الفصل العاشر

كنتُ في الواقع قد بدأت تجربةً ما، في اليوم التالي لذهابي إلى الحي الخامس. فقد خلعت مِسمارين، طول كلٍّ منهما بوصتان تقريبًا، من ألواح الجانب الشمالي للمعبد الذهبي.

ثمَّة بوابتان للطابق الأرضي للمعبد الذهبي المسمَّى هوسوين، واحدة في الشرق وأخرى في الغرب، كل بوابة ذاتُ باب بمصراعين يفتحان من المنتصف. وكانت العادة أن يصعد الدليل العجوز إلى المعبد الذهبي في الليل، ويغلق البوابة الغربية من الداخل، ثم يغلق البوابة الشرقية من الخارج، ويضع على الأخيرة قفلًا. ولكني كنتُ أعلم أنه يمكنني دخولُ المعبد الذهبي حتى لو لم يكن معي مفتاح القُفل. تبدو ألواح الجانب الشمالي من البوابة الشرقية، وكأنها تحمي خلفية نموذج المعبد المصغَّر داخل المعبد الذهبي. كانت تلك الألواح بالية، إذا خلعت ستة أو سبعة من المسامير العلوية والسفلية، فسيكون من السهل جدًّا خلعها. وكانت كل المسامير شبهَ مفكَّكة بالفعل، ويمكن خلعُها بمنتهى السهولة بالأصابع فقط. وهنا كانت تجربتي هي خلع اثنين من تلك المسامير. لففتُ المسمارين اللذين خلعتهما في ورقة، ووضعتهما في أعمقِ مكان من دُرج مكتبي. مرَّت بضعة أيام. ولا يبدو أن أحدًا لاحظ أيَّ شيء. في مساء يوم الثامن والعشرين، أعدتُ المسمارين مكانهما مرةً أخرى خفيةً.

في ذلك اليوم الذي رأيت فيه كبيرَ الرهبان في هيئته الرابضة وحدَّدت أخيرًا اليوم الذي لن يمكنني فيه الاعتمادُ على قوة أي شخص غيري، اشتريت دواء الكالموتين المنوِّم من صيدليةٍ بجوار قسم شرطة الحي الغربي في منطقة «سنبون إيماديكاوا». في البداية أحضر لي الصيدلي زجاجةً صغيرة بها ثلاثون حبة، ولكني طلبت منه أن يعطيني حجمًا أكبر، فاشتريت زجاجة بها مائة حبة بسعر مائة ين. علاوةً على ذلك، اشتريتُ من محل السكاكين والقواطع الواقعِ جنوبَ قسم شرطة الحي الغربي، خنجرًا صغيرًا يبلغ نصله أربع بوصات وكان سعره بالغمد، تسعين ينًّا.

وفي الليل كنتُ أمشي جَيئة وذهابًا من أمام قسم شرطة الحي الغربي. وكنتُ أرى الأنوار مضاءةً بوضوح في عدد من النوافذ، ورجال التحريات الذين يرتدون قمصانًا مفتوحة الياقة، يدخلون المبنى في عجلةٍ من أمرهم حاملين في أيديهم حقائب. ولم يلفت وجودي نظرَ أحدٍ منهم. لم ينتبِه لي أحدٌ طوال عشرين عامًا مضت، وحتى الآن ما زال الوضع مستمرًّا على نفس الحال. حتى هذه اللحظة أنا لستُ ذا أهمية. في اليابان هذه، ملايين بل عشرات الملايين من الناس الذين يعيشون على الهامش دون أن يلتفت إليهم أحد، وأنا ما زلتُ أنتمي لهذه الفئة من الناس. ولا يشعر المجتمع بأي اهتمام إذا قرَّر أحد من هؤلاء أن يموت أو أن يعيش، ولكن يملك هؤلاء المهمَّشون في الحقيقةِ ما يجعل الناس يطمئنون. ولذا يطمئن أفراد التحريات ولا يلتفتون إلى شخصي. تُظهر حروف كلمة «قسم شرطة الحي الغربي»، التي وقعت منها كلمة «شرطة» والمكتوبة بالعرض على لوحة حجرية، تُظهر أشعةً مثل مصباحِ بوابةٍ ذي أدخنة حمراء.

كنت أفكِّر أثناء عودتي إلى المعبد في مشتريات هذه الليلة. إنها مشترياتٌ تجعل القلب يرقص فرحًا.

لقد اشتريتُ الخنجر والمنوِّم استعدادًا للانتحار المحتَّم في حالة حدوث أي حادث طارئ لي، ولكنها كانت مشترياتٍ تُشعِر قلبي بمتعة عظيمة لدرجةٍ تذكِّرك بمتعة الرجل الذي يشتري أثاث البيت استعدادًا لتصميم حياته الجديدة وهو مقبلٌ على إنشاء عائلة جديدة. بعد عودتي إلى المعبد كذلك، لم أمَلَّ مشاهدةَ الاثنين. أسحب الخنجر من غِمده وأجرِّب أن ألعق نصله بلساني. وسريعًا ما يتراكم البخار على النصل، فأشعر بطَعم حلاوة بعيدة بعد إحساس برودة واضحة للنصل على لساني. كانت الحلاوة تأتي إلى لساني من أعماق الصلب الرقيق الذي لا يمكن الوصول إليه، من جوهر الحديد اللامع قليلًا. كانت تلك الحلاوة الرائقة والباردة بلا نهاية … تحمل مع اللعاب على طرف اللسان، شكلًا واضحًا، ولمعةً للحديد تشبه زرقة البحر العميق. وأخيرًا تبتعد تلك الحلاوة هي الأخرى. أفكِّر بمتعة في ذلك اليوم الذي يسكر فيه لحم جسدي في فورة تلك الحلاوة. وتبدو سماء الموت مضيئة، وشبيهة تمامًا بسماء الحياة. ثم نسيتُ أنا الأفكار المظلمة. فبالتأكيد لا وجودَ للمعاناة في هذا العالم.

أُدخِل في المعبد الذهبي بعد الحرب أحدثُ أنظمة ذاتية للتنبيه عن الحرائق. صُمِّم النظام بحيث أنه إذا وصلت درجة الحرارة داخل المعبد الذهبي إلى درجة معينة، تستمر صفاراتُ الإنذار في الرنين داخل طرقات المكاتب الإدارية لكامل معبد روكوؤنجي. ولكن حدث في ليلة التاسع والعشرين من شهر يونيو، عطلٌ في جهاز الإنذار. كان الدليل العجوز هو مَن اكتشف ذلك العطل. وسمِعت أنا إبلاغ ذلك العجوز لمكتب الإدارة بعطل جهاز الإنذار أثناء وجودي صدفةً في المخزن الخلفي. وقتَها اعتقدتُ أنا أنني أسمع أصوات تشجيع السماء لي.

ولكن في صباح اليوم التالي، الموافق الثلاثين من يونيو، اتصل نائب كبير الرهبان بالمصنع الذي تم شراء أجهزة الإنذار منه وطلب منهم الحضورَ لإصلاح العطل. وجاء الدليل الطيب القلب ليبلغني بذلك خصوصًا. عندما سمعتُ منه ذلك الخبر، عضضتُ على شفتيَّ. فرغم أن الليلة الفائتة كانت فرصةً عظيمة للتنفيذ، إلا أن تلك الفرصة فلتت مني.

وجاء عامل التصليح في وقت الغروب. وقفنا جميعًا صفًّا واحدًا نشاهد عمليةَ تصليح العطل بوجوه متعجبة. استغرقت عملية التصليح وقتًا طويلًا، العامل ظل يعوج عنقه مستنكرًا، فانصرف المشاهدون واحدًا بعد الآخر. تركتُ أنا أيضًا المكان في وقت مناسب. بعد ذلك لم يكن أمامي إلا أن أنتظر إصلاحَ العطل، وأن يطلق العامل إنذارَ الحريق لتجربة الجهاز، فيتردَّد صدى صوت الإنذار عاليًا في أرجاء المعبد ليكون إشارةً لليأس وانقطاع أي أمل بالنسبة لي … فانتظرت. اندفع الليل إلى المعبد الذهبي مثل مدِّ أمواج البحر، والمصباح الصغير المخصَّص للتصليح ترتعش إضاءته. لم تنطلق صفارات الإنذار. وعامل التصليح الذي فقدَ الأمل غادر المعبدَ بعد أن قال إنه سيعود ثانيةً في اليوم التالي.

