الفصل الثالث
كل ما يحيط بها آمن، هي واثقة من الزمن، واثقة من نفسها، لا تعبأ بشيء، تفعل ما تراه خليقًا أن يُفعل، لا يهمها رأي أحد ما دامت هي مطمئنة إلى رأيها، أحبت فلم تخف من الحب، وقد مشى الحب إلى قلبها منذ عرفت قلبها، فقد تعرفت على قلبها أول ما تعرفت وفيه هواه، منذ هي طفلة وقلبها طفل وشبا وشبَّ الحب معهما، لم يعنها أن تحب البك ابن البك ابن الباشا، وإنما أحبت في صراحة مع نفسها، وفي اطمئنان ودون خوف.
فالحب عندها نبضات قلب، وما كانت تتصور أن قلبًا يعيش دون نبضات، لم تعلن حبها إلى أحد؛ لأنها لم ترَ داعيًا إلى إعلانه، ولم تهمس إلى طلعت وإنما كانت تعرف أنه يحبها، وأنه يعرف حبها له، فقد همس لها يومًا: أتحبينني قدر ما أحبك؟
وابتسمت له ابتسامة تعرف هي ما حملته من معانٍ ثم لم تزد شيئًا.
واستمر حبها بعد ذلك على أساس من هذا السؤال الطيب وهذه الابتسامة المحملة بالمعاني، وقد كانت واثقة من نتائج حبها ثقتها أن اسمها فؤادة، وأن اسم حبيبها طلعت، وثقة أخرى كانت مستقرة في قلبها، كانت تعتبر الحب هو الزواج الحقيقي وأن ورقة المأذون إنما جُعلت لإعلان هذا الحب.
كانت كلما سمعت عن زواج في القرية سألت العروس: أتحبينه؟
فإن إجابتها: نعم.
قالت: إذن فهو زواج.
وإن قالت لها: أمر أبي.
أو: أمر أمي.
سكتت فؤادة بلسانها، وقال قلبها لم يتم زواج، إنها وجدت معنى الحب هذا العميق ضاربًا في الأعماق البعيدة في نفسها، فكأنما وُلدت ومعها هذا المعنى، ويا طالما سمعت أمها تُعيد هذا الكلام، فما كانت تحب من أمها حديثًا مثل هذا الحديث، بل كانت تُدهش إن وجدت رأيًا لا يتفق ورأيها هذا، كان الحب عندها هو أنغام الحياة جميعًا فإن سمعت موسيقى فهي رسول من وادي الحب الظليل، وإن قرأت شِعرًا فمنبته في رأيها أفناء الحب الوارفة، وإن رأت يدًا كريمة تمتد لفقير بائس أو محتاج في ضنك، فاليد ممتدة أولًا وقبل كل شيء من منابع الحب الصافية الخالدة في أعماق الإنسانية، الحب هو الجمال في الحياة، هو كل معنى كريم في صلات الناس، وحين يتلاشى الحب أو يهن بين القلوب فالحياة إلى شر وعذاب وألم، فالجريمة لم تُصبح جريمة إلا لأن صاحبها لم يدرِ ما الحب، فلو درى الحب ما أجرم، والشرور كلها تنضح عن آنية البغضاء أو الحقد أو الطمع خلت من الحب، والحب هو كل حياة جميلة في الحياة.
