الفصل الثالث

جاءت الذكرى السنوية الأولى لوفاة أبي. وفكَّرَت أمي في فكرة عجيبة. وهي أنه بسبب صعوبة عودتي إلى منزل العائلة بسبب انشغالي في عملي الإجباري في النشاط الحربي، فكرتْ هي في القدوم إلى كيوتو بنفسها وجلْب اللوح التذكاري لأبي، وبذلك يمكن للراهب دوسن تاياما أن يقرأ عليه السوترا المقدَّسة أمام اللوح ولو بضع دقائق فقط في ذكرى وفاة صديقه القديم. من الأصل هي لم يكن معها المال الكافي لدفع تكاليف المراسم، فكتبت إلى كبير الرهبان معتمِدة فقط على كرم مشاعره. ووافق هو على طلبها ثم أخبرني.

لم أكن سعيدًا بسماع ذلك الخبر. فلقد تعمَّدتُ تجاهُل الكتابة عن أمي حتى الآن لسببٍ خاص. وهو أنني كنتُ أشعر بعدم الرغبة في الكلام عن أمي.

ثمَّة حادث معيَّن، لم يسبق لي أن ألقيت باللائمة على أمي بسببه. ولم أتكلَّم عنه مطلقًا. وأعتقد أن أمي على الأغلب لا تعلم أنني أعرف ما حدث. ولكن منذ أن حدث ذلك الأمر، لم يستطِع قلبي أن يغفر لها ما فعلت قط.

حدث ذلك بعد دخولي مدرسةَ شرق مايزورو الإعدادية وبعد أن أصبحتُ في رعاية عمي، أثناء عطلة الصيف في أول عام دراسي، عندما رجعت إلى منزل العائلة للمرة الأولى. في ذلك الوقت عاد قريبٌ لأمي اسمه كوراي من أوساكا إلى ناريو، بعد أن فشل في تجارته. ولكنَّ زوجته مالكةَ البيت رفضت إدخاله بيتهما، لذا لم يكن أمامه إلا المبيت في معبد أبي حتى تخمُد ثورة زوجته.

لم يكن لدينا في المعبدِ ما يكفي من الناموسيات. فقد كنَّا أنا وأبي وأمي ننام معًا تحت نفس الناموسية، ومن العجيب أنني وأمي لم نُصَب بالعدوى من أبي المريض بالسل. ثم انضم إلينا كوراي. أتذكَّر جيدًا طيران حشرات الزيز وهي تنتقل وتتلوى فوق أشجار حديقة المعبد، وتصرخ صرخاتٍ قصيرة في وقت متأخر من ليل الصيف. وربما كان صراخها هذا هو الذي أيقظني. وكان صوت البحر عاليًا، والرياح تقلب أطراف الناموسية السُّفلى ذات اللون الفيروزي. لم تكن طريقة اهتزاز الناموسية طبيعية.

كانت الناموسية تدرك بدايةَ الرياح، ثم بدأت تهتز مُكرَهة وكأنها تُجري عملية ترشيح للرياح. ولذلك لم يكن شكل الناموسية المنساق انعكاسًا مخلصًا لشكل ترنُّح الريح، بل إن انهيار الرياح يكوِّن زاوية زوجية. كان الصوت الذي يصدِره طرَف الناموسية السفلي أثناء احتكاكه بحصير التاتامي يشبه صوتَ حفيف أوراق الخيزران. ولكن كانت الناموسية تتحرَّك حركة معينة، لم تكن لها علاقة بالريح. كانت حركةً أكثرَ صغرًا ودقةً من حركة الرياح، كانت حركة تموُّج رقيقة تنتشر بطول الناموسية كلها، جاعلةً مادة القماش الخشنة تُحدِث صريرًا، ويبدو منظر سطح الناموسية من داخلها مثل سطح بحيرة يهتز قلقًا. سواء كانت مقدمة أمواج لسفينة قادمة من بعيد خلال البحيرة، أم كانت بقايا انعكاس أمواج سفينة غادرت بالفعل.

أدرتُ عينيَّ بخوف ورعب تجاه مصدرِ تلك الحركة. ثم حملقت خلال الظلام بعيون مفتوحة على وُسعها وشعرت وكأن مثقابًا حديديًّا ينخر مقلتي من قلبها.

كانت الناموسية صغيرة للغاية ولا تكفي لأربعة أشخاص، وكنتُ أنام بجوار أبي، ويبدو أنني أثناء تقلُّبي في نومي كنتُ أدفعه تجاه الركن. وعليه كانت هناك مساحة من الملاءة البيضاء ذات التجاعيد تفصلني عن المنظر الذي رأيته لتوي، وكان أبي الذي ينام مكوِّرًا ظهره خلفي، ينفث زفيره مباشرةً في قفاي.

الذي جعلني أدركُ أن أبي في الواقع مستيقظ، هو تنفُّسه الذي يعلو ويهبط متراقصًا بغير انتظام تجاه ظهري، وهو يحاول أن يمنع نفسه من السعال. في ذلك الوقت وبمفاجأة كاملة حجبَ شيءٌ كبير وساخن عيني — أنا ذا الثالثة عشرة من العمر — المفتوحة فأصبحتُ لا أرى. وفهمتُ على الفور، أن أبي مدَّ يديه من خلفي وغطَّى عيني.

ما زالت ذاكرةُ تلك الكفِّ حيةً حتى الآن، كفٍّ بالغة الضخامة بدرجة لا مثيل لها، كفٍّ لُفَّت من خلفي وأخفت في التو والحال عن عيني الجحيمَ الذي كنت أراه، كفٍّ من العالم الآخر. أنا لا أعلم هل هو بسبب الحب أو الرحمة أو الخزي، ولكن تلك الكف قطعت في الحال العالَم المخيف الذي كنت أواجهه ودفنَته في الظلام.

أومأت برأسي قليلًا داخل تلك الكف. ثم نزع أبي كفَّيه على الفور بعد أن فهِم من خلال إيماءة وجهي الصغير أنني فهمتُ ووافقت … ثم كما أمرَت الكف، جعلتُ عيوني تستمر مغمضةً بعناد بعد ابتعاد تلك الكف أيضًا، حتى استشفَّت الجفون نورَ الشمس البراق القادم من الخارج عند حلول صباح الأرق.

… أرجو تذكُّر أنه بعد سنين من ذلك لم أستطِع أن أذرفَ دمعة واحدة عندما حُمل تابوت أبي لخارج المنزل، حيث كنت مشغولًا بالنظر إلى وجهه الميت. أرجو تذكُّر أن مع موته، كنتُ أتحرَّر من قيد كفِّه، وكنتُ بالنظر الدائم إلى وجه أبي الميت أتأكَّد من حياتي. لم أستطِع أن أنسى الانتقامَ المتعصِّب بهذه الدرجة تجاه صنيع تلك الكف، التي ربما يطلق عليه الناس في هذا العالم «حبًّا»، رغم أنني لم أفكِّر قط في الانتقام من أمي بغضِّ النظر عن أنني لم أسامحها على تلك الذاكرة.

… تم ترتيب الأمر على أن تأتيَ أمي إلى المعبد الذهبي قبل يوم من ذكرى الوفاة والسماح لها بالمبيت ليلةً في المعبد. كتب كبير الرهبان رسالةً إلى المدرسة لكي أستطيعَ التغيُّب في يوم ذكرى الوفاة. أما العمل الإجباري في المصانع الحربية فقد كنا نعود منه كلَّ يوم. كنتُ أستثقل العودة إلى معبد روكوؤنجي قبل ذكرى الوفاة بيوم.

تسوروكاوا وبقلبه الصافي البسيط، كان سعيدًا من أجلي، ذلك أنني سأتمكَّن من رؤية أمي بعد كل هذه المدة الطويلة، وأما زملائي الآخرون في المعبد فقد كان لديهم فضولٌ بشأنها. ولكني كنت أكره تلك الأم الفقيرة القبيحة. وكنتُ أعاني من كيفية شرحِ سبب عدم رغبتي في رؤية أمي، لتسوروكاوا ذي القلب الطيب.

وما جعل الأمر أسوأ أنه بمجرد انتهاء العمل في المصنع، أمسك تسوروكاوا ذراعي وقال:

«حسنًا، هيا نعود جريًا.»

كان من المبالغة القول إنني لا أريد أن أرى أمي مطلقًا. لم يكن الأمر أنني لا أشعر بالشوق تجاه أمي. ولكن ربما لا يزيد الأمر عن مجرد أنني أكره مواجهة التعبير مباشرةً عن الحب الذي أستقبله من أقربائي، ولذا أحاول ببساطة أن أبحثَ عن سبب تلك الكراهية بأشكالٍ متنوعة. وكان ذلك من صفاتي السيئة. ما من مشكلة لو كنتُ أحاول تبرير شعور صادق بإيجاد أسباب متعددة له، ولكن أحيانًا تجبرني الأسباب اللانهائية التي يفكِّر فيها عقلي على الإحساس بمشاعرَ لم أكن أتخيَّلها مطلقًا. ولم تكن تلك المشاعر هي مشاعري الحقيقية.

