطهما القوي به. عندما أنجبت زوجتي أطفالي الأربعة، صرت أحب أطفالي أكثر وهي أيضًا كانت تحب أطفالها، وافتقدنا معًا الحبيب والحبيبة. وهذا تبرير مثالي ونفعي، لكنه يذهب كثيرًا في عمق الحقيقة، يفتش عنها بوضوح. وأنت أمام الحقيقة مثل جرذ أعمى تشمُّ طريقك إليها ولا تراها، حتى إذا لامس جلدك جلدها، وملأتَ خياشيمَك الفأريةَ بعبق إبطها الحنون، تظل غريبًا عنها. كنت واضحًا معكِ منذ اللحظة الأولى التي التقينا فيها وقررنا أن نعيش كحبيبين. أنا متزوج، زوجتي طيبة جميلة، أحبها. لديَّ أربعة أطفال: بنتان وولدان. وأخبرتنِي أنتِ أيضًا بأنك تحبين حسن إدريس، وحدثتني عن كل شيء حدث بينكما، وكيف أنه وقف موقفًا مخزيًا تجاهك، وأنه كاد يقتلك عندما علم بأنك حبلى، فأجهضك قسرًا في شهرك الأول. على الرغم من أنكما افترقتما منذ سنة كاملة، وأنه قد تزوج قبل شهر من لقائنا، إلا أنك ما كنت تدرين: هل تسامحينه أم تكرهينه أم أنك ما زلت تغرمين به؟! وكنت أيضًا لا تدرين: هل ستعشقينني في يومٍ ما أم لا؟!
– قد أتعلم كيف أحبك إذا تجاوزت بعض الجراح.
هي طريقتك المراوغة في الكلام والعاطفة … فلم نستطع أن نسمي تلك العاطفة العنيفة التي جمعتنا معًا، وتركنا كل شيء لما تأتي به الأيام، وكان هذا ما يعجبني فيك. لم أمارس الجنس مع زوجتي منذ اليوم الذي عرفتك فيه، ليس لأنني أكتفي بك فحسب، لكنني لا أعرف الكذب الجسدي، أو أن جسدي هو الذي لا يعرف الكذب البشري. والجنس والحب كلاهما خيال مثل الجسد، لا يمكن للثلاثة أن يتشكلوا عنصرًا ماديًّا واحدًا دائمًا، إلا عندما ينتجون الأطفال. وهذا هو سر تحول الحب إلى الأطفال وترك المؤسسة الزواجية خاوية على عروشها المتهالكة في الأصل تندب حظها. لقد جمع بيننا الأطفال المتشردون أكثر مما يجمع بيننا أي شيء آخر؛ الحب على سبيل المثال. كنا نظن — وما زلنا — أننا نستطيع أن نفعل شيئًا من أجلهم، ولو من أجل طفل واحد لا غير، شيئًا فعليًّا ملموسًا، شيئًا يشبع فينا رغبة الانتماء للإنسانية.
– ليس لمجرد أنك خلقت بهذه الهيئة البهية قد توجت إنسانًا — كنت تقولين لي — لكن لأنك نلت إنسانيتك بكل جدارة عن طريق سعيك الدءوب للانتماء الفعلي للبشرية، وهذا ما يجب وما يكون.
المتشردون هم قضيتنا وسُلَّمُنَا للإنسان، البعض يعمل في مجال السياسة أو الأدب، البعض في معامل العلم التطبيقي أو النظري، قد يحمل سلاحًا ويخوض معركته الفعلية ضد الظالمين. البعض يبحث عن كينونته الإنسانية في الحب، وذلك مثل أمك وجبران خليل جبران. البعض في الشعر والفنون الأخرى مثل الجسد، وآخرون مثل الروح. عم سيف سمعريت يفعل ذلك ببساطة أكثر، إنه يعمل وسيطًا ما بين المعرفة والباحث عنها. البعض يقدم نفسه أنموذجًا للسلوك المنفلت مثل: عثمان بُشرى، أحمد زكي، زهرة بت إبليس، رامبو … وآخرون. كل تلك منافذ للولوج عبر ثقب إبرة الإنسانية التي تسع الجميع: المشاركة في الحياة والهم الوجودي. أنا أحب أن أثرثر؛ لأنني لا أعرف أن أعبر عن نفسي بطرق أخرى. وها هي سلوى تورطني بالكتابة، كما ورطتني بالحب من قبل، وها أنتم تجدون كتابتي همومَ مثقفٍ أكثر منها فقرة في رواية أُرِيدَ مني أن أكون أحد كاتبيها.
