الفصل الثامن
أحبها منذ عرفت الحياة، مع الومضات الأولى للوعي، مع النبضات الباكرة من الذكرى، منذ لا أذكر متى، وجدت حبها معي منذ تبينت أن اسمي طلعت وأن اسمها فؤادة، ولم أكن في حاجة أن أقول لها أحبك، وإن كنت قد همست بها فلأستمتع بالهمس، حلوة هي الهمسة بين حبيبين، بلورة لحديث من العيون، وتجسيد شعاعات تحيط بالحبيبين لا يدريان ما مصدرها، مغلفة هي بالحب فؤادة، هي لي، وأبي لا يرفض، فهو يحب أن أتزوج فؤادة بل لعله يتوق إلى هذا الزواج، فهو دائمًا يتمنى أن تتوثق صلاتي بالقرية، ولم لا؟ أنا منها ولا عيش لي إلا فيها، ألم أحصل على أكبر الشهادات ومع ذلك يريدني أبي أن أعمل في القرية؟ عروقي ضاربة فيها، منها أبي ومنها جدي ومنها كل من أعرفه من جدودي، عاشوا بها وماتوا فيها فلماذا لا أمكن لهذه العروق أن تتوغل في أرضها؟ لقد قال لي أبي يومًا: لكم أحب أن تتزوج من الدهاشنة، ولم تُدهش أمي، بل لعلها رحبت، فأنا أستطيع إذن أن أتزوج من فؤادة، بل إنها في الواقع زوجتي بما بيننا من حب، ولكني أحب أن أسألها، لماذا لا أهمس لها وتهمس لي؟ لا، هناك أهم من هذا، هناك الشيء الأساسي في الحياة، أريدها هي أن تختارني، لا بالابتسامة ولا بالنظرة ولا بما أعلمه من أنها تحبني، ولكن يجب أن توافق على هذا الزواج موافقة صريحة لا شك فيها، بإرادة حرة لا سلطان عليها فيها إلا ما تمليه خوالج نفسها هي، ما تريده في البعيد البعيد من أعماقها، دون أن يكون لرأي أبيها أو أمها دخل في ذلك، لا أريدها أن تتزوجني لأن أباها يريدها أن تتزوجني، إرادة خالصة بعيدة عن أي مؤثرات إلا رأيها، أريد أن أنال موافقتها نابعة من مشاعرها هي وعقلها هي، أريدها وحدها التي تقرر هذا الزواج، هكذا أريد هذا الزواج، ولن أناله إلا على هذه الصورة، ولن يكون إلا هكذا، فليس بين من عرفت من الناس أحد يُقدِّس الحرية، مثلما تقدسها فؤادة، لماذا أشعر بحنين إليها مهما تكن قريبة مني؟ هذا الحنين هو الحب، أنا في شوق إليها دائم لا يرتوي، أحسه مشبوبًا عاصفًا وأحسه رقيقًا كغناء النسيم أخذ يمسك بتلابيب النفس، وأحسه حرًّا منطلقًا كملاك منطلق في الفضاء الرحب، لكم تحب فؤادة الحرية والعدل.
في الملعب والأطفال يعلبون الكرة وأنا بينهم، وهناك رجل واقف لا أذكر من، كان يحاول أن يعطيني حقًّا لا يتيحه لي قانون اللعب، وقبل الأطفال؛ فقد كان الملعب ملعبي، وكانت الكرة كرتي، ولكن فؤادة قالت: لا. (لا حازمة)، أنت تلعب مثلنا فيجب أن ينفذ عليك ما ينفذ على كل اللاعبين الآخرين.
– ولكنكِ أنتِ من فريقي وبهذا التجاوز الطفيف نكسب نحن.
– كسبًا لا أرضاه لنفسي ولا أرضاه لك ولا أرضاه للحق، ليس هذا عدلًا.
– أنت حرة، اتركي الملعب.
– أترك الملعب راضية.
– ألهذا الحد؟
– نعم، إما أن نكون أحرارًا في الملعب أو لا داعي للعب.
– ما لهذا وللحرية؟
– الحرية هي المساواة امتيازك عن إخوانك عبودية لهم.
– إذن فابقى.
– ويصبح مثلك مثل سائر اللاعبين؟
– وأصبح مثلي مثل سائر اللاعبين.
وحين كبرت قليلًا وأراد أبوها ألا تذهب إلى المدرسة، رفضت الأمر وأضربت عن الطعام، وقال أبوها: موتي إذا شئت، ولكنك لن تذهبي إلى المدرسة.
– أموت لأنك تخنق حريتي، وأنا لا أطيق العيش بلا حرية.
– كبرت، ولا يجوز أن تذهبي إلى المدرسة.
– كبرت؛ ولهذا يجب أن أذهب إلى المدرسة.
– وتخرجين وأنت قد أصبحت شابة؟
– وهل تنوي أن تحبسني إذا بقيت في البيت؟
– لا، ولكن القرية ليست مثل المدينة.
– إنه أنا في القرية، وهي أنا في المدينة، أيهما أحسن أن أبقى في القرية لأصبح حكاية ضمن حكاياتها التي لا تنتهي أم أذهب إلى المدرسة وأستكمل تعليمي إلى أقصى حد ممكن؟
– لن تذهبي.
– وأنا لن آكل.
– وستأكلين.
– أما هذا يا أبي فأنت لا تملكه، أنت حر أن تمنعني عن المدرسة لأنك أبي، أما طعامي فأنا حرة في أن اتناوله أو لا أتناوله لأنه طعامي أنا.
– أنت حرة.
– نعم حرة.
وأضربت عن الطعام أيامًا لم تطل، فقد أشفق أبوها عليها وذهبت إلى المدرسة، حرة هي، تعبد الحرية وتعيش بها، إنها هي نفسها ما هي إلا نسمة من نسمات الحرية، وشعاع من ضيائها، ونغمة عميقة من موسيقاها.
وانتظرها في يومه هذا، ووقف دونها صامتًا، ونظرت إليه وابتسامة حلوة على وجهها، وما لبث أن قال: أتقبلينني زوجًا؟
وصمتت لحظات فقال: لا بد أن أسمع نعم حتى أتقدم.
وضحكت وهي تقول: نعم.
– بمجرد عودة أبي من السفر سنأتي إليك.