الفصل الأول
خالجه نفس الشعور الذي يخالجه كلما ركب القطار في طريقه إلى القاهرة. كان يتحرى دائمًا أن يتخذ مكانه بجوار النافذة، لا يرفع نظره عن الحقول المنبسطة المترامية الأطراف لا يحد الحقل إلا حقل مثله، وإن تباينت أنواع المزروعات واختلفت.
وكان يشعر دائمًا أن هذه الأرض جميعها ملكه وأنه نبتة منها، ولكن نبتة خالدة باقية لا تُحصَد ولا يُعاد زرعها، وإنما هي نبتت منذ ملايين السنين ثم بقيت. كان يُخيل إليه أنه يعرف أغوار هذه الأرض، وأنه كان في يوم ما في داخلها تحنو عليه أعماقها وتدفئه حناياها ويمده بالسقيا ماؤها حتى إذا انفجر إلى السطح كان هواء هذه التربة هو الذي يمده بالحياة، لم يكن هذا الشعور يخالجه وهو في قريته؛ فهي أضيق من أن تتسع لهذه الفكرة، وإنما كان يُحس بها دائمًا إذا ما انفسح أمامه الوادي وانطلقت عينه إلى ما لا نهاية من الأرض حينئذٍ كانت هذه المشاعر تثب إلى نفسه خفيفة في أنحاء شتى من كيانه فلا يدري مأتاها.
وكان يخيل إليه أنه فلاح من هؤلاء الفلاحين الذين يعملون في الأرض ثم ما تلبث هذه الفكرة أن تنداح في وعيه، فإذا هو يُحس أنه هو جميع هؤلاء الفلاحين؛ فهو الذي يدرس القمح وهو الذي يحصده، وهو هو نفسه الذي يذروه، أو هو الذي يجمع القطن وهو الذي يسير خلف الأنفار، وهم يجمعونه، وهو هو نفسه الذي يفرز القطن وينقِّيه من شوائبه. وما تلبث أفكاره ومشاعره أن تضرب به في أغوار الزمن فيُحس أنه هو نفسه الذي زرع هذه الأرض منذ بدأت هذه الأرض تعرف نفسها كمنتجة للزرع، وحين لم تكن هذه الأرض شيئًا إلا أن تحمل الإنسان كان يُخيَّل إليه أنه هو أول إنسان حملته لم تحمل قبله أحدًا، كان يُخيَّل إليه أنه هو أول من قَدِم إلى هذه الأرض من البشر فهي لم تعرف قبله أحدًا، ولا عرف هو قبلها أرضًا.
فهو يرى نفسه حينًا واقفًا في أرضه هذه، أرضه جميعًا لا يقصد قطعة معينة منها، ويرى رمسيس يشيد أمجاده هنا على هذه الأرض، ويُخيَّل إليه أنه كان فيما مضى من أزمان جنديًّا من جنود رمسيس، أو هو جندي من جنود سيزستريس، أو هو ملقًى في الحديد والقيود حول يديه وقدميه في أزمان قمبيز، ثم هو يُحس الحديد يُحطَّم واسم الإسكندر يذيبه عن أقدامه وسواعده. ثم يمضي مع نفسه هذه الهائمة في ملكوت التاريخ، فيرى كليوباترا وقيصر ثم يرى أنطونيو. وحين يفرغ التاريخ من القوى الباطشة تتهدى إليه الرسالات من السماء فيرى نفسه ساعيًا وراء موسى على هذه الأرض نفسها، ثم يرى نفسه معذبًا بالمسيحية سعيدًا بها في وقت معًا. ثم ينتهي به الأمر مع عمرو بن العاص مسلمًا مؤمنًا سعيدًا بروحه وعقله وجسمه جميعًا، ثم يطوح به التاريخ في جذبة قوية رائعة إلى هذا المستقبل القريب القريب حين هو تلميذ في كُتَّاب القرية يجري بين دهاليز الكُتَّاب الضيقة الصغيرة حافيًا ينتعل التراب في الفناء الضيق مع زملاء وزميلات، أما الزملاء فهم أصدقاء اليوم، وأما الزميلات فإنهن زوجته وزوجات أصدقائه.
