الفصل الخامس
إنعام، وجه مستدير وعينان واسعتان تنظران إلى الدنيا في جرأة وبغير اهتمام، وأنف كبير بعض الشيء وشعر أسود فاحم غزير ينسكب من المنديل حتى ليغطي رقبتها الطويلة، وهي ذات قوام فارع يميل إلى النحافة، تركها أبوها عبد العليم وهي بعدُ طفلة، ولم تكن أمها ذات جمال، ولا هي ذات مال، فراحت تعمل في القرية طولًا وعرضًا تجمع ما يقيم أودها وأود ابنتها فلا تكاد، ونشأت الفتاة وحيدة، واستقبلت الحياة أول ما استقبلتها وقد أدركت أن ليس لها في هذه الحياة إلا نفسها فاعتمدت على نفسها هذه كل الاعتماد، وحين شبت عن الطوق ضربت في غمار العمل، وتعلمت، تعلمت كل شيء عن الرجال، فقد أدركت أنهم هم الذين يسيِّرون هذه الحياة وفق ما تشتهي آراؤهم وعقولهم فلم تجد أي فائدة أن تُرضي النسوة، بل وجدت الفائدة كل الفائدة أن يرضى عنها الرجال، ووافق العلم الموهبة فإنها حين بلغت الثالثة عشرة عرفت كيف تبدو جميلة، وعرفت كيف تُحسن الابتسامة، وكيف تُتقن الضحكة بل كيف تُجمل التجهم، إذا أرادت التجهم، على قطعة من مرآة كسورة في زاوية من زوايا بيتها، كانت إنعام تقوم بالتمرين اليومي وكانت تُطبق ما تفعله في البروفة بينها وبين مرآتها على مسرح الحياة الكبير، فما إن بلغت السادسة عشرة حتى كانت حديث الشباب في القرية جميعًا.
لم تكن أجمل فتيات القرية، ولكنها كانت أقدر الفتيات فيها على إرضاء رجال القرية جميعًا، فللشيخ المسن عندها ابتسامة تعيد إلى نفسه ما انقضى من شبابها، وللشباب المغرور ضحكة تؤكد ثقته بنفسه وللجميع، لها مشية تلتقط الأنظار التقاطًا فتجعلها تتبعها إن هي أدبرت أو تستقبلها إذا هي أقبلت.
وحين بلغت السابعة عشرة كان رشدي عبده قد ورث عن أبيه عشرة أفدنة وجسمًا ناحلًا، وتقدم رشدي للزواج منها ووجدت فيه آمالها التي نسجتها وهي تطالع المرآة الكسيرة، وسارعت تقبل الزواج.
وأقبل رشدي على الزواج إقبالة لهفان مشوق، وفي يوم الزفاف جلس إلى رفقة طالعوه بحديث اضطرب له بعض الحين.
– ماذا أنت فاعل الليلة يا أبا الرشد؟
– ما فعله آباؤنا وأجدادنا.
– ولكن البنت في صحة تأكل الحديد وأنت …
– وأنا ماذا بي؟ لا يغرك ما تراه من نحولي.
– لا يا بني هذا الكلام لا ينفع؛ لا بد مما ليس منه بُد.
– وما هذا الذي ليس منه بُد؟
– قرش أو قرشان.
– بسيطة.
– يتهيأ لك.
– ماذا تقصد؟
– أعطني خمسين قرشًا.
– ألم تقل قرشًا أو قرشين؟
وتعالى الضحك من الرفاق وأدرك رشدي ما يقصدون فقال: آه تقصد اﻟ…
– آه أقصد اﻟ…
– لا يا شيخ.
– بل نعم يا شيخ.
– أنا لم أذقه في حياتي.
– فأنت بين اثنتين، إما أن تذوقه أو لا حياة لك على الإطلاق.
– صحيح.
– جرب.
هاك الخمسين قرشًا.