لم يأتِ العامل في الأول من يوليو مخالفًا لوعده. ولكن لم يكن لدى إدارة المعبد سببٌ كبير يجعلها تحرص على الإسراع في عملية التصليح.

كنتُ قد ذهبت في الثلاثين من يونيو إلى منطقة سنبون إيماديكاوا مرةً أخرى، واشتريت خبزًا بالسُّكر وحلوى بمربى الصويا. ولأن المعبد لا يقدِّم لنا طعامًا بين الوجبات، كنتُ أحيانًا ما أشتري من هناك القليل من الحلوى من مصروف الجيب الضئيل، في كل مرة.

ولكن لم أشترِ الحلوى يوم الثلاثين من يونيو، بسبب إحساسي بالجوع. ولم تكن من أجل أن تساعدني في تناول منوِّم الكالموتين. إذا بحثتُ عن سبب، فربما كان القلق هو الذي جعلني أشتريه.

العلاقة بيني وبين الكيس الورقي المنفوخ المتدلي من يدي، العلاقة بين العمل الغارق تمامًا في وحدته الذي كنتُ أنا الآن على وشْك البدء في فعله وبين خبز السُّكَّر وحلوى مربى الصويا المتواضعين … تقف الشمس التي برزت من السماء ذات الغيوم، في مساكن المدينة القديمة مثل الضباب الحار الرطب. تصبَّب العَرق فجأة وفي سرية على ظهري منسابًا وهو يجرُّ معه خيطًا باردًا. كنتُ في غاية الفتور.

العلاقة بيني وبين خبز السُّكر! ماذا تكون يا تُرى هذه العلاقة؟ أتوقَّع أنا أنه عند مواجهة الفعل وجهًا لوجه، مهما حاولتُ التركيزَ وتجميعَ شجاعتي، فإن الحالة الذهنية لمِعَدتي التي تُركتْ كما هي في وحدتها، تحاول رغم ذلك، طلبَ دليل وبرهان على تلك الوحدة. أحسستُ كأن أحشائي تشبه كلبي الرثَّ المنظر الذي أرعاه ولكنه لا يأنس بي أبدًا. كنتُ أعرف أنه مهما تيقَّظ قلبي وانتبه، فإن أحشائي البليدة الحس كالمَعِدة والأمعاء تبدأ من تلقاء نفسها في الحُلم بحياة معيشية يومية باردة لا حياة فيها.

كنت أعرف أن مَعِدتي ترى أحلامًا. تحلُم بخبز السُّكر وحلوى مربى الصويا. أثناء حُلم حالتي النفسية بالجواهر، فهي تحلُم بعنادٍ بخبز السُّكَّر وحلوى مربى الصويا … حتمًا سيقدِّم خبز السُّكر دليلًا مناسبًا للناس عندما يحاولون إجبارَ أنفسهم على تفهُّم جريمتي. ربما يقول الناس: «إنه كان جائعًا. يا له من أمرٍ إنساني بحت!»

•••

جاء يوم الأول من يوليو لعام ١٩٥٠. وكما ذكرتُ من قبل، كان من المتوقَّع ألا يتم إصلاح جهاز إنذار الحريق خلال ذلك اليوم. وأصبح ذلك الأمر مؤكدًا في الساعة السادسة مساءً. فقد اتصل الدليل العجوز هاتفيًّا لحثِّهم مرةً ثانية، فكان ردُّ العامل الاعتذارَ عن عدم استطاعته المجيءَ بسبب انشغاله، وأنه سيأتي غدًا بالتأكيد.

كان عدد زوار المعبد الذهبي في ذلك اليوم قرابة مائة شخص، ولأن المعبد يغلق أبوابه في الساعة السادسة والنصف، فقد بدأت موجات الزوار مغادرةَ المعبد بالفعل. بعد أن أنهى العجوز المكالمةَ الهاتفية، ولأن عمله في إرشاد الزوار قد انتهى، وقف شاردًا يتأمل الحقلَ الصغير من مدخل الجانب الشرقي للمخزن الخلفي.

تمطر السماء رذاذًا مثل الضباب. منذ الصباح وهي تمطر ثم تتوقَّف ثم تمطر، وتكرِّر ذلك عدةَ مرات. كذلك تهبُّ رياحٌ خفيفة، ولذا فالجو لم يكن حارًّا رطبًا بدرجة كبيرة. وفي الحقول تظهر أزهارُ نبات اليقطين كنقاط مضيئة وسط المطر. من جهةٍ أخرى بدأت براعم فول الصويا التي نُثرت بذورها في بداية الشهر الماضي في الظهور فوق التلال المرتفعة السوداء التي تلمع في بهاء.

كان العجوز عندما يغرق في التفكير في أمرٍ ما، يحرِّك فكَّيه ليجعل طقمَ أسنانه الذي لا يوافق أعلاه أسفله يطلق أصواتًا مزعجة. ربما كان طقم الأسنان هذا هو سببَ زيادة صعوبة فهْم شرحه مع مرور الأيام، رغم أنه يقول نفس كلمات الإرشاد كلَّ يوم. ولا يحاول أن يقوم بإصلاحه مهما حثَّه الناس على ذلك. يتأمل الحقل ويهمس بشيءٍ ما. يهمس ثم يعود ليطقطق طقم الأسنان … يتوقَّف عن طقطقة طقم الأسنان ثم يهمس مرةً أخرى. على الأرجح هو يتبرَّم من عدم سير عملية إصلاح جهاز الإنذار على الوجه المرجو.

عند سماعي لهمساته التي لا يمكن فهْم محتواها تلك، يأتيني اعتقادٌ بأنه يقول إن إصلاح جهاز الإنذار وإصلاح طقم الأسنان أمران مستحيلان.

في معبد روكوؤنجي تلك الليلة، جاء إلى كبير الرهبان ضيفٌ نادرًا ما يأتي لزيارته. إنه الراهب الكبير زنكاي كواي الراهب المقيم لمعبد ريوهوجي في محافظة فوكوي، وقد كان زميلًا لكبير الرهبان في معبد الزِّن فيما مضى. ومعنى أنه كان صديقًا لكبير الرهبان في معبد الزِّن، أنه كان كذلك صديقًا لأبي.

تم التواصل مع كبير الرهبان هاتفيًّا في مكان وجوده خارج المعبد. وأبلغ كبير الرهبان المتصل أنه سيعود خلال ساعة تقريبًا. أتى الراهب زنكاي إلى كيوتو على نية المبيت ليلةً أو ليلتين.

فهمت تمامًا لماذا كان أبي عندما يتحدث عن أمرٍ ما يخصُّ الراهب زنكاي كان مستمتعًا، وكان قلبه يمتلئ حبًّا واحترامًا له. فقد كان الراهبَ المبجَّل من حيث مظهره الخارجي وشخصيته، ويُعدُّ نموذجًا مثاليًّا للغاية لراهب الزِّن المتمسك بطبيعته الفطرية. يبلغ طوله ما يقرُب من ستة أقدام، ذو بشرة سمراء وحواجب كثيفة. وكان ذا صوت جهور مثل صوت الرعد. أبلغت برغبة الراهب الكبير في الحديث معي أثناء انتظاره مجيءَ كبير الرهبان، وعندما جاء أحدُ زملائي لاستدعائي أصابتني حَيرة وتردُّد. فلقد خشيت أن يستشفَّ الراهب زنكاي بعيونه الصافية والثاقبة خطتي التي اقتربتُ من تنفيذها تلك الليلة.

كان الراهب الكبير يجلس متربعًا في الغرفة ذات الاثنتي عشرة حصيرة تاتامي، يشرب من الساكي الذي قدَّمه له بكرم نائبُ كبير الرهبان مع المقبِّلات النباتية. حتى ذلك الحين كان أحد الزملاء يصبُّ الساكي للراهب، فلما جئتُ أنا بدلت معه وقمت بصبِّ الساكي له بعد أن جلست على ركبتَي فوق الحصيرة التي أمامه. وقد أعطيت ظهري لأمطار الظلام التي تهطل بلا صوت تقريبًا. وبهذا لم يكن أمام الراهب الكبير إلا النظر إلى وجهي ومنظر الليل في تلك الحديقة ذات الطقس الموسمي للأمطار نظراتٍ طويلةً كئيبة.

