الفصل الرابع
حين ترك الشيخ إبراهيم فؤادة لم يمشِ كثيرًا وحده، فما أسرع ما رافق طريقه عبد الغنى حسون لسان القرية المنتشر ينقل أخبارها ويكسب عيشه من نقل هذه الأخبار، فهي وسيلته أن يُحادث الناس، ولن يعدم الناس لقمة يقدمونها له أو نصف قرش يبرونه به وهو بهذا قانع، وهو يحب عمله ويُخلص له كل الإخلاص، ويتتبع الأنباء من مصادرها وينقلها إلى كل من يلقاه، فما هي إلا دورة منه أو دورتان حتى يصبح الخبر ملء القرية جميعها.
وقد كان عبد الغني حين التقى بالشيخ إبراهيم محملًا بالأخبار ولم يكن قد التقى بأحد بعد، فراح يلقي أخباره في دقة، وقد كان قادرًا وهو يلقي أخباره أن يسوقها فيما يشبه الحديث العادي بين الأصدقاء، وكان الشيخ إبراهيم لا يعلق على أخباره بغير جملتين يختار الواحدة منهما حسب ما يقتضيه الخبر فهو إما أن يقول: «الحمد لله» أو يقول: «أعوذ بالله» ولا يزيد.
وقد كانت الأخبار في ذلك اليوم مليئة باسم عتريس، فهو قد سرق بهائم عبد العال التش ويطلب لها حُلوانًا مائة جنيه، وهو أيضًا أغرق أرض حسنين أبو شوشة؛ لأنه كان قد ذكره بسوء في فرح أبو ديب، وهكذا لم يستعمل الشيخ إبراهيم عبارة الحمد لله إلا مرة واحدة في هذا الحديث الطويل حين أخبره عبد الغني أن عبد الباقي عمارة قد أنجب ولدًا بعد أن انتظر هذا الإنجاب مدة ثلاث سنوات.
اقترب الشيخ إبراهيم من غيطه ومعه عبد الغني حسون وبلغت آذانهما أصوات ضجيج وتصايح، فحثا الخُطا، وعند الغيط رأى الشيخ إبراهيم ولديه محمودًا وطه ومعهما جاره علي يُهدد، وقد راح ثلاثتهم يتبادلون الوعيد؛ فعلي يهدر بقول: والله أكسر رجل من يقترب من الماء.
ويصيح محمود: أنت تكسر رجل من يقترب، والله مصائب، يا أخي عيب، والله إنك لا تتحمل مني خبطة.
ويصيح علي: خبطة في رأسك ورأس من خلفوك.
ويقول الشيخ إبراهيم ولم يكن الجمع الثائر قد رآه بعد: وما ذنب من خلَّفوه يا عم علي؟!
ويصيح علي في ثورة: نعم أنت الآخر، ماذا تريد؟
– خيرًا يا بني خيرًا إن شاء الله.
– شغل الطيبة هذا لا ينطلي عليَّ.
وصاح طه: يا ولد اصح شُف مَن تُكلم.
ويقول علي: يا سيدي طظ فيك وفيمن أكلم.
ويقول الشيخ إبراهيم: كتر خيرك يا ابني.
ويهاجم طه عليًّا يريد أن يضربه ويلحق به محمود، ويقول الشيخ إبراهيم في حزم وهدوء: ارجع يا طه، ارجع يا محمود.
ويقف الشابان ويقول طه في ضيق: آبا …
ويقاطع أبوه: ولا كلمة، ماذا حصل يا سي علي؟
ويقول علي: آه، آه يا حبيبي، كُل عقلي أنت، يا سي علي قال، قال يا سي علي!
– يا بني ماذا حصل؟
– لا أدري.
ويقول محمود: يُريد أن يروي غيطه قبل أن نروي نحن.
ويقول الشيخ إبراهيم: ولكن الماء يمر بنا أولًا، وقد ظللنا العمر كله نروي قبلكم حتى أيام المرحوم أبيك كنا …
ويقاطعه علي: لا شأن لي بأبي.
ويحاول عبد الغني أن يقول: لا حق لك يا علي.
ويزجره علي في عنف: اسكت أنت يا ضائع، ما شأنك أنت؟
ويقول الشيخ إبراهيم: أنت ترى أنك على حق يا علي؟
– نعم، على حق وعلى حق، ومن لا يُعجبه يشرب من البحر.
– لا يا بني لا بحر ولا ترعة، اروِ أرضك، هيا يا محمود هيا يا طه.
ويقف الشابان ويقول محمود: يا آبا أقسم بالله إنه لا يتحمل خبطة، ألا ترى يا أبي هزاله؟ لماذا نخاف منه يا أبي؟
ويقول الشيخ إبراهيم: أنا لا أخاف المخلوق أبدًا.