وحين جرَّب رشدي وجد نفسه يهيم في ملكوت من الأحلام والرؤى، فهو الذي يرى نفسه ضئيلًا كالوهم، نحيلًا كالخيال، أصبح في رأي نفسه أسدًا هصورًا مزدحمًا بالشجاعة، فما عتريس حينئذٍ أمامه إلا فأر صغير هزيل وما أعماله إلا لعب أطفال لا قيمة لها، أين منه عتريس حين يخلو به مخدره؟ وتزوج رشدي وأصبح منذ هذه الليلة وهو لا يفيق، وكان يطيب له أن يدعو رفاقه إلى جلسة المخدر، وكان يُخيل إليه أنه يُرضي بالمخدر زوجته الإرضاء الذي لا مثيل له، وعلى هذه العقيدة كان يُبيح لنفسه أن يتأخر في جلسته إلى الهزيع الأخير من الليل.
وسرعان ما استقرت العادة عند إنعام، فأصبحت على ثقة في كل ليلة أن زوجها لن يعود إلا قُبيل بزوغ الفجر، فهي في خلوة مطمئنة، وهي من نفسها وضميرها في بحبوحة وهي من جمالها وجاذبيتها في غنى وافر، وطالما تزاحمت حواليها قبل الزواج الآمال الملتهبة والأيدي الممتدة والمطامع الفائزة وكانت هي بضحكة لا تُخطئ الفريسة تعد ولا تُعطي وتفسح للآمال أبوابها ولا تدع أحدًا يلج من هذه الأبواب من الآمال إلى وادي الحقيقة الظليل الوارف، فالشباب الهائم بها على موعد منها دائم لا يعرفون مكانه ولا يعرفون موقته، وحين تزوجت وطالت بها أيام الزواج، وطال بزوجها السهر وانقض عليه المخدر وأنشب فيه أظافر تمتص البقية الباقية من صحة عليلة وشباب ضامر، نظرت إنعام إلى شبابها فوجدته يتسرب في رمال الحياة، فلا يزهر حيثما يتسرب نبتًا، ونظرت إلى حياتها فوجدتها قاحلة بلا مال، ومن أين لها المال وزوجها قد أولع بالمخدر ولعًا أخذ عليه مسالك تفكيره جميعًا؟ لما رأت إنعام هذا أصبحت مواعيدها للشباب معينة المكان والموقت، ولم يكن المكان إلا بيتها، ولم يكن الموقت إلا حين يغيب زوجها عن المنزل في محاولته أن يغيب عن الوعي جميعًا، وأرادت إنعام أن تكسب من صلاتها بشباب القرية شيئين وقد كسبتهما معًا. كانت تريد أن تروي جسمها الذي أجدبه هزال زوجها، وكانت تريد أن تكسب مالًا، فهي من خوف الفقر الذي عرفته في قلق دائم لا يستقر بها على حال.
وتسامع شباب القرية بهذه التجارة الجديدة التي افتتحتها إنعام في بيت زوجها رشدي، والمورد العذب كثير الزحام، فكانت تُعطي الموعد للشاب من هؤلاء وهي في صحبة شاب آخر لم يُبارح منزلها بعد، ولم يبقَ في القرية من لم يعرف أمر هذه التجارة إلا رشدي، وقد كان رفاق جلسته أنفسهم يتركون جلسته ويقصدون فرادى إلى بيته ثم يعودون إلى جلسته وهو ما يزال يضحك سعيدًا أنه ابن كِيف وأنه رجل وأنه قوي وأنه أسد.
وفي يوم توعك مزاج رشدي، ولم يحس النشوة التي ألف أن يحسها فقام من المجلس يريد أن يذهب إلى بيته، وكان معه رفيقان له حاولا أن يستمهلاه فلم يتمهل فأسرع أحدهما خفية يريد أن يسبقه فلم يجبه أحد فاطمأن وانصرف، وجاء الصديق الآخر مرافقًا لرشدي في الطريق يريد هو الآخر أن يطمئن أن رشدي لن يرى ما لا ينبغي له أن يرى، وبلغ رشدي البيت ولم يطرقه، وإنما أولج المفتاح في الباب ودخل، الظلام دامس، ولكن نورًا خافتًا ينبعث من حجرة النوم، سلم على صديقه وأغلق الباب وقصد إلى غرفة النوم وفتحها وتسمر بالباب، أغمض عينيه ثم فتحهما، تغير المشهد ولكن ليؤكد الحقيقة التي رآها، إنها حق لن يُغني معه إغلاق العين، تزوجها من الطريق العام وجعل لها بيتًا، وصانها عن العمل وباع أرضه ليشرب لها الحشيش، ثم ها هي ذي أمام عينيه، أحبها، أحبها بكل دفقة دماء في عروقه، بكل آمال الشباب وعنفوانه ولم تُنجب له ذكرًا ولا أنثى، وها هي ذي أمامه، صرخ، صرخ بلا حديث، وصرخ، وصرخ، وانفتل الذي كان معها قافزًا وفتح الباب الخارجي وخرج إلى الطريق وامَّحى في الظلمة ولم يبقَ من الحادثة إلا صراخ رشدي وذهول إنعام، وتجمع الجيران ولم يسأل واحد منهم ماذا حدث فقد كانوا جميعًا يُدركون ما حدث، ولن يُجيبهم أحد إن هم سألوا فالزوجة ذاهلة والزوج يصرخ، آه عالية عريضة مرتفعة كصوت حيوان يُعذَّب حيًّا فوق النيران فلا النيران تأكله، ولا هي عنه قصية، آه معذبة والهة حرَّى طويلة تنطلق من الأعماق وتجوب الجسم كله قبل أن تنفجر من فمه فتخرج كدفاع من الماء يخرج من عين ضيقة لا تتسع للسيل، طويلة هذه الآهة عريضة عرض العذاب الذي يحسه والمهانة التي يصطليها.
