الفصل الثامن عشر
فرغ طه ومحمود من عملهما في الحقل، وتوجَّها إلى البيت، لم يلتفتا إلى رجلين يتبعانهما، وحين بلغا البيت قال محمود: أنا خارج.
– يا محمود لو عرف أبوك قتلك.
– ومن يُخبره؟
– هذه الأشياء لا تختفي.
– يا أخي أنا حر.
– أنا أخاف عليك من أبيك.
– إن كان لا يعجبه أتركه، أنا بذراعي آكل الشهد.
– أخاف على أبيك إن سمع.
– يا أخي أنا رجل.
– ولكن ألا تخاف على أبيك؟
– يكون مخطئًا لو غضب.
– أنت تعرفه.
– يكون مخطئًا لو غضب …
– يا محمود كفى.
– ماذا؟ هل ستعمل لي شيخًا أنت الآخر؟
– أرجوك، طيب لا تذهب الليلة فقط.
– إن لم أذهب الليلة فسأذهب غدًا.
– ابقَ هذه الليلة فقط، أرجوك.
– لا شأن لك بي.
– أرجوك.
– دعني.
وعند بيت إنعام قال أحد الرجلين للآخر: مرة أخرى ننتظر هنا؟!
– نعم ولكن شتان بين المرتين، كنا في المرة الفائتة ننتظر لنحرس أما الليلة …
– ولكنه مكان ثقيل للانتظار على كل حال.
– لعل انتظارنا المرة الفائتة كان أثقل.
– على كل حال هو مكان ثقيل للانتظار.
– وهذا العمل الذي نقوم به أليس ثقيلًا؟
– أتراه كذلك؟
– ليس أنا الذي يراه وحدي.
– فمن أيضًا؟
– كثيرون منا.
– كثيرون؟
– كثيرون.
– فما الذي يجعلنا ننتظر؟
– حتى يصبح الرأي رأي الجميع.
وقال محمود: كيف الحال يا إنعام؟
– نحمده يا أبو حنفي.
– يا ترى فكرت فيما قلته لك؟
– لا، أنا لا أفكر فيه أبدًا.
– لماذا؟ أنا أحبك يا إنعام.
– ورشدي كان يحبني.
– ولكنني شيء آخر.
– لماذا يظن كل إنسان أنه شيء آخر؟
– أُحس بذلك.
– ولماذا تُحس بذلك؟
– أُحس أنك تحبينني.
– ما الذي جعلك تُحس بهذا؟
– أشعر بهذا.
– أعرفت كيف ألقى غيرك حتى تُقارن؟
– لا تُذكِّريني بالآخرين.
– أنسيتهم؟
– أحب أن أنساهم.
– إذا تزوجنا فستنسى كل شيء، ولا تذكر إلا الآخرين.
– أبدًا.
– يتهيأ لك.
– جربي.
– لا أجرب أبدًا.
– جربي.
– اسمع يا محمود، أنت أول واحد يعرض عليَّ هذا العرض، ولهذا فأنا لا أريد أن أغشك.
– لا شأن لكِ، اقبلي ولا شأن لكِ.
– أخاف من نفسي يا محمود.
– اقبلي ولا شأن لكِ.
– سأفكر.
– هذا كل ما أرجوه، فكِّري.
– لا أضمن نفسي.
– فكِّري، واعلمي أني أحبكِ، وفكِّري.
– ما الذي تريده بالزواج مني؟
– ألا تعرفين؟
– الحقيقة، لا.
– أريدكِ لي وحدي.
– وكيف تعرف أني سأكون لك وحدك؟
– لا تقولي هذا.
– أنت تخاف من مجرد الفكرة، فكيف إذا تزوجنا وفكرت فيما كان أو عيَّرك واحد من القرية؟
– لا نُقيم هنا.
– أيمحو هذا الماضي؟
– يمحوه.
– سنحمله معنا أينما ذهبنا، إنه في داخلنا يا محمود، لا نستطيع أن نتركه في أي مكان.
– نقتل هذا الماضي.
– إنه لا يموت، حتى إذا متنا نحن فإنه لا يموت.
– ألم تقولي إنك ستفكرين؟
– ألست أفكر الآن؟
– فكِّري وحدك.
– إذا كانت هذه هي أفكاري وأنت معي، فكيف إذا تركتني لها وحدي؟
– ألا أمل إذن؟
– لا أدري.