عجيبة هي الأيام في تنقُّلها وئيدة الخطو سريعة العدْو، تمشي كما تدور الأرض فلا يحس بها، ولكنها تقلُّب الحياة تقليبًا فتومض الشيب في الرءوس، وتذرو الغضون على الجباه وتنفث التجارب في العقول فتحيل السذاجة الناعمة الشفافة حرصًا معتمًا كئيبًا، فإذا النفس التي كانت مشرقة واضحة المعالم تغدو ملتوية المسالك خبيثة، ولا جناح عليها ولا تثريب فإنها تواجه زمانًا كثير المسالك الملتوية خبيثًا يصيب من حيث يأمن صاحبه، أين الأيام الخوالي؟ أين أيام كنت فيها طفلًا لاهيًا؟ ما الذي جعلني أذهب إلى الكُتَّاب؟ لا ليس أبي، إنه أنا، لماذا؟ لست أدري، كنت ألعب في الساحة التي تنفسح أمام الجامع، تلك التي ما زالت على حالها في الدهاشنة لم يغيرها الزمن، لماذا لا يغير الزمان الأرض؟ كنت ألعب هناك بالكرة، أي أنا كنت إذ ذاك؟ أتراني كنت ذلك الأنا الذي صاحب رمسيس أم كليوباترا أم قمبيز أم موسى أم عيسى أم محمدًا؟ أي أنا في هؤلاء كنت؟ كنت ذلك الأخير، كنت بجسمي هذا الباقي الذي لم يتغير، وهل تغيرت الأجسام بين كل هذه الأزمان؟ لا أدري، كل الذي أدريه أنني كنت أنا بذراعي هذه ورجلي هذه وكانت صغيرة إذ ذاك وكنت ألعب مع فايز بك، نعم كان بك منذ ذلك الحين البعيد، أنا لم أعرفه طوال حياتي إلا فايز بك يبدو أن البكوية وُلدت معه يوم مولده بل لحظة مولده، ولعل القابلة أخرجتها من بطن أمه قبل أن تُخرجه هو، إنه بك منذ ذلك الحين، منذ نحن أطفال نلهو لم نمثل للتعليم بعد، كنت أنا وهو فقط وكنا في انتظار أن يأتي عبد الصادق ولكنه تأخر عنا ولم نكن نعلم فيمَ تأخره، وكنا نريد أن نلعب الكرة وما كان لنا أن نلعبها دونه، ورأينا الناس يقبِلون على الجامع فرادى وجماعات وكنا نعرف أنهم يدخلون إلى الجامع ليصلوا، ولكن كيف كانوا يصلون؟ لم نكن ندري لا أنا ولا فايز بك ونظرنا إلى الناس وهم يتقاطرون على الجامع ويخلعون نعالهم، وقليل هم الذين كانوا يخلعون أحذيتهم، ونظرت إلى فايز بك ونظر إليَّ ولم نتكلم وإنما قصدنا إلى باب الجامع فخلع هو حذاءه ولم أخلع أنا شيئًا وخطونا العتبة، فإذا نحن في الجامع، ووجدنا قومًا يميلون إلى اليمين ليدلفوا من باب فملنا معهم ورأيناهم يغسلون وجوههم وأيديهم وأرجلهم ورءوسهم من بئر هناك فرُحنا نفعل مثلما يفعلون، ثم غادروا إلى حرم الجامع مرة أخرى فتبعناهم، وما هي إلا دقائق حتى تقدم الشيخ جابر عبد التواب — رحمه الله — لقد خلفه اليوم ابنه الشيخ عبد التواب جابر أصبح اليوم مأذون القرية وخطيب المسجد في آن واحد، لا أستطيع أن أنسى النكتة التي أطلقها عليه الولد عتريس بن عبد الصادق، خيبة الله عليه أصبح شريرًا، ويلي أخاف أن يسمعني، يا لي من أحمق! إنني لا أتكلم، إني أفكر، أأخاف منه حتى وأنا أفكر؟ لمَ أثار الرعب في القرية عتريس عبد الصادق؟ ولكنه كان مع ذلك طفلًا وكان يقول النكت في بعض الأحيان وكان يضحك، أتراه يضحك الآن؟ أتراه حين يقتل يضحك؟ كان وهو طفل كثير الضحك، كان يشاهد الشيخ عبد التواب جالسًا دائمًا في دكان عبد الملاك البقال، يا له من خبيث ذهب إلى عبد الملاك وقال: أعطني بقرش زيتونًا، وبقرش جبنة بيضاء، وبقرش حلاوة، وقام الشيخ عبد التواب وراءه: امش يا قبيح، والله لسوف أقول لأبيك وأجعله يضربك بالمركوب، وجرى عتريس يضحك هالعًا، واليوم أرى الشيخ عبد التواب يصيبه الهلع كلما ذُكر أمامه عتريس، أيام تتقلب، لم يكن الشيخ عبد التواب هو الإمام يوم دخلنا أنا وفايز بك، وإنما كان أبوه الشيخ جابر، وأمَّ الصلاة ورتل القرآن في صوت جميل آخَّاذ: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ الله أكبر.