ونظرت الأعين إلى الزوجة وهي تتهرب من نظراتهم بنظرات واجفة تثبتها على زوجها، وكثر الصراخ وكثر وارتعد الجسم النحيل ثم ارتمى منتفضًا، وسقط رأسه على الأرض وقد علا له ضجيج يشبه صراخه الذي كان يصرخه، وانطلق الصمت بعد الضجيج وألقى الناس عليه نظرة، ولعل فكرة راودت بعضهم كيف كان هذا الصراخ جميعه ينطلق عن هذا الجسم الضئيل؟ كيف اتسع هذا الجسم لهذا الألم؟ فكرة خطرت، ولحظة من صمت هوَّمت عليها الحيرة، ثم ارتفع اللغط وتقدم بعضهم منه، وطلب بعضهم ماء وبسمل بعض وحوقل آخرون والجسم على الأرض ينتفض وتتقلص أطرافه وتتشنج وغاب رشدي عن الحياة، وانسكب عليه الماء فلم يُجْدِ الماء، وإنعام تشهد ولا تدري ما تفعل، الجميع يعرفون ما جرى، على ثقة مما يعرفون، ولكن لن يستطيع أحد أن يشير إليها بهذا الاتهام، فما رأوا رأي العين إلا زوجًا يعتريه الصرع، وزوجة واجفة مما ترى عليه زوجها.
ولم يسأل أحد ماذا، ولكن إنعام أرادت أن تقول شيئًا وقالت: دخل وأنا نائمة أحسست به وقمت أفتح باب الحجرة، ولكنه لم يدخل، وإنما وقف يصرخ حتى جئتم، عين وأصابتنا، ولم يسمع أحد ما تقول، ولكنها ظلت تقول لا يعنيها أن يسمع أحد أو لا يسمع، وإنما هي تقول، وانقضى بعض الحين، وفتح رشدي عينيه، وتهافت إليه المجتمعون، ماذا حصل؟ عينان تدوران في الناس لا تعيان من أمر الناس شيئًا، ووضع يده على رأسه حيث اصطدمت بالأرض، ثم رفع يده ولم ينظر إليها وتعالى الضجيج من الناس ورشدي صامت، وحملوه إلى سريره، وانتفض مرة أخرى وهم يقتربون به إلى الفراش، ولكنه استسلم إلى السرير، وتخافت الضجيج وبدأ الناس يعودون إلى بيوتهم صامتين، وأُغلقت الأبواب على أصحابها وأغلقت إنعام باب بيتها وشمل الظلام القرية جميعًا.
بعد أيام قليلة كان رشدي في طريقه إلى مستشفى الأمراض العقلية، وكانت إنعام عند الأستاذ عليوة تطلب الطلاق، وقبِل عليوة القضية في طبيعة مواتية، فالأمور في ظاهرها طبيعية، الزوجة في عنفوان الشباب والزوج في سراي العباسية والقانون يبيح لها طلب الطلاق، وما هو إلا قليل من الحين حتى كانت إنعام مطلقة تمارس تجارتها بلا خوف ولا حذر، والمورد العذب كثير الزحام.