ولكن كان في كراهيتي فقط شيء من الصحة. وذلك لأنني كنت شخصًا يجب أن يُكره.

«ما من سبب للجري. إنه متعِب فقط. دعنا نعود ونحن نجرُّ أرجلنا ببطء.»

«وبهذا تجعل أمَّك تتعاطف معك وتغرقك حبًّا ودلالًا.»

هكذا كان تسوروكاوا دائمًا المفسِّر الذي يمتلئ بسوء الفهم لي. ولكنه لم يكن يزعجني بأقل القليل، وأصبح وجوده ضروريًّا لي. كان مترجمًا حسنَ النية حقًّا لي، وكان الصديقَ القادر على ترجمة كلماتي إلى لغة العالم الواقعي، الصديق الذي لا يمكن لأحد أن يحل محلَّه.

حقًّا. إن تسوروكاوا كان يبدو لي أحيانًا مثل الخيميائي القادر على استخراج الذهب من الرصاص. كما لو أنني كنتُ أنا السالب (نيجاتيف) وهو الموجَب (بوزيتيف) لنفس الصورة. وكم من مرة تأملتُ في دهشة وتعجُّب كيف تتحوَّل مشاعري المظلمة المكدَّرة كلها إلى مشاعرَ شفافة رائقة دون شوائب تشعُّ نورًا بعد أن تترشح لمرة واحدة في مرشِّح قلب تسوروكاوا! وأثناء ما كنتُ في حَيرة تلعثمي كانت يد تسوروكاوا تقلب مشاعري على حقيقتها وتبلغها إلى العالم الخارجي. ما تعلَّمته من تلك الدهشةِ هو أنه لا اختلافَ بين ألطفِ المشاعر في هذا العالَم وأسوئها، ما دامت هي في مرحلة المشاعر. وأن تأثيرهما هو نفسه، وأنه لا فرقَ بين نية القتل ومشاعر الرحمة في المظهر الخارجي. لم يكن تسوروكاوا ليؤمن بشيء مثل هذا مطلقًا، حتى لو كنتُ قادرًا على شرحه بالكلمات، ولكن كان ذلك بالنسبة لي اكتشافًا مخيفًا. فحتى لو لم أعُد أخاف من النفاق من خلال علاقتي مع تسوروكاوا، فالسبب هو أن النفاق لم يَعُد يزيد بالنسبة لي عن كونه إثمًا نسبيًّا.

لم أخُض تجربة القصف الجوي وأنا في مدينة كيوتو، ولكن لمرة واحدة عندما أُرسلت إلى المصنع الرئيس في أوساكا مع قائمة ببعض الطلبات لقطع غيار الطائرات، تصادف أن وقع هجومٌ بالقصف الجوي ورأيتُ أحد عمال المصنع يَخرج محمولًا على نقالة وأحشاؤه خارج بطنه.

لمَ يا تُرى تُعتبر الأحشاء الخارجة من البطن منظرًا مريعًا؟ لمَ يصاب الناس بالرعب عندما يرون الأحشاءَ البشرية فيغطُّون أعينهم؟ لمَ يعطي منظر الدماء النازفة صدمةً للبشر؟ لمَ تكون الأمعاء الآدمية قميئة؟ أليست الأمعاء وبشَرة الإنسان اللامعة الجميلة الشابة من نفس النوع تمامًا؟ … يا تُرى كيف ستكون ملامح وجه تسوروكاوا عندما يسمعني أقول إنني تعلَّمت منه تلك الطريقةَ في التفكير التي تجعل قبحي عدميًّا؟ لماذا يبدو تأمُّل البشَر مثلًا وكأنهم مثل الورود ليس لهم ظاهر وباطن أو داخل وخارج، فكرةً لا إنسانية؟ لو استطاع الإنسانُ قلب روحه وجسده مثل بَتَلات الوردة وإرجاعهما في رشاقة كاشفًا ما في داخله لأشعة الشمس ونسائم الربيع …

وصلت أمي بالفعل وكانت تتحدَّث مع كبير الرهبان في غرفته. وضعنا أنا وتسوروكاوا رُكَبَنا على حافة الممر في غروب بداية الصيف وقلنا: «لقد عُدنا.»

أدخلني كبير الرهبان أنا فقط الغرفةَ، وقال لأمي أمامي أشياءَ من قبيل هذا الفتى يعمل بجِد واجتهاد. كنت أحني رأسي دون أن أنظرَ إلى أمي. ولكني استطعت رؤيةَ رُكبة سروال أمي الفضفاض المصنوع من القطن الأزرق المبقَّع، وفوقها أصابع اليدين القذرتين مضموم بعضها إلى بعض.

قال كبيرُ الرهبان لي أنا وأمي إنه يمكننا الآن الذهابُ إلى غرفتنا. خرجنا نحن الاثنان من الغرفة بعد أن قمنا بتحيةِ كبير الرهبان بالانحناء أكثرَ من مرة. تقع غرفتي جنوبَ المكتبة الصغرى، وهي عبارة عن مخزن بمساحة خمس حصيرات تاتامي، تواجه الحديقة الداخلية. عندما أصبحنا بمفردنا في تلك الغرفة، بكتْ أمي.

كنتُ قد توقَّعت ذلك، فاستطعتُ البقاء في برود هادئ.

«أنا حاليًّا تحت رعاية معبد روكوؤنجي كما تعلمين، أريدك ألا تأتي قبل أن أصيرَ راهبًا كاملَ الأهلية.»

«أفهم ذلك. أفهمه جيدًا.»

كنتُ سعيدًا وأنا أستقبل أمي بتلك الكلمات القاسية. ولكن أمي، وكما هي عادتها من قبلُ، لا تشعر بأي شيء، ولم تُبدِ أيَّ مقاومة، وهو ما سبَّب لي شعورًا بالألم، يشبه ألمَ الأسنان. ومع ذلك كنتُ في حالة رعب حقيقي عند تخيُّلي أن أمي ستتخطى الحاجز وتقتحم داخل نفسي.

تملِك أمي عينين بهما لؤمٌ تبدوان غائرتين في وجهها الذي اسمرَّ من الشمس. تلمع الشفتان فقط بلون أحمر وكأنهما كائنٌ حي مختلف، وتصطف داخلهما أسنانٌ قوية ومتينة وكبيرة الحجم يتميز بها أهل الأرياف. كانت في سنٍّ لو أنها من أهل المدينة، لم يكن غريبًا أن تملأ وجهها بالمساحيق الثقيلة. وجه أمي التي تحاول على قدْر استطاعتها إبقاءه قبيحًا، يُبقي في مكانٍ ما إحساسًا بالحسية المعكَّرة، وهذا ما أُدرِكه أنا بحساسية زائدة وأكرهه بشدة.

بعد أن غادرنا من أمام كبير الرهبان، وبعد أن بكتْ فترة من الوقت كما يحلو لها، أخرجت أمي المنديل المصنوع من الحرير الصناعي الذي يُوزَّع مع المواد التموينية، وفتحت أعلى صدرها الذي اسمرَّ بفعل أشعة الشمس ومسحت به العَرق. قماش المنديل الذي كان يلمع لمعانًا حيوانيًّا، ابتلَّ برطوبة العَرق ثم لمع.

أخرجت أمي الأرُزَّ من حقيبتها، وقالت إنها ستعطيه لكبير الرهبان. كنتُ صامتًا عن الكلام. ثم علاوةً على ذلك أخرجت أمي لوحَ أبي التذكاري الملفوف عدة مرات بقطن طبيعي فيرانيِّ اللون بحرص وعناية كأنه شيء ثمين، ووضعته فوق أرفف مكتبتي.

«يجب الامتنان لذلك. فغدًا كبير الرهبان سيقرأ عليك بعضًا من السوترا المقدس، وبالتأكيد ستفرح يا أبي.»

«بعد انتهاء مراسم إحياء الذكرى السنوية هل ستعودين يا أمي مباشرةً إلى ناريو؟»

كانت إجابة أمي غير متوقَّعة. فقد تنازلت عن حق إدارة معبدنا لراهبٍ غريب، وباعت حقل الأرز الصغير، وسدَّدت كل الديون التي اقترضتها أثناء مرض أبي الأخير، واتفقت مع خالي الذي يسكن في ناحية كاساغون الواقعةِ في ضواحي كيوتو للعيش في بيته.

المعبد الذي كان من المفترض أن أعودَ إليه، لم يَعُد موجودًا! ما من مكانٍ أعود إليه في تلك القرية المنعزلة برأس البر المطل على بحر اليابان.

لا أدري كيف فسَّرت أمي شعور الحرية الذي طرأ على ذهني في ذلك الوقت؛ فقد لصقت فمَها في أذني وقالت:

«أتسمع، معبدُك أصبح غير موجود. وليس أمامك في المستقبل إلا أن تصبح راهبًا مقيمًا هنا في المعبد الذهبي. يجب عليك أن تحرص على أن يعتنيَ بك كبيرُ الرهبان لتكون خليفته. فتلك هي متعة أمِّك الوحيدة التي تعيش من أجلها.»

بُهِتُّ ونظرت في وجه أمي غير مصدِّق. ولكني لم أستطِع مواجهةَ عينيها من الرعب.