ولكن لا يمكن لشيء أن يقيِّد الراهبَ زنكاي. في اللحظة التي رآني فيها، وهي أول لقاء بيننا، قال لي إنني أشبه والدي، وإنني كبرتُ سريعًا وأصبحتُ رجلًا، وإنَّ موت والدي كان خسارةً حقيقية. قال كل ذلك في ترتيب مستمر وبنبرة مبهجة. كان الراهب زنكاي يملك بساطةً قلبية ليست لدى كبير الرهبان، ويملك قوةً ليست لدى والدي. كان وجهه قد سَفعَته الشمس فاسمرَّ، وأنفه ذا فتحتين كبيرتين، ولحمُ حاجبيه الكثيفين المقتربين نتأ بارزًا كأنه قد صُنع على هيئة وجه قناع أوبشيمي في مسرح «النو». لم تكن ملامح وجهه منتظِمةً البتة. كانت قوَّته الداخلية وافرة، وتخرج تلك القوة للعلن كما يحلو لها لتهدم أيَّ انتظام ممكن. عظام الخد البارزة للأمام شديدةُ الانحدار مثل رسمة جبل صخري في لوحات المدرسة الجنوبية الصينية.

ومع كل هذا، كان للراهب زنكاي الذي يتحدَّث بصوت جهير مثل الرعد، طيبةٌ تردَّد صداها في قلبي. ليست تلك الطيبة العادية الموجودة بين الناس، بل طيبة تشبه طيبةَ أشجار ضخمة ذات جذور فظة ولكنها تعطي ظلها كمكان استراحة لمسافر في مكان ناءٍ من القرية، طيبة خشنة الملمس بدرجة كبيرة. مع حديثه وخاصة الليلة وما تمثله الليلة، بدأتُ أحذر أن يتراخى قراري الحاسم بعد ملامستي لهذه الطيبة. وبسبب ذلك ورد على ذهني شكٌّ في أن كبير الرهبان استدعى الراهب زنكاي خصوصًا من أجلي، ولكن كان من المستحيل أن يدعوَ الراهب زنكاي ليأتيَ من محافظة فوكوي إلى كيوتو خصوصًا من أجلي أنا. لم يكن الراهب زنكاي إلا مجرد ضيف في صدفة عجيبة وشاهد لا يُضارَع للحظة الانهيار.

عندما فرغتْ قنينة الساكي المصنوعة من الخزف الأبيض التي تبلغ ما يقرب من صاع ونصف (٣٦٠ ملِّيلترًا)، انحنيتُ تحيةً للضيف، وذهبت إلى المطبخ لإحضار المزيد. عندما عدتُ ممسكًا في يدي بقنينة الساكي الساخن، تولَّدت لدي مشاعرُ لم أعرفها من قبل. رغم أنني لم يسبق لي أن شعرتُ بالرغبة في أن يفهمني أحد، إلا أنه عند وصولي إلى هذه اللحظة من اللقاء تمنيتُ كما لو أنني أريد أن يفهمني الراهب زنكاي فقط. بعد أن عدتُ مرةً أخرى وصببتُ الساكي للراهب، وخلافًا على ما كانت عليه عيناي. منذ قليل، أفترض أن الراهب زنكاي انتبه لأي درجة من الصدق كانت تلمع عيني.

سألته:

«ما رأيك فيَّ؟»

«هاه، تبدو طالبًا مجتهدًا وجيدًا. ولا أدري ما وقت فراغك في الخفاء. ولكن يا لك من مسكين، فخلافًا لِما كان عليه الوضع في الماضي ليس لديك المال اللازم للهوايات. لقد فعلنا أنا ووالدك وكبير رهبان هذا المعبد الكثيرَ من الشرور في شبابنا.»

«هل أبدو لك طالبًا عاديًّا؟»

«أن تبدوَ عاديًّا فهو أمر حسن. العادي أفضل شيء. فهذا لا يجعل الآخرين يشكُّون فيك.»

لم يكن لدى الراهب زنكاي أيُّ غرور. كثيرًا ما يسقط الرهبان ذوو المكانة المرتفعة في تلك الخطيئة، وهي أن يُرى أنه يُطلب منهم فحص كل شيء من البشر وحتى التحف الفنية وعندها يرون أنه لا يجب قول شيء كأمرٍ مسلَّم به لكيلا يُسخر من خطأ تقديره فيما بعد. بالطبع يمكن تجريب إنزال القرار الفردي في التو والحال على طريقة رهبان الزِّن، لكن يجب إبقاء مساحة لفهم الكلام على كلا المعنيين. لم يكن الراهب زنكاي من هذا النوع. لقد عرفت جيدًا أنه يتحدَّث بما يراه وما يشعر به كما هو. لم يكن يطلب معنًى معيَّنًا من الأشياء والأمور التي تنعكس على عينيه القويتين البسيطتين. كان الأمر سيان، سواء كان لها معنًى أو لم يكن. ولكن الأمر الذي جعلني أشعر بعظمة الراهب زنكاي أكثر من أي شيء آخر، نظرته للأمور، على سبيل المثال عندما ينظر إليَّ أنا، لم يكن يؤكد على شيء خاص به يراه هو فقط مختلفًا معتمدًا على شخصيته المتفردة، بل كان ينظر كما لو أن الآخرين ينظرون إلى نفس الشيء. بالنسبة للراهب زنكاي لن يكون هناك معنًى لعالم متجرد. لقد فهمت أنا ما لم يقُله الراهب زنكاي، وشعرتُ تدريجيًّا بالراحة. فلطالما كنتُ أُرى كشخص عادي من الآخرين، فأنا شخص عادي، ومهما حاولتُ على العكس فِعل شيء عادي وغريب تظل عاديتي كما هي مثل أرز تم غربلته في غربال.

ولا أعرف منذ متى وأنا أعتبر نفسي مثل شجرة صغيرة ذات أوراق ساكنة تقف أمام الراهب زنكاي.

«هل من الأفضل العيش بالشكل الذي يراني به الناس؟»

«لا يجب ذلك أبدًا. ولكن لو أظهرت فعلًا شاذًّا ومختلفًا، فسيصبح الناس يرونك بهذا الشكل الجديد. فأشخاص المجتمع ينسون دائمًا.»

«ما هو الأكثر استمرارًا، هل هو أنا كما يراني الناس، أم أنا كما أفكِّر أنا؟»

«كلاهما سيتوقف سريعًا. حتى لو فكرتَ في جعلهما يستمران عنوة، فسيأتي الوقت الذي يتوقَّفان فيه. أثناء سير القطار يكون الركَّاب متوقفين عن السير، وعندما يتوقف القطار يكون لزامًا أن يبدأ الركَّاب السير. يتوقَّف القطار وكذلك تتوقَّف الراحة. ويبدو أن الموت هو آخر راحة، ولكن حتى ذلك غير معلوم إلى أي مدًى هو مستمر.»

«أرجو منك أن تستشف ماذا أكون؟»

أخيرًا نطقتُ بما أريد.

«أنا لستُ الشخص الذي تعتقد أنني هو. أرجو منك أن تستشف حقيقتي.»

ابتلع الراهب شربةً من كأس الساكي ونظر إليَّ بإمعان. نزل عليَّ صمتٌ ثقيل مثل القرميد الأسود الكبير لمعبد روكوؤنجي الذي بلَّلته الأمطار، أصابني الرعب. فلقد انطلقت فجأة ضحكاتُ الراهب زنكاي الصافية للغاية.»

«لا ضرورة لأن أستشف. فكل شيء فيك واضح للعيان.»

هذا ما قال الراهب. وأحسست أنه فهمني فهمًا كاملًا ودون أن يترك أيَّ ركن مني. ولأول مرة في حياتي أصبحُ فارغًا. وانفجرت مجددًا شجاعة الفعل، مثل ماء يهدف لملء ذلك الفراغ.

عاد كبير الرهبان الساعةَ التاسعة مساء. وخرج الحراس الأربعة كما هي عادتهم في دورية لتفقُّد أرجاء المعبد. ولم يكن هناك أيُّ شيء مريب.