وفي الصباح التالي كنت أنا لم أنم بل ظللت أترقب الفجر حتى بزغ، وإذا أنا أجد نفسي في كُتَّاب الشيخ عبد الكريم التهامي، وإذا فايز بك يُرسل إلى الشيخ عبد الكريم في اليوم نفسه أن يذهب إليه في السراي ليحفظ القرآن على يديه.
مرت بي في الكُتَّاب أعوام قلائل، فإذا أنا العرِيف ويوم توليت منصبي هذا قدِمت فاطمة إلى الكُتَّاب، ما كان أجملها يوم ذاك! طفلة وضيئة الطلعة مشرقة العينين بهيجة النفس، أنا لا أراها حتى اليوم إلا كما كانت حينذاك، جلباب أخضر زاهٍ ووجه أبيض ناصع فيه ضياء ينبعث منه عينان فيهما صفاء كصفاء العسل الأبيض وفي لونه أيضًا، وضفيرتان من الشعر الأسود اللامع من غير زيت.
وكنت العرِيف، فكانت تقرأ عليَّ، وكنت أصحبها بعد أن ينتهي الكُتَّاب، وكانت تقرأ وكنت أمسك أنا لها اللوح، لا أنسى يوم غرقت حين كنا نمشي بجانب النهر، كانت هي بجانب النهر وكنت أنا بجانبها وزلقت قدمها فإذا هي جميعًا في النهر، ولم أكن أعرف العوم، لماذا لم أكن أعرف العوم؟ لا أدري وإنما لم أتردد، ألم أكن أخاف يومذاك؟ فما لي اليوم أخاف من عتريس؟ كانت نفسي على سجيتها ولم أكن أقدر حياتي قدرها، ولم تكن لي فؤادة أخاف عليها أن أموت فلا تجد لها أبًا، أتراني كنت شجاعًا ثم صرت جبانًا؟ أم تراني كنت جبانًا ولكني لم أفكر؟ وكيف أكون جبانًا ولا أفكر وهل الجبن إلا تفكير؟ رميت بنفسي في النهر وأنا لا أعوم، وفي لحظة خاطفة امتدت يدي إلى الصفصافة التي تحنو على النهر، لكم أحب هذه الصفصافة، تشبثت بشعور الصفصافة المتهدلة إلى مياه النهر ومددت رجليَّ بأقصى ما تستطيعان أن تمتدا وتشبثت فاطمة بقدمي ورحت أشد جسمي إلى الأرض شيئًا فشيئًا وفي بطء شديد وفي حرص أشد أن تفلت يدي شعور الصفصافة أو تفلت فاطمة قدمي حتى بلغت الأرض ومددت يدي إلى فاطمة وخرجت إلى الأرض استلقت عليها، كم هي حبيبة هذه الأرض! ومرت أعوام الكُتَّاب، وختمت حفظي للقرآن وخرجت إلى الحياة.
ظل فارغًا فترة طويلة بعد أن ترك الكُتَّاب، كان يحن إلى فاطمة، ولكن كيف له أن يذهب إليها؟ ولم يكن الحنين وحده كافيًا أن يشغل وقته، وفي يوم عزم على أمرٍ، فما لاح الفجر من اليوم التالي حتى خرج إلى غيط أبيه وبدلًا من أن يُشرف على الرجال وهم يفلحون الأرض ربت كتف عبد الجليل أبو سعفان.
– عبد الجليل.
– أفندم يا سي حافظ.
– هل عندك فأس أخرى؟
– لماذا؟
– هل عندك فأس أخرى؟
– نعم.
– اذهب فهاتها.
– وهذه ما لها؟
– سأستأجرها منك.
– أنت؟
– نعم.
– تفلح الأرض معنا، أنت يا سي حافظ يا ابن الحاج خالد أنت؟!
– أعطني فأسك ولا تُطل.
وقالوا: مجنون، ولكن ما شأنه هو أن يقولوا، واستمر عامًا وبعض عام حتى جاء فايز إلى القرية، فذهب إليه وتحادثا، رأى في حديثه نورًا جديدًا يريد أن يروده، كان لا بد أن يعلم علم فايز، لقد ذهب فايز إلى المدرسة في المدينة فما له هو لا يذهب؟
– آبا، أريد أن أذهب إلى المدرسة.