كانت الغرفة قد أصبحت مظلمة بالفعل. ولأنها قرَّبت فمَها من أذني فاحت حولي رائحةُ عَرق تلك «الأم الحنونة». أتذكَّر أن أمي في ذلك الوقت كانت تضحك. دارت في ذهني ذاكرةُ الرضاعة البعيدة، تذكرتُ الثدي الأسمر الخفيف، تلك الصور القلبية، مسبِّبة درجة كبيرة من الاستياء. في نقطة اندلاع النار في دناءة القلب الطموح، ما يشبه قوة الإجبار والإرغام الجسدية بدرجةٍ ما، وأعتقد أن ذلك هو الذي سبَّب لي الرعب. عندما لمس شعر أمي المجعَّد خدي، رأيت يعسوبًا يريح جناحَه فوق حوض الاغتسال الذي نبَت عليه العفن الأخضر في الحديقة الداخلية. وقعت سماء الليل فوق نقطة الماء الدائرية الصغيرة تلك. ما من مصدرٍ لأي صوت، وبدا معبد روكوؤنجي في ذلك الوقت كأنه معبد مهجور ليس به أثرٌ لإنسان.

أخيرًا نظرتُ أنا إلى أمي في عينيها مباشرة. ضحِكت أمي ضحكةً على طرَف شفتيها الناعمتين، جاعلةً من أسنانها الذهبية تلمع. كان ردي شديدَ اللعثمة.

«لكن على أي حال سأُستدعى للجيش، وربما أموت قتيلًا في الحرب.»

«يا لك من غبيٍّ! إذا تم استدعاء متلعثم مثلك للجيش فستكون نهاية اليابان!» تقلصتْ عضلات ظهري، وزادتْ كراهتي لأمي.

ولكن الكلمات التي تخرج مع التلعثم، لم تكن إلا عبارة عن ذرائعَ وحججٍ واهية فقط.

«ربما يُحرق المعبد الذهبي بواسطة القصف الجوي.»

«إن صار الأمر بهذا الحال، فما من احتمال قاطع لقصف جوي لكيوتو. من المؤكَّد أن أمريكا ستُعرِض عن فِعل ذلك.»

… لم أُجِب. تحوَّل لونُ الحديقة الداخلية للمعبد في الغسق لِلون أعماق البحر. وغاصت الأحجار بنفس الهيئة التي تقاتل بها في عنف.

وقفتْ أمي بلا أي مبالاة لصمتي، وأخذت تتأمَّل بلا استحياء الألواحَ التي تحيط بالغرفة ذات الحصائر الخمس. ثم قالت:

«ألم يَحِن وقتُ طعام العشاء بعدُ؟»

… عندما فكرتُ في الأمر بعدها، مقابلتي مع أمي في تلك المرة، تركت في قلبي تأثيرًا ليس بالقليل. فإذا كان ذلك الوقت هو الذي انتبهتُ فيه إلى أن أمي تعيش في عالَم مختلف تمامًا عن عالمي، فهو أيضًا الوقت الذي لأول مرة تؤثِّر فيَّ طريقةُ تفكيرها بقوة.

لم يكن لأمي بطبيعتها أيُّ علاقة بالمعبد الذهبي الجميل، ولكن بديلًا عن ذلك، كانت تملك شعورًا واقعيًّا به لا أملِكه أنا. ربما يكون عدم وجود خوف من حدوث قصف جوي لمدينة كيوتو هو أمر حقيقي بغض النظر عن أحلامي وأوهامي. إذن، إذا لم يكن المعبد الذهبي معرَّضًا في المستقبل القريب لخطر القصف الجوي، فسأفقد أنا الهدف من حياتي في الوقت الحالي، وينهار العالم الذي أعيشه.

وعلى الجهة الأخرى، أصبحتُ مع كرهي له أسيرَ طموح أمي الخيالي الذي لم أفكِّر فيه من قبلُ. لم يقُل أبي كلمة واحدة عن ذلك، ولكنه ربما أرسلني إلى هذا المعبد للرهبنة، تحت نفس ذلك الطموح الذي لأمي. كان الراهب دوسن تاياما أعزبَ. وإذا كان الراهب نفسه تسلَّم معبد روكوؤنجي من الراهب السابق عليه الذي توسَّم فيه الخير، فأنا أيضًا إذا بذلتُ جهدي، فربما رشَّحني كبير الرهبان لخلافته. إذا صار الأمر كذلك، فسيصبح المعبد الذهبي مِلكي!

وقعتُ في فوضى من الأفكار. وعندما أصبح طموحي الثاني عبئًا ثقيلًا على قلبي، عدتُ إلى الحُلم الأول — أن يتلقى المعبد الذهبي قصفًا جويًّا — وعندما تحطَّم هذا الحُلم من خلال الحكم الواقعي المكشوف لأمي، عدتُ مجددًا إلى الطموح الثاني، ونتيجةً لتفكيري فيه مرارًا وتكرارًا، ظهر لي خُرَّاج أحمر كبير عند التقاء العنق بالصدر.

أهملتُ ذلك الخُراج ولم أُلقِ له بالًا. فأوثق الخُراج من جذوره وهجم عليَّ من خلف الرقبة بقوة ثقيلة ساخنة. أثناء نومي الذي يميل في أغلبه إلى التقطُّع، رأيتُ حُلمًا فيه تُولَد هالة من الذهب الخالص من ظهري إلى عنقي، وتنبُت من أجل أن تحيط تدريجيًّا في شكلٍ بيضوي خلف رأسي. وعندما استيقظتُ لم يكن ذلك إلا مجرد ألم الورم الضار.

وأخيرًا ظهرت الحمَّى ورقدتُ في الفراش. أرسلني كبير الرهبان إلى عيادة طبيب جِراحة. وسمَّى الطبيب الجرَّاح الذي كان يرتدي الزيَّ الوطني ويربط ساقه بجُرْمُوق، ذلك الخُراج اسمًا بسيطًا هو «دُمَل»، ووضع عليه المشرط الذي طهَّره بالنار بدلًا من استخدام الكحول.

زمتُ بشدة. وأحسست بالعالم الساخن الثقيل والمؤلم خلف رأسي، ينفجر ثم ينكمش وأخيرًا ينزوي.

•••

انتهت الحرب. كنت أفكِّر أثناء سماعي إلى الإعلان الإمبراطوري في المصنع، في المعبد الذهبي فقط ولم أفكِّر في شيء آخر.

كان استعجالي بالوقوف أمام المعبد الذهبي بعد عودتي إلى المعبد سريعًا، لا غرابة فيه ولا عجب. وكان الحصى الذي في طريق الزيارة متلهِبًا من أشعة الشمس في منتصف قيظ الصيف، وكان باطن حذائي الرياضي المصنوع من مطاط متواضع وسيئ، يلتصق بكل الحصى الذي يدوسه حصوةً حصوة.

بعد سماع إعلان الإمبراطور نهايةَ الحرب، من المفهوم أن الناس في طوكيو تذهب إلى أمام القصر الإمبراطوري، ولكن هنا في كيوتو ذهبت أعدادٌ كثيرة من الناس تبكي أمام قصر كيوتو الإمبراطوري الخالي من ساكنه. في كيوتو الكثير من المعابد الدينية التي يمكن الذهابُ إليها للبكاء في وقتٍ مثل هذا. لا شك أنه في ذلك اليوم ازدحمت تلك المعابد بالزوار. ولكن وكما هو المتوقَّع لم يأتِ أحد إلى المعبد الذهبي المهيب.

وبهذا الحال كان ظلي فقط هو الذي يسقط فوق الحصى الملتهِب. هل يجب القول إن المعبد الذهبي كان يقع في جهة وأنا في الجهة الأخرى؟ منذ النظرة الأولى التي نظرتُ بها إلى المعبد الذهبي في ذلك اليوم، أحسستُ أن العلاقة «بيننا» قد تغيَّرت بالفعل.

لقد استعلى المعبد الذهبي على صدمة الهزيمة في الحرب، وعلى ما يشبه الحزن الشعبي. أو ربما يكون قد تصنَّع الاستعلاء. لم يكن المعبد الذهبي بهذه الحالة حتى أمس. إنه حتى النهاية لم يُصَب بقصف جوي، وإنه منذ اليوم لن يخشى هذا المصير، لا شكَّ أن هذين الأمرين جعلا المعبد الذهبي، يستعيد مرةً أخرى العواطفَ التي محتواها تقول: «منذ ماضٍ بعيد أنا موجود هنا، وأظل موجودًا هنا إلى الأبد بالتأكيد.»

كانت القشرة الذهبية الداخلية العتيقة، كما هي محمية بواسطة الورنيش الذي تشعُّه شمس الصيف لترشه على الجدران الخارجية، وكان المعبد الذهبي هادئًا تمامًا وساكنًا كأثاث نبيل بلا فائدة، كأنه أرفف زينة عملاقة فارغة موضوعة أمام حافة غابة مشتعلة من الأشجار. ومن المفترض أن الزينة التي تناسب حجمَ تلك الأرفف، أما أن تكون مَحْرَقة بخور عملاقة بدرجةٍ لا تُصدَّق أو تكون عدمًا هائلَ الحجم. لقد فقد المعبد الذهبي هذه الأشياء تمامًا، وعلى الفور أزال عنه جوهره الأصلي، وبنى هناك شكلًا عدميًّا بطريقة عجيبة. والأكثر غرابة، أن المعبد الذهبي في داخل الجَمال الذي يظهره من حين لآخر، لم يكن في يوم من الأيام أكثرَ جَمالًا من جَماله في ذلك اليوم.

