الفصل السابع
عجيب أن تُكسر المرآة فتصبح على هذه الصورة، دائرة في الوسط تتشعب منها الشدوخ في اتجاهات شتى، فإذا هي مرايا شتى وإذا أنا فيها شتى صور وشتى آدميين، أعرفهم جميعًا ولا أعرف أحدًا منهم، أنا هم كلهم، ولست منهم أجمعين في شيء، هذا، هنا في هذا الجانب الأيمن البعيد، هذا عتريس الطفل، ها هو ذا يضحك في براءة ساذجة، ويحب أن يضحك ما استطاع إلى ذلك من سبيل، ويجلس إلى الشيخ في الدرس، ويحب أن يسمع القرآن ولا يحب أن يحفظه، صعب الحفظ، وهو بنفسه عتريس الذي كان يمر بمجامع القرية فيسخر ويضحك ويجري خائفًا، فلا يعدو الخوف على هذه الابتسامة الساذجة المنشرحة فتظل على شفتيه، لم تقضِ الأيام على عتريس هذا الذي يحب الضحك الساذج، ها هو ذا في المرآة اليمنى، هناك في الجانب البعيد، إني أعرفه ولا أكاد أعرفه، إنه أنا، وأين منه أنا؟ إلى جانبه ذلك الفتى الذي كان يخرج مع جده في سهرات الليل المحفوفة بالمخاطر، وكان يخاف ولكن جده ما زال به حتى أمات الخوف في نفسه، أصبح لا يخاف، ألا أخاف؟ لا يبدو مني الخوف، ولكن ألا أخاف؟ المهم ألَّا يبدو مني الخوف، وأصبحت أخرج على رأس الرجال ويظل جدي في البيت، وأصبحت ذلك العتريس، هل أنا كما يصفون؟ أنا هنا في هذه المرآة ماذا أبدو؟ هل أعرف هذا الذي يبدو لي أم أنا لا أعرفه؟ أمَّا هذا الذي يليه في الصورة فيُخيل إليَّ أني أعرفه، أو أنا أحب أن أعرفه، ذلك الشاب الذي يحب الصوت الجميل والشكل الجميل والمرح، ذلك الشاب الذي يولع بالجمال أينما يكن هذا الجمال، أحب الصوت الحلو الذي يتغنى به المغني كأنه صلة السماء بالأرض، وما لي بهذه السماء؟ هذا الشاب يحب السماء، ويحب فؤادة؛ لأن فؤادة هي الجمال، أشبه ما تكون بعروس أرسلتها الجنة إلى الأرض؛ لتُغري الناس أن يصلوا ويزكوا ويمتنعوا عن، عن ماذا؟ لا جنة لي في السماء، أكثير عليَّ أن تكون لي جنة في الأرض؟ هذا الفتى الذي يحب، أنا أحبه، أهو أنا؟ لكم أحب أن أكونه، أما ذلك الذي بجانبه، هنا في المرآة الوسطى، كبرى المرايا جميعًا، هذا الرجل أُوشك أن أكون على ثقة من معرفتي به، هذا الشارب الذي يحتفي به ولا يجعله كبيرًا يعدو على وجهه ولا صغيرًا يعدو على هيبته، وهاتان العينان الحمراوان العميقتان الجريئتان، وهذه الجبهة الواثقة، وهذا الفم القوي وهذا الذقن البارز وهذا الأنف الذي ينبعث إلى أمام كأنه سهم القدر، هذا الرجل في هذه المرآة هو أنا، أهو حقيقة؟ أنا، أفضل هذا الذي إلى جانبه من الناحية الأخرى، الذي يدمع إن سمع دعاءً طيبًا، ويرف قلبه إن رأى حمامة تدفُّ على زوجها، أو هذا الذي يليه الذي لا يزال يُقبِّل يد والده، من أنا في هؤلاء جميعًا؟ ومَن هؤلاء جميعًا؟ اجتمعوا وما اجتمعوا، وتنافروا وما ابتعد واحد منهم عن الآخر، أهي المرآة جمعتهم وفرقتهم؟ أم تراني أنا جمعتهم ونفرت كلًّا منهم عن الآخر؟ أم أن هناك قوة أقوى من المرآة ومني ومن الحياة هي وحدها التي تملك أن تجمع الناس وتنفر ما بين بعضهم وبعض؟ أهذه القوة هي التي جعلتني أحب فؤادة؟ لماذا يدوي اسمها دائمًا في أنحاء جسمي كأنما هو صوت من الجانب الميمون من الحياة، أي شيء جعلني لا أفكر إلا في حبها؟ ولماذا ألتذ شعوري بحبها ولا أتزوجها؟ لماذا انتظرت حتى اليوم لم أتزوجها؟ إن هي إلا إشارة، كلمة أقولها فلا يشرق صبح آخر إلا وتكون فؤادة زوجتي، ولكني لسبب أجهله أحب أن أنتظر وأن أسمع اسمها مدويًا في كياني وفي حياتي، ولكن إلى متى أنتظر؟ من أين يأتي هذا الحب؟ ولماذا يسيطر عليَّ وأحب منه هذه السيطرة؟ أنا الذي لا أطيق أن أسمع رأيًا يخالف ما أرى، كيف ألين لهذا الحب وأتركه يُفرض عليَّ فرضًا بهذه القوة وهذا الجبروت؟ أي أنا في هؤلاء يحب فؤادة؟ هذا العاتي الذي يتصدر المرآة أتحبها؟ ما هذا الوميض في عينيك؟ ما له أصبح نورًا وكان نارًا؟ ما لملامحك قد كستها إشعاعات من الطيبة وغشتها غلالات من الأحلام؟ وأنت أيها الأنا الذي بجانبه وأنت الآخر وأنت، وكل أنا في هؤلاء، ما هذا الحنين الذي ألقى على وجوهكم جميعًا؟ ليس واحدًا فيَّ الذي يحبها، وإنما كل أنا فيَّ يحبها ويحن إليها، ما هذه الوجوه الجديدة التي تزحم المرآة، وجوه أعرفها وتختلط بوجوهي فلا أدري أين صوري بين صورهم، هذا الشيخ إسماعيل الصفوري أصبح ضمن عصابتي بعد أن طرده رجال الدين من بيئتهم، شيخ هو ولكن قلبه أخضر يحب النساء والحشيش، ولم يكن ذا مال، فسرق حصير الجامع الذي كان يخطب فيه وقُبض عليه وخرج من السجن لينضم إلى العصابة، فما بقي له من الجانب الآخر من الحياة شيء، وهذا الذي بجانبه عبد المعطي العجل وكيل الدائرة الذي اختلس من العُهدة فمر بالسجن لينضم إليَّ، يمسك حساباتي ولا يمسك عهدتي، وهذا الثالث عثمان شاكر وكيل المحامي زوَّر في المحكمة توقيع أحد الموكلين وتسلم عنه المبلغ الذي حُكم له به وأنفق المبلغ عنه أيضًا، وخرج من السجن ليكون ضمن مجلس الشورى في مملكتي، مملكة مكتملة، ينظرون إلى المرآة، إلى صورة مَن ينظرون؟ إلى صورهم، أم إلى صوري؟ إنهم الفئة الممتازة في العصابة ولكن لا صوت لهم بجانب الهمس الذي أهمس به، صدًى هم وأنا الصوت، فلئن تختلط صورهم بصوري فلا غرو فما هم إلا شعاع مني وما أصواتهم إلا رنين كلامي، يريدون أن يقولوا شيئًا ولكنهم يخافون صمتي كما تعوَّدوا أن يخافوا كلامي، لا يبدءون حديثًا لا أبدؤه، لماذا يحلو لي أن ألتذ خوفهم هذا؟ لماذا سكت طوال هذه الفترة؟ لم يبن الضيق على وجه واحد منهم، بل لعلهم إلى السعادة أقرب، أليسوا هم وحدهم بين أفراد العصابة جميعًا الذين أسمح لهم بالدخول إليَّ بغير حرج؟ مكانة يعتزون بها، نعم إنهم إلى السعادة أقرب.
– هيه، خيرًا يا رجال، أعرف ما تريدون، عملية الليلة، هل الرجال مستعدون؟ على بركة الله.