– قل ماذا تريد من مال ومع السلامة.
– غدًا أذهب.
– غدًا تذهب.
وكان هذا هو فراقه عن الفأس، ولكنه إن فارق القرية فسيفارق فاطمة أيضًا، كيف يستطيع أن يفارقها؟! لم يكن يراها إلا قليلًا، ولكن أنفاسها في القرية، فهو يعيش في أجوائها، فكيف يفارق القرية؟ ولكن لا بد له أن يعلم علم فايز، فكيف على الأقل يبلغ فاطمة أنه مسافر في غده آخذًا طريقه إلى المدينة وإلى العلم؟
ذهب إلى عبد الصادق في بيته.
– عبد الصادق.
– ماذا؟
– أريد أن تأتي معي لنتمشى.
– عند الصفصافة طبعًا.
– هل عندك مانع؟
– مللت الصفصافة، تعال نذهب إلى الناحية الأخرى من القرية هناك عند النخيل.
– إلا اليوم.
– ولماذا اليوم؟
وتردد قليلًا ثم قال: لا أدري إلا أنني أريد أن أذهب إلى الصفصافة، لا أدري، ألا تحس أحيانًا معينة أنك مشتاق إلى مكان معين؟! أنا الآن مشتاق إلى الصفصافة.
– أمرك، نذهب إلى الصفصافة، نذهب إلى الصفصافة.
– يقطع اﻟ…
وقبل أن يكمل الكلمة كان حافظ قد وضع يده على فمه في خوف.
– اسكت، وهيا ولا تُطل الكلام.
وجلسا عند الصفصافة، وظل حافظ صامتًا، ولكن عبد الصادق لم يسكت.
– لقد أردت أن أجيء معك لأخبرك خبرًا يفرحك.
وقال حافظ وعينه إلى طريق القرية وذهنه إلى بيت في القرية لا يريم عنه.
– هه.
– لا، اصح واسمع كلامي وأحسن سمعه، وإلا قمت والله وتركتك وحدك أنت والصفصافة.
وانتفض حافظ في ذعر؛ فإنه يحتمل كل شيء إلا أن يقوم عنه عبد الصادق الآن؛ فقد كان يريده بكل خلجة من مشاعره، وبكل دقة من قلبه.
– لا، تقوم؟ وهل هذا يصح؟ أنا أسمعك، أسمعك تمامًا.
– ألا تعرف أني فكرت في الزواج؟
وانتبه حافظ إلى صديقه تمامًا.
– ماذا؟
– نويت أن أتزوج نبوية.
– نبوية بنت حسنين العِكر؟
– هي نعم بنت حسنين العِكر.
– وأبوها؟
– ماله أبوها؟
– مجرم!
– تخافه الجهة كلها.
– ولكنه مجرم!
– إنه رجل، ليس مثله بين الرجال.
– إنه مجرم.
– اذكر لي اسمًا واحدًا لا يخاف حسنين العِكر، حتى فريد باشا يخافه.
– الإجرام ليس رجولة.
– فما الرجولة؟
– ألا تخاف أن يصبح أولادك مجرمين؟
– يا ليت.
– ستندم.
– لا تخف، فليكونوا هم كجدهم، ولا شأن لك، إنني حينئذٍ سأكون أسعد أب في الدنيا.
– وإذا أغضبت نبوية، ألا تخاف أباها؟
– ولماذا أغضبها؟
– بين الزوج والزوجة لا يخلو الأمر من الغضب.
– لن أغضبها.
– أخاف عليك من هذا الزواج!
– يا أخي لا تخف، قل لي مبروك.
وقبل أن يقول حافظ شيئًا رأى في أفق الطريق القريب جمعًا من الفتيات يقترب إليه هو وصديقه فظل نظره متعلقًا بالطريق، في حين راح عبد الصادق يهزه.
– مالك، مالك ساكتًا، ألا تقول لي مبروك؟
– هه، آه، نعم صحيح، مبروك.
وران الصمت بين الصاحبين، حتى اقترب سرب الفتيات وكانت فاطمة بينهن، أقبلن إلى الترعة يملأن منها الجِرار، وكانت الجماعة قريبة من حيث جلس الصديقان وصاح حافظ: ألم تعرف يا عبد الصادق؟
– مالك تصيح هكذا؟ أرأيتني قد فقدت السمع؟
– أنا مسافر غدًا إلى المدينة وسأبقى هناك.
– عجيبة!