– أنا قادم غدًا، وكفاني «لا أدري» هذه أملًا أنام به ليلتي، هل آتي في غدي؟
– أنت تعرف أن باب بيتي لا يُقفل.
– لا تقولي هذا.
– لا تخف أنتَ من الحقيقة.
– لا تقوليها.
– لا يُغيِّر قولها شيئًا.
– فقط لا تقوليها، أنا ذاهب وقادم في غد.
– أهلًا بك.
وخرج وانفجرت في فضاء القرية طلقة نارية وأعقبها صمت.
خرج الشيخ إبراهيم من بيته وكلما لقي أحدًا قال له: قولوا له الزواج باطل، مهما يقتل ابني فالزواج باطل.
وما يسمعه أحد إلا أشاح عنه في خوف مذعور وأسى عميق، ولقيه عبد الغني حسون فأمسك به: قل له الزواج باطل، قتل ابني لا يصحح العقد، العقد باطل، باطل، قل له قله، لمن يبلغه.
– يا عم الشيخ إبراهيم أنا لن أقول شيئًا، لن أقول شيئًا.
– لقد عشتَ طول عمرك تقول، لماذا لا تريد أن تقول هذا، إنها كلمة حق، ألا تقول حقًّا؟
– يا عم الشيخ إبراهيم، أما كفاك ما جرى؟
– ما شأن هذا بحق الله؟
– يا عم الشيخ إبراهيم لماذا تعرِّض نفسك لهذا جميعه؟
– الزواج باطل.
– ولكنك وحدك تعرض نفسك لهذا الدمار.
– حق الله أحب إليَّ من حياة ولدي.
– كفاك يا عم الشيخ إبراهيم، كفاك.
– إذن فلن تقول له؟
– لن أقول شيئًا.
– ولن تجعلني ألقى من يقول له؟
– ولن أفعل هذا أيضًا.
– إذن فسأقول أنا.
ومضى الشيخ إبراهيم إلى دكان عبد الملاك فاشترى إصبعًا من الطباشير ومضى إلى حائط الجامع البني اللون الأملس وكتب عليه في حروف ظاهرة قوية «زواج عتريس من فؤادة باطل، باطل».
وتجمَّع حوله وهو يكتب بعض نفر أخذ عددهم يزداد وراحت الوجمة الآخذة تتجمد على وجوههم.
وحين فرغ من الكتابة وقَّع باسمه إبراهيم علَّام، ومضى يهيئ ولده ليشيعه لمثواه الأخير، ولكن الباحة التي أمام الجامع ما لبثت أن امتلأت بالناس وكانوا صامتين، ولم يبرحوا الباحة إلا حين مرت جنازة محمود، ووجدوا أنفسهم يسيرون فيها دون وعي.
حين علم عتريس بما كتبه الشيخ إبراهيم دخل إلى حجرة فؤادة ثائرًا: أليس لها آخر؟
وقبل أن تجيب أهوى على رأسها بعصاه الغليظة فانهارت فؤادة وهي تقول: ولكني لا أموت.
وارتمت أمها بجانبها تنادي اسمها في ثورة، وهمَّ عتريس أن يبرح الغرفة، ولكنه وجد الطريق مسدودًا أمامه، كانت عيون الرجال تُغلقه فلا سبيل له، ونظر لهم مذهولًا أول الأمر، ثم حين تبين ما في عيونهم ما لبث أن غشيته غاشية من الخوف المذعور الراجف، ولم يقل شيئًا، ولكن أحد الرجال قال في حزم: فؤادة تذهب إلى بيت أبيها.
واستجمع عتريس أشلاء نفسه ليقول: أتجرؤ؟
ولكن الصوت عاد يقول له في حزم ثابت هادئ: فؤادة تذهب إلى بيت أبيها.
– سأقتلكم جميعًا.
وجاءه الصوت مرة أخرى: إننا نحن الذين نقتل، فؤادة تذهب إلى بيت أبيها.
وحملت فاطمة فؤادة بين ذراعيها وانفسح الطريق أمامها وخرجت ونكس عتريس رأسه في استسلام وحين رفع بصره لينظر الطريق الذي سارت فيه فاطمة بفؤادة وجد الطريق وقد أغلقته العيون مرة أخرى.