هائمة فؤادة في معاني الحب وفي ألوانه، تحب الحب بكل نأمة من كيانها، وكل نبضة من قلبها وكل مسرى في دمائها وكل عرق من أعراقها، تمثل لها الحب جميعًا في كل صلة من صلاتها، فهي تُحب أمها وتُعجب بها أحيانًا ولا تُعجب بها أحيانًا أخرى، ولكنها تُحبها، وهي تُحب أباها وتُعجب به أحيانًا حين يحنو عليها ويعطف على أمها، ولكنها لا تُعجب به حين يخاف من عتريس ومن عبد الصادق، ثم تظل مع ذلك تُحب أباها، وهي تحب الله ولا تناقش من شئونه شيئًا وإنما هي تُحبه ولا تُحاول أن تُعلل هذا الحب أو تتعمق أسبابه أو منابعه، هي تُحبه وكفى وتخشى أن تُوجِد لحبها أسبابًا حتى لا يهن هذا الحب ولا يضعف، ثم هي تحب الناس أجمعين، لها في لقائهم ابتسامة لا يشعر بها الناس ولكنهم يجدون أنفسهم تميل إليها دون أن يحللوا أسباب هذا الميل، كانت فؤادة قديرة على أن تُرسل إلى نفوسهم إشعاعات خفيفة من الحب الذي يحمله لهم فيجدون أنفسهم يميلون إلى فؤادة، لا يدرون إن كانت هذه الإشعاعات مرسلة إليهم عن طريق هذه الابتسامة التي تنبعث على شفتي فؤادة ويبين فيها أنها متصلة الجذور بالأعماق البعيدة من نفسها وليست ابتسامة على السطح مبتوتة الأصول لا تعبر عن أعماق القلب، لا يدرون، أكانوا يميلون إلى فؤادة لأنها كانت تستمع إلى شكواهم بكل نفسها؟ وتندمج في مشاكلهم، فكأنها مشكلتها، يكادون يرون نبضات قلبها تنبض بمخاوفهم وآلامهم وآمالهم، لا يدرون أكانوا يميلون إلى فؤادة لهذا أم لأنهم لا يجدون داعيًا ألا يميلوا إليها، كان كل فرد فيهم يعلم أنها تحمل مشكلته ومشاكل الآخرين في أعماق قلبها، فلم تذِع يومًا سرًّا لأحد منهم، وكانوا يحسون أن مجرد رواية ما يعرض لهم من هموم على فؤادة هو في ذاته بداية التخفيف من هذه العموم، أولئك الذين كان يُؤذيهم عتريس كانوا يشكون لها وكانوا يرون وجهها يفيض بالحزن والألم والأسى، وكان يكفيهم أن يروا هذا في وجهها حتى يُحسوا أنهم ليسوا وحدهم في الحياة، وكانت فؤادة تزداد في كل يوم بُغضًا لعتريس؛ فهي كما تعرف الحب الشديد الصافي للحياة وأبناء الحياة تعرف البغض الشديد لأعداء الحياة وأبناء الحياة.
كان الرجال أكثر الشاكين إلى فؤادة من إجرام عتريس وكان قلب فؤادة ينصدع لشكوى الرجال وكانوا يُحسون بمشاعرها، كانت خلجات فؤادة جميعها تظهر على وجهها، فكان من يكلمها يُحس أنه يخاطب قلبها مباشرة لا أذنيها ولا وجهها، وكان يُحس أنه يتلقى حديثها من قلبها لا من لسانها، فكان صدى حديثها فريدًا في نفوسهم لا يشبهه حديث أحد من الناس الذين يعرفون.
ولكن هناك واحدًا في القرية لا يترك فرصة يراها فيها إلا حادثها حديثًا ليس فيه شكوى، وإنما هو حديث من نوع غريب فيه إخلاص وفيه تقدير، كان ذلك هو الشيخ إبراهيم علام، وهو رجل يملك في القرية فدانين يزرعهما هو وولداه محمود وطه يعيشون من محصولهما، وكان كلما التقى بفؤادة أحب أن يُحادثها وكانت هي أيضًا تحب أن تحادثه حديثًا عابرًا ولكنه كان حبيبًا إلى كل منهما.
كانت فؤادة في ذلك اليوم في طريقها إلى الست تفيدة، وكان الطريق خاليًا بها حين نبت الشيخ إبراهيم من ثنية في الطريق فوقفت فؤادة وقال الشيخ إبراهيم: صباح الخير يا ست فؤادة.
– صباح الخير يا عم الشيخ إبراهيم.
– الله معك.
– إنه معي.
– لأنك معه، أنت تُحبين الله يا فؤادة وهو يحبك.
– ويحبك أنت أيضًا يا شيخ إبراهيم.
– موفَّقة دائمًا إن شاء الله.
– شكرًا يا عم الشيخ إبراهيم، ادعُ لي.
– أدعو لك دائمًا.
– أفوتك بعافية.
– مع السلامة.
وانصرفت فؤادة إلى بيت الست تفيدة واتخذ الشيخ إبراهيم طريقه إلى غيطه.