لقد استعلى المعبد الذهبي متحررًا من صورته في أحلامي، لا، بل متحررًا من عالم الواقع كذلك، متحررًا من أي علاقة بأي نوع من أنواع التلاشي، لم يَظهر جَمالٌ مستقرٌّ وثابت مثل هذا حتى الآن! فقد تمنَّع هذا الجَمال عن أي معنًى، ولم يتألَّق بهذه الدرجة من قبل.

ودون أي مبالغة، أقول إنني أنا الذي أشاهد ذلك ارتعشت قدماي، وسال العَرق البارد على جبهتي. عند مقارنة ذلك بما حدث عندما شاهدتُ المعبد الذهبي ثم رجعتُ إلى قريتي وظلَّ صدى المعبد بتفاصيله وبكله جميعًا يتردَّد داخلي مثل الألحان الموسيقية، فإن الذي أسمعه الآن هو الهدوء والسكون التام، والصمت الكامل. الذي ينساب هناك، الذي يتغيَّر هناك، هو اللاشيء. كان المعبد الذهبي موجودًا هنا، يقف شامخًا مثل التوقُّف المرعب للموسيقى، مثل تردُّد صدى الصمت.

فكَّرت قائلًا لنفسي: «لقد انقطعت العلاقة بيني وبين المعبد الذهبي. انهار بهذا وهمي بالحياة مع المعبد الذهبي في نفس العالم. وستبدأ الحالة الأصلية أو ربما حالةٌ بلا أملٍ أكثر يأسًا من ذي قبل، حالة أن الجَمال في جانب وأنا في الجانب الآخر. حالة لن تتغيَّر ما دام هذا العالم مستمرًّا …»

وهكذا لم تكن هزيمة الحرب بالنسبة لي إلا مجرد تجربة لليأس. يمكنني رؤيةُ لهب أشعة صيف يوم ١٥ أغسطس أمامي الآن. لقد قال الناس إن كل القيم انهارت، ولكن في داخلي، كان الأمر على العكس تمامًا، لقد استيقظ الخلود، وبُعث من جديد مطالبًا بحقوقه. الخلود الذي يحكي عن وجودٍ أبدي مجهول للمعبد الذهبي هنا.

الخلود الذي ينزل من السماء، ويلتصق بخدودنا وبأيدينا وببطننا، ثم يبتلعنا. ذلك الشيء الملعون … نعم إنه كذلك. لقد سمِعتُ ذلك الخلود الذي يشبه اللعنةَ في يوم نهاية الحرب، في أصوات حشرات الزيز المنتشرة حولنا في الجبال. لقد صبغتني بالكامل بلون ذهبي لحائط طيني.

في تلك الليلة وقبل قراءة كتب السوترا المقدَّسة التي تقام قبل النوم، صلَّينا ودعونا بصفة خاصة لجلالة الإمبراطور، ثم قرأنا كتب السوترا طويلًا من أجل مواساة أرواح ضحايا الحرب.

أصبحت كل الأديان في هذه الحرب تستخدم أوشحةً بسيطة متواضعة، ولكن في تلك الليلة ارتدى كبير الرهبان بصفة خاصة وشاحَ المراسم القرمزي الذي كان قد وضعه في خزانة الملابس طويلًا.

كان وجه كبير الرهبان الممتلئ والنظيف لدرجة الظن أنه اغتسل جيدًا حتى ما داخل التجاعيد، اليوم في غاية الصحة وردي اللون، ونوعًا ما به اكتفاء ورضًا. برزت برودة صوت احتكاك الرداء بسبب حرارة الجو في تلك الليلة.

بعد انتهاء قراءة السوترا المقدسة، استُدعي كلُّ مَن في المعبد إلى غرفة كبير الرهبان وهناك ألقى علينا كبير الرهبان محاضرة.

كانت فكرة المحاضرة التي اختارها كبير الرهبان هي قصة «ذبح الراهب نانسن هرة» من الفصل الرابع عشر لكتاب مومونكان.

قصة «ذبح الراهب نانسن هرة» مذكورةٌ كذلك في الفصل الثالث والستين من كتاب «سجلات هِكيغان» باسم «ذبح الراهب نانسن هريرة» وكذلك في الفصل الرابع والستين باسم «وضع الراهب جوشو الخُفَّ على رأسه»، وهي تعتبر من قديم الزمان من أشهر القصص الصعبة الفهم.

في عصر «تانغ» (٦١٨–٩٠٧) كان راهب لطائفة الزن يسمَّى فوغان يعيش في جبل نانسن بمدينة تشيزهو. وتيمنًا باسم الجبل تسمَّى باسم نانسن.

خرج في أحد الأوقات جميعُ رهبان المعبد لقطع حشائش الجبل، فظهرت لهم هُريرة فجأةً في ذلك الجبل الموحش المهجور من الكائنات. لاحق الجميع الهُريرة وأمسكوا بها؛ لأن ذلك كان شيئًا نادرًا، وتسبَّب ذلك الأمر في صراع الجناحين الشرقي والغربي للمعبد. وكان الصراع بسبب أنَّ كلًّا من الجناح الشرقي والجناح الغربي يرغب في أن تكون تلك الهُريرة مِلكه ويقوم برعايتها وتربيتها.

عندما رأى الراهب نانسن ذلك، أمسك على الفور الهُريرة من رقبتها، وأمسك منجل قطع الحشائش وقال:

«إذا نطق منكم أحد فسينقذ الهريرة، وإذا لم ينطق أحدٌ فستُذبح الهريرة.»

لم يُجِبه أحد. فذبح الراهب نانسن الهريرةَ وألقى بها بعيدًا.

وعندما حلَّ الليل، عاد الراهب جوشو إلى المعبد وكان أنجبَ تلاميذه. فحكى له الراهب نانسن ما حدَث وطلب رأيه.

خلع جوشو على الفور نعليه ووضعهما على رأسه وغادر الحجرة.

وعندها ندب الراهب نانسن حظَّه بألمٍ قائلًا:

«آه، لو كنتَ موجودًا هنا اليوم لكنتَ أنقذتَ حياة الهريرة.»

… هذا تقريبًا محتوى القصة، والجزء الخاص بوضع جوشو النعلين فوق رأسه معروفٌ حتى الآن خصوصًا أنه هو أصعب جزء في القصة.

ولكن طبقًا لكبير الرهبان، لم يكن ذلك الجزء صعبًا لهذه الدرجة.

لقد ذبح الراهب نانسن الهرة لطردِ أوهام النفس، واستئصال كل الأوهام والأفكار التي في ذهنه. فمن خلال تطبيق القسوة وذبح الهرة، فهو قد قطع كلَّ التناقض والتصارع والتناحر بين هوى الذات وهوى الآخرين. وذلك ما يُعرف بالسيف القاتل، في حين أن تصرُّف جوشو يُطلَق عليه سيف إعطاء الحياة. فهو يعطي محاكاةً عملية لطريقة تصرُّف البوديساتفا من خلال التسامح اللانهائي بوضع الخُف الذي يغرق في الوحل ويُحتقر من الناس على رأسه.

أنهى المحاضرة كبير الرهبان بعد شرح الأمر بهذه الطريقة، دون أن يتطرق مطلقًا إلى هزيمة اليابان في الحرب. أُصبنا جميعًا بالدهشة وكأن ثعلبًا خدعنا. ولم نفهم مطلقًا لماذا اختار كبير الرهبان هذه القصةَ خصوصًا ليلقيها علينا في يوم هزيمة اليابان في الحرب؟

أبديتُ تساؤلي هذا لتسوروكاوا في الممر أثناء عودتنا إلى غرفنا الشخصية. هزَّ تسوروكاوا رأسه وقال:

«لا أفهم. من المؤكد أننا لن نفهم إلا بعد أن نعيش حياةَ الرهبان. ورغم ذلك فأنا أعتقد أن مغزى محاضرة اليوم هي: في اليوم الذي انتهت فيه الحرب بالهزيمة لا تُشِر مطلقًا إلى ذلك الأمر، وألقِ أي قصة ليس لها علاقة، مثل قصة ذبح الهرة.»

برغم هزيمتنا في الحرب لم نكن قط تعساء. ولكن كنتُ قلقًا من وجه كبير الرهبان ذلك الذي كان يمتلئ ويفيض بالسعادة والحبور.

في العادة يحافظ شعور الاحترام والتقدير للراهب المقيم على النظام والقواعد داخل المعبد البوذي الواحد، ولكني رغم قضائي العامَ الماضي بأكمله تحت رعايته وحنوه عليَّ، لم ينبع في قلبي أيُّ شعور بالاحترام العميق لكبير الرهبان. وكان ذلك أمرًا حسنًا ولا بأس به. ولكن بعد أن أشعلت أمي شرارة الطموح فيَّ، أصبحت أنا ذو السابعة عشرة من العمر، أنظر إلى كبير الرهبان بعين النقد أحيانًا.

