الفصل السادس عشر
لم ينتظر عبد المغني حسون حتى يرد الشيخ إبراهيم تحيته، وإنما راح يُلقي له الأخبار كأنه سيل منهمر ولم ينتظر الشيخ إبراهيم أن يُعلق عبد الغني حسون على ما رواه من أخبار وإنما قام من فوره قاصدًا إلى بيت حافظ وبجانبه عبد الغني حسون يفصل من الأخبار ما أجمله، الحقول الغرقى والأخرى المحترقة وأموال عليوة التي انتهبت، والشيخ ماضٍ في طريقه في حزم لا يعلق بشيء ولم ينتظر ترحيب حافظ: أيفعل أحد بابنته ما فعلت؟
– وماذا أفعل يا عم الشيخ إبراهيم، خفت عليها من القتل.
وقال الشيخ إبراهيم في صوت مرتفع حاد: ترمي بها إلى رجل لم تتزوج منه خشية موتها؟! لقد قتلتها.
وسمعت فاطمة الحديث فدارت بها الأرض، لم تتزوج منه، وواصل الشيخ إبراهيم حديثه: كيف تقبل هذا يا حافظ أفندي، كيف تقبل هذا؟!
– قالوا إنها إذا رضيت صح العقد.
– وإذا لم ترضَ؟
– وماذا كنت أفعل؟
– لا بد أن تسترد ابنتك.
– كيف؟ كيف أستردها؟ إنها عنده في بيته، عند عتريس، هناك السلاح والعصابة بأكملها، كيف أستردها؟
– ابنتك في بيت رجل ليس زوجها، وهي وحدها، ماذا تريد أن تفعل، تظل ساكنًا؟
– وماذا يمكن أن أفعل؟!
– كل شيء، مت، مت وأخرج ابنتك من بيت رجل ليست على ذمته.
ولم تنتظر فاطمة بل خرجت إلى حيث الرجال جلوس: أنا أذهب.
وصاح حافظ: أنتِ، أنتِ يا فاطمة؟
– لا بد أن أكون بجانب ابنتي الآن، إنها لن تحتاج إليَّ قدر حاجتها إليَّ الآن، الآن.
– وكيف تذهبين؟
– أذهب.
– نحن لا نعرف الطريق.
– اسأل عبد الصادق، أليس صديقك؟
– وهل يرضى أن يدلنا؟
– أنت يا عبد الغني تعرف الطريق.
– أنا يا ست فاطمة؟
– نعم أنت.
– أنا لا شأن لي بهذا يا ست فاطمة، اعملي معروفًا، أنا لا شأن لي.
– خذني إلى قرب المكان واتركني.
– أنا يا ست فاطمة؟
– نعم أنت، ممَّ تخاف؟ ستقف بعيدًا، بعيدًا ولن يراك أحد.
وقال حافظ: وتذهبين وحدك يا فاطمة؟
– نعم أذهب وحدي، يجب أن أكون بجانب ابنتي وابحثوا أنتم بعد ذلك في صحة الزواج أو عدم صحته، سأظل هناك حتى تصبح زوجة على سُنة الله ورسوله أو تعود معي، ولكني لا أتركها وحدها أبدًا، هيا يا عبد الغني.
– سأقف بعيدًا يا ست فاطمة.
– نعم قف بعيدًا.
وقال الشيخ إبراهيم: وقولي لعتريس إن إبراهيم يقول لك: إن العقد باطل، باطل.
وقال عبد الغني: يا عم الشيخ إبراهيم أنت مالك، هل أنت المفتي؟ الرجل لم يسألك، ثم المحامي، وهو الرجل المختص قال له العقد باطل فأخذ أمواله، مالك أنت يا عم الشيخ إبراهيم؟
– حق الله يا عبد الغني، حق الله.
– لا إله إلا الله.
– هيا يا عبد الغني.
– هيا يا ست فاطمة.
قال لها عتريس حين رآها: وأنت ماذا جاء بكِ؟
– ابنتي.