عبد الباقي يتهرب من التعبير عن نفسه، وكنت قد أتحتُ له فرصة ذلك كتابةً، فهو يعرف كيف يفعل الأشياء بقلمه، لكن لا بأس! في الحق كنت مكتفية به لأسباب كثيرة؛ أولها: مثلي مثل كثيرات لا أحب تعدد العلاقات، أحب أن أعطي نفسي لرجل واحد فقط، وهو الذي أرتبط معه في علاقة، وطالما كانت هذه العلاقة مستمرة. والشيء الآخر: صعوبة الدخول في علاقة أخرى مع رجل، فعملية اختيار الشخص المناسب الذي يحرك في البنت أحاسيسها ومشاعرها، يُرقِص جسدها ترقبًا ويحافظ على سرها وعليها، عملية تصير أكثر صعوبة يومًا بعد يوم. وكلما مرت البنت بتجربة مريرة كانت أكثر حرصًا في التجارب اللاحقة، إلا إذا شاءت الواحدة منا أن تعطي نفسها للآخر كيفما اتفق. ولا أحد يستطيع أن يخدعها أو يكذب عليها — عكس ما تعتقده أمي — فالبنت تعرف ما تريد ولا تفعل إلا ما ترغب فيه حقيقة. ومثلنا مثل الآخر، نحن نبحث عن المتعة الجسدية، نعم نريدها بشروطنا الخاصة، قد نفشل كثيرًا … قد ننجح … قد نتنازل عن هذه الشروط أو عن بعضها بكامل وعينا وإرادتنا. عبد الباقي يعرف ذلك ويفهمه، لكنه أيضًا يريد أن يفعل الأشياء وفقًا لشروطه هو الخاصة، ولا ضير في ذلك. أنا قررت أن شروطه الخاصة لا تتوافق مع شروطي الخاصة، أنا أريد زوجًا وأطفالًا — تريدهم أمي أكثر — وأريد بيتًا صغيرًا أم كبيرًا، أقصد مملكة برجوازية خاصة. وشرط هذا البيت الأطفال وليس الرجل، أستطيع أن أدير بيتي وحدي، وأنشئ أطفالي كما أشاء، كل ما يجعل الرجل مهمًّا في هذه المملكة هو الطقس الاجتماعي، وفوضى القوانين والموروثات الاجتماعية. أعرف مئات النساء اللائي رغم ذلك كله تخلين عن الزوج؛ إما لأنه مات، أو طلقهن أو طلقنه، أو هجرهن وتزوج من أخريات، واستطعن أن يقدن حياتهن كأجمل ما يكون، بغير طلته الخشنة البهية!
عندما يقرأ عبد الباقي ذلك سيحكي لي قصة القط الذي لم يستطع أن يتحصل على اللحم المعلق في سقف البيت، الذي يغويه بعبقه المثير، فشتمه بأنه سيئ الرائحة، طاردًا الهواء من أنفه: أُفوووووووو.
إنك لم تكذب، لكنك أيضًا لم تقل الحقيقة في شأن زوجتك، فكانت زوجته قبيحة مثيرة للمشاكل، لئيمة مزعجة، لا أدري كيف قال إنه يحبها؟! هذه ليست غيرة مني عليها، لكن الحقيقة عينها. هي قريبته، كان يحب في الجامعة إحدى زميلاته، لكنه عندما أراد أن يتزوج تزوج بنت عمته. هي «فصامية ذكورية» متأصلة، يظن الكثير من الرجال الفصاميين أن قريباتهم لا يفعلن كل ما يفعله هو مع الفتيات الأخريات، وينسون أن قريباتهم هن حبيبات، عشيقات وخليلات آخرين مثلهم. قد يؤدين دورهن في العشق بغاية الحميمية والصدق الجسدي والروحي أيضًا. بُقا ليس من ذلك النوع التائه في بُحيرات العسل الأخلاقي، على الأقل معي. فهو يحترم ويقدر كل ما يجري بيننا، لا أعرف لِمَ لَمْ يتزوج حبيبته الأولى، لكن عليَّ أن أصدق ما قاله هو: أمها لا تريدها أن تتزوج من «رطاني»؛ وتقصد شخصًا لديه لغة محلية أخرى غير العربية، طبعًا لا توجد إشكاليات إذا كانت لغته الأم الإنجليزية أو الفرنسية على سبيل المثال. على الرغم من أنهما من مدينة واحدة، وإقليم واحد، وفي الواقع من أصل واحد، كل ما في الأمر أن مجموعتها القبلية استعربت قبل خاصَّته ببضع مئات من السنوات قلائل، حوالي مائتي سنة قبل قيام السلطنة الزرقاء، واستعارت اللغة العربية كلغة أم.