كان كبير الرهبان عادلًا بلا أي انحياز شخصي. ولكنها كانت عدالة تجعلني أتخيَّل أنني لو كنتُ كبير الرهبان سأستطيع بسهولة أن أكون عادلًا بلا أي انحياز شخصي هكذا. وحتى الفكاهة التي تُعتبر من المميزات الخاصة لرهبان طائفة الزن كانت منعدمةً في شخصية كبير الرهبان. رغم أن تلك الهيئة القصيرة المكتنزة تثير الفكاهة في العادة.

لقد سمِعتُ أن كبير الرهبان وصل إلى المنتهى في اللهو مع النساء. وعندما أتخيَّل كبير الرهبان في حالة لهوه النسائي، أراه أمرًا مضحكًا ومقلقًا في ذات الوقت. ما هو يا تُرى شعور امرأة يحتضنها جسدٌ مثل حلوى ملبن بلون وردي؟ لا بد وأنها تشعر كأنها دُفنت في قبرٍ من اللحم بعد اتصال اللحم الطري الوردي اللون بنهاية هذا العالم.

لقد كنت كذلك أعجبُ أشدَّ العجب من وجود هذا اللحم في جسد راهب طائفة زِن. وأعتقد أن غرق كبير الرهبان في الملذات الجسدية مع النساء كان هدفه هو الاستغناء عن الجسد، واحتقار اللحم. ورغم ذلك، يمتص اللحم الذي تم احتقاره، الغذاءَ كما يحلو له، وأصبح لينًا ولامعًا، فأصبح من العجيب أن ذلك اللحم يحتوي على روح كبير الرهبان. لحم دافئ متواضع مثل المواشي التي تم تربيتها جيدًا. ذلك اللحم الذي يشبه أن يكون بالضبط كمحظية لروح الراهب النفسية.

يجب عليَّ هنا أن أذكر كيف كان وقْع الهزيمة في الحرب عليَّ أنا.

لم يكن ذلك تحررًا. قطعًا لم يكن تحررًا بأي حال. لم يكن إلا بعثًا للزمن البوذي المذاب في المعيشة اليومية، في الأبدية، في اللامتغير.

استمرَّت الفرائض اليومية للمعبد من اليوم التالي للهزيمة، مرةً أخرى كما كانت في السابق. افتتاح الفروض (الاستيقاظ)، فرض الصباح، تناول وجبة الصباح حساء الأرز، العمل اليومي في التنظيف أو الحقل، تناول وجبة الغداء في الغابة، تناول وجبة العشاء، الاستحمام، النوم … وعلاوةً على ذلك، منع كبير الرهبان شراءَ أرز السوق السوداء منعًا صارمًا، فلم نجد مترسبًا في صحن الحساء الفقير إلا قليلًا من الأرز الذي يتبرع به أتباع المعبد لنا، أو ما يشتريه نائب كبير الرهبان، تحت اسم تبرعات بكمياتٍ ضئيلة للغاية من السوق السوداء من أجلنا نحن الذين في أوج أطوار النمو وفي حاجة للتغذية. وكنا نذهب أحيانًا لشراء البطاطا الحلوة. وكذلك لم يكن حساء الأرز في وجبة الصباح فقط، بل استمرَّت الوجبات المكوَّنة من حساء الأرز والبطاطا تظهر في الظُّهر والليل. وكنا في جوع دائم.

كان أهل تسوروكاوا في طوكيو، يرسلون له حلويات من وقت لآخر بناءً على طلبه. كان تسوروكاوا يأتي إلى فراشي لنأكلها سويًّا في ظلام الليل. وكان أحيانًا ما يسرع البرق في سماء الليل المتأخر.

سألته لماذا لا يعود إلى ذلك البيت الغني الذي وُلد فيه ليرعاه أبوه وأمُّه المحبَّان له؟

«ماذا؟ إن ما نحن فيه هو نوع من أنواع التدريب والزهد. ففي نهاية المطاف أنا سأرث معبد أبي.»

كان تسوروكاوا على ما يبدو لا يشعر بأي معاناة من أي نوع. كان مثل عصوي الأكل اللتين أُدخلتا تمامًا في علبتهما. استمررت في ملاحقته بالحديث وقلت لتسوروكاوا، ربما يأتي عصر جديد تمامًا لا يمكن أن نتخيَّله. في ذلك الوقت تذكرتُ أنا، الحكاية التي كان الجميع يتداولها عندما ذهبت إلى المدرسة بعد ثلاثة أيام من انتهاء الحرب، عن رئيس العمال في المصنع، عاد إلى منزله بحمولة عربة نقل مملوءة عن آخرها بالمواد. ولقد سمِعت أن رئيس العمال قال بوجه صفيق، إن تلك المواد ستكون محلي في السوق السوداء.

كنت أرى أن رئيس العمال الذي كان رابط الجأش بعيون حادة في منتهى القسوة، كان يجري بأقصى سرعته في طريق الشر. كانت الطريق التي يجري فيها بحذائه النصفي الطويل تأخذ تمامًا شكل الموت في الحرب، وبها ما يشبه الفوضى التي في شروق الفجر.

على الأرجح سينطلق مغادرًا المكان قالبًا لِفاعَه الحريري الأبيض على صدره، حاملًا المواد التي سرقها على ظهره الذي ناءَ بها، معرِّضًا وجهه لرياح بها بعض من آثار الليل. وربما أنهك نفسه بسرعة هائلة. ولكن في مكان أبعد، يدق ناقوس البرج العالي المتألق بدرجة أكثر خفة دقاتٍ غير منتظمة.

كنتُ منفصلًا عن ذلك وبيني وبين جميع تلك الأشياء فجوة. كنت بلا مال، ولا حرية، ولا تحرُّر. ولكن كان من المؤكد أنني عندما أقول «عصر جديد»، فقد كنت أنا ذو السابعة عشرة ربيعًا، قد أخذتُ قرارًا حاسمًا، مع أنه لم يكن يأخذ شكلًا واضحًا.

«إذا ذاق الناس في هذا العالم، طَعمَ الشرور في معيشتهم ونشاطهم فسأغوص أنا في الشر الذي في عالمي الداخلي بقدرِ ما يمكنني.»

ولكن أول ما أفكر فيه من شرور يتداخل فيه كبير الرهبان بمهارة، ليس إلا حلمًا أبله أقتل فيه كبيرَ الرهبان بالسُّم، وأجلس بعد ذلك في مكانه لأضع المعبد الذهبي في قبضة يدي. لم أحصُل على راحة ضميري من تلك الخطط، لأنني متأكد أن تسوروكاوا ليس له نفس طموحي.

«ألا تحمل أيَّ قلق أو أمل تجاه المستقبل؟»

«لا، لا أملك شيئًا مطلقًا. ماذا سيحدث أصلًا لو عندي …؟»

لم تكن نبرة صوت تسوروكاوا الذي أجاب بهذا الرد، بها أي قدْر من الكآبة ولا اليأس. وقتها أنار البرق حاجبه الأملس الرفيع وهو الجزء الوحيد الحساس في ملامح وجهه. وكان تسوروكاوا كما قال لي يترك الحرية للحلاق في أن يقص حواجبه من أعلى ومن أسفل. وأصبح بذلك الحاجب الرفيع في النهاية دقيقًا دقةً صناعية، ويقبع في أطراف الحاجبين ظلٌّ أخضر بسيط من أثرِ بواقي الحلاقة.

وعندما نظرت عرَضًا إلى ذلك الأثر الأخضر، أصابني القلق. فقد كان هذا الفتى على العكس مني تمامًا، يحترق على أطراف حياة خالصة النقاء. يختفي مستقبله حتى احتراقه. يغرق فتيل المستقبل داخل الزيت البارد الشفاف. مَن هذا الذي هو في حاجة لتوقُّع براءة ونقاء ذاته، إذا كان لم يتبقَّ إلا البراءة والنقاء في المستقبل فقط؟!

… في تلك الليلة، بعد أن عاد تسوروكاوا إلى غرفته، لم أستطِع النومَ بسبب حرارة الجو والرطوبة. علاوةً على ذلك، سلب شعورُ مقاومة عادة احتقار الذات كلَّ رغبة في النوم.

كنت أحيانًا ما أحتلم. ولكن ذلك لم يكن في الحُلم صورًا لرغبة جسدية مؤكَّدة، على سبيل المثال كلب أسود وحيد يجري في منطقة مظلمة، وأرى لاهثات فمه الذي يشبه اللهب، فتزداد الإثارة من دقَّات جرس معلَّق في رقبته يرن من وقت لآخر، وعندما تصل طريقة رن الجرس إلى حدِّها الأقصى، يحدث القذف.

في كل مرة من احتقار الذات، أملك أوهامًا مثل الجحيم. يظهر ثدي يويكو، ثم تظهر فخذاها. ثم أصبحُ وكأنني حشرة صغيرة وقبيحة بدرجةٍ لا مثيل لها.