– سأذهب لأتعلم في المدرسة.
– ولماذا لم تقل لي هذا الخبر المهم من ساعة أن رأيتك؟ وعلى كل حال لماذا تصيح؟
– لن أنساك أبدًا يا عبد الصادق.
– لن تنساني؟
– لا بد أن تأتي إلى هذه الصفصافة دائمًا يا عبد الصادق.
– أنا؟! حد الله بيني وبين الصفصافة.
– إياك أن تترك يومًا دون أن تأتي إلى الصفصافة، أنت تعرف كم هي غالية عندي يا عبد الصادق.
– وأنا ما لي؟!
ورأى حافظ إجابة كلامه في عيني فاطمة وفي ابتسامتها، فراح يصيح: أحبك.
صرخ عبد الصادق: ماذا؟
– أحبك يا عبد الصادق.
– أحبتك العافية.
– أنت حبيب العمر يا … عبد الصادق.
– حفظت، والله أخ، أخ والله يا سي حافظ.
– أُريد أن أُقبلك يا عبد الصادق.
واحمر وجه فاطمة وقال عبد الصادق: الله يبقيك، ولكن يعني، لماذا؟
– لأنك ستتزوج، ادعُ لي أنا أيضًا أن أتزوج يا عبد الصادق، تعال أُقبلك.
– إنك منذ لحظة لم تكن تُريد أن تقول لي مبروك، مبروك لم أنلها منك إلا بطلوع الروح، والآن تريد أن تُقبلني، ربنا يجعل العواقب سليمة.
وكانت فاطمة قد ملأت الجرة بعد أن نظفتها مرات كثيرة حتى ضاقت بها زميلاتها، وأرادت فاطمة أن تنصرف، فألقت إليه نظرة فيها فهم وفيها ضحكة عميقة فرحانة متألقة، وقال حافظ صائحًا ما يزال: مع السلامة يا عبد الصادق.
– ماذا؟ وهل أنا المسافر أو أنت؟
– أقصد أفوتك بالعافية، ولا تنسَ أن تزور الصفصافة.
– والله لن أزورها أبدًا.
– كل يوم يا عبد الصادق، كل يوم، إياك أن تنسى.
– ولا يوم وحياتك، إني أجيء معك لأجل خاطرك فقط، أما أن أجيء وحدي فهذا هو المستحيل، وعلى كلٍّ أنا سأكون مشغولًا بالزواج في الأيام الآتية، الله، معنى هذا أنك لن تحضر فرحي، هه ألن تحضر فرحي؟
وكانت فاطمة قد انصرفت وكانت عينا حافظ متعلقتين بالبقية الباقية البادية من خيالها، وكانت روحه جميعها ترافقها، وكانت أذناه منصرفتين عن عبد الصادق كل الانصراف، لم يعد يسمع شيئًا، لا شيء، لا شيء أبدًا.
وسافر في غده شابًّا أسمر اللون، قوي الملامح، بارز الجبهة عميق النظر، أسود الشعر فاحمه غزير الحاجبين، رقيق الشفتين، مفتول الذراعين، ذا مشية ثابتة متطلعة إلى المستقبل في تفاؤل وإصرار، لا هو بالطويل البالغ الطول ولا هو بالقصير الذي تأخذه العين، شابًّا في مطالع الشباب يبدأ تعليمه في المدارس، فهو متفتح الذهن بما تعلمه من قرآن، متفتح القلب بحبه هذا الذي ينتظره في القرية، قصد إلى المدرسة في هدوء مطمئن ووجد رفاقه أو الغالبية العظمى من رفاقه في مثل سنه إن لم يزيدوا في أعمارهم عليه، وواصل تعليمه حتى نال شهادة الكفاءة وعاد إلى القرية، وجد فايز بك رفيق ملعبه قد تزوج من قريبة له وأنجبا ابنهما طلعت ووجد صديقه عبد الصادق قد تزوج من نبوية فولدت له عتريس، فلم يجد بأسًا أن يقصد إلى أبيه: آبا أريد أن أتزوج.
– اخترت أم أختار لك؟
– فاطمة بنت الحاج قاسم الطيب.
– ونِعم ما اخترت يا بني.
وتزوجا، ولم يمكث بالقرية، وإنما اختار أن يعمل موظفًا بالقاهرة، لكم نعما بهذه الأيام التي قضياها بالقاهرة، وفيها أنعم الله عليهما بابنتهما الوحيدة فؤادة، فتمثلت الحياة جميعها لهما في هذه الطفلة الصغيرة يهبان لها كل ما يستطيع الأب والأم أن يهبا، واطمأنت بهما الحياة سنوات، سنوات قليلة ثم فجعه الدهر بموت أبيه، نظر إلى الحياة يومذاك فوجد نفسه يقف وحيدًا في لقاء الدهر، ترك وظيفته وعاد إلى القرية.