– وهل يرضى الله بهذا؟
– لا تُطل الجدال، الجار أغلى من الأرض، هيا.
ويقول طه: يا آبا هذا …
ويقول الشيخ إبراهيم في حزم: ولا كلمة، هيا معي إلى البيت.
ويمشي ثلاثتهم ومعهم عبد الغني الذي ما يلبث أن يقول في صوت خافت: لماذا لم تتركهما يؤدبانه يا عم الشيخ إبراهيم؟
– المؤدب ربنا يا عبد الغني، المؤدب ربنا.
ويذهب الجميع إلى بيت الشيخ إبراهيم ويقول عبد الغني في نغمة متخاذلة: أستأذن أنا يا عم الشيخ إبراهيم.
ويقول الشيخ إبراهيم: بل نفطر معًا. هات لنا لقمة يا طه.
ويدخل طه إلى البيت، ويقول عبد الغني: ألم يبقَ إلا علي بهدر حتى يتطاول عليك؟!
ويقول الشيخ إبراهيم: دع علي بهدر في حاله، قل أنت بماذا سمَّى عبد الباقي ابنه؟ ويفهم عبد الغني أن الشيخ لا يريد أن يسمع ذمًّا في علي بهدر فيدير الحديث إلى حيث يريد الشيخ ويقول: سماه عمارة على اسم أبيه.
– ونعم ما فعل.
ويروح عبد الغني يلقي أخبارًا أخرى عن القرية والشيخ يسمع، ويأتي الطعام فيفرُّ له عبد الغني بجميعه وما يلبث أن يأتي إليهم في مجلسهم عبد الباقي عمارة ويستقبله الشيخ مُرحبًا: أهلًا عبد الباقي، كنت قادمًا إليك لأهنئك.
– أطال الله عمرك يا عم الشيخ إبراهيم، قل لي: أين محمود وطه؟
– هنا، أتريدهما في شيء؟
– لا، لا شيء، ولكن رأيت المياه في الغيط ولما أرهما فحسبت أن شيئًا عاقهما عن ري الأرض.
– المياه في غيطي أنا؟
– نعم.
– هل رأيتها بعينيك؟
– نعم الآن، كنت عند الغيط الآن وجئت إلى هنا مباشرةً لأطمئن عليهما.
ويخرج طه ومحمود مسرعين، ويقول محمود: هل أنت متأكد يا عبد الباقي؟
– أقول لك كنت في الغيط الآن.
ويقول طه: هل رأيتها بعينك؟
– وهل كنت سأراها بأذني؟ طبعًا بعيني!
ويلفت طه إلى أبيه: أريت يا أبي؟
ويقول الشيخ إبراهيم: انتظر حتى نرى.
ويقول طه: وهل بقى فيها انتظار؟ علي أغرق الأرض.
– قلت لك انتظر حتى نرى.
ويلتفت طه إلى محمود: احضر فأسك وفأسي من الدار يا محمود، هلم بنا.
ويقول الشيخ إبراهيم: قلت لك انتظر حتى نرى.
ويقول طه: نأخذ الفئوس معنا.
ويقول الشيخ إبراهيم: بل نذهب بغير فئوس.
ويقول طه: يا آبا …
وقبل أن يُكمل يقاطعه الشيخ إبراهيم قائلًا: لا تُطل وهلمَّ بنا.
ويقصدون جميعًا إلى الغيط ومعهم عبد الغني وعبد الباقي عمارة وحين يقتربون من الغيط يجدون الماء فيه فعلًا، ولكنه ماء من يريد أن يروي لا من يريد أن يغرق، وما لبثوا أن تأكدوا أن الماء يجري في غيطهم تجريه يد صانع تحنو على الأرض، وتعطيها من الماء ما يكفيها دون زيادة أو نقصان، ووجدوا علي يقوم بري الغيط في هدوء وسعادة، وينظر خمستهم بعضهم إلى بعض ويبتسم الشيخ إبراهيم ولا يقول شيئًا لهم وإنما ينادي من أقصى الغيط: ماذا يا علي؟
ويأتي علي مسرعًا ويمسك بيد الشيخ إبراهيم: سامحني يا عم الشيخ إبراهيم.
– لا عليك يا بني.
– خجلت منك بعد أن انصرفت فرحت أروي الغيط وحدي لعلي أرضيك وأرضي نفسي.
ويلتفت الشيخ إبراهيم إلى ولديه: انزل يا محمود أنت وطه مع أخيكما وارويا معه أرضنا حتى إذا فرغتم فارويا معه أرضه.
ويتقدم الأخوان من علي وما يلبثان أن يعانقاه ثم يأخذ ثلاثتهم سمتهم إلى جدول الماء.
وينصرف الشيخ إبراهيم وفي رفقته عبد الغني وعبد الباقي صامتين.