حبيبي الأول كان شخصًا أقل ما يوصف به أنه جبان، ولم تكن تمنعه من الزواج بي أي سلطة اجتماعية أو ادعاء نقاء عرقي أو أية من تلك الإشكالات الفظيعة. كان همه — للأسف عرفت ذلك مؤخرًا — أن يتزوج فتاة لها بشرة — يا حبذا إذا كانت — بيضاء. وطالما يستحيل ذلك في السودان؛ فصفراء فاقع لونها. كان يرى في الأوروبيات تمثيلًا للجمال المتناهي في تمام اكتماله، لا أدري لماذا لم أنتبه لذلك عندما كان يقول لي: لم يخلقنا الله إلا كومبارس لنيكول كيدمان. كنت أظنه يلهو أو في أسوأ الأحوال يحاول إثارة غيرتي. انتهى به الطواف إلى الزواج من حورية فاتنة، حمراء البشرة، وهي أخت أحد أصدقائه، وصديقتي بصورة أو بأخرى. كانت قد تحولت إلى بيضاء عندما رآها في المركز الثقافي الفرنسي، عندما تزوجها كانت شديدة البياض، وبإمكانه أن يرى الدم يجري في شرايينها، لها أرداف حقيقية مدورة كبيرة، لم يلاحظها طوال فترة الخطوبة، على الرغم من أنهما مارسا الجنس مرارًا، لها نهدان شاهقان أثارا إعجابه! هما لم يكونا هنالك من قبل بالفعل، الذين يعرفونها قديمًا تحدثوا عن عروس أخرى لها بعض ملامح خطيبته السابقة، عندما بدأت تنجب له الأطفال، أخذت بشرتها تتقشر، وظهر على مواقع حساسة من جلدها طفح قبيح، فنصحها طبيب جلدية استشارته بعدم استخدام المراهم الكيميائية التي تبيض بشرتها عن طريقها؛ لأنها قد تُصاب بفشل كلوي حاد أو سرطان البشرة أو الاثنين معًا. ولأنها لم تستطع أن تعود للونها الأول الطبيعي، وكان جميلًا وناصعًا، وليس بإمكانها مواصلة استخدام المراهم الكيميائية؛ لتظل ببشرتها البيضاء التي شاهدها بها إدريس في المركز الثقافي الفرنسي قبل سنوات كثيرة وأعجب بها، فقد أخذت تذبل بسرعة، بل تنحدر انحدارًا بليغًا نحو هوة اليأس والأحزان. وبدأت مرحلة جديدة في حياتها الزوجية، تتسم بالشجار اليومي، بل والضرب في كثير من الأحيان. ولم يكن السبب لونها، لكن لمشاكل اجتماعية أكثر تعقيدًا.
كلما تمعنت في غابة التعقيدات التي تعيشها البنت يوميًّا، وما يجب أن تكون عليه وما لا يجب، دون المراعاة لها هي ككائن له خياراته، أُثَمِّنُ كلمات أمي ووصاياها لي. قد تبدو دكتاتورية بل وساذجة في أحيان كثيرة، إلا أنها لم تكن دائمًا في الجانب الخطأ مائة بالمائة؛ إذْ كيف لي أن أوازن ما بين رغباتي ورغبات الآخر وتصوري للمستقبل؟
لم يوضح لي الفكرة إطلاقًا، كنت لآخر لقاء معه اتفقنا على أن نحتفظ بالطفل، وأن نتزوج وأن نخبر أمي بشأن الزواج في أقرب وقت ممكن. وكنت سعيدة جدًّا به، قد أظهر لي ما يمكن تفسيره بأنه أيضًا في غاية السعادة، ولو أنه بدأ يكثر من شرب العرق بصورة لا يمكن تبريرها بغير الشعور بالإحباط والقلق. وأصرَّ على أن يسقيني بعضًا منه، لكني رفضت، فأنا في شهري الأول وعليَّ أن أكون حريصة على صحة طفلي. كان شخصًا طويلًا يتمتع بصحة جيدة، وسيمًا وهادئًا، قليل الكلام ويهتم بمظهره وأناقته بصورة جيدة، ولا يملك الآخر إلا أن يفترض فيه حسن النية. ولو أنه أصيب بمرض السكر قبل سنتين أو أكثر، إلا أنه يمتلك طاقة كبيرة ينفقها في العمل عند شركة الصرف الصحي الخاصة التي يعمل بها، وفي لعب الكتشينة وشرب الخمر مع أصدقائه. كالعادة عندما نرغب في البقاء معًا ليوم أو أيام، أعلن لأمي بأنني أسافر في رحلة عمل لمدينة قريبة أو بعيدة، وهي غالبًا ما لا تمانع وشرطها الوحيد أن أتصل بها كثيرًا؛ لأطمئنها بأني حية أرزق، وتزودني بجملة واحدة: اعملي حسابك من أولاد وبنات الحرام! وهي لا تدري بأنني أكبر بنت حرام أنجبتها هي نفسها، وكان يؤلمني كثيرًا أنها لا تعرف ذلك.