كان فريد باشا قد مات هو أيضًا، وتولى فايز إدارة أعمال أبيه، ووجد الفلاحين يشكون من فايز ومن سوء معاملته لهم، ولكنه لم يسطع أن يقول قولهم، بل كان يسمع من كثير آخرين مديحًا لفايز لا يشوبه نقد ولا تقف به كراهية، وقد ظل حتى يومه هذا لا يدري إن كان فايز يستحق المديح أم هو يستحق الكراهية.
وعاش حافظ في القرية سنوات طويلة، وكبر عتريس، فإذا هو يرث الإجرام عن جده، ويبدأ صيته في هذا الميدان يعلو ويرتفع وحينئذٍ قطع حافظ ما بينه وبين عبد الصادق، ولكن عبد الصادق لم يقبل هذه القطيعة، فهو يزور حافظ بين الحين والآخر، وحافظ يستقبله مبالغًا في الحفاوة والإكرام، ولكنه مع ذلك لا يرد زيارته، وتكبر فؤادة، فهي شابة في ريق العمر، أخذت عن أمها إشراقة نفسها وإيمانها المطلق بالله، وأخذت عن أبيها طيبة نفسه وسماحة مشاعره، ولكن شيئًا غريبًا آخر تسرب في هوادة وإصرار إلى أخلاقها، لم يكن حافظ يستطيع تعليله؛ أتراها الكتب التي تصر على قراءتها ما أمكنتها الفرصة؟ أم تراه ذهابها في كثير من الأحيان للست تفيدة زوجة فايز بك التي كانت تجد فيها عقلية مثقفة وحديثًا عذبًا لا يشابه حديث الأخريات من بنات القرية؟ لقد أحبتها تفيدة منذ كانت فؤادة طفلة تلهو مع ابنها طلعت، وحين منعت السن فؤادة أن تلعب مع طلعت أصبحت تزور تفيدة وتجالسها إن لم يكن في كل يوم من أيام الأسبوع ففي أغلب أيامه.
كانت فؤادة سمراء سمرة ما تكاد تُلحظ، سوداء الشعر غزيرته ذات عينين واسعتين نفاذتين تخترقان الحياة في فهم وذكاء، وكانت قوية الأسر لا يستطيع من يراها مرة إلا أن يذكرها دائمًا، وكانت أقرب إلى الطول منها إلى القصر أقرب إلى النحافة منها إلى السمن، تحب أن تضحك، ولكن قليلًا ما كانت تجد شيئًا يضحكها.
فهي تُبقي على ابتسامة حلوة تعلقها بشفتيها الرقيقتين وكأنما هي تتهيأ للضحك عند أول بارقة تلوح بما يستحق الضحك. تسربت إلى أخلاقها من حيث لا يدري أبوها ولا يدري أحد، عناصر من العناد والإصرار، فهي إن أرادت شيئًا حشدت كل قواها لتناله، لم يكن أبوها كذلك، هو تعوَّد ألا يريد شيئًا، فإن أراد شيئًا، ونادرًا ما يريد، فهمسة خجلة مترددة إن أفادت فبها ونعمت، وإلا عادت الهمسة تدوي في داخله، وينتهي بها الأمر أن تذوب مع الأمنيات المستحيلة التي قد تدور في النفس ولا تصل إلى اللسان، وأما أمها فملقية أمرها كله على الله، فما يأتي به الله خير، وما يمنعه عنها الله فهو شر، والحياة كما تحيا جميلة لا تريد منها أكثر مما تعطي، والحمد لله الواحد الخلاق فيما أعطى وفيما يمنع، «من أين» تسرب هذا العناد إلى نفس فؤادة، من أين؟
ومع صوت القطار ظلت كلمة من أين تدوي في مشاعر حافظ فتهز كيانه جميعًا، وكان القطار يوشك أن يصل إلى القاهرة فهو يوهن من سيره الحثيث ويهن معه دوي «من أين» في نفس حافظ حتى يصمت القطار، ويفرغ حافظ إلى القاهرة وينزل من القطار أهم ما يفكر فيه أن يشتري بعض الكتب لفؤادة وخمارًا للصلاة طلبته منه فاطمة.