بعد أن عاد، جلس كبير الرهبان ينادم الراهب زنكاي في شرب الساكي، وفي الساعة الثانية عشرة والنصف قام أحد زملائي الأصغر مني بإرشاد الراهب زنكاي إلى مكان نومه. وبعد ذلك قام كبير الرهبان بالطقس المسمَّى دخول الحمَّام فدخل للاستحمام، وفي الساعة الواحدة من صباح اليوم الثاني من يوليو توقَّف صوت طرقات الأخشاب التي يطلقها الحراس، فغرق المعبد في الهدوء. ولكن الأمطار ظلت تهطل بلا صوت.

جلست بمفردي فوق فراش النوم الذي قمت بفرشه بنفسي، أعدُّ ساعات الليل الذي يترسب على معبد روكوؤنجي. تدريجيًّا زاد الليل من ثقل كثافته، وبدت لي الأعمدة الغليظة وألواح هذا المخزن الصغير الذي أقيم فيه، صارمةً تسند هذا الليل العتيق.

جرَّبت أن أتلعثم في فمي. تكون الكلمة الواحدة كالمعتاد مثلما تضع يدك في جرابٍ باحثًا عن شيء داخله، فيتشابك ذلك الشيء مع أشياءَ أخرى ولا تستطيع إخراجه بسهولة، ثم أخيرًا تظهر الكلمة على شفتيَّ بعد مبالغتها في إغاظتي. كان ثقل عالمي الداخلي وكثافته، كما لو كان يشبه هذا الليل، وتخرج الكلمة منه متثاقلة وهي تطقطق وكأنها مثل دلو ثقيل في بئر هذا الليل العميق.

«الوقت اقترب. لم يبقَ إلا القليل من الصبر.» هكذا كنت أفكِّر. «سيُفتح القُفل الصدئ الذي بين عالمي الداخلي والعالم الخارجي ببراعة. ويصير العالم الداخلي والعالم الخارجي مُفرَّغَين، وتهب نسائم الريح بينهما في حرية. وسيرتفع دلو البئر المتدلي بسهولة وخفة وكأنه يطير مرفرفًا بجناحين، وسينفتح كل شيء أمامي مثل السهول الرحبة وتختفي الغرفة السرية … ذلك بالفعل أمام عيني. كانت يدي على وشْك الوصول إليه بالفعل وتكاد تلمسه …»

جلستُ ساعة كاملة وسط الظلام وأنا في سعادة بالغة. وأحسست أنني لم أكن سعيدًا لهذه الدرجة منذ ولادتي وحتى ذلك اليوم … فجأةً قمت واقفًا وسط الظلام.

خرجتُ متسللًا من الباب الخلفي لمبنى المكتبة الكبرى، ولبست خُفَّ القش الذي كنتُ قد جهَّزته من قبل. ومشيتُ في رذاذ المطر الضبابي محاذيًا للخندق الواقع خلف معبد روكوؤنجي، متوجهًا إلى غرفة مواد البناء. لم يكن بالغرفة موادُّ البناء الخشبية، ولكن كانت تفوح منها رائحةٌ حائرة لنشارة الخشب المتناثرة مع رطوبة المطر. يُخزَّن هنا القش بعد شرائه. ففي المرة الواحدة يتم شراء أربعين حُزمة من القش. ولكن في تلك الليلة لم يتبقَّ إلا ثلاث حزم فقط متكومة بعد أن استُخدم أغلب المخزون.

حملتُ الحزمات الثلاث وعدتُ إلى جوار الحقل. كان المكان خلف المخازن يقبع في هدوء شديد. استدرتُ عند ركن المطبخ، وعندما وصلت إلى مبنى الإدارة من الخلف، انطلقتْ فجأة إضاءة من نافذة مرحاض ذلك المبنى. انحنيتُ جاثمًا في مكاني.

سمعتُ أصواتَ سُعال في المرحاض. كان ذلك على ما يبدو نائب كبير الرهبان. وأخيرًا سمعت صوت انطلاق البول، واستمر ذلك فترة طويلة بلا توقف.

وخوفًا من أن يبتلَّ القش بماء المطر، قمتُ بتغطيته بصدري وأنا مُنحنٍ جاثمًا عليه. تكتَّلت رائحة المرحاض التي أصبحت شنيعة بسبب الأمطار، في حشائش نبات السرخس التي تهتز بفعل هبوب نسائم ريح خفيفة … توقَّف صوت البول. وسمِعت صوت اصطدام جسدٍ مترنح بألواح الحائط الخشبية. يبدو أن نائب كبير الرهبان لم يكن مستيقظًا بدرجة كافية. انطفأت إضاءة النافذة، فحملت حزم القش الثلاث مرةً أخرى، وبدأت السير متوجهًا إلى مبنى المكتبة الكبرى من الخلف.

حسنًا، لقد كانت كل ثروتي عبارة عن سلة من الخوص جمعتُ فيها متعلقاتي الشخصية، وحقيبة سفر صغيرة قديمة فقط. وعزمتُ على حرقها جميعًا. وقمت بالفعل في هذه الليلة بوضع كل أغراضي من كتب وأوراق وملابس ومعاطف وغيرها من أشياءَ رفيعةٍ فيهما. كنتُ أريد أن يعترفَ الناس بدقتي في التفاصيل. لففت الأشياء التي تُصدِر صوتًا عند حملها، على سبيل المثال مكالب تعليق الناموسية، والأشياء التي لا تحترق وتظل كدلائل على صاحبها مثل منفضة السجائر، والأكواب ودواة الحبر وغيرها، لففتُ كلَّ ذلك في الوسائد وربطتُها بصرة من القماش ووضعتها في مكان مختلف. وعلاوةً على ما سبق كان يجب حرقُ مرتبة الفراش ولحافين. فقمت بحمل كل تلك الأمتعة على عدة مرات ووضعتها عند المَخرج الخلفي لمبنى المكتبة الكبرى. وفوق ذلك ذهبتُ إلى المعبد الذهبي لخلع اللوح الخشبي من الجانب الشمالي الذي ذكرته من قبل.

كان خلع المسامير واحدًا بعد الآخر سهلًا وكأنها مغروسة في تربة لينة. كنتُ أسند اللوحَ الذي بدأ يميل بكامل جسدي، لمس سطح ذلك الخشب المتعفن المبلول، خدودي برطوبة ونعومة. ولم يكن وزنه ثقيلًا بالدرجة التي توقَّعتها. وضعتُ اللوح الخشبي الذي خلعته بالعرض على الأرض بجواري. كان الظلام يملأ المعبد الذهبي من داخله الذي انكشف أمام عيني.

كان عرض اللوح بالكاد يسمح بمرور الجسد بميل. غرقتُ بجسدي داخل ظلام المعبد الذهبي. ظهر وجهٌ عجيب أصابني بالرعب. في الخزانة الزجاجية التي بها نموذج مصغَّر للمعبد الذهبي الموجودة في مدخل المعبد، انعكس وجهي وأنا أرفع عود الثقاب المشتعل.

لم يكن هذا وقتَ فِعل ذلك، ولكني نظرتُ بتأمُّل وإمعان في المعبد الذهبي داخل الخزانة. كان ظل ذلك المعبد الذهبي الصغير يهتز، وقد أُضيء بضوء الثقاب الذي يشبه ضوء القمر، وتربض التراكيب الخشبية الدقيقة في قلقٍ بالغ وشديد. ثم على الفور بلعها الظلام الدامس. فلقد انطفأت شعلة الثقاب.

بالغتُ في اهتمامي بنقطة الضوء الحمراء التي تلمع في بقايا عود الثقاب المشتعل، جعلني ذلك أدهس عودَ الثقاب بجنون كما رأيتُ طالبًا يفعل ذلك في معبد ميوشين في موقفٍ بالغ الغرابة. علاوةً على ذلك أشعلت النارَ في عود ثقاب جديد. تخطيتُ غرفة التلاوات السداسية الأركان وتماثيل بوذا الثلاثية، وعندما وصلت المقدمة صندوق إلقاء التبرعات، ظهرت لي ظلال القضبان المتراصة بعدد كبير من أجل إلقاء الأموال بها وكأنها أمواجٌ تتدافع مع اهتزاز لهب الثقاب. خلف صندوق التبرعات، التمثال الخشبي للقائد يوشيميتسو أشيكاغا مؤسِّس معبد روكوؤنجي المسجَّل تراثًا قوميًّا. وهو تمثال للقائد مرتديًا ثيابَ الرهبنة في وضع الجلوس، وتمتد أطراف الثياب طويلًا على اليمين وعلى اليسار، ويميل الصولجان من اليد اليمنى إلى اليد اليسرى. يدفن الرأس الصغير الحليق ذو العيون المفتوحة على آخرها، عنقه داخل ياقة ثياب الرهبنة. ولمعت تلك العيون مع لهب الثقاب، ولكني لم أخَفْ. كان الصنم الصغير مخيفًا بدرجة كبيرة، ومع جلوسه في سكون في ركنٍ من أركان المبنى الذي شيَّده، بدا لي أنه تخلَّى منذ الماضي البعيد عن فرض سيطرته.