… ركلتُ الفراش بقدمي ونهضتُ، وتسللت خارجًا من الباب الخلفي للمكتبة الصغرى.

المنطقة الخلفية لمعبد روكوؤنجي، حيث يقع مبنى سيكَّاتيه، أكثر اتجاهًا نحو الشرق، ثمَّة جبل يسمَّى جبل فودوسان. هو جبل مغطًّى تمامًا بالصنوبر الأحمر، ومختلط بين أشجار الصنوبر أشجار الخيزران، وثمَّة شجيرات من شجر الدوتسية وشجر الأزالية. كنت معتادًا على ذلك الجبل، لدرجةِ أنني لا أتعثَّر في صعوده حتى في ظلام الليل. عند الصعود إلى قمَّته، أستطيع الرؤيةَ لمسافة بعيدة حتى حيَّي كاميكيو وناكاكيو، وكذلك جبل إيزان وجبل دامونجي.

صعدتُ للقمة. صعدتُ وأنا أتحاشى أفرعَ الأشجار كي لا تلمس جانب عيني، وسط أصوات أجنحة الطيور التي بُغتت من قدومي. أحسستُ على الفور أن تسلُّق ذلك الجبل دون التفكير في أي شيء أعطاني راحةً ومواساة. عندما وصلتُ إلى القمة، هبَّت نسمات الليل المنعشة ولفَّت جسمي الغارق في العَرق.

جعلني المنظر الذي ظهر أمامي أشكُّ في عيني. كانت مدينة كيوتو التي أُلغي عنها حظر الإضاءة بعد غياب طويل، مضاءةً في كل الاتجاهات. كان ذلك المنظر معجزةً بالنسبة لي لأنني لم أصعد إلى هنا بعد نهاية الحرب مطلقًا.

كوَّنت الأضواء كتلةً واحدة مجسَّمة. تناثر الضوء هنا وهناك عبر سطح أفقي، دون إعطاء شعور بالقرب أو بالبُعد مكوِّنًا مبنًى معماريًّا شفافًا وعملاقًا مصنوعًا فقط من الضوء، مستغلًّا قرونه المعقَّدة، وفاردًا أجنحة أبراجه، وبدا كما لو أنه يقف مواجهًا ظلام الليل. تلك هي بحقٍّ ما يُطلَق عليها العاصمة. كانت غابة القصر الإمبراطوري هي فقط التي ينقصها الضوء، وتقبع ككهفٍ أسودَ كبير.

وبعيدًا يلمع ضوءُ البرق من وقت لآخر في سماء الليل المظلمة على جوانب جزء من جبل هيزان.

فكرتُ قائلًا: «إن هذا هو العالَم الدنيوي. لقد انتهت الحرب، وانقاد الناس للأفكار الشريرة تحت ظل تلك الأضواء. يتأمَّل الكثير من الرجال والنساء وجوهَ بعضهم البعض تحت تلك الأضواء، ويشمون رائحةَ فِعل يشبه موتًا على وشْك الاقتراب منهم. إن قلبي يجد عزاءً في التفكير أن كل تلك الأضواء الكثيرة، أضواءٌ شريرة. إنني أرجو أن تتكاثر الشرور التي داخل قلبي وتتزايد بلا عدد، وتُطلق لمعانًا يحتفظ بتناظره واحدًا واحدًا مع تلك الأضواء الكثيفة التي أمام عيني! أرجو أن يتساوى ظلام قلبي الذي يلفُّ ذلك اللمعان، مع ظلام الليل الذي يلفُّ هذه الأضواء الكثيفة!»

•••

لقد زاد عدد زوار المعبد الذهبي زيادةً غير مسبوقة. وقدَّم كبير الرهبان طلبًا إلى بلدية المدينة، لرفع سعر تذكرة دخول المعبد لِتوائم ظاهرة التضخم الاقتصادي، ونجح في ذلك.

لقد كان الوضع حتى ذلك الوقت هو أن عدد مَن يزور المعبد عبارة عن قلةٍ متناثرة ممن يرتدون الزيَّ العسكري وزيَّ العمال والكيمونو الحريمي ذا السروال. ثم في النهاية جاء جيش الاحتلال ووصل الأمر إلى أن تتجمَّع العادات الخليعة للعالم الدنيوي حول المعبد الذهبي. ولكن من جهة أخرى، عادت إلى الحياة مرةً أخرى عادةُ تقديم قرابين الشاي، فارتدَت النساء ملابسهن الفخمة الجميلة التي كن يخفينها في مكانٍ ما، وجئن لزيارة المعبد الذهبي. أحدثت الملابس التي كنا نرتديها نحن الرهبان الذين أصبحنا عُرضة لنظرهن وقتها تباينًا حادًّا وواضحًا معهن، وبدا وكأننا نتقمَّص دورَ الرهبان في نزوة سُكْر. مثل تمسُّك سكان قرية بعاداتهم وتقاليدهم القديمة والغريبة جدًّا، من أجل إسعاد السائحين الذين جاءوا خصوصًا لهذا المكان البعيد لرؤية عاداتهم العجيبة … وبصفة خاصة كان الجنود الأمريكان، يجذبونني من طرَف ثوبي بلا أي حياء وهم يضحكون، أو يعرضون شيئًا من النقود طالبين إعارتهم زيَّ الرهبان لكي يرتدوه ويأخذوا به صورًا تذكارية. وفي هذه الحالات بديلًا عن الدليل الذي لا يستطيع التحدُّث باللغة الإنجليزية كنتُ أنا، أو تسوروكاوا في بعض الحالات، نقوم بالإرشاد بلغة إنجليزية ركيكة.

أقبل أولُ شتاء بعد انتهاء الحرب. وظلَّت الثلوج تهطل من ليل يوم الجمعة إلى يوم السبت التالي. كنتُ أثناء وجودي في المدرسة وحتى موعد رجوعي بعد الظهر وأنا أتشوَّق لرؤية الثلوج وهي تغطي المعبد الذهبي.

استمر الثلج يهطل إلى ما بعد الظهيرة. وصلتُ إلى ضِفاف بِركة كيوكو من طريق الزوار وأنا كما أنا بالحذاء المطاطي الطويل والحقيبة معلَّقة على كتفي. كانت الثلوج تهطل بسرعة متزايدة. أنا الآن أفتح فمي على آخره في اتجاه السماء كما كنت أفعل كثيرًا وأنا طفل. وبذلك تلمس قِطَع الثلج أسناني مصدرةً صوتًا مثل دقة قلب جرس دقيق، وعندها ينتشر الثلج في كل مكان داخل الفم الساخن، وأشعر أنه يدخل ويخترق ذائبًا على سطح لحمي الأحمر. في ذلك الوقت كنت أتخيَّل فمَ طائر العنقاء الذي على قمة كوكيو. الفم الحار الأملس لذلك الطائر الغامض الذهبي اللون.

تجعلنا الثلوج نشعر بمشاعرَ صبيانية حقًّا. فضلًا عن أنني حتى مع بداية العام الجديد لن أزيد عن الثامنة عشرة من عمري. فهل يصبح كذبًا لو شعرتُ بمشاعرَ صبيانية تُحلِّق في داخلي؟

لم يكن هناك ما يمكن مقارنته بجَمال المعبد الذهبي المغطى بالثلوج. يقف هذا المبنى المعماري المفرغ بجسده العاري المنعش في وسط الثلوج تاركًا نفسه تمامًا لهطول الثلج، جاعلًا الأعمدة الرفيعة تصطفُّ واقفة.

فكَّرتُ في سبب عدم تلعثم الثلوج! إنها أحيانًا ما تتلعثم في هطولها عندما تحتجزها أوراق شجر الأزالية ثم بعد ذلك تسقط فوق الأرض. ولكن عندما تغرقني الثلوج التي تهطل منطلقةً من السماء دون أن يحجبَها شيء، أنسى عُقدة قلبي، وكأنني أغتسل بالموسيقى، وأستعيد إيقاعَ روحي البريئة.

الحقيقة أنه بفضل الثلوج يتحوَّل المعبد الذهبي المتجسِّد في ثلاثة أبعاد إلى ذهبي مسطَّح، أي كمعبد ذهبي في لوحةٍ لا يمكن لشيء أن يتحدَّاه. لا تقدِر الأفرع الذابلة لأشجار القيقب على ضِفتي البِركة، على تحمُّل الثلوج على الأغلب، وتبدو تلك الغابة كأنها أكثرُ عُريًا من الوقت العادي. كانت الثلوج المتراكمة على أشجار الصنوبر هنا وهناك رائعةَ الجَمال. ويتراكم فوق البِركة المتجمدة المزيدُ من الثلوج، وثمَّة أماكنُ لا تتراكم فيها الثلوج بدرجة عجيبة، كانت النقاط البيضاء شبه الدائرية المتناثرة ترسم بجراءةٍ ما يشبه لوحةً زخرفية للسحاب. ترتبط صخرة «التسعة جبال والثمانية بحور» وكذلك جزيرة أواجي مع الثلوج التي فوق البِركة المتجمدة، وبدت أشجار الصنوبر الصغيرة التي تنمو هناك، وكأنها وقفت فجأةً في منتصف السهول بين الجليد والثلوج.

