الفصل الرابع

على الأرجح كان الأمر يبدو للآخرين أنني دخلت القسم التأهيلي لجامعة أوتاني في ربيع عام ١٩٤٧، ممتلئًا بالحيوية والزهو ومحاطًا بغَيرة أقراني وحب ورعاية كبير الرهبان. ولكن كانت ظروف دخول الجامعة تلك مؤلمةً حتى عند مجرد تذكُّرها.

بعد مرور أسبوع من سماح كبير الرهبان لي باستكمال دراستي الجامعية في ذلك الصباح ذي الجليد الكثيف، عند عودتي من المدرسة، أخذ زميلي الذي لم يُسمح له بدخول الجامعة، ينظر إليَّ بسرور كبير. وقد كان ذلك الشاب حتى ذلك الوقت لا يكلمني.

لم يختلف سلوك رهبان المعبد وسلوك نائب كبير الرهبان عن الوضع العادي. ولكن بدا عليهم أنهم يتصنَّعون في الظاهر فقط أن الوضع طبيعي.

في تلك الليلة ذهبتُ إلى غرفة تسوروكاوا، وشكوت له أن سلوك رهبان المعبد غير طبيعي. تسوروكاوا في البداية عوجَ عنقَه وتعجَّب مثلي من الأمر، ولكن تسوروكاوا الذي لا يستطيع تصنُّع المشاعر أخيرًا نظر إليَّ بوجهٍ به إحساس بالذنب وقال:

«لقد سمِعتُ مِن ذلك الشخص.»

ثم ذكر اسم الزميل الآخر وأكمل:

«سمعتُ منه نقلًا عن آخرين، فهو أيضًا كان في المدرسة، ولم يكن يعرف … على أي حال، فأثناء غيابك حدث أمرٌ غريب.»

اضطرب قلبي بعنف. وسألته عن الأمر. فجعلني تسوروكاوا أقسم يمينًا بألا أبوح بالسِّر، وحكى لي وهو يراقب ملامح وجهي.

في ظهيرة ذلك اليوم، زارت المعبدَ عاهرةٌ تعمل للأجانب ترتدي معطفًا بلون قرمزي، وطلبَت لقاء كبير الرهبان. خرج نائبه لمقابلتها عند مدخل المعبد. شتمَت الفتاة النائبَ بأقذع الألفاظ، وقالت له إنها تريد مقابلة كبير الرهبان بأي طريقة كانت. ولسوء الحظ كان كبير الرهبان يعبُر الممر صدفة، ولاحظ الفتاة فخرج إليها عند المدخل. وعلى حد قول الفتاة إنها كانت في زيارة المعبد الذهبي مع جندي أجنبي في صباح جليدي مشمس منذ حوالي أسبوع، وقتها ظل أحدُ صغار الرهبان، مداهنةً للجندي الأجنبي، يدوسُ على بطن الفتاة التي أطاح بها الجندي الأجنبي أرضًا. وفي تلك الليلة أسقطت الفتاة جنينها. وهي تريد بعضَ المال تعويضًا لها عن ذلك. وقالت إنها إذا لم تُعطَ المال، فستنشر على الملأ أفعالَ المعبد الذهبي الخبيثة تلك.

سكتَ كبير الرهبان وأعطى الفتاةَ المال الذي طلبته وجعلها ترحل. كان معروفًا أن المرشد في ذلك اليوم هو أنا ولا أحدَ سواي، ولكن لا شهود على فعلي المشين؛ لذا أصدر كبير الرهبان أوامره بعدم إخباري بما حدث. وأنهى كبير الرهبان الموضوع دون تحقيق.

لكن سأل أهل المعبد بشكل أو بآخر نائبَ كبير الرهبان عن الأمر، فلم يشكُّوا أنني صاحب تلك الفَعلة الشنيعة. أمسك تسوروكاوا يدي وهو تقريبًا يبكي. تأمَّلتني مقلتاه الصافيتان لحد الشفافية وقال لي بصوتٍ صافٍ ورائقٍ يناسب فتًى صغيرًا مثلَه:

«هل حقًّا فعلتَ ذلك؟»

… واجهتُ مباشرةً مشاعري المظلمة والكئيبة. من خلال ملاحقة تسوروكاوا لي بهذا السؤال، جعلني أواجهها.

لماذا يسألني تسوروكاوا عن هذا الأمر. هل هو بسبب الصداقة؟ هل هو يعرف أنه خلال سؤاله لي هكذا، سيُضطر هو شخصيًّا أن يتخلى عن دوره الحقيقي؟ هل هو يدري أنه من خلال سؤاله هذا خانني في أعمق أعماقي؟

من المفترض أنني قلتُ مرارًا، إن تسوروكاوا هو «البوزيتيف» لصورتي … لو كان تسوروكاوا مخلصًا في دوره هذا، كان يجب عليه أن يترجمَ مشاعري المظلمة تلك كما هي بنفس صورتها إلى مشاعرَ مشرقة دون أن يلاحقني ودون أن يسألني عن أي شيء. في ذلك الوقت من المفترض أن الكذب يصبح صدقًا، والصدق يصير كذبًا. إذا نظرنا إلى طريقة تسوروكاوا تلك التي يتميَّز هو بها، في ترجمة كل الظلال إلى مكان مشمس، وكل الليل إلى نهار، وكل أضواء القمر إلى أضواء شمسية، وكل رطوبة فطر الليل إلى حفيف أوراق نهار شابة لامعة، عند النظر إلى طريقته تلك، لربما قمتُ أمامه بطقس «الاعتراف» وحكيت له وأنا أتلعثم كلَّ شيء. ولكن في ذلك الوقت بالذات، لم يفعل تسوروكاوا ذلك. وعندها نالت مشاعري ذاتُ الظلام الأسود قوةً وعزيمة.

ضحِكت ضحكةً مبهمة. كانت ليلة من ليالي المعبد الحالكة التي ليس فيها أي أثر لنور. ركبةٌ باردة. يرتفع بثبات عددٌ من الأعمدة العتيقة الغليظة وتحيط بنا نحن الذين نتكلم في سرية.

على الأرجح رعشةُ جسمي بسبب البرد. ولكن المتعة التي حصلت عليها بسبب كذبي لأول مرة كذبًا علنيًّا على هذا الصديق كانت تكفي لكي تجعل ركبةَ بيجامتي ترتجف.

«لم أفعل شيئًا.»

«حقًّا؟ حسنًا، فهذه الفتاة جاءت لتكذب علينا. اللعنة عليها. كيف لنائب كبير الرهبان نفسِه أن يصدِّق كلامها؟»

ارتفع تدريجيًّا حسُّ العدالة لديه، ووصل الأمر لأن يقول في سَورة غضب إنه في الصباح الباكر سوف يشرح الأمر نيابةً عني لكبير الرهبان ويفهمه أصلَ الحكاية. في ذلك الوقت ظهر بلا وعي في مخيِّلتي رأسُ كبير الرهبان المحلوق تمامًا الذي يشبه الخضار المسلوق. ثم بعد ذلك ظهرت خدوده المستسلمة الوردية اللون. في تلك الصورة التي تخيَّلتها، شعرتُ فجأةً ولا أدري سببًا لذلك بكراهيةٍ وحقد عظيمين. كانت ثمَّة ضرورة لكي أدفن شعورَ العدالة لدى تسوروكاوا ذلك في باطن الأرض بيديَّ قبل أن ينبُت كالندى.

«ولكن هل تعتقد أن كبير الرهبان قد صدَّق فعلًا أنني فعلتُ ذلك؟»

على الