الفصل السادس
الآمال الباسمة، والأحلام الوردية، والرؤى والجمال، وأيام الشباب المزهرة بالخيال، الرحيبة بالثقة، المفسحة للمستقبل أبوابًا من الجنة وسبلًا من المجد وطرقًا من الرفاهية وخمائل من الهناء أيام كانت اللذة الحالمة أحلى من اللذة الماثلة، وكانت النظرة إلى الأيام المحجبة في ظلال المستقبل تُحيل الحاضر القاسي المرير فردوسًا أخضر الجوانب مُخضل النبت مزدهر المرأى بأنواع من الأزاهير ملتهبة الألوان، تسكب في القلب الدفء والسرور المفعم باليقين، والاطمئنان المُضمَّخ بأريج العزة والجاه.
هذه الآمال التي كنا نعلقها بالأيام القابلة من حياتنا، ونحن نعلم أن الأيام ستجعل من هذه الآمال حقيقة، علمنا بأن هذه الأيام قادمة مع المستقبل، حلوة هذه الأيام، ولم يكن فيها إلا هذه الأحلام، لكانت وحدها واحة الحياة نلجأ إلى ذكراها من الهجير الذي لقيتنا به الأزمان، هذه الأيام التي وثقنا بها فخانت، وألقينا إلى أيديها آمالنا، فإذا الآمال هشيم، وإذا الذي كان في يقيننا مستقبلًا مضمخًا بأريج العزة يصبح ماضيًا حقيرًا أقتر حسيرًا تلف حواشيه أتربة الريف المتصاعدة من مشي البهائم على الطريق.
أين ممدوح؟ كان إذا دخل الفصل أقف له، وكيف لا أفعل وأنا ذلك الشيء الذي سبح كالهوام من أعماق الريف؟ من هنا، من الدهاشنة، إلى القاهرة، أم الدنيا، أي دنيا تلك التي يقولون إن القاهرة أمها؟! دنيا حقيرة لا تزيد على الدهاشنة، مَن هؤلاء الذين يقولون إن القاهرة أم الدنيا؟ زحفت إليها كالهوام وأدخلوني إلى فصلي بكلية الحقوق، وأقبل بعد حين ممدوح، فتى سمهري القوام فارع الطول أبيض البشرة كأنما بشرته لم تلتقِ بالحياة، ناعم الشعر صقيله قد مشَّطه صاحبه في عناية فجعله يبدو مؤدبًا مطيعًا لا تند منه شعرة ولا تثور، إنما هي مع رفاقها تجعل من رأس الفتى الجميل تحفة فنية رائعة، لماذا تعطي الحياة فتغدق؟ ولماذا تمنع فتغلو في البخل؟ هذا الفتى الحلو لا يملك أحد أن يراه ولا يسأل مَن هذا، شخصية واضح أن الحياة تحبه وتهب له في بذخ، أليس هذا الجمال موهبة كموهوب في الفن أو موهوب في العلم؟ أليس الجمال موهبة؟ سألت من هذا؟ ونظر إليَّ التلميذ الذي كان بجانبي، شاب مثلي زحف أبوه من الريف وأنجب أبناءه في القاهرة، فلم يغير هذا منهم شيئًا، أصبحوا جميعًا قطعًا من الريف وإن وُلدت بالقاهرة، سألته من هذا؟ قال: ممدوح بن حمدي باشا صفوت وزير الزراعة، ولكن حمدي باشا صفوت فيما أعلم فلاح، نعم، هذا الفتى ابن فلاح؟! وقمت واقفًا، لم يكن الدرس قد ابتدأ وسألني جاري: لماذا تقف؟ ولم أجب عن سؤاله، أكل هذا الجمال وأبوه وزير أيضًا وباشا، إنها فعلًا تُعطي وتُغدق، كنت كلما دخل ممدوح الفصل أقوم واقفًا، لم نُصبح أصدقاء قط، ولكنه كان إذا لقيني خارج الكلية حيَّاني، أما في الكلية فقد كان يُشيح بوجهه كلما رآني أقف له، وفي يوم دخل فوقفت فقصد إليَّ ضاحكًا وحدثني عن الأستاذ لماذا تأخر؟ ومتى سيبدأ الدرس؟ وسألني إن كانت مذكراتي كاملة، ودعاني أن أذهب إلى بيته، بيت حمدي باشا صفوت، أنا، اعتذرت، كيف أدخل، بماذا أدخل؟ بحذائي هذا ذي الرقبة الطويلة والقفل الذي يشبه قفل صندوق الملابس عندنا في الدهاشنة، أم أدخل بشعري هذا القافز إلى الهواء أم بوجهي هذا الترابي اللون أم بحُلتي هذه التي تشبه في خطوطها الجلاليب، لا، ما لي أنا وهذا، ولكني فهمت لماذا كلمني، لم أقف بعد ذلك ولم يكملني هو من بعد، أين ممدوح الآن؟ أتراه يذكرني؟ ماذا يعرف عني؟ أنا أقرأ اسمه بين الحين والآخر في الجرائد، أما هو فماذا يعرف عني؟ كنت أحلم أن أصبح مثل حمدي باشا صفوت نفسه، ولماذا لا؟ هو فلاح وأنا فلاح، وهو خريج الحقوق وأنا خريج الحقوق، صحيح اسمه لا بأس به، له رنين فخم، واسمي له صوت كنعير الجاموسة: عليوة، جاموسة تنعر، ولكن متى كان الاسم حائلًا دون الوزارة؟ أو هو على الأقل لا يكون حائلًا دون الأحلام، أخبار ممدوح في الجرائد لا تُفيد شيئًا إلا أنه يعيش، أما أنا فهو لا يدري إن كنت أعيش أو لا أعيش، ولكني لا شك أحيا في ذاكرته، ذلك الشاب ذو الشعر القافز الأسمر اللون النحيل الجسم المخطط الملابس الذي كان يقف عند دخوله، لا يذكرني ولكنه لا يعرف عني شيئًا من بعد، ظننت أنني لن أقضي في الدهاشنة إلا بضعة أعوام، فإذا الأعوام تتطاول، ثم تتوقف عن المسير، وأظل أنا بالدهاشنة، تُرى لو خطبت ابنة رئيس النيابة أيرضى أن يزوجني ابنته؟ إنه يشبه حمدي باشا صفوت، يشبه صوره التي تنشر في الجرائد، والبنت تشبه ممدوح، أبينهما قرابة، لكم أحب بنت البك رئيس النيابة، سنتان الآن منذ رأيتها وهي تنتظر أباها في العربة على باب المحكمة، سنتان وأنا أفكر فيها، لماذا يرتبط تفكيري فيها دائمًا بممدوح؟ لا أدري؟ أتراني سأقف لها إذا تزوجتها؟ منذ رأيتها وأنا أعمل في جنون، قبلت كل القضايا، حتى قضية إنعام، وأصبحت أملك ثروة الآن، ألف وخمسمائة جنيه، أيرضى البك رئيس النيابة أن يزوجني ابنته إذا أنا طلبتها؟ ولم لا؟ إن كان مركزي الآن لا يعجبه فهو يستطيع أن يعينني في سلك القضاء؟ وأصبح مثله؟ لماذا لا أتقدم؟ أريد أن أكمل الألفين حتى أصبح مطمئنًا، هذا العتريس المجرم يُخيف الناس، لو أنهم كانوا يخافونه أقل مما يفعلون لحصلت على أتعاب كثيرة ممن يعدو عليهم، ولكنه يرعبهم كأنما يسحرهم، يفترسهم وهم صامتون حتى لا يقول الواحد منهم آه، ذُعر هذا العتريس، لو خفَّت قبضته بعض الشيء لأكملت الألفين، وما لي لا أفعل؟ أنا مصاريفي الشخصية لا تزيد على أجرة المواصلات من هنا إلى المحكمة، ومكتبي إيجاره بسيط، وأصبح لي والحمد لله اسم كبير، أو أصبح لي اسم على أية حال، لماذا لا يقبلني البك رئيس النيابة لابنته؟ لعله يريد لها فتى مثل ممدوح، ولكن الشكل لا يهم، لعلي الآن أفهم في المحاماة أكثر من ممدوح، ما هي الدعوى البوليصية، دعاوى كثيرة حفظناها ولم نستخدمها، لعل ممدوح يعرف الدعوى البوليصية، ولكن لا يعرف كيف يحجر على محصول أو كيف يكتب عقد بيع، إن عقود البيع هذه تفرج علينا فرجًا، باب رزق لا يقفل، أكمل الألفين وأتكلم، يكون عندي المهر والشبكة على الأقل، إذا تزوجت بنت رئيس النيابة، بنت رئيس النيابة، آمال الشباب التي أصبحت هشيمًا تتجسم مرة أخرى، ها أنا ذا أراها هناك على طريق المستقبل وردية كما كانت وردية، مضمخة بأريج المجد والعزة والرفاهية، أرى الأيام القابلة أزاهير من المنى ووديانًا من الأحلام وخمائل من رؤى الشباب الباكر.