الفصل الثاني
بموت أبي انتهت لديَّ مرحلة الصبا انتهاءً حقيقيًّا، ولقد اندهشتُ كثيرًا أنني في تلك المرحلة لم أمتلك أيَّ نوع مما يمكن تسميته اهتمامًا بالبشر. وتطوَّرت هذه الدهشة، عندما رأيتُ أنني لم أحزن بأي قدْرٍ لموت أبي، وهو ما لا يمكن تسميته دهشةً، بل أصبح نوعًا من الانطباع بالضَّعف وعدم امتلاك أي قوة.
توجَّهتُ إلى قريتي على وجه السرعة، وعندما وصلت كان أبي مسجًّى في التابوت بالفعل. والسبب أنني مشيتُ سيرًا على الأقدام حتى وصلت إلى خليج أوتشيؤرا، وهناك استأجرتُ مركبًا، فاستغرقت العودة إلى ناريو يومًا كاملًا من الإبحار بمحاذاة الساحل. كان الوقت هو ما قبل موسم المطر حيث الجو شديد الحرارة كلَّ يوم. وبعد أن ألقيتُ نظرةَ الوداع على وجه أبي، تقرَّر أن يُحرق على الفور بجوار شاطئ البحر، فحُمل التابوت إلى مكان الحرق في رأس البر المقفِر.
كان موت الراهب المقيم لمعبدٍ بوذي في قرية ريفية أمرًا في منتهى الغرابة. كان أمرًا ملائمًا ملائمةً زائدة عن الحد، فصار غريبًا. كان أبي يشكِّل ما يمكن اعتباره المركز الروحي لتلك المنطقة، وكان هو الذي يرعى أتباع المعبد في كلِّ ما يتعلَّق بحياتهم، وهو الشخص المفوَّض منهم بالتعامل معهم بعد موتهم. هذا الشخص مات في معبده. وهو ما أعطى لهم انطباعًا عميقًا بأنه كان مخلِصًا في عمله لأقصى درجة، الرجل الذي يدور عليهم ليعلِّمهم كيفيةَ الموت، أخطأ وهو يعمل محاكاة الموت فيموت، ليعطيَهم إحساسًا بنوع من أنواع الخطأ المهني.
كان تابوت أبي في الواقع كأنه مُركَّب داخل شيء مرتَّب بكل ترتيب ممكن، وموضوعًا بحيث يعطي إحساسًا بأنه في مكانه المناسِب بدرجة زائدة عن الحد. وكانت أمي وصِغار الرهبان وأتباع المعبد يبكون أمام التابوت. كانت قراءة صغار الرهبان لكتب السوترا المقدَّسة كأنهم يتلقَّون إرشادات أبي من داخل التابوت.
كان وجه أبي مدفونًا وسط زهور بدايات الصيف. كانت الزهور ما زالت حيةً لدرجةٍ تسبِّب الإعياء، وكأنها تنظر إلى قاع بئر. والسبب هو أن وجه الميت ابتعد ابتعادًا لا نهائيًّا عن سطح الوجود الذي يملِكه الوجه أثناء حياته، وأبقى فقط ما يشبه حافةَ وجه تم توجيهه إلينا؛ لأنه وقع في عمقٍ بدرجة لا يمكن الارتفاع منه ثانية. ثمَّة شيء يُدعى المادة، في مكان بعيد عنَّا بدرجة كبيرة، وطريقة هذا الوجود، أنه لا يمكن أن تصل إليه أيدينا بدرجةٍ كبيرة، لا شيء يمكن أن يحكيَ عن ذلك أكثرَ واقعية من وجه الميت. لأول مرة يمكنني ملامسة الروح وهي تتحوَّل إلى شيء مادي من خلال الموت هكذا، أحسستُ في ذلك الوقت أنني أصبحتُ أتفهَّم تدريجيًّا سببَ تعامُل «المادة» — مثل زهور شهر مايو، أو الشمس، أو المكتب، أو مبنى المدرسة، أو القلم الرصاص — معي بهذه الدرجة من البرود، وسبب ابتعادها عني.
حسنًا، كانت أمي وأتباع المعبد يراقبون آخرَ لقاء بيني وبين أبي. ولكن لم يتقبَّل قلبي العنيد تلك الكلمة التي توحي بمقارنة مع عالم الأحياء. لم يكن لقاءً أو ما شابه، أنا فقط كنت أنظر إلى وجه أبي الميت.
وكانت الجثة فقط يُنظر إليها. أنا فقط كنتُ أنظر. كانت عملية النظر، تجري كما هي في الوضع العادي بلا أي وعي لها، عملية النظر، هي برهانٌ على حياة الكائن الحي كما هي الآن، ويمكن لها أن تكون علامةً على العنف والقسوة، وكانت بالنسبة لي تجربةً زاهية مزدهرة. هكذا تعلَّم الفتى الذي لا يغنِّي بصوتٍ عالٍ، ولا يجري ويلف صارخًا، التأكُّدَ من حياته.
أنا الذي كنتُ صاحبَ العديد من الصِّفات الدنيئة، وقتَها، لم يحسَّ وجهي المشرق الذي لم يبتلَّ بأي قدْر ولو قليلًا من الدموع، بأي عارٍ من أن يتَّجه نحو أتباع المعبد. كان المعبد فوق جرفٍ عالٍ يُطلُّ على البحر. وفي خلفية المُعزِّين كانت غيوم الصيف المعقَّدة فوق مياه بحر اليابان تحجُب المنظر.
بدأ الرهبان في قراءة كتب السوترا المقدَّسة الخاصة بالجنازة في طائفة الزِّن التي تواكب حمْل الجثة، وانضممتُ أنا إليهم. وكانت القاعة الرئيسة مظلِمة. وكانت الرايات المعلَّقة على الأعمدة، وأنواع الزهور التي تُزين المزهريات داخل القاعة تلمع باستقبال أشعة الإضاءة التي تتسرَّب من المصابيح. وتدخل من حينٍ لآخر رياحُ البحر فتقلب أطرافَ زي الرهبان الذي أرتديه. لمحتُ بطرف عيني التي تقرأ كتاب السوترا هيئةَ غيوم الصيف الواقفة التي لا تنقطع وهي تحفِر بقوة أشعةً شديدة وقوية.
تلك الأشعة الخارجية القاسية التي لا تنفكُّ تصب على نصف وجهي بلا انقطاع. ذلك الاحتقار المتألق.
… عندما كانت الجنازة على وشْك الوصول إلى المحرقة على بُعد مائة أو مائتي متر قابلتنا أمطارٌ فجائية. وكان الوقت مناسبًا أننا نمرُّ أمام بيت أحد أتباع المعبد السمح النفس، فاستطعنا جميعًا الاحتماءَ من المطر داخل البيت مع التابوت. لم يكن هناك ما يشير إلى أن المطر سيتوقَّف. وكان يجب أن تتقدَّم الجنازة إلى الأمام. وهنا قام الجميع بإعداد أدوات المطر، وغطَّوا التابوت بورق منقوع في الزيت، وحملوه إلى المحرقة.
كان ذلك المكان عبارة عن شاطئ صغير ممتلئ بالأحجار والحصى في الجزء السفلي لرأس البر البارز في البحر في الجهة الجنوبية الشرقية للقرية. وكما سمِعت هذا المكان يُستخدم كمحرقة لجثث أهالي القرية منذ زمن بعيد، والسبب هو أن الدخان المتصاعد من الحرق في هذا المكان لا ينتشر في ربوع القرية.
كانت موجات ذلك الشاطئ عارمةً بدرجة خاصة جدًّا. وأثناءَ ما كانت الموجات تتحرَّك مهتزة ومتفاقمة وكأنها تحطِّم سطحَ الماء المفعم بالقلق، كانت الأمطار تنغرز فيها بلا توقُّف ولو لحظةً. تخترق الأمطار التي تحجُب الأشعَّة سطحَ البحر غارزةً فيه نفسَها في برود وهدوء. ولكن تهبُّ رياح البحر فجأةً ضاربةً أحجارَ ضِفة البحر الباردة في اضطرب. تصبح الأحجار البيضاء سوداء وكأنها هبَّت عليها قطرات حِبر الفحم الأسود.
وصلنا إلى هناك بعد أن عبَرنا نفقًا، ولكننا انتظرنا داخل النفق لنتجنَّب الأمطار، أثناء إعداد عمال المحرق نارَ الحرق.
لم أستطِع رؤيةَ منظر البحر. فقط الموج والأحجار السوداء المبلولة، والأمطار. كان التابوت الذي رُش بالزيوت، له لون سطح الخشب اللامع، وكان يطرقه المطر.
اشتعلت النيران. كانت كمياتٌ كبيرة من الوقود الذي يوزَّع في التموين من الدولة قد أُعدَّت من أجل الراهب الميت، ولذا كانت النيران على العكس تقاوم الأمطارَ واهتاجت وهي تصدِر أصواتًا مثل ضربِ السياط. رأيت بوضوحٍ هيئةَ اللهب الشفافة في وقت النهار، وسط الدخان الكثيف. الدخان مع تصاعُده وتراكمه بعضه فوق بعض بغنًى ووفرة، كان يهبُّ قليلًا قليلًا نحو الجرف، وفي لحظة معيَّنة، وفي منتصف الأمطار، يتصاعد اللهب فقط في شكل رائع.
انطلق فجأةً صوتٌ مرعب كأنه لشيء ينشق نصفين. وطار غطاء التابوت لأعلى.
نظرتُ إلى أمي التي تقِف بجواري. كانت أمي واقفةً تقبِض بيديها على المِسْبحة البوذية. كان وجهها متجمدًا بدرجة بشعة، ورأيته قد انكمش بدرجة مريعة حتى لقد تخيلتُ أنه وصل إلى حجمٍ يمكن أن يدخل في قبضة يدي.
•••
ذهبتُ طبقًا لوصية أبي إلى كيوتو وصرتُ تلميذًا يتعلَّم الرهبنة في المعبد الذهبي. اتَّبعت وقتَها الراهبَ المقيم وقمتُ بخطوات الدخول في الرهبنة من حلق الرأس وارتداء ملابس الرهبان. ودفع الراهب المقيم لي مصاريفَ الدراسة، ومقابل ذلك كنتُ أقوم بخدمة كبير الرهبان. أي إنني كنتُ مثل أي طالبٍ مقيم في منزله تمامًا.
الشيء الذي انتبهتُ له بعد أن دخلت المعبدَ مباشرةً هو أن الجيش أخذ رهبانَ الدير المزعجين، ولم يبقَ إلا العجائز وصغار السن جدًّا من الصبيان. وقد ارتحتُ كثيرًا بعدما جئتُ إلى هنا من عدة أمور. فلا أحدَ يسخر مني مثل المدرسة الإعدادية المدنية، بسبب أنني ابنُ راهب معبد؛ لأن الكل هنا على شاكلتي … الذي اختلفت فيه عنهم هو فقط تلعثمي ودمامة وجهي قليلًا. تركت مدرسة شرق مايزورو الإعدادية، وبتوصيةٍ من الراهب المقيم، انتقلتُ إلى مدرسة رينزاي الإعدادية، وتقرَّر أن أبدأ التردُّد على المدرسة من فصل الخريف الدراسي الذي يبدأ بعد أقلَّ من شهر. ولكن كنتُ أعرف أنه مع بداية المدرسة سيتم ترحيلي على الفور إلى أحد المصانع ضمن عمالة مساعِدة وقتَ الحرب. وأمامي الآن بضعة أسابيع باقية من العطلة الصيفية للتعوُّد على البيئة الجديدة التي وُضِعت فيها. مع دهشتي كانت فترة العطلة الصيفية في الحِداد، عطلةً صيفية هادئة للغاية في نهايات الحرب عام ١٩٤٤ … قضيتُ حياتي في المعبد بصفتي تلميذَ رهبنةٍ في انتظامٍ وجِدٍّ ملتزِمًا بالقواعد، وكان ذلك يذكِّرني بأنها آخرُ عطلاتي مطلقًا. وكنتُ أستمِع إلى صوتِ حشرات الزيز وقتَها بكل تفاصيله.
… كان المعبد الذهبي الذي كنتُ أراه بعد غياب عدةَ أشهر ذا منظر هادئ وسط أشعة الشمس في أواخر الصيف.
كنتُ أحمل رأسًا أخضرَ قد حلقتُه لتوي عند عملي استعدادات الدخول في الرهبنة؛ ذلك الشعور بأن الهواء ملتصِق تمامًا برأسي، وتفكيري في ذلك داخل ذلك الرأس، وتلك البشَرة النحيفة الحسَّاسة تجاه أي جروح، ذلك الإحساس العجيب بالخطر عند تلامسه مع مواد العالم الخارجي.
عند رفعِ ذلك الرأس والنظر إلى المعبد الذهبي، فالمعبد الذهبي ليس من عيني فقط، ولكنني أشعر أنه يدخل إليَّ مقتحِمًا من رأسي أيضًا. وذلك الرأس يسخن استجابةً لأشعة الشمس، ويَبرُد استجابةً لنسيم الغروب.
كنتُ أريح يدي الممسكة بمكنسة التنظيف، وأهمس في قلبي قائلًا: «أيها المعبدُ الذهبي، أخيرًا جئتُ إليك لأسكنَ بجوارك. ليس مهمًّا أن يكون ذلك على الفور، ولكن أرجو في وقتٍ ما أن تُظهِر لي شعورًا بالأُلفة وأن تبوح لي بأسرارك. فجَمالك يبدو وكأنه يمكن رؤيته بوضوحٍ على بُعد خطواتٍ قليلة، ولكنه مع ذلك محجوبٌ عني. أرجو أن تجعل الصورة الأصلية لك أكثرَ جَمالًا من الصورة التي أحتفظ بها لك في قلبي. وكذلك إذا كنتَ أجملَ لدرجةٍ لا تقارن بها أي شيء على وجه الأرض، فاحكِ لي لماذا أنت بهذه الدرجة من الجَمال؟ ولماذا يجب أن تكون بهذا الجَمال؟»
كان المعبد الذهبي في ذلك الصيف، يجعل الأخبارَ الحزينة، التي تتوالى توضِّح الوضعَ المظلم للحرب، طُعمًا له فيبدو متألقًا وأكثرَ حيويةً ونشاطًا عن ذي قبل. كان الجيش الأمريكي قد احتل جزيرةَ سايبان في شهر يونيو، وغزا جيش الحلفاء نورماندي في نفس الشهر. كذلك قلَّ عدد زوار المعبد بدرجةٍ لافتة جدًّا للنظر، وبدا أن المعبد الذهبيَّ وكأنه يستمتع بتلك الوحدة وذلك الهدوء.
كان من الطبيعي جدًّا أن فوضى الحرب والقلق، وكثرة عدد الجثث والدماء الغزيرة، تَزيدان جَمال المعبد الذهبي غنًى ووفرة. في الأصل المعبد الذهبي هو مبنًى أنشأه القلق، مبنًى خطَّط له عدد كبير من الناس يحملون قلوبًا مظلمة وفي مقدمتهم قائدٌ عسكري. لا ريبَ أن التصميم المتفكك ذا الطوابق الثلاثة — الذي لا يمكن لمؤرِّخ فنِّي أن يجد له مثيلًا إلا هنا فقط — بحث عن طرازٍ يبلور القلق فأصبح تلقائيًّا هكذا. لو بُنيَ كطرازٍ واحد مستقر، لمَا استطاع المعبد الذهبي أن يضمَّ داخله ذلك القلق، ولا شك أنه كان سينهار منذ زمن بعيد.
… ورغم ذلك، مرات كثيرة أريح يدي الممسكة بمكنسة التنظيف، وأنظر عاليًا إلى المعبد الذهبي، وفي كل مرة أشعر بالعجب والدهشة لوجود المعبد الذهبي في هذا المكان. مثلما كان في وقتٍ ما، في ليلة واحدة، عندما زُرت المعبدَ الذهبي مع أبي رغم أنه على العكس لم يعطني هذا الإحساس، فالاعتقاد طَوال تلك السنوات الطويلة التي عشتها أن المعبد الذهبي أمام عيني، هو شعورٌ يصعُب تصديقه.
عندما كنتُ في مايزورو، كنتُ أعتقد أن المعبد الذهبي يقع بلا تغيير في ركن من أركان مدينة كيوتو، ولكن عندما سكنتُ هنا، أعتقد أن المعبد الذهبي يظهر لي فقط عندما أنظر إليه، وعندما أبيتُ الليل في المعبد الرئيس مثلًا، يأتيني إحساسٌ بأن المعبد الذهبي انعدم وجودُه. من أجل ذلك كنت أذهب لرؤية المعبد الذهبي أكثرَ من مرة في اليوم الواحد مما جعل أقراني يسخرون مني. لكن أيًّا كان عدد المرات التي رأيت فيها المعبد الذهبي كنتُ أعتقد أن وجوده هنا أمرٌ عجيب، وفي طريق عودتي إلى المعبد الرئيس بعد رؤيتي له، أغيِّر وجهتي فجأةً وأنظر إليه مرةً أخرى، أشعر وكأن المعبد الذهبي سيختفي فورًا مثل يوريديس.
حسنًا بعد أن انتهيت من التنظيف حول المعبد الذهبي، تلافيت شمسَ الصباح التي بدأت أخيرًا تزيد من حرارتها وسخونتها، ودخلتُ الجبل الخلفي، وصعدتُ الطريقَ الضيقة المؤدية إلى مبنى سِكَّاتيه. ولأنه لم يحِن الوقت بعدُ لفتح الحديقة، فلا أثر لأي إنسان في أي مكان. حلَّق سربٌ من الطائرات المقاتلة جاء على الأغلب من قاعدة مايزورو الجوية، تحليقًا منخفضًا جدًّا فوق المعبد الذهبي ثم رحلتْ تاركةً مع رحيلها أصواتًا رعدية شديدة.
ثمَّة بِركة مياه موحشة في الجبل الخلفي، تغطيها الطحالب تُعرف باسم «أمِّينتاكو» وداخل البِركة جزيرة صغيرة، وفي وسط الجزيرة برجٌ صغير من الأحجار عبارة عن خمس درجاتٍ يسمَّى هاكوجانوتُسكا. في الصباح في تلك المنطقة، تكون أصوات الطيور صاخبة للغاية، ولكن لا تُرى طيور، بل تصيح الغابة كلُّها.
نبتَت حشائش الصيف حتى أطراف البِركة. ويحُد الطريق الضيقة منطقة الحشائش تلك من خلال سورٍ منخفض. كان يرقد في تلك المنطقة فتًى يلبَس قميصًا أبيض. تستند مِدَمَّة من الخيزران على شجرة القيقب المنخفضة التي بجواره.
أنهض الفتى جسمَه باندفاع قوي، كأنه يحفِر حفرةً في هواء الصباح الصيفي الهادئ الذي يفوح في هذا المكان، وقال:
«ماذا؟ هل هو أنت؟»
إنه فتًى اسمه تسوروكاوا كنتُ قد تعرَّفت عليه ليلة أمس فقط. وُلد تسوروكاوا في معبدٍ غني يقع في ضواحي طوكيو، ويُرسل إليه مصاريف الدراسة ومصاريفه الشخصية والمواد الغذائية بوفرة من منزل أبويه، ولكن أرسله والده الذي له معرفة قديمة بالراهب المقيم، إلى المعبد الذهبي فقط من أجل أن يتذوَّق تدريبَ الرهبان. وكان يعود إلى طوكيو في عطلةِ كل صيف، ولكنه عاد ليلةَ أمس قبل انتهاء العطلة. تسوروكاوا الذي يتحدَّث بلهجة أهل طوكيو المتميزة من المفترض أنه سيكون زميلَ دراسة لي في مدرسة رينزاي بدايةً من فصل الخريف القادم، وقد أصابتني طريقة كلامه السريعة الواضحة تلك، بالإحباط بالفعل منذ أمسِ.
ثم الآن فقدَ لساني النطقَ بعد أن قال لي: «ماذا؟ أهو أنت؟» ولكن يبدو أن تسوروكاوا ترجم صمتي هذا إلى أحد أنواع النقد له.
«حسنًا، ليس ضروريًّا أن تقوم بالتنظيف بكل هذه الجِدية. فسيأتي الزوار ويتَّسخ المكان من جديد، علاوةً على أن عدد الزوار نفسه قليل.»
ضحكتُ قليلًا. ويبدو أن تلك الضحكات البلهاء التي تتسرَّب مني دون قصد، تكون بذورًا للألفة مع أشخاص بعينهم. ولكن لا أستطيع أنا أن أتحمَّل هكذا مسئولية الانطباعات التي أعطيها للآخرين حتى تفاصيل التفاصيل.
تخطيتُ السورَ وجلستُ بجوار تسوروكاوا. نام تسوروكاوا مرةً أخرى وقد أحاط رأسه بذراعه التي كان جانبها الداخلي أبيضَ شفافًا لدرجة أن تشفَّ عروق الدماء الداخلية، رغم أن الجانب الخارجي منها قد اسمرَّ تمامًا من أشعة الشمس. تنثر أشعة الصباح المتسربة من بين الأشجار، ظلالَ الأعشاب ذات اللون الأخضر الشاحب. عرفت بحَدْسٍ طبيعي أن ذلك الفتى على الأرجح لا يعشق المعبدَ الذهبي مثلي. والسبب أنني كنتُ منذ زمن أجعل سببَ تعلُّقي الشاذ بالمعبد الذهبي هو قبح ملامحي.
«سمعتُ أن والدك مات.»
«أجل.»
حرَّك تسوروكاوا مُقلتَيه بسرعة ومهارة، ودون أن يخفيَ ذلك ركَّز ذهنه في استنتاج تفسير يناسب صبيًّا في عمره:
«هل حبُّك الشديد للمعبد الذهبي، أنك عندما تراه، تتذكَّر والدك؟ مثلًا أن والدك كان يعشق المعبد الذهبي أو شيئًا من هذا القبيل؟»
أحسستُ أن هذا التفسير الذي أصاب نصفَ الحقيقة، لم يعطِ أيَّ تغيير لملامح وجهي التي لا تتأثر، فشعرتُ قليلًا بالفرحة. كان تسوروكاوا لديه هواية تجاه مشاعر البشر — مثلما يفعل بكثرة فتًى يهوى صُنْع دليل لعينات الحشرات — فهو يقسمها في نظافة وجَمال متأنق في أحد أدراج غرفته، ومن وقت لآخر يُخرجها ويحاول أن يختبرها على الطبيعة.
«من المؤكَّد أنك حزنت كثيرًا لموت والدك. ولذا يبدو عليك الشعور بالوحدة. لقد اعتقدتُ ذلك منذ أن رأيتك ليلةَ أمس لأول مرة.»
لم أشعر تجاه ذلك بأي اعتراض، وعندما قيل لي ذلك، ومن خلال انطباع الطرَف الآخر بأنه يبدو عليَّ الشعور بالوحدة، جاءني إحساس بالاطمئنان والحرية فخرجت الكلمات سلسةً من فمي:
«لم أشعر بأي حزن.»
رفع تسوروكاوا رموشَه الطويلة لحد الإزعاج، ونظر تجاهي.
«حقًّا؟ … هل كنتَ تحقد على والدك؟ أو على الأقل كنت تكرهه؟»
«لا، لم أكن أحقد عليه، ولم أكن أكرهه …»
«حقًّا؟ لماذا إذن لم تحزن عليه؟»
«نوعًا ما. هكذا كان.»
«لا أفهم!»
اعتدل تسوروكاوا في جِلسته على العشب لمَّا واجه تلك المشكلة الصعبة.
«إذا كان الأمر كذلك، فهل من سببٍ أكبرَ من ذلك للحزن؟»
قلت له:
«ما هذا؟ أنا لا أفهم.»
ولكن بعد أن قلتُ ذلك، ندِمت على حبي لخلقِ حالة من الاستفهام. لم يكن الأمر يمثِّل لي استفهامًا أو أيَّ شيء من هذا القبيل. كان أمرًا تامَّ الوضوح. لقد كانت مشاعري أيضًا تتلعثم. دائمًا لا تأتي مشاعري في الوقت المناسب. ونتيجةً لذلك، كانت حادثة موت أبي، ومشاعر الحزن التي تجتاحني، كانتا منفردتين ومستقلَّتين إحداهما عن الأخرى، ولم ترتبط كلٌّ منهما بالأخرى، وأعتقد أنهما لم تتقابلا بالفعل معًا. انحراف بسيط في الزمن، تأخُّر بسيط، دائمًا ما يكون الحدث ومشاعري منفصلَين بعضهما عن بعض، وعلى الأرجح يُحدِث ذلك حالةً من الانفصال الجوهري. إنْ كان ثمَّة شيءٌ ما يسمَّى حزني، فهو على الأرجح، ليس له أي علاقة بحدثٍ ما، بل يهجم عليَّ هجومًا مفاجئًا دون أسباب …
… مرةً أخرى انتهى الأمر دون أن أستطيعَ شرْحَ كل ذلك للصديق الجديد الذي أمام عيني. وأخيرًا ضحِك تسوروكاوا وقال:
«هاه، أنت شخص غريب!»
شعرتُ بالسعادة وأنا أرى الأشعة المتسرِّبة من بين الأشجار، التي تحرَّكت على تجاعيد قميصه الأبيض. كانت حياتي أيضًا مقبِلة على تجاعيدَ مثل تجاعيد قميصه. ولكن يا لها من أشعة بيضاء متألقة تلك التي يعكسها قميصه بتجاعيده! … تُرى هل بدوتُ أنا أيضًا كذلك؟
تنشط معابِد الزِّن بناءً على قواعد وتقاليد طائفة الزِّن بغضِّ النظر عن العالم الخارجي. ولأننا في موسم الصيف فمهما تأخرنا فلا بد أن نستيقظ في الخامسة صباحًا. الاستيقاظ صباحًا يُطلَق عليه اسم «افتتاح القواعد». نبدأ بعد الاستيقاظ مباشرةً بالواجب الصباحي وتلاوة كتاب السوترا، وتسمَّى الدورات الثلاث، لأننا نقرؤه ثلاثَ مرات. وبعد ذلك، نبدأ في تنظيف المباني من الداخل، بمسحِها بالخِرَق. ثم يأتي وقت تناول وجبة الإفطار من حَساء الأَرُز المسلوق.
ونتلو كتاب السوترا الخاص بتناول حَساء الأَرُز المسلوق ونصُّه:
«شويوجيري … نيوبي أنجين … كوهوبوهِن … كيوكينجورا …»
ثم بعد تناول الطعام نقوم بالأعمال المعتادة مثل اقتلاع الحشائش ثم تنظيف الحديقة، ثم تقطيع الحطب … إلخ. إذا بدأت الدراسة، يكون الوقت بعد ذلك هو وقتَ الذهاب إلى المدرسة. وبعد العودة من المدرسة مباشرةً يمكننا تناول طعام العشاء. وبعد ذلك أحيانًا ما يكرمنا الراهب المقيم بإلقاء محاضرة عن كتاب السوترا المقدَّس. وفي الساعة التاسعة وقتُ فتح الوسادة؛ أي وقتُ النوم.
كانت أعمالي اليومية هي كما سلف، وإشارةُ الاستيقاظ من النوم، هي صدى صوت الجرس الذي يدور به الراهب المكلَّف بالطبخ.
في المعبد الذهبي، أي معبد روكوؤنجي، في الأصل يجب أن يظلَّ اثنا عشر أو ثلاثة عشر فردًا. ولكن بسبب الاستدعاء للجيش والاستدعاء للعمل في المصانع الحربية، لم يكن في المعبد إلا الدليل الذي يقوم بوظيفة الاستقبال والبالغ من العمر بضعة وسبعين عامًا، والمرأة التي تقوم بأعمال الطبخ والتي يقترب عمرها من الستين، والراهب المقيم الذي يدير العمل ونائبه، ثم نحن الثلاثة تلاميذ الرهبنة فقط. العجائز نبت فيهم العفن وهم نصف موتى، والشباب عبارة عن أطفال صغار. وينشغل الراهب المقيم ونائبه في أعمال الحسابات.
بعد عدة أيام، أخبروني أن إحدى مهامي هي توصيل الجرائد إلى غرفة الراهب المقيم (نحن ندعوه كبير الرهبان). كان وقت وصول الجرائد بعد انتهاء وجبة الفطور، والانتهاء من أعمال التنظيف. تصبح أعمال النظافة متعجلة وغير متقَنة؛ لأن مَن يقوم بها عددٌ قليل، ويجب أن تنتهيَ في زمن قصير، رغم أنه يجب مسح كل ممرات المعبد ذي الثلاثين غرفة. أذهب إلى البوابة وآخذ الجرائد وأعبر من الممر أمام قاعة الرسل وآخذ دورةً من خلف مبنى الضيوف، فأصل إلى مبنى المكتبة الكبرى حيث يقع مكان إقامة كبير الرهبان. مُسحت الممرات حتى المكان، بسكبِ نصف دلو مياه بنيةِ أن يجفَّ؛ لذا فالماء المتبقي في نتوءات الألواح يتلألأ مع أشعة شمس الصباح ويبلل قدميَّ حتى العرقوب. ولأننا في فصل الصيف كنت أشعر بالمتعة. ولكن، تعلَّمت من زميلٍ تقليدًا سريًّا عند وصولي إلى غرفة كبير الرهبان، وهو أن أمسح قدميَّ بسرعة بطرَف رداء الرهبنة عندما أجثو أمام الباب قائلًا: «من فضلك.» فيرُدُّ بالقول: «هاه.»
أثناء شمي رائحةَ حبر المطبعة الذي تفوح منه جِدة وطزاجة الحياة المدنية، كنت أُسرِع الخطى في الممرات وأنا أختلس النظرَ إلى عناوين الجريدة الرئيسية. وعندئذٍ، قرأت عنوانًا رئيسيًّا يقول: «ألا يمكن تلافي القصف الجوي لعاصمة الإمبراطورية؟»
لم أجرِّب أن أربِط بين المعبد الذهبي والقصف الجوي حتى ذلك الوقت، وربما يكون ذلك أمرًا عجيبًا. في هذه الأثناء وبعد سقوط جزيرة سايبان، اعتُبر القصف الجوي على الأراضي اليابانية لا يمكن تفاديه، وتم الإسراع في إخلاء سكان أجزاء من مدينة كيوتو بالقوة. ومع ذلك ما من علاقةٍ بتاتًا بين المعبد الذهبي شبهِ الأبدي وكارثةِ القصف الجوي. كان كلٌّ من المعبد الذهبي الخالد وتلك النار المصنَّعة علميًّا يَعرف جيدًا الطبيعة المختلفة للآخر، وأحسستُ أنهما إذا التقيا فسيتفادى أحدهما الآخرَ برشاقة.
… ولكن ربما يختفي المعبد الذهبي في النهاية حرقًا بنار القصف الجوي. إذا سارت الأمور على هذا الحال، فمن المؤكَّد أن يكون مآل المعبد الذهبي إلى رماد.
… بعد أن تولَّدت لديَّ هذه الفكرة في داخلي، زاد جَمال المعبد الذهبي مرةً أخرى بدرجة مأسوية.
كان ذلك اليوم، هو ظهيرةَ آخر يوم من العطلة الصيفية، ومن المقرَّر أن تبدأ الدراسة في المدرسة من اليوم التالي. رحل كبيرُ الرهبان لتنفيذ مراسم إحياء ذكرى أحد الأموات، واصطحب معه نائبه. فعرض على تسوروكاوا الذهابَ معه إلى السينما. ولكن لأنني كنتُ غيرَ متحمس لذلك، فقدَ هو كذلك حماسَه على الفور. كانت تلك إحدى صفات تسوروكاوا.
أخذنا نحن الاثنان وقتَ فراغٍ لعدد من الساعات، ولففنا الجُرْموق (رِباط الساق) حول سِروالينا الكاكيين، وخرجنا من المبنى الرئيس وعلى رأسينا قبَّعتا مدرسة رينزاي المتوسطة. كان يومًا من أيام الصيف التي تلتهب فيها أشعَّة الشمس، ولم يكن ثمَّة زائر ولو واحدًا للمعبد.
«إلى أين نذهب؟»
أجبتُ على ذلك السؤال، فقلت إنني قبل الذهاب إلى أي مكان أريد أن أشاهدَ المعبد الذهبي ببطء وتمعُّن؛ لأنني من الغد لن أستطيع أن أرى المعبد الذهبي في مثل هذا التوقيت، وربما يحترق المعبد الذهبي بواسطة القصف الجوي أثناء غيابنا في المصنع. كنتُ أتلعثم بقول هذه الحجج الواهية، وأثناء ذلك كان يبدو على وجه تسوروكاوا ملامح الاستياء والتململ.
تدفَّق عَرقٌ غزير على وجهي بعد أن انتهيت من قول ذلك فقط، وكأنني قلت شيئًا مخجِلًا. كان تسوروكاوا هو الوحيدَ الذي بُحتُ له بتعلُّقي المريب بالمعبد الذهبي. ولكن ملامح تسوروكاوا الذي كان يسمع مني ذلك، كانت فقط تعبِّر عن شعورٍ بنفاد الصبر، الذي تعودتُ رؤيتَه من أي شخص يبذل جهده لكي يستطيع سماعَ كلامي المتلعثم.
أصطدم دائمًا بمثل هذا الوجه. في حالة الاعتراف بسرٍّ خاص، وفي حالة الإعراب عن التأثُّر بارتفاع الجَمال، وفي حالة إخراج ما في أحشائي وإظهاره، الذي أصطدم به دائمًا هو مثل هذا الوجه. لا يُظهِر الإنسان مثل هذا الوجه تجاه إنسان طبيعي. يقلِّد ذلك الوجه بدرجة عالية من الإخلاص، شعور التململ المضحك الذي على وجهي كما هو، ليصير إن صحَّ التعبير مثل مرآة مخيفة. أيًّا كانت درجة جَمال الوجه، في ذلك الحين، يتغيَّر إلى وجهٍ قبيح يشبه قبحي تمامًا. وعندما أرى ذلك تنخفض في الحال قيمة الشيء المهم، كنتُ أحاول أن أعبِّر عنه، إلى شيءٍ لا قيمة له مثل قرميد أسطح البيوت …
كانت أشعَّة الشمس المباشرة العنيفة تفصل بين تسوروكاوا وبيني. ينعكس الضوء على وجه تسوروكاوا اليافع فيجعل شحمه يلمع، وتلتهب الرموش في وسط الأشعة رِمشًا رِمشًا، وتمتد فتحة الأنف بهواء ساخن ورطب، ينتظرني أن أنتهيَ من كلماتي.
أنهيتُ حديثي. وفي نفس لحظة انتهائي من الحديث، تملَّكني الغضب، فتسوروكاوا لم يُقم بالسخرية من تلعثمي قط منذ أن قابلته وحتى الآن، ولا مرة واحدة.
«لماذا؟»
استعلمتُ منه بهذا السؤال. كما ذكرتُ مرارًا فأنا أفضِّل السخرية أو الاحتقار أكثرَ من التعاطف.
لاحت على مُحيَّا تسوروكاوا ابتسامةٌ خلابة. ثم قال:
«في الأصل أنا إنسان لا أبالي بتاتًا بهذا الأمر.»
أصابتني دهشة. أنا الذي نشأتُ في منطقة ريفية ذات بيئة قاسية، لم أكن أعرف هذا النوع من طيبة القلب. علَّمتني طيبة تسوروكاوا اكتشافًا جديدًا، أنني أظل كما أنا حتى لو نزعنا التلعثم من وجودي. تذوقتُ بكل كياني متعةَ أن أكون عاريًا تمامًا بلا أي غطاء. فعيون تسوروكاوا التي تحفُّها رموش طويلة، تقبَّلتني بعد أن نزعت مني التلعثم. والسبب أنني حتى ذلك الوقت، كنت أُومن تمامَ الإيمان وبدرجةٍ مريبة أن تجاهُل أنني متلعثم يعني إلغاءَ وجودي ذاته.
… أحسستُ بالسعادة وبتوافُق المشاعر. وليس عجيبًا أنني لم أنسَ لأمد طويل منظرَ المعبد الذهبي الذي رأيته وقتَها. مررنا أمام العجوز الذي يقوم بدور موظف الاستقبال، كان في غفوةٍ وهو جالس، وأسرعنا بمحاذاة سورِ الطريق التي لا أثرَ لإنسان بها، حتى وصلنا إلى مقدمة المعبد الذهبي.
… يمكنني التذكُّر بوضوح تام. يقف شابَّان يرتدي كلٌّ منهما قميصًا أبيضَ، على أحد ضِفتَي بِركة كيوكو، ويلفَّان حول ساقيهما جُرموقًا، ويضع كلٌّ منها ذراعه على كتف الآخر. كان المعبد الذهبي أمام هذين الاثنين دون أي نوع من الحواجز.
كان شبابنا في الصيف الأخير، والعطلة الصيفية الأخيرة، ثم آخر يوم منها يحلِّق في القمة بدرجة تخلُب العين. وكان المعبد الذهبي كذلك، يحلِّق على القمة مثلنا، ليواجهنا ويحاورنا. قرَّب انتظار القصف الجوي بيننا وبين المعبد الذهبي إلى هذه الدرجة.
بسطت أشعة شمس نهايات الصيف الهادئة، قشرةً ذهبية على سقف الطابق العلوي للمبنى. وملأت الأشعة التي تغمُر ما تحتها مباشرةً، داخل المعبد الذهبي بظلامٍ يشبه ظلامَ الليل الحالك. ورغم أن الزمن الخالد لهذا البناء المعماري كان يسحقني ويعزلني فيما مضى، إلا أن مصيره — وهو الحرق بقذائف النيران — جاء ليلتصقَ بمصائرنا. وربما يندثر المعبد الذهبي قبلنا. وعندها يمكن الاعتقاد أن المعبد الذهبي يملِك حياةً مثل حياتنا.
تلفُّ أصوات حشرات الزيز جبالَ الصنوبر الأحمر المحيطة بالمعبد الذهبي، وكأنها عزائمُ عدد لا نهائي من الرهبان تبتهل للحماية من الحرائق: «غيا غيا. كيا كيا غيا غيا. أنون نون. شيفورا شيفورا. هاراشي فورا هاراشي فورا.»
كنت أفكِّر في أن هذا الشيء الجميل سيئول إلى رماد في وقتٍ ليس بعيدًا. ومن خلال ذلك، تطابقت صورة المعبد الذهبي الذي في ذهني، مع المعبد الذهبي الذي على أرض الواقع، كما تتطابق اللوحة التي رُسمت بالتخطيط على ورقٍ شفاف للوحة حريرية، فوق اللوحة الأصلية، تدريجيًّا تتطابق تلك التفاصيل؛ السقف على السقف، الإفريز البارز تجاه البحيرة على الإفريز، درابزين تشوندو على درابزين تشوندو، نافذة قمة البرج الثالث المسمَّاة كوكيو على نافذة كوكيو. لم يَعُد المعبد الذهبي مبنًى معماريًّا راسخًا. بل كان إذا جاز القول، تجسيدًا لرمزية فناء عالَم الظواهر. أصبح المعبد الذهبي على أرض الواقع، من خلال هذا التفكير، جميلًا بحيث لا يقل عن الصورة التي في ذهني.
غدًا ستسقط النيران من السماء، وستئول تلك الأعمدة الرفيعة الجسم، وتلك الخطوط المتموجة للسطح الفاخر كلها إلى رماد، وربما لن نستطيع رؤيتها مرةً أخرى. ولكنه يقف أمام عيني الآن، بصورته البالغة الدِّقة، رابطَ الجأش، بينما تغمُره أشعةٌ مثل نيران الصيف.
على حافة الجبل، ثمَّة غيوم مهيبة شامخة، مثل التي أحسستُ بها في حافة عيني عندما كنتُ أقرأ السوترا بجوار رأس أبي المسجَّى في تابوته. كانت ممتلئة بأشعة متراكمة كئيبة، تنظر من علٍ إلى ذلك المبنى المعماري الرقيق الحسَّاس. فقدَ المعبد الذهبي تحت مثل هذه الأشعة القوية لشمس أواخرِ الصيف، جاذبيةَ الأجزاء الدقيقة، ولُفَّ بظلام بارد في داخله المعتِم كما هو، ولكن ذلك الظل المحيط يبدو وكأنه يرفض العالَم المتألق المحيط به. ويحاول طائر العنقاء الذي على القمَّة أن يصمد أمام الشمس دون أن يترنَّح فيشحذ حوافره، ويتشبَّث بقوة في قاعدته.
التقط تسوروكاوا، الذي سئم من تحديقي ونظري الطويل، حجرًا صغيرًا من الأرض بجوار قدمِه، وألقى به في بِركة كيوكو مقلدًا بمهارةٍ رُماةَ كرة البيسبول لترتطمَ بقلبِ انعكاسِ ظلِّ المعبد الذهبي في البِركة.
امتدَّت الموجات دافعةً الفطريات التي على سطح الماء، وفي التو والحال، انهار وزال المبنى المعماري الجميل الدقيق التفاصيل.
•••
كان العام الذي مرَّ بعد ذلك حتى انتهاء الحرب، فترةً كنتُ فيها على علاقةِ أُلفة قوية مع المعبد الذهبي، حيث كنت منشغلًا بسلامته غارقًا في جَماله. إذا فصَّلنا القول، فقد كانت الفترة التي رفعني المعبد الذهبي فيها لأكون على نفس ارتفاعه، واستطعت أن أحبَّ المعبد الذهبي دون خوف. ولم أكن استقبلت من المعبد الذهبي ذلك التأثير السلبي بعدُ أو تجرَّعت سُمَّه.
كانت المحنة المشتركة بيني وبين المعبد الذهبي في هذا العالَم ترفع من معنوياتي. لقد عثرت على وسيطٍ يربط بيني وبين الجَمال. أحسستُ ببناء جسر بيني وبين ما كنتُ أعتقد أنه يرفضني ويُبعدني عنه.
كانت تُسكرني حتى الثمالة فكرةُ أن النيران التي تحرقني وتُفنيني هي نفسها التي تحرق المعبد الذهبي وتفنيه. نفس الكارثة، تحت مصير نفس النيران المشئومة، أصبح العالم الذي أسكنه أنا والمعبد الذهبي ينتمي لنفس البُعد الواحد. يملِك المعبد الذهبي، مثل بدني الشنيع الهش، بدنًا كربونيًّا قابلًا للحرق رغم صلابته. عندما أفكِّر في ذلك، أحيانًا ما أشعر أنه يمكنني الهرب حاملًا المعبدَ الذهبي في لحمي بين خلايا جسمي، مثل اللص الذي يهرُب بعد أن بلع جوهرةً ثمينة لإخفائها.
خلال ذلك العام، لم أتعلَّم السوترا، ولم أقرأ كتابًا، بل أريد منكم التفكيرَ في أني كنت منشغلًا يومًا بعد يوم من الصباح للمساء بين تدريب النفس والتدريبات العملية ورياضة الدفاع عن النفس، والمساعدة في الإخلاء القسري وأعمال المصنع. ابتعدَت عني الحياة بفضل الحرب، وساعد في ذلك شخصيتي الحالمة. كانت الحرب بالنسبة لنا، نحن الفتيان، عبارة عن تجربة مضطربة عاجلة بلا أي نوع من أنواع الأحلام التي ليس لها أيُّ واقع في الطبيعة، مثل الحَجْر الصحي الذي تم عزله عن معنى الحياة.
من المؤكَّد أن كيوتو ستحترق أخيرًا في القريب العاجل. وسيُفقد هذا الشكل الذي يملأ الفراغ … ووقتها سيُبعث طائر العنقاء الذي على القمة، للحياة من جديد مثل طائر الخلود ويطير. ثم يتخلَّص المعبد الذهبي المقيَّد بالشكل، من قيوده ويظهر في كل مكان، فوق البحيرات، وفوق امتداد البحر المظلم، ليفوحَ طيفه ويتقاطر منه وميضُ الأشعة.
ولكن مهما انتظرت وانتظرت، لم يُصِبْ كيوتو أيُّ قصف! حتى عندما سمِعنا نبأ أنه في التاسع من مارس من العام التالي، أحاطت النيران بكل أحياء طوكيو الشعبية، كانت كارثة الحريق بعيدة، ولم تكن فوق كيوتو إلا سماء صافية لربيع مبكِّر.
كنتُ مع انتظاري شبهَ يائس، أحاول تصديقَ أن الداخل لا يمكن رؤيته بالضبط مثل زجاج لامع، ولكنَّ المعبد الذهبي يخفي في داخله نيرانًا ودمارًا يُفني. لقد سبق أن ذكرتُ من قبلُ أن مشاعري الإنسانية واهنة. فلم يؤثِّر موت أبي ولا فقر أمي على حياتي النفسية الداخلية أيَّ تأثير. أنا فقط كنتُ أحلُم بوجود عصَّارة سماوية عملاقة تُحدِث دمارًا هائلًا وكارثة ضخمة في شكل مأساة تتخطَّى حجمَ البشر، فهي تحطِّم كلَّ شيء في ظل الشروط نفسها؛ البشَر والجماد، الأشياء الجميلة والأشياء القبيحة. ولكن بدا لي التألُّق غير العادي لسماء الربيع المبكِّر، وكأنها نصلٌ بارد لبلطةٍ بحجم عملاق يغطي كلَّ ما على الأرض. أنا فقط كنتُ أنتظر أن تسقط سقوطًا سريعًا بدرجةٍ لا تعطي أيَّ وقت للتفكير.
ثمَّة أمرٌ أعتقد حتى الآن أنه أمرٌ عجيب. أنا في الأصل لم أكن أسيرَ الأفكار الظلامية بأي حال. من المفترض أن اهتمامي والمعضلة التي كنتُ أواجهها هي الجَمال فقط. ولا يجب التفكير في أن الحرب أثَّرت عليَّ وجعلتني أحمل أفكارًا ظلامية. عندما يتأمَّل الإنسان طويلًا في الجَمال وحدَه، يصطدِم دون أن يدريَ بأكثر الأفكار الظلامية في هذا العالم. على الأرجح خُلق الإنسان بهذه الشاكلة.
أتذكَّر إحدى الحكايات الجانبية لفترة نهاية الحرب في كيوتو. كانت تلك الحكاية من الصعب جدًّا تصديقها، ولكن لم أكن أنا الشاهد الوحيد عليها. لقد كان تسوروكاوا حينئذٍ بجواري.
كان يومًا صحوًا من أيام شهر مايو. لم يَعُد القطار المائل مستخدَمًا وقتها، وكانت القضبان الحديدية التي تجذب المراكب على المنحدر قد علاها الصدأ، وأغلبها مدفون وسط الحشائش. وكانت في تلك الحشائش زهرةٌ على شكل صليب أبيض دقيق تهتز بفعل الرياح. حتى نقطة بداية المنحدر الذي يسير عليه القطار المائل، كان الماء قذرًا وآسنًا، ويغرق تمامًا في ظل صفوف أشجار الكرز الورقية على هذه الضفة.
أخذنا نتأمَّل صفحةَ الماء بلا أي معنًى من فوق هذا الجسر الصغير. ترك مثلُ هذا الوقت القصير الذي بلا معنًى، انطباعًا حيويًّا من بين ذكريات الحرب العديدة. تبقَّى ذلك الوقت القصير الذي لا نفعل فيه أيَّ شيء مطلقًا، مثل اختلاس النظر إلى السماء الزرقاء الصافية، من بين فراغات السَّحاب. ومن العجيب أن يكون مثل هذا الوقت زاهيًا مبهرجًا كما لو كان ذاكرة متعة مؤلمة.
«منظر جميل للغاية!»
قلتُ ذلك وأنا أبتسم دون أي معنًى كذلك.
«حقًّا!»
نظر تسوروكاوا إليَّ وابتسم. شعرنا نحن الاثنان من أعماقنا أن تلك الساعات القليلة هي وقتنا نحن.
كانت أعشاب الماء الجميلة تتمايل بجوار طريق الحصى والرمل الواسعة والمستمرة، وثمَّة خندق يجري فيه الماء الرائق البارد. وأخيرًا سدَّت بوابةُ الجبل التي غطَّت شهرتها الآفاقَ الطريقَ أمامنا.
ما من أثرٍ لإنسان داخل المعبد. وتبرُز أغلب أسطح المباني الفرعية لمعابد الزِّن المغطَّاة بالقرميد وسط النباتات التي اخضرَّت من جديد، وكأنها كتبٌ عملاقة بلون فضي معتم. ماذا تعني الحرب في لحظةٍ مثل هذه؟ أعتقد أن الحرب، في مكانٍ ما وفي وقتٍ ما، مثل الحدث النفسي المريب، وجوده الوحيد داخل وعي الإنسان فقط.
ربما تكون بوابة هذا الجبل هي المقصودة بالعبارة التي تقول: «وضع غوئيمون إيشيكاوا قدمَه على سور تلك الشُّرفة، ومدح الزهور التي تُرى على مدى النظر.» نحن وبمشاعرَ طفولية، رغم أنه لم يكن موسم الساكورا الورقية، فكَّرنا أننا نريد أن نجرِّب تأمُّل المنظر ونحن نأخذ نفس وضع غوئيمون. دفعنا رسوم الدخول الزهيدة، وصعدنا درجات السُّلم ذات الانحدار الكبير التي تحوَّلت تمامًا إلى اللون الأسود مثل الأشجار. اصطدم رأس تسوروكاوا بالسقف المنخفض الارتفاع، عند العتبة التي وصلنا إليها بعد انتهائنا من الصعود. ثم اصطدمتُ بها على الفور أنا الذي ضحِكتُ من ذلك. لففنا نحن الاثنان دورةً أخرى، ووصلنا إلى الطابق الأعلى.
كان التوتر الذي يتعرَّض له الجسد عند الانتقال من الدَّرج الضيق الذي يشبه السرداب، إلى منظرٍ واسع وعريض، يتحوَّل في التوِّ والحال إلى متعة. بعد أن استمتعنا بدرجةٍ كافية ووافية بتلك المناظر، منظر أشجار الكرز الورقية والصنوبر، ومنظر غابة معبد هيئان الشنتوي الذي يبدو بعيدًا في شكلِ أسطحٍ مصطفَّة ومعقَّدة التركيب، وجبل أراشياما الذي يبدو ضبابيًّا في نهاية أطراف مدينة كيوتو، ومناظر سلسلة الجبال التي على الجانب الشمالي جبل كيبونه وجبل مينوؤرا وجبل كونبيرا … إلخ، قمنا أخيرًا بصفتنا تلاميذ معبد بخلع أحذيتنا ودلفنا إلى داخل قاعة المعبد في تبجيل. كانت القاعة مفروشةً بأربع وعشرين حصيرة من حصير التاتامي، وفي المنتصف تمثالٌ لبوذا المعظَّم، وتلمع في وسط الظلام المُقَل الذهبية لتماثيل الستة عشر قديسًا.