غير الأجزاء البيضاء الثلاثة المحدَّدة بوضوح، وهي سطحا قمة كوكيوتشو وطابق تشوندو وإضافة لهما السطح الصغير للسوسيه، على العكس يُبرِز الإطار الخشبي المظلم لونًا أسودَ حيًّا في وسط الثلوج، ومثلما نشكُّ فجأةً عندما نرى لوحةً على الطراز الجنوبي لبرجٍ عالٍ في أعماق الجبال، أنَّ أحدًا ما يسكنه فنقرِّب وجهنا من سطح اللوحة لنختلس النظر، كذلك من خلال جاذبية لون تلك الأخشاب القديمة الأسود، يعطيني المعبد الذهبي الذي لا يسكنه أحد، إحساسًا بالرغبة في النظر. ولكن حتى لو قرَّبتُ وجهي فهو على الأرجح سيصطدم فقط بسطح لوحة الثلوج الحريرية الباردة، ولن يستطيع الاقترابَ أكثر من ذلك.

اليوم أيضًا تُركت بوابة قمة كوكيوتشو مفتوحة على مصراعيها تجاه السماء المليئة بالثلوج. وكان قلبي الذي ينظر عاليًا إليها، يفحص بدقة قِطعَ الثلوج الهاطلة تدور في فراغ اللاشيء حول قمة كوكيوتشو، وأخيرًا تقف على القشرة الذهبية الصدئة القديمة على سطح الجدران، وتلفظ أنفاسها الأخيرة، حتى تصل إلى ربط الندى الصغير باللون الوردي.

… في صباح يوم الأحد التالي جاء الدليل العجوز ليستدعيني.

فقد جاء جنديٌّ أجنبي للزيارة قبل موعد فتح المعبد. الدليل العجوز أشار له بيده لكي ينتظرَ وجاء ليستدعيني أنا الذي «أستطيع التحدُّث باللغة الإنجليزية». العجيب أنني كنت أتقن الإنجليزية أكثرَ من تسوروكاوا، وأنني لم أكن أتلعثم عند الحديث بها.

كانت تقف عربةُ «جيب» أمام بوابة المعبد. ويضع جندي أمريكي سكران يدَه على عمود البوابة، ونظر إليَّ من علٍ ثم ضحك باحتقار.

كانت الحديقة الأمامية تبرُق في طقس جليدي مشمس. كان الشاب الذي أعطى ظهره لتلك الحديقة البرَّاقة، ذا جسد مشدود قد تخلَّص من الدهون، وكان ينفث في وجهي رائحةَ ويسكي مع أنفاسه البيضاء. كما يحدث عادةً أُصبت بالقلق من تخيُّل المشاعر التي تعتمل داخل إنسان به كلُّ هذا الاختلاف في الحجم معي.

ولأنني كنت أحرص على عدم الاعتراض على أي شيء، قلت إنه حتى لو قبِل الموعد فسأقوم بالإرشاد له، وطلبت منه دفْع قيمة تذاكر الدخول وقيمة الإرشاد. دفع السكران الضخم ذلك بهدوء وتعقُّل. ثم بعد ذلك اختلس النظر داخل عربة «الجيب» وقال ما معناه: «هيا اخرجي!»

كان انعكاس الثلوج براقًا للعين فكنتُ حتى ذلك الحين لا أستطيع رؤيةَ ما في داخل عربة «الجيب». تحرَّك شيءٌ ما أبيضُ داخل النور الذي يدخل من الغطاء المنزلق لسقف الجيب. أحسستُ بتحركِ شيءٍ ما يشبه أرنبًا.

ظهرت فوق حافة عربة «الجيب» العليا قدمٌ تنتعل كعبًا عاليًا رفيعًا. اندهشتُ لأنها في وسط هذا الجو البارد كانت لا تلبس جوربًا. كانت فتاة ترتدي معطفًا بلون قرمزي فاقع الحمرة، وتعرف من أول نظرة أنها عاهرة ممن يرافقن الأجانب، وكانت تصبغ أظافر قدميها وكذلك أظافر يديها بنفس اللون القرمزي. عندما انفتحت أطراف المعطف، بانت منامتها المصنوعة من قماش المناشف المتسخة. كانت الفتاة في غاية السُّكر وعيناها متحجرتين. وعلى ما يبدو أنه رغم أن الرجل كان يرتدي الزيَّ العسكري بصرامة، إلا أن الفتاة التي فاقت لتوها من النوم، ارتدت المعطف فوق منامتها وخرجت.

بدا وجه الفتاة الذي انعكس عليه الجليد، شاحبًا أزرقَ بدرجة مزرية. وبرز على بشَرتها التي انعدم فيها جريان الدم تقريبًا، لونُ أحمر الشفاه بروزًا غير عضوي. عطست الفتاة بعد أن نزلت من العربة مباشرةً، وقد قربت تجاعيد صغيرة جارية رفيعة من أرنبة أنفها الدقيقة، وعيناها المرهقتان من السُّكر نظرتا بعيدًا للحظة، ثم غرقتا مرةً ثانية في أعماقٍ سحيقة. نادت على اسم الرجل «جاك»، ناطقة إياه جاااك! ثم قالت:

«جاااك! تو كولد! تو كولد!»

انساب صوت الفتاة بكآبة فوق الجليد. لم يُجِبها الرجل.

لأول مرة في حياتي أشعر بجَمال عاهرة من تلك النوعية. ولم يكن ذلك بسبب أنها تشبه يويكو. كانت وكأنها لوحة «بورتريه» رُسمت بتذوُّق وتمعُّن مع الحرص على ألا تشبه يويكو في أي شيء. ومن هذه الناحية كانت تلك اللوحة التي نتجت مقاومة لذاكرة يويكو، تمتلئ على العكس بجَمال جديد وطازج. أعني أن اللوحة كانت تتملق مقاومةَ الشهوة الجسدية التي نشأت بعد ذلك تجاه الجَمال الذي أحسستُ به لأول مرة في حياتي.

ولكن كانت نقطة واحدة تشترك فيها مع يويكو. ألا وهي أن تلك الفتاة لم تلقِ ولو نظرةً عابرة إليَّ أنا الذي أرتدي زي الرهبان، مع معطف متسخ وحذاء طويل.

في الصباح الباكر من ذلك اليوم استطعنا بصعوبة بالغة إزالةَ الثلوج من طرقات الزيارة بعد أن اشترك في ذلك كلُّ مَن في المعبد. تم فتحُ ممرات يمكن السيرُ فيها لصف فردي من الزوار في حالة الزيارات الفردية العادية، وإذا جاءت مجموعات سياحية فربما تحدُث مشكلة. مشيتُ في مقدمة الجندي الأمريكي والفتاة.

عندما جئنا إلى البِركة وانفتح أمام عيني الجندي الأمريكي المنظرُ الواسع، من الفرح فتح ذراعيه ورفع عقيرته صائحًا بكلامٍ لا أفهمه. ثم أخذ يهز جسد الفتاة بعنف ووحشية. عقدت الفتاة حاجبيها، ولكنها لم تَزِد عن ترديد كلمة: «أوه، جاااك. تو كولد!»

سألني الجندي الأمريكي عن ثمار شجرة الأوكوبة الحمراء اللامعة التي بانت في ظل الأوراق التي مالت من ثقل الثلوج المتراكمة، ولكني لم أستطِع إلا الإجابة بقول «أوكوبة». ربما يكون ذلك الجندي الأمريكي شاعرًا غنائيًّا — وهو ما لا يتناسب مع جسده العملاق — إلا أن عينيه الزرقاوين الصافيتين كانتا تعطيان إحساسًا بالقسوة. ثمَّة أغنية من أغاني «الإوزة الأم» التعليمية الغربية، تقول إن العيون السوداء شريرة وقاسية، تُرى هل الوضع الطبيعي أن الإنسان عندما يتخيَّل القسوة فهو يَقصُرها على شيء أجنبي وغريب عنه؟

قمتُ بشرح المعبد الذهبي لهما شرحًا عاديًّا. خلع الجندي الذي كان في حالة سُكر بيِّن، حذاءه وهو يترنح ثم ألقى كلَّ فردة في جهة. قمتُ بيدٍ تخدَّرت من البرد بإخراج ورقةِ شرحٍ مكتوبة باللغة الإنجليزية يجب قراءتها في مثل هذه الحالات. ولكن الجندي الأمريكي مدَّ يده من جانبي وخطف مني تلك الورقة، وبدأ يقرؤها بطريقة هزلية، ولذا لم تكن هناك حاجة مني إلى إعلامه بما فيها.

استندتُ بظهري إلى درابزين مبنى هوسوين ونظرتُ متأملًا سطح البِركة التي تتألق من انعكاسات الضوء المبهر. لم يسبق أن انعكس الضوء داخل المعبد الذهبي بهذه الدرجة المسبِّبة للقلق.

دون أن أنتبه كان شجارٌ قد نشأ بين الرجل والفتاة اللذين ذهبا ناحيةَ مبنى هوسوين. واحتدَّ العراك بينهما تدريجيًّا، ولكني لم أستطِع سماع كلمة واحدة منهما. كانت الفتاة تردُّ بعنف ولكني لم أستطِع تحديدَ هل هي تتحدث باللغة الإنجليزية أم اليابانية. وكان الاثنان قد نسيا أثناء عراكهما وجودي ثم عادا إلى ناحية هوسوين.