– ما لها؟
– ليست زوجتك.
– من قال لك هذا؟
– الذي قال قال، وأنت لا شأن لك.
– ومن الذي دلك على المكان؟
– لا شأن لك أيضًا.
– إذن؟
– أنا باقية هنا حتى يقضي الله أمرًا.
– وماذا يمكن أن يقضي؟! زوج وزوجته.
– لست زوجًا، ولا هي زوجتك!
وخرج عتريس ونادى إسماعيل الصفوري: أريد أن أعرف من الذي زار بيت حافظ اليوم؟
وقصد إسماعيل إلى عبد الغني حسون: من زمان لم نرك يا عبد الغني.
– مشاغل يا عم الشيخ إسماعيل.
– وما حال الدنيا؟
– رضا.
– ماذا يقول الناس؟
– البلد مشغولة بالزواج هذه الأيام.
– هل هي مشغولة به؟
– لا تتكلم في شيء آخر.
– وما رأيهم؟
– آراء مختلفة.
– وما رأي حافظ؟
– ألا تعرفه؟
– الرأي الذي أسمعه منك غير الرأي الذي أسمعه من حافظ.
– والله إن جئتَ للحق حافظ جاء وليس له رأي خاص، وإنما هو يسمع ما يقوله الناس.
– هل زاره أحد؟
– قليل.
– مثل مَن؟
– الشيخ إبراهيم، الشيخ بسيوني، هنداوي أفندي.
وقال عتريس: ليس بين هؤلاء من يقول إن الزواج باطل إلا الشيخ إبراهيم، أغرق أرضه اليوم يا إسماعيل، وبعد أن تغرق الأرض اذهب وقل له إنني اكتفيت بهذا في هذه المرة، ولكن عقابي في المرة القادمة سيكون فظيعًا فخير له أن يسكت.
وقال الشيخ إبراهيم: أكل ما قدر عليه عتريس هو أن يغرق الأرض؟! مثل هذا يُسكتني أنا يا إسماعيل؟! والله إن انطبقت السماء على الأرض فلن أسكت، هذا الزواج باطل وإقامة فؤادة مع عتريس اعتداء على حقوق الله، ولن نسكت.
– يا عم الشيخ إبراهيم، إنعام في القرية تلتقي في كل يوم على حرام، لماذا سكت عنها؟
– هذه تجارة قديمة الله يعاقب عليها في الآخرة، وإنعام هي التي اختارتها، أما اختطاف فتاة من بين أهلها وتزوير إرادتها وجعل عقد زواج باطل عقدًا صحيحًا، أما هذا فهو هدم للحياة جميعًا وللدين جميعًا، والسكوت عليه كمن يرى جيشًا يهدم الدين وهو ساكت.
– يا عم الشيخ إبراهيم طول عمرك رجل طيب لم ترفع صوتك، حتى وإن اعتدى عليك، فما معنى ثورتك هذه المرة؟
– حق الله.
– إنك لم تدافع عن حقوق ضد المعتدين.
– حقوقي أنا حر فيها، أما حق الله فأنا مرغم على الدفاع عنه.
– وأهل القرية جميعًا ما لهم لا يفعلون مثلما تفعل؟
– لا يعرفون واجبهم قِبَل الله.
– يا عم الشيخ إبراهيم اعمل معروفًا واسكت.
– قل لعتريس الزواج باطل، باطل، باطل، يغرق الأرض إن شاء ويحرق المحصول متى أراد، ولكن الزواج باطل.
– يا عم الشيخ إبراهيم أنا لن أقول شيئًا، أنا لن أقول شيئًا.
– ولكني أنا سأقول.
– لن يبلغه أحد.
– سيصل إليه صوتي.
– لا يجرؤ أحد أن يقول له.
– سيصل إليه صوتي، وإن أغلق آذانه فسيصل إليه صوتي.
وقال عتريس: ماذا قال الشيخ إبراهيم؟
فقال إسماعيل: لم يقل شيئًا.