وهذا المكان يسمَّى غوهورو.
رغم أن معبد نانزنجي كان من نفس ديانة رينزاي، لكنه يختلف عن المعبد الذهبي الذي يتبع طائفة أيكوكوجي؛ فقد كان أكبرَ معابد طائفة نانزنجي. أي إننا في معبدٍ من نفس الديانة ولكنه مختلف الطائفة. ولكن مثل طلاب المرحلة الإعدادية العاديِّين، كان كلٌّ منَّا يمسك في إحدى يديه الدليلَ الإرشادي للمعبد، وأخذنا نشاهد لوحة السقف ذات الألوان الزاهية التي يقال إنها بريشة تانيو كانو وتوكوإتسو توساهوغان.
جثونا أمام تمثال بوذا المعظَّم، وضممنا كفَّي اليدين إحداهما إلى الأخرى. ثم خرجنا من القاعة. ولكن كان يصعُب علينا الخروج من فوق البرج العالي. وعندها أسندتُ ظهري إلى الدرابزين المواجه لجهة الجنوب الذي على جانب الدرجات التي صعدناها إلى هنا.
أحسستُ بشيء يشبه نوعًا ما دوامةً صغيرة جميلة زاهية الألوان. وأعتقد أن ذلك هو ما تبقى في الذهن من لوحة السقف ذات الألوان الغنية. الإحساس بتركُّز الألوان الوفيرة، وذلك الطائر الذي يشبه الكالافينكاس، الأوراق اليافعة والصنوبر التي تغطي كامل السطح، والتي تختبئ خلف الأفرع الخضراء وتُظهِر بين الفراغات أجنحتَها الجميلة.
ولكن لم يكن الأمر كذلك. تحت أعيننا مباشرةً، كانت الطريق تفصل محل «تنجوان» عنَّا. ويبدو أن في ذلك المكان كثيرًا ممن يقدِّم الشاي، ويُؤجَّر لحفلات الشاي، ويُفرش فوقها سجادٌ أرجوانيٌّ زاهٍ. وتجلس عليه امرأة شابة. كان ذلك فقط هو ما استطاعت عيني رؤيته.
في أثناء الحرب، لم يسبق لي على الأغلب أن رأيتُ امرأةً ترتدي كيمونو ذا أكمام طويلة وزاهية هكذا. إذا خرجت امرأةٌ هكذا من بيتها، فعلى الأرجح ستُعنَّف في منتصف الطريق، وتُضطر إلى العودة إلى بيتها مرةً أخرى. إلى هذه الدرجة كان ذلك الكيمونو جميلًا وفاخرًا. لم أستطِع رؤية التصميم بالتفصيل، ولكنْ ثمة زهور مرسومة أو مطرَّزة على أرضيةٍ بلون مائي، ويلمع خيطٌ ذهبي في الحزام القرمزي، وإذا بالغتُ في القول، كان المكان حولها يتلألأ. كانت المرأة الشابة الجميلة، تجلس في احترام متكامل، وكان وجهها الجانبي يبرُز منحوتًا، حتى لتشك في أنها امرأة حية.
قلتُ بدرجة كبيرة من التلعثم:
«هل هي حية حقًّا؟»
«أنا كذلك جاءني الآن نفس التساؤل. تبدو مثل تمثال.»
دفع تسوروكاوا بصدره ضاغطًا على الدرابزين، وأجاب دون أن يُبعِد عينيه.
ظهر وقتها من العمق، ضابطٌ شاب في القوات البرية يرتدي الزيَّ العسكري. جلس بأدب شديد في مواجهة المرأة على بُعد قدم أو قدمين أمام المرأة. ظلَّ الاثنان فترةً جالسَين في هدوء.
نهضت المرأة واقفة. ثم اختفت في هدوء تام في ظلام الممر. وبعد بُرهة، عادت المرأة وهي تهزُّ أكمام الكيمونو الطويلة حاملةً أكواب الشاي. ثم قدَّمت الشاي أمام الرجل ودَعَته لشربه. وبعد أن عرضت عليه تناول الشاي الخفيف حسب التقاليد عادت لتجلس في نفس مكانها السابق. قال الرجل شيئًا ما، ولم يشرب الشاي رغم ذلك. كان ذلك الوقت طويلًا بدرجة مريبة للغاية، وشعرت بأنه متوتر للغاية كذلك. تدلَّى رأس المرأة لأسفل بعمق شديد.
حدث بعد ذلك ما لا يمكن تصديقُه. فجأةً أرْخَت المرأة وهي بنفس جِلستها المستقيمة، ياقةَ ردائها. وصل إلى أذني وأنا في مكاني هناك صوتُ الحرير الذي سُحب من خلف الحزام المتين. ثم ظهر صدرٌ أبيض. ابتلعتُ لعابي. ثم أخرجت المرأة بيدها أحدَ ثديَيها الأبيضين الممتلئين لتكشفه علانيةً.
أمسك الضابط الكوبَ ذا اللون الغامق العميق ورفعه عاليًا، وزحف على ركبتيه نحو المرأة. ضغطت المرأة بكلتا يديها على ثدييها.
لا أزعم أنني رأيت ذلك، ولكنني شعرتُ أنني أرى أمام عيني بوضوح كامل استقرارَ بضع قطرات من الحليب الأبيض الدافئ الذي اندفع داخل الكوب المظلم، تاركًا بعضَ القطرات على قمَّته، محدثًا رغاويَ في الشاي ذي اللون البني المخضر، وأرى كذلك أن سطح الشاي الهادئ قد تعكَّر بذلك الحليب الأبيض محدِثًا رغاويَ أكثر.
رفع الرجل الكوبَ وشرِب ذلك الشاي العجيب حتى الثُّمالة. ثم أُخفي صدر المرأة الأبيض.
كنا نحن الاثنان ننظر إلى ذلك وقد تصلَّب ظهرانا من التوتر. عندما نفكِّر فيما بعدُ في ترتيب الأحداث، أعتقد أن ذلك كان عبارة عن طقسِ وداعِ ضابطٍ يذهب إلى الحرب مع امرأة تحمل في بطنها جنين ذلك الضابط. ولكن، كان التأثُّر الذي أحسستُ به وقتها، يرفض أيَّ نوع من التفسير. ولأنني كنت أحملق أكثرَ من اللازم، استغرق الأمر وقتًا حتى أنتبِه إلى أن الرجل والمرأة قد اختفيا من الغرفة، ولم يبقَ إلا السجاد الأرجواني الواسع فقط.
نظرتُ إلى ذلك الوجه الجانبي الأبيض المنحوت بعمق، والصدر الأبيض الذي بلا نظير. بعد أن رحلت المرأة، الوقت المتبقي من ذلك اليوم، وحتى اليوم التالي، ثم اليوم الذي يليه، كنت أفكِّر بإصرار في أمرٍ واحد، ألا وهو أن تلك المرأة كانت هي بكل تأكيد يويكو وقد بُعثت إلى الحياة مرةً أخرى.