لطمت الفتاة بكل قوَّتها وجهَ الجندي الأمريكي، الذي كان مندفعًا نحوها ويسبُّها بعنف. ثم لفَّت جسمها للخلف وهربت من أمامه وأسرعت تجري بكعبها العالي في ممر الزيارة متجهةً إلى البوابة.

لم أفهم أنا أيَّ شيء، فأسرعت بالعودة من المعبد الذهبي إلى ضفاف البِركة. ولكن عندما لحقتُ بالفتاة كان الجندي صاحب الأقدام الطويلة قد لحِق بها، فأمسك بتلابيب معطفها القرمزي.

نظر الجندي الشاب وهو ممسكٌ بها نظرةً سريعة ناحيتي. ثم أرخى قليلًا من قبضته على صدر الفتاة ذي اللون الخافت. يبدو أن القوة التي كانت كامنة في تلك اليد القابضة عليها، لم تكن عادية. فوقعت الفتاة فوق الجليد على ظهرها مثل تمثال. وانفرج طرفا معطفها القرمزي وامتدَّت فوق الجليد الأبيض بشَرة فخذها البيضاء.

لم تحاول الفتاة النهوضَ من رقدتِها. بل ظلت تنظر بشررٍ تجاه عين الرجل العالية التي تكاد تبلغ السحاب. اضطررتُ إلى الجثو على الأرض محاولًا مساعدةَ الفتاة على أن تنهض.

صرخ الجندي الأمريكي قائلًا: «أنت!» نظرت للخلف. فكانت هيئته وهو يتمركز واقفًا مبعِدًا ما بين قدميه أمام عيني مباشرة. كان يعطيني إشارةً بأصبعه. قال بنبرة متغيرة مليئة بالدفء والرطوبة ما يلي باللغة الإنجليزية:

«دُس عليها هيَّا! حاوِل أن تدوسَها!»

لم أفهم ماذا يقصد. ولكن كانت عيونه الزرقاء تأمر من مكانٍ عالٍ. وخلف منكبيه العريضين، كان المعبد الذهبي متألقًا بقمَّته الثلجية، وكانت سماء الشتاء الزرقاء صافية وكأنها غُسلت. ولم تكن عيناه الزرقاوان بهما أيُّ قسوة. لماذا أحسستُ لحظتَها يا تُرى أنها شاعرية؟

هبطت يداه عليَّ وأمسكت بياقة ملابسي فأوقفتني. ولكن كانت نبرة صوته الآمرة كما هي دافئة وحنونة.

«دُس! أقول لك دوسها!»

كان من الصعب عليَّ مقاومته، فرفعتُ حذائي الطويل عاليًا. خبط الجندي الأمريكي على كتفي، فنزلت قدمي، داست قدمي على شيءٍ ليِّن يشبه طمي الربيع، كان ذلك بطن الفتاة. أغمضَت الفتاة عينيها وتأوَّهت.

«دُس! دُس أكثر!»

دوستُ أكثر. تحوَّل الشعور الغريب الذي أحسستُ به في المرة الأولى، إلى فرحة مندفعة في المرة الثانية. أثناء دوسي عليها كنتُ أفكر هذا بطن الفتاة … هذا صدر الفتاة. كان خارج نطاق خيالي أن جسدَ إنسان آخر يستجيب بتلك المرونة الصادقة مثل الكرة.

«يكفي هذا!»

قال الجندي الأمريكي ذلك بوضوح. ثم بأدبٍ عالٍ حضن جسد الفتاة لكي تنهض، ودفع عنها الطين والثلج، ثم بعد ذلك دون أن ينظر نحوي، سار أمامي وهو يسند جسد الفتاة. كانت الفتاة حتى النهاية تتلافي النظرَ إلى وجهي.

بعد أن وصلنا إلى مكان وجود «الجيب»، وأركب الجندي الأمريكي الفتاة أولًا، قال لي بوجهٍ صارم بعد أن فاق من السُّكر: «شكرًا لك!» وحاول أن يعطيني مالًا ولكني رفضت. فقام بأخذ لفَّتي سجائر أمريكية من فوق مقعد السيارة ودفعهما بين ذراعي.

وقفتُ أنا وسط انعكاس الجليد أمام المدخل وقد احمرَّ خديَّ. أثارت عربة الجيب عاصفةً من الجليد وراءها وابتعدت وهي تهتز في حذر. ثم أخيرًا اختفت العربة الجيب عن مرمى البصر، ولكن لم تبرح الإثارة جسدي.

… وعندما هدأتْ إثارتي أخيرًا، لاحت على ذهني خطة نفاق مفرح يا تُرى إلى أي درجة سيُسر كبير الرهبان المحب للسجائر بأخذ هذه الهدية؟ جاهلًا بكل شيء!

لم تكن هناك ضرورة للاعتراف بكل التفاصيل. فلقد فعلتُ ذلك مجبرًا وبالأمر المباشر. ولا أعلم ما الذي كان يمكن أن يلحقَ بي من أذًى إذا رفضتُ أو قاومتُ.

ذهبتُ إلى غرفة كبير الرهبان في مبنى المكتبة الكبرى. كان نائبه البارع في تلك الأشياء يحلِق له رأسه. انتظرتُ عند مقدمة الحافة التي امتلأت بأشعة شمس الصباح.

كان الصنوبر الذي يأخذ شكل تنين وسفينة، يجعل الجليدَ المتراكم يتألق لامعًا براقًا؛ لذا بدا وكأنه قلوع مثنية جديدة تمامًا.

كان كبير الرهبان أثناء حلاقة رأسه، مغمضًا عينيه يرفع بكلتا يديه الورقةَ التي تستقبل الشَّعر الساقط. مع الاستمرار في الحلاقة كان رأسه يظهر بوضوح ظلاله الحيوانية الوحشية البوهيمية. بعد أن انتهت الحلاقة غطَّى النائبُ رأسَ كبير الرهبان الحليق بمنشفة دافئة. بعد فترة أزالها. ومن تحتها ظهر رأس ساخن كأنه مسلوق وكأنه رأس وليد وُلد للتو.

أخيرًا تكلمتُ ببضع كلمات، ثم قدَّمت لفَّتي سجائر تشسترفيلد، ثم انحنيت حتى لمس رأسي الأرضَ.

«أوه. أقدِّر لك تعبك.»

قال كبير الرهبان ذلك وهو يُبرز ابتسامة سريعة كأنه يضحك خارج نطاق وجهه. كان ذلك كلَّ ما هنالك. في حركة وظيفية تمامًا، وضع كبير الرهبان بيده لفَّتي السجائر بعشوائية فوق أكوام من الخطابات والأوراق المتعلقة بالعمل التي فوق مكتبه.

ولأن النائب بدأ في تدليك كتفيه أغمض كبيرُ الرهبان عينيه ثانية.

كان يجب عليَّ الانصراف. جعل عدم الرضا جسدي يمتلئ بالحرارة. الفعل الشرير غير المفهوم الذي قمتُ به، السجائر التي تسلمتُها مكافأةً لي على ذلك، كبير الرهبان الذي أخذها دون أن يعرف ما حدث … في علاقة تلك الأحداث المتسلسلة ببعضها، يجب أن يكون هناك شيء أكثر دراماتيكيةً، وأكثر عنفًا. إن عدم معرفة شخص في مكانة كبير الرهبان بذلك، أصبح ذلك سببًا ضخمًا مرةً أخرى لجعلي أحتقر كبيرَ الرهبان أكثرَ وأكثر.

ولكن عندما كنتُ على وشْك التقهقر مغادرًا أوقفني كبير الرهبان. فقد كان وقتها على وشْك أن يمنحني بركتَه.

قال كبير الرهبان:

«أنوي إرسالك إلى جامعة أوتاني بعد تخرُّجك مباشرة. لا بد أن والدك المتوفَّى قلِقٌ في قبره عليك؛ لذا يجب عليك الاستذكار جيدًا ودخول الجامعة بمستوًى متميز من النتائج.»

… انتشر هذا الخبر بين ربوع المعبد من خلال فم نائب كبير الرهبان. قائلًا إنَّ عرْض استكمال الدراسة الجامعية من فم كبير الرهبان شخصيًّا هو البرهان الأكيد على رغبته في انضمامي لرهبان المعبد. تكثُر الحكايات التي تشير إلى أنَّ مَن كان يريد الذهاب إلى الجامعة من تلاميذ الرهبنة في الماضي، وجب عليه التردُّد على غرفة كبير الرهبان مدة مائة ليلة ليدلِّك كتفه، وفي النهاية يتحقَّق له مُناه. خبط تسوروكاوا، الذي تقرَّر أن يذهب هو أيضًا إلى جامعة أوتاني بأموال عائلته، على كتفي سعيدًا. ولكن انقطع الشخص الثالث الذي لم تأتِه أيُّ أخبار من كبير الرهبان، بعد ذلك عن الكلام معي نهائيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