فتحتُ البابَ الغربي الذي يؤدي إلى السوسيه. وكما ذكرتُ من قبلُ فهذا الباب يفتح على مصراعين من الداخل. سماء الليل الممطرة كانت أكثرَ إضاءة من داخل المعبد الذهبي. الباب الرطب حدَّ من صوت الصرير الخافت، فأدخل هواء الليل الغامق اللون الممتلئ بالنسيم.

«عيون يوشيميتسو، عيون يوشيميتسو تلك!» ظللتُ أفكر وأنا أجري عائدًا إلى خلف مبنى المكتبة الكبرى مترنحًا بجسمي إلى خارج ذلك الباب وأنا أقول: «كل شيء سيتم أمام تلك العيون. أمام عيون شاهد ميت لا يقدِر على رؤية أي شيء …»

ثمَّة شيء في جيوب السروال يصدِر صوتًا مع الجري. إنها صيحاتُ علبة الثقاب. وقفتُ وكدَّست ورق منديل في فراغات علبة الثقاب وكتمت الصوت. لا يصدرُ صوتٌ من الجيب الآخر الذي وضعت فيه زجاجةَ الكالموتين الملفوفة في منديل والخنجر. وكذلك من الأصل لا صوت لجيب المعطف الذي وضعتُ فيه خبز السُّكَّر وحلوى مربى الصويا والسجائر.

بعد ذلك بدأت العمل آليًّا. حملتُ الأمتعة التي كوَّمتها خلف مبنى المكتبة الكبرى، إلى مقدمة تمثال يوشيميتسو على أربع مرات. أول ما حملته كان المرتبة، والناموسية دون أحزمة التعليق. وثاني ما حملته كان اللحافَين. وثالث شيء كان حقيبة السفر الصغيرة وخزانة الصفصاف. وبعد ذلك حُزَم القش الثلاث. كوَّمتُ كل ذلك بخشونةٍ بعضه فوق بعض، وحشرت حُزم القش الثلاث بين الناموسية والمرتبة. ولأنني كنت أعتقد أن الناموسية هي الأكثر سهولةً في الاشتعال، فقد جعلتها ممدودة على باقي الأشياء الأخرى.

وبعد ذلك عدتُ لآخر مرة إلى خلف مبنى المكتبة الكبرى، فحملت الصرة الملفوف بها الأمتعة الصعبة الاشتعال التي ذكرتها من قبل، وذهبت هذه المرة إلى ضفة البِركة التي على الحافة الشرقية للمعبد الذهبي. كان الموقع يُرى منه أمام العين مباشرة صخرة يودوماري التي وسط البركة. يقع تحت ظل بضع شجرات من الصنوبر ويمنع بالكاد وصولَ مياه المطر إليَّ.

صار سطح البركة أبيضَ بياضًا خفيفًا بعد أن عكس سماء الليل. ولكن كان العفن الأخضر الكثيف كأنه امتداد للأرض، ويمكن بالكاد معرفة وجود الماء من تحت تلك الفراغات الرفيعة المتناثرة هنا وهناك. ولم يكن المطر بالدرجة التي ترسم على سطح البِركة أمواجًا. كان المطر عبارة عن ضباب يحمل بخار الماء، والبِركة تبدو كما لو كانت مستمرة بلا نهاية.

ألقيت حجرًا صغيرًا تناولته من تحت أقدامي في البِركة. فتردد صدى صوت الماء في مبالغة بسبب ذلك وكأنه يكسر جدارَ الصمت في الهواء المحيط بي. انكمشتُ بجسدي في سكون تام. كنتُ أريد بذلك الصمت أن أزيل أثرَ ذلك الصوت الذي اندفع قويًّا دون حساب مني.

وضعتُ يدي في ماء البركة، ولكن اشتبكت بيدي طحالبُ العفن الدافئة. أسقطتُ أولًا أحزمة الناموسية في يدي المغموسة في الماء. وبعد ذلك أسقطتُ منفضة السجائر في الماء وكأني أغسلها. ثم أسقطتُ الأكواب ودواة الحبر بنفس الطريقة. وانتهيت من كل الأشياء التي تغرق في الماء. وتبقى بجانبي فقط وسادة المقعد والصرة التي كانت تلفُّ تلك الأشياء. ثم حملتُ الاثنين ووضعتهما أمام تمثال يوشيميتسو، جاء أخيرًا وقتُ إشعال النيران.

وعندها هجم عليَّ إحساس الجوع، تحقيقًا لتوقعي المسبق، مما جعلني على العكس يهاجمني شعورٌ بأنني خُدعت. كان في جيبي خبز السُّكَّر وحلوى مربى الصويا المتبقيان من ليلة أمس. مسحت يدي المبلولة في طرف معطفي، وأكلت بنهمٍ بالغ. لم أحسَّ بطَعم الأكل. كانت مَعِدتي تصرخ بغض النظر عن حاسة التذوق، وكان الحل هو فقط تكديس الخبز السُّكري داخل فمي بسرعة. أصاب صدري خفقانٌ من الاستعجال. وبعد أن ابتلعته أخيرًا اغترفتُ من ماء البِركة ورويتُ ظمئي.

… كنتُ على بُعد خطوة واحدة فقط من «الفعل». أنهيتُ جميعَ التجهيزات الطويلة التي تقود للفعل ذاته، ووقفتُ عند أقصى طرف تلك الاستعدادات، ويتبقى فقط أن أرميَ جسدي في أتون الفعل. من المفترض أن أصل بقليل من الجهد إلى الفعل بسهولة.

كنتُ بين هذين الاثنين، لم أكن أرى ولو في حُلمٍ أن الهوة التي تكفي لابتلاع حياتي كلها تفتح فمها لي بهذه الطريقة.

بمعنى، أنني في ذلك الوقت كنت أتأمل المعبد الذهبي بنيةِ قول كلمة الوداع الأخيرة.

كان المعبد الذهبي معتمًا في ظلام الليل الممطر، ولم تكن تلك الحواف والظلال شيئًا مؤكدًا. كان غارقًا في السواد وكأن الليل قد وقف متبلورًا في هذا المكان. وعندما أجهدتُ مقلتيَّ في النظر، أمكنني بصعوبة رؤية التركيبة البنائية التي ترِقُّ فجأة وصولًا إلى قمة كوكيوتشو في الطابق الثالث، وكذلك رؤية غابة الأعمدة الرفيعة المحيطة بالتشوندو وهوسوين. ولكن التفاصيل الدقيقة التي كانت سببًا في إعجابي وعشقي من قبل، ذهبت متبخِّرة داخل الظلام الأحادي اللون.