وحل يوم الجمعة، وقصد أهل القرية إلى الجامع فرادى وجماعات، ودخلوا جميعهم من الباب الصغير الذي يؤدي إلى الميضأة، وما لبثوا أن ارتدُّوا إلى صحن الجامع والماء يغمر كل جزء غير مغطًّى من جسومهم، كأنهم الزرع أُلقي عليه الماء فهو مخضل وفي الجو همهمة هي تسبيح بين الحوقلة والبسلمة، وبعضهم يصلي ركعتين قبل صلاة الجمعة، وبعضهم راح يحادث البعض فيما لا صلة بينه وبين الجامع والصلاة، وفي ركن قصيٍّ جلس عليوة حسيرًا ذاهلًا مر به كثير من رجال القرية فحيوه، وجلس بعضهم إلى جانبه يحاول أن يسأله عما حدث له ولكنه يقول في أسًى: لم يحصل شيء، كذب ما سمعتم، لم يحصل شيء.
وينصرف عنه السائلون ذاهلين، وقد ازداد يقينهم بصدق ما سمعوه، وكلما مضى الوقت أحس الناس أن روح الله تظلهم في مكانهم هذا وأنهم في حاجة أشد إلى هذه الروح يوغلون في شعورهم بالله، ويُشحن الجو بلقاء واستقبال بين السماء والأرض، ويرتفع صوت المقرئ، ولم يكن جميلًا، ولكن الناس أحسوا به آتيًا من السماء فتخاشعت نفوسهم واشرأبت، أحسوا جميعهم أن شيئًا واحدًا يجمعهم لا يدرون ما هو، أهو شيء من الإيمان؟ أم شيء من الترقب؟ لا يدرون، ولكنهم في كل الجُمع التي صلوها معًا لم يشعروا بهذا الشعور، كان كل منهم يدخل إلى الجامع فردًا خاليًا بشئون نفسه، ويصدر عنه فردًا خاليًا بشئون نفسه، أما اليوم فهم جميعًا يُحسون أن شأنًا واحدًا يجمعهم، فتفكير واحد يخيم عليهم، وشعور واحد يرين على جمعهم، أصبح كل فرد منهم هو الجمع الذي يزحم الجامع، وأصبح الجمع كله فردًا واحدًا، لم يقل واحد منهم للآخر شيئًا مما يُخالجه، ولكن هذا الإحساس العجيب من الشعور بالتوحيد كان يجيش في صدورهم في نفس الوقت، كانت عيونهم كلما التقت تعبر عن هذا التآلف الذي جمعهم فجأة، وانتهى المقرئ من قراءته ووقف خطيب الجامع فألقى خطبته من كتاب معه وألقى الأدعية فكانت تُهينِم في الجامع كله آمين متخافتة تتواثب من أركان غير متجمعة ولا هي منسجمة، حتى إذا قال الإمام: «اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا» تجمع الشتيت ودوت آمين يحيط بها صوت من القلب تعرفه الأذن وتعرفه السماء.
وقبل أن يقول الإمام أقم الصلاة، وقف الشيخ إبراهيم من أقصى الجامع وصاح: يأيها الناس، الزواج باطل، ولا بد أن ترجع فؤادة إلى أهلها.
ومن أركان متفرقة من الجامع قالت ألسنة: يا عم الشيخ إبراهيم ونحن مالنا؟
– يا عم الشيخ إبراهيم اعمل معروفًا.
– أهذا وقته؟
ونظر الشيخ إبراهيم إلى المتكلمين ثم قال: أنا أعرفكم جميعًا، أنت من العصابة، نعم هذا وقته، وإنما شرعت خطبة الجمعة للبحث في شئون المسلمين، وهذا الذي يحدث يهم الجميع، إنه حق الله، الزواج باطل، لقد أغرقوا أرضي حتى لا أقول هذا، ولكن الزواج باطل، باطل، باطل، أقم الصلاة إن شئت يا عم الشيخ عبد التواب.
وقال الشيخ عبد التواب في عظمة للمؤذن: أقم الصلاة.