أستيقظ مبكرًا، كنا ننام في سرير واحد كبير من خشب الموسك الناعم البني. لم أنم جيدًا الليلة الماضية؛ لقلق ينتابني بين حين وآخر من أجل أمي التي تركتها وحيدة في البيت، وبشأن الطفل الذي يتشكَّل الآن فيَّ، وهي لا تعلم عنه شيئًا. أول ما تفعله أمي إذا عرفت، فإنها ستقوم بشيء واحد، ببساطة وبدون أي تفكير أو رحمة: تقتلني!
أنا أعرف أمي تمامًا، من أي نوع من البشر هي.
أخذ زجاجة العرق من تحت السرير، مسح عليها بكفيه، تناول كوبًا صغيرًا فارغًا، كان قد استخدمه بالأمس، نظر في عمقه باحثًا عن أوساخ أو ما يقنعه على غسله. صب عليه ما تبقى من الخمر، قربه من أنفه، استنشق رائحته لبعض الوقت، ثم ابتلعه في جرعة واحدة. صر وجهه، مدَّ شفتيه إلى الأمام فيما لو أنه يجعل منهما مدخنة بشرية لخروج غازات حارقة من جوفه، تجشأ ثم بصق على الأرض من قرف، قال لي: نحنا ما عايزين اللي في بطنك ده.
قلت له: أنت ومنو؟
قال وهو يحملق في عيني: أنا وأنت.
قلت له بتحدٍّ وإصرار: أنا عايزاه!
قال ببرود وقلق: لا يمكننا نتزوج، أنا ما جاهز للعرس، ولا عندي إمكانية لفتح بيت.
شرحت له للمرة العاشرة، حيث كان دائمًا ما يكرر هذه الجملة البائسة البليدة: العرس لا يحتاج لشيء سوى عقد، وأنت عندك بيت ولا ينقصك شيء، أنا ما عايزه منك غير العقد وأرحل معاك في اليوم نفسه. وكنا اتفقنا قبل أيام، مش كدا، وناقشنا الموضوع دا؟
تحدث كثيرًا عن إمكاناته في إعالة أسرة، وأنه الآن يتكفل برعاية أيتام كثر، بالإضافة إلى أبناء وبنات أختيه المطلقتين اللتين لا تعملان. وقال ما لا أتذكره عن أمه وأبيه، وأظنه ذكر شيئًا عن جار ما، أو جارة ما. لكنني أتذكر تمامًا أنه عندما توقف عن الكلام، هجم عليَّ … صعد على بطني بكامل ثقله، كان يضربني بصورة عشوائية في صدري وكليتي وتحت السرة بخوف ورعب شديدين، وهو في حالة أشبه بالجنون. كان يردد بأنني ورطته في هذا الحمل المشئوم من أجل أن أجبره على أن يتزوجني، وأنه سوف لا يفعل ذلك مطلقًا، وعليَّ أن أجهض الآن. قد شتمني أيضًا واصفًا إياي بالداعرة والخبيثة … إلى أن أُغمي عليَّ. نزفت في ذلك اليوم دمًا كثيرًا، وكدت أن أموت لولا أنه تصرف أخيرًا، أتى لي بالدكتورة مريم بنت خالته، تلك السيدة الرحيمة الجميلة، فأنقذت حياتي.
لا أدري أي شيطان رجيم جمعني بهذا المخلوق الغريب؟! أكتب الآن وأحس بجيش من النمل يسرح على جلدي، إحساسٌ ما بين الخوف الجنون والنجاة، إحساس لا يمكن وصفه، لكنه يحيل لي صورته في شكل مخلوق آدمي له منقار أشبه بحقنة، وبطن منتفخة محشوة بالدم المتخثر. رغم ذلك أسأل نفسي كثيرًا: هل أنا أكرهه؟ أنا أمقته، وأستطيع … حسنًا، لا أحب أن أخوض في هذه السيرة المهلكة.