ولكن مع زيادة قوة ذكريات شعوري تجاه الجَمال، أضحى ذلك الظلام الأسود قاعدة يمكن منها تشكيل ورسم الأوهام كما يحلو لي. ويختفي سرًّا داخل تلك الحالة المظلمة المنحنية، الشكلُ الكامل لفكرتي عن الجَمال. تظهر بقوة الذكريات، تفاصيل الجَمال واحدة بعد أخرى متألقة من وسط الظلام، وتتواصل الأشياء المتألقة مع بعضها، وأخيرًا تحت أشعة وقت عجيب لا تعرف هل هو ليل أم نهار، ظهر المعبد الذهبي تدريجيًّا بوضوح أمام عيني. لم يسبق أن لمع المعبد الذهبي بجميع أركانه، بهذه الدرجة من الكمال وبهذا الحال من التفاصيل أمام عيني قبل الآن. كنتُ كأنني قد امتلكتُ قوةَ بصيرة الأعمى. أظهر المعبد الذهبي، الذي أصبح شفافًا بسبب الأشعة التي يصدرها من داخله، أظهر لي من الخارج بوضوح لوحاتِ الملائكة العازفات التي على السقف تشوندو، وبقايا قشرة الذهب القديم على حائط قمة كوكيوتشو. كان الجزء الخارجي ذو الفن الدقيق للمعبد الذهبي يختلط مع الجزء الداخلي. استطاعتْ عيناي أن تريا بنظرة واحدة من مكاني، تأثيرَ التباين والتماثل بين حواف الظلال الواضحة للموضوع الرئيس والبنية التركيبية له، وبين الزينة وتكرار التفاصيل الدقيقة بعناية التي تجسِّد الفكرة الرئيسة على الواقع. كان الطابقان الأول والثاني أيْ هوسوين وتشوندو، لهما نفس الاتساع مع اختلاف بسيط بينهما، ومحميَّين بظل واحد هو إفريز سقف عميق، ويقفان وكأنهما ذكرى حُلمين متشابهين تمامًا أو ذكرى متعتين متشابهتين تمامًا. واحدة منهما فقط تبدو على وشْك الانخراط وسط النسيان، فتتبادلان التأكُّد معًا من أعلى وأسفل بحنية، وبذلك يتحقَّق الحُلم، وتصبح المتعة بناءً معماريًّا. ومن خلال تتويج الطابقين بطابق ثالث هو تشوندو، متدرِّج السُّمك بطريقة مفاجئة، ينهار الواقع الذي تم التأكُّد منه، ويصل الأمر إلى الاستسلام للتوحُّد في الفلسفة الرائعة النبيلة لعصر ظلام فاخر. ثم يرتفع طائر العنقاء المصنوع من البرونز الذهبي فوق قمة السقف المعرَّش بألواح رفيعة، ليلمس ليل الظلام الطويل الذي يشبه الحَيرة.

ولكن لم يكتفِ المعماري أو يقنع بهذا فقط. بل جعل في الجهة الغربية من مبنى هوسوين، سوسيه ضئيلًا ناتئًا من إفريز السقف يشبه منصةَ صيد. كان المعماري بخرقه لقاعدة المساواة والتماثل كأنه يراهن بكلِّ ما يملك على قوة الجَمال. كان دور السوسيه بالنسبة لذلك المعمار هو أن يقاوم الميتافيزيقا. فرغم أنه لا يمتد طولًا إلى البِركة على الإطلاق إلا أنه يجعل المعبد الذهبي في المركز يبدو كأنه يهرب في كل مكان. وكأن السوسيه طائر يقفز مرفرفًا من ذلك المعمار، فهو يفرد جناحيه، هاربًا نحو سطح البِركة، نحو كل شيء ينتمي لهذا العالم. وذلك هربًا من النظام الذي يحكم ويقيِّد العالم، إلى حيث لا قيود، وعلى الأرجح هذا معناه الهروب إلى جسر الغريزة الحسية. نعم إنه كذلك. إن روح المعبد الذهبي تبدأ من ذلك السوسيه الذي يشبه جسرًا شبه مغلق، وتصنع برجًا ثلاثيَّ الطوابق، ثم مرةً أخرى، تهرب عبر نفس الجسر. والسبب أن قوة الشهوة البالغة الضخامة التي تتهادى فوق سطح البِركة كانت هي نبع القوة الخفية لبناء المعبد الذهبي. ولكن تلك القوة بعد أن وقفت بكاملها ضمن نظام، وبعد أن صنعت الطوابق الثلاثة الجميلة، لم تحتمل البقاءَ هناك أكثرَ من ذلك، فلم يكن أمامها إلا الهروب من خلال السوسيه، إلى أعلى البِركة مرةً أخرى، إلى داخل الشهوة الحسية المتراقصة التي بلا حدود، إلى موطنها الأصلي هناك. أمرٌ كنتُ أعتقده على الدوام، وهو أنني كلما نظرت إلى شبورة الصباح أو ضباب المساء الذي يقف محتارًا فوق سطح بِركة كيوكو، كنت أرى ها هنا بالذات مخبأ قوة الغريزة الحسية المتدفِّقة التي أنشأت المعبد الذهبي.

كان الجَمال يسيطر سيطرةً تامة بعد أن وحَّد تناقضات وصراعات ونشاز كل هذه الأجزاء! كان بناءً معماريًّا مبنيًّا من طمي ذهب مثل كتاب سوترا مقدَّس كتبه متبرع وهو يؤكد على كل حرف من حروفه المكتوبة فوق الكتاب الورقي ذي أرضية بلون كحلي في ليل مظلم سرمدي، ولكن لم أكن أعرف هل الجَمال هو المعبد الذهبي ذاته، أم إن الجَمال هو من نفس نوع الليل العدمي الذي يلف المعبد الذهبي؟ على الأرجح كان الجَمال كلاهما معًا. كان كلَّ التفاصيل، وفي نفس الوقت الإجَمال، كان المعبد الذهبي، وفي نفس الوقت الليل الذي يلفُّ المعبد الذهبي. وبتفكيري هذا، أحسستُ أنني توصلت لفهم تقريبي لما كان مستحيلَ الفهم عليَّ من جَمال المعبد الذهبي الذي عانيت منه في الماضي. والسبب هو جَمال التفاصيل، تلك الأعمدة، وذلك الدرابزين، وهذا المصراع، الأبواب ذات الأُطر، النوافذ المزيَّنة، السطح ذو السقف الهرمي الشكل … ذلك الهوسوين، تلك التشوندو، هذا كوكيوتشو، وذاك السوسيه … الظلال التي تلقيها تلك البِركة، تلك الجُزر الصغيرة، ذلك الصنوبر، إذا فحصنا جَمال كل تلك التفاصيل حتى نصل مرسى المراكب في البِركة، فالجَمال في كل تفاصيل الأجزاء، ولا يكتمل مطلقًا في نهاية التفاصيل؛ لأن كلَّ جزئية تُنبِئ بالجَمال. كان جَمال كل جزئية يمتلئ بالقلق؛ فهو لا يعرف الاكتمال مع حُلمه الدائم بالكمال، ثم تغوي إلى الجَمال التالي؛ الجَمال المجهول. ثم يتصل التنبؤ بالتنبؤ، واحدًا واحدًا يتنبأ بجَمالٍ ليس له وجود هنا، بمعنى أنه صار الموضوعَ الرئيس للمعبد الذهبي. ذلك التنبؤ كان تنبؤًا عدميًّا. كان العدم هو تركيبة ذلك الجَمال. وهنا يصبح عدم اكتمال جزئيات الجَمال محتويًا داخله على تنبؤ بالعدم، كانت الخلايا الدقيقة لأخشاب ذلك البناء المعماري تهتز مع ذلك التنبؤ بالعدم، مثلما تهتز زينة التماثيل البوذية مع الرياح.

ومع ذلك، لم يأتِ على المعبد الذهبي وقتٌ انقطع فيه الجَمال! كان ذلك الجَمال يتردَّد صداه على الدوام من مكانٍ ما. وكأنه مثل مريض بألم رنين الأذن المزمن، كنتُ أسمع تردُّد صدى جَمال المعبد الذهبي في كل مكان، واعتدتُ على ذلك. إذا أعطينا له مثالًا لصوتٍ ما، فذلك المعمار مثل ناقوس معدني صغير يظل يتردَّد صوته على مدى خمسة قرون ونصف القرن، أو مثل آلة قانون وترية صغيرة. آه لو يتوقَّف ذلك الصوت!

هجم عليَّ تعبٌ وإرهاق شديدان.

يظهر شبح المعبد الذهبي بوضوح شديد فوق ظلام المعبد الذهبي. ولم يهدأ لمعانه وتألُّقه. وتراجع درابزين مبنى هوسوين المجاور للماء في تواضعٍ عظيم، بينما يبرز درابزين التشوندو الذي استند على إفريز السقف ذي القوس الخشبي الهندي الطراز، صدره باتجاه البِركة وكأنه يحلُم. كان الإفريز مضاء بانعكاسات البِركة، وتلألأ الماء لا يثبت على ذلك المكان، بل يتحرك منعكسًا هنا وهناك. كانت أشعة الماء تحرِّك المعبد الذهبي، الذي يسطع مع شمس الغروب ويضيئه القمر، بإضاءة عجيبة ليظهر وكأنه طائر يرفرف بجناحيه. تتحرر قيود حالة الثبات من خلال انعكاس الماء المتهادي، ويبدو المعبد الذهبي الذي تسقط عليه تلك الانعكاسات وكأنه مبنيٌّ بموادَّ مثل اللهب والماء والريح التي تتحرَّك مهتزةً إلى الأبد.

كان ذلك الجَمال منقطعَ النظير. كنتُ أعرفُ من أين يأتيني ذلك التعب والإرهاق العنيفان. مرةً أخرى يحاول الجَمال أن يعتصر كل قوَّته وجبروته، في آخر فرصة سانحة له، لكي يقيدني بذلك الشعور بالضَّعف الذي هجمني من قبل عدة مرات. أصاب الضَّعف يديَّ وقدميَّ. أنا الذي كنت حتى تلك اللحظة على بُعد خطوة واحدة فقط من الفعل، تراجعتُ لمسافة بعيدة جدًّا من ذلك الموضع.

«لقد عملت كلَّ الاستعدادات حتى ما قبل خطوة واحدة فقط من الفعل.» هكذا همست لنفسي. «لقد رأيتُ الفعل ذاته كاملًا في أحلامي، وبقدرِ معيشتي بالكامل لذلك الحُلم، هل هناك ضرورة لعمل ذلك الفعل علاوةً على ذلك؟ ألا يكون ذلك على العكس عملًا غير ذي فائدة؟»

على الأرجح ما قاله كاشيواغي كان صحيحًا. قال إن ما يغيِّر العالم ليس الفعل ولكنه الوعي. ثمَّة وعي يحاول محاكاةَ الفعل ما أمكنه ذلك. وطبيعة وعيي أنا من هذا النوع. ثم هو نفس نوع الوعي الذي يجعل من الفعل أمرًا لا فائدة له بدرجة حقيقية. إذا أعدنا النظر، ألا نجد أن عنايتي بكل تلك الاستعدادات الطويلة لم تكن إلا لإدراك الوعي النهائي أنه لا ضرورة لعمل ذلك الفعل؟

لِنُعِدِ النظر. فالفعل الآن بالنسبة لي لا يزيد عن كونه مجرد شيء فائض. وهو يبرز منحرفًا عن الحياة، منحرفًا عن إرادتي، وكأنه آلة مختلفة مصنوعة من حديد بارد، تقف أمامي تنتظر بدايةَ الحركة. وكأنه ما من علاقة ولا رابط بين ذلك الفعل وبيني. حتى الآن كنتُ أنا، ومن الآن فصاعدًا لن أكون أنا … تُرى لماذا أحاول متعمدًا ألا أكون أنا؟

أسندتُ ظهري إلى أسفل الصنوبر. سحرتني بشرة تلك الشجرة المبتلة الباردة. أحسستُ بذلك الشعور، أن تلك البرودة هي أنا. توقَّف العالم بحالته كما هو في تلك اللحظة، كنت مكتفيًا قانعًا بلا أي رغبة أو غريزة.

وفكرتُ «من أين يأتي ذلك الإرهاق الفظيع؟ كما لو أنه حمَّى ممتلئة داخلي، فجسدي خامل ولا أستطيع أن أحرِّك يدي لتصل إلى حيث أريد. من المؤكَّد أنني مريض.»

ما زال المعبد الذهبي كما هو متألقًا. كان يبدو مثل منظر جيسُّوكان الذي رآه شونتوكومارو في حكاية «يوروبوشي».

لقد رأى شونتوكومارو في ظلامِ عماه منظرَ الشمس وهي تغرب متراقصة في بحر نانيوا. رأى حتى جزيرة أواجي وجزيرة سوماكاشي وحتى بحر «كي» يعكس أشعة شمس المغيب بلا أي غيوم.

أصبح جسدي وكأن الشلل أصابه، ودموعي تنساب من وقت لآخر بلا توقُّف. وربما كان من الأفضل البقاء على هذا الوضع حتى الصباح فيأتي أحدهم ويكتشفني. من المؤكد أنني لن أنبس بكلمة واحدة دفاعًا عن نفسي.

… حسنًا لقد استغرقت وقتًا طويلًا حتى الآن في ذكرِ ما يشبه توثيق عدم قوَّتي وهواني منذ طفولتي، ويجب القول إنه أحيانًا ما تكون الذاكرة التي تُبعث فجأة سببًا لقوة الإقامة من الموت والعودة للحياة مرة أخرى. فالماضي لا يجرجرنا ويعيدنا إلى الماضي فقط. ففي أماكن مختلفة ذاكرة الماضي، رغم أن عددها صغير، إلا أنه ثمة زنبرك معدني ذو قوة كبيرة، وعندما يلمسنا ذلك الزنبرك في الوقت الحاضر، ينبض الزنبرك على الفور، ويردنا بقوة دفعه إلى المستقبل.

مع بقاء الجسد شبه مشلول، ولكن كان القلب في مكانٍ ما، يعبث بأنامله داخل ذاكرتي. فتطفو كلمةٌ ما على سطح الذاكرة ثم تختفي. وتصبح على وشْك أن تصل إلى أنامل القلب، ثم تختبئ … تلك الكلمة كانت تدعوني. تحاول أن تقترب مني على الأرجح من أجل أن تراقصني.

«توجَّه للداخل، توجَّه للخارج، إذا قابلت أحدًا، فاقتله فورًا!»

… كان هذا هو أولَ سطر من الآية الشهيرة في كتاب «أقوال رينزاي». بعد ذلك انسابت الكلمات لتظهر في سلاسة.

«إذا قابلتَ بوذا فاقتله، إذا قابلتَ الأسلاف، فاقتلهم. إذا قابلت الراكان، فاقتله. إذا قابلت الوالدين فاقتلهما. إذا قابلت شينكين فاقتله. ثم تنال خلاص الروح للمرة الأولى. بغض النظر عن الأشياء، فالاستنارة عملٌ فردي.»

أخرجتني الكلمات منطلقًا قافزًا من مستنقع الضَّعف الذي كنت قد سقطت فيه. وفجأةً فارت القوة والصحة على جسدي كله. ورغم قول ذلك، ما زال جزء من قلبي يُبلِغني بإلحاح أن ما يجب عليَّ القيام به بعد قليل هو أمر عديم الجدوى، ولكن قوَّتي أصبحت لا تخشى من أي شيء عديم الجدوى. أصلًا يجب عليَّ القيام به لأنه عديم الجدوى.

لففتُ وسادةَ القعود والصرة اللتين كانتا بجانبي وحملتهما تحت إبطي، ووقفت. ثم نظرتُ تجاه المعبد الذهبي. كان شبح المعبد الذهبي المتلألئ يضعُف تدريجيًّا. وابْتُلِع الدرابزين في ظلام الليل تدريجيًّا، وغابة الأعمدة الواقفة فقدَت وضوحَها. واختفى شعاع الماء، وكذلك اختفى انعكاسه خلف إفريز السقف. وأخيرًا اختبأتْ كلُّ التفاصيل الدقيقة في ظلام الليل، وصار المعبد الذهبي مجرَّد ظلال لون أسود فقط.

جريتُ ودرتُ حول الركن الشمالي للمعبد الذهبي. كانت قدماي معتادتان فلم أتعثَّر أو أقع. كان الظلام ينفتح تدريجيًّا ويرشدني.

اقتحمتُ المعبد الذهبي من حائط الألواح الغربي، بجوار السوسيه، من خلال باب يُفتح على مصراعين، كنتُ قد تركته مفتوحًا كما هو. وألقيتُ وسادة القعود والصرة التي كنتُ أحملهما إلى بقية الأمتعة المكوَّمة هناك.

القلب ينبض بمرح، واليد المبتلة بالماء تهتز بخفوت. وعلاوةً على ذلك تبلَّل الثقاب. لم يشتعل العود الأول. ثم انكسر العود الثاني بعد أن كان على وشْك الاشتعال. اشتعل العود الثالث مضيئًا الفراغات التي بين أصابع يدي التي تحميه من الريح.

وسبب بحثي عن مكان وجود القش هو أنني نسيت بالفعل مكانه وكنت وضعته هنا وهناك. وعندما وصلت إليه بعد البحث، كان لهب الثقاب قد انطفأ. وعندها جلست القرفصاء ومسكت هذه المرة عودين معًا وحككتهما بالعلبة.

رسمت النار ظلالًا معقَّدة في كومة القش، وبرز لون الحقول المهجورة المنارة، وانتشرت تفاصيلها في الاتجاهات الأربعة. وكان اللهب يخفي نفسه في داخل الدخان الذي تبِع ذلك ونهض. ولكن من بعيد، ارتفعت النيران من الناموسية على غير المتوقَّع، نافخةً من لونها الأخضر. وأحسست أن ما حولي أصبح ضجيجًا.

كان رأسي في ذلك الوقت في شدة الانتباه واليقظة. كان عدد الثقاب محدودًا. هُرعت هذه المرة إلى ركنٍ آخر، وأشعلتُ النيران في حزمة أخرى من القش وأنا أحرص على كل عود ثقاب. كانت النيران التي ترتفع مشتعلة تواسيني. كنتُ أبرع زملائي الرهبان، في جعل الحطب يشتعل، عندما كنا نشعله في الأيام العادية.

تراقصت ظلالٌ ضخمة داخل مبنى هوسوئن. وأُضيئت التماثيل الثلاثة لبوذا المقدسة أميدا وكانون وسيشي، الموجودة في منتصف المبنى بظلال حمراء. وتلألأت عينا تمثال يوشيميتسو. وكان ظل ذلك التمثال الخشبي يتراقص في الخلفية.

لم أشعر بالحرارة على الأغلب. وعندما رأيت النار تنتقل انتقالًا مؤكدًا إلى صندوق التبرُّعات، فكرتُ أن الأمر تم كما يرام.

ولكني نسيتُ الخنجر والكالموتين. وعندها تولَّدت لديَّ فجأة فكرة أن أموت في قمة كوكيوتشو تلفني تلك النيران.

ولكن وبعد ذلك تفاديتُ النيران وهُرعت صاعدًا درجات السُّلم الضيق. ولم يُثِر لديَّ شك في سبب انفتاح الباب الذي يصعد بي إلى كهف صوت الأمواج. كان المرشد العجوز قد نسي إغلاقَ باب الطابق الثاني.

اقترب الدخان من ظهري. وأنا أسعُل نظرت إلى تمثال كانون الرحمة الذي يقال إنه مِن صنْع الراهب إيشين ولوحات عزف الملائكة التي تزيِّن السقف. تدريجيًّا امتلأ المكان بالدخان الذي يفوح في كهف صوت الأمواج. صعدتُ درجات السُّلم أكثرَ وأكثر، وحاولتُ فتْح باب قمة كوكيوتشو.

الباب لا يفتح. كان قفل الطابق الثالث مغلقًا بإحكام.

طرقتُ ذلك الباب. لا بد وأن صوت الطَّرق كان عنيفًا، ولكنه لم يصل إلى أذنيَّ. طرقتُ الباب بكل جهدي. كنت أشعر أن شخصًا ما سيفتح لي باب طابق قمة كوكيوتشو من الداخل.

الحُلم الذي حلَمتُ به وقتها في قمة كوكيوتشو كان بالتأكيد موضع موتي، ولكن لأن الدخان كان قد اقترب مني بالفعل، كنتُ وكأنني أطلب الخلاص، وأعتقدُ أنني كنتُ أطرق ذلك الباب بعنف وتعجُّل. يُفترض أنه ليس على الجانب الآخر من الباب إلا غرفة صغيرة مساحتها حوالي سبعة أمتار مربعة فقط لا غير. ثم في ذلك الوقت كنت أرى حلمًا مؤلمًا، ومع أن أغلبه قد سقط وضاع إلا أنه من المفترض أن تكون تلك الغرفة الصغيرة مبطَّنة في كل ركن وزاوية منها بقشرة الذهب الخالص. ومع طرقي للباب، لا يمكنني شرح الدرجة التي كنت أتوق فيها لتلك الغرفة الصغيرة المشعَّة. كان ما أفكِّر فيه هو الوصول إليها فقط بأي طريقة. فقط لو أستطيع الوصولَ إلى تلك الغرفة الصغيرة المبهرة …

دفعتُ الباب بكلِّ ما أوتيتُ من قوة. وعندما لم تكفِ يداي، ارتطمتُ عليه بكل جسدي. ولكن الباب لم ينفتح.

امتلأ التشوندو بأكمله بالدخان. وتردَّد صدى حسيس النيران بالقرب من قدمي. ابتلعتُ كثيرًا من الدخان وكنتُ على وشْك أن أفقد وعيي. وداومتُ على دفع الباب وأنا أسعُل بشدة. ولكن الباب لم ينفتح.

في لحظةٍ ما، عندما جاءني شعورٌ مؤكَّد أنني مرفوض، لم أتردَّد. عدلت جسمي وأسرعت بالنزول من الطابق. نزلت حتى مبنى هوسوين وسط الدخان المتماوج عاليًا، وعلى الأرجح أنني اخترقت النيران. وأخيرًا وصلتُ إلى الباب الغربي وقفزتُ طائرًا إلى خارج البوابة. وبعدها لم أعرف إلى أي مكان أتَّجه، فكنتُ أجري وكأنني الإله «سكاندا» حامي السماء سريعُ العدوِ.

… جريتُ بأقصى ما أستطيع. لا يمكن تخيُّل إلى أي درجة جريت دون راحة. ولا أتذكر مطلقًا من أين مررت وكيف مررت؟ على الأرجح أنني خرجتُ من جوار مبنى النجم الشمالي، وخرجت من البوابة الخلفية الشمالية، ومررتُ بجوار قاعة ميوؤدن، وصعدتُ جريًا الطريق الجبلية المليئة بنبات الخيزران وزهور الأزالية، وأتيت إلى قمة جبل هيداري دايمونجي.

من المؤكد أن سقوطي فوق مرعى حشائش نبات الخيزران تحت ظل شجرة صنوبر أحمر، ولهاثي من أجل أن يهدأ خفقان القلب العنيف كان فوق قمة جبل هيداري دايمونجي. وهو الجبل الذي يحمي المعبد الذهبي من الشمال تمامًا.

كان السبب الذي أعاد إليَّ الوعيَ بوضوح، هو صيحات الطيور التي أصابتها الدهشة. أحدها طار بعد أن رفرف بكل قوَّته وانزلق بجوار وجهي تمامًا.

أنا الذي سقطتُ على ظهري كانت عيناي تنظران إلى سماء الليل. مرَّت الطيور بعدد هائل بين أفرع أشجار الصنوبر الأحمر وهي تصيح وتصرخ، وكانت تتطاير بالفعل رقائق متناثرة من سُخام النيران في السماء فوق رأسي.

نهضتُ ونظرت لأتأمل المعبد الذهبي أسفل الوادي البعيد. تردَّد صدى أصوات غريبة من هناك، أصوات تشبه الألعاب النارية. وثمَّة أصوات تشبه طقطقة مفاصل عدد لا نهائي من البشر.

لا يمكن رؤية منظر المعبد الذهبي ذاته من هنا. لا يمكنني رؤية شيء، غير النيران التي تتصاعد في السماء، والدخان المتموج كالدوامة. تتطاير قِطَع سُخام النيران الملتهبة بكثافة بين الأشجار، وكأن سماء المعبد الذهبي قد نُثرت عليها حبَّات رمال ذهبية.

جلستُ مفترشًا وظللتُ لوقت طويل أتأمَّل ذلك المشهد.

وعندما انتبهتُ وجدت أن خدوشًا وجروحًا وحروق النيران تملأ جسمي وتنزف مني الدماء. وتسيل دماء من أصابع يدي فيما يُعتقد أنها جروح جُرِحتها بسبب الطَّرق الشديد على الباب منذ قليل. لعقتُ تلك الجروح مثل وحش هارب من غريمه.

وعندما بحثتُ في جيوب ردائي، ظهر الخنجر وزجاجة الكالموتين ملفوفين في منديل. فرميتهما مستهدفًا قاع الوادي.

لمستْ يدي السجائرَ في الجيب الآخر، فأخرجتُ سيجارة ودخَّنتها، ومثلما يقرِّر أيُّ شخص قد انتهى لتوه من عملٍ ما ضخم، قرَّرتُ أن أعيش.

(١٤ أغسطس ١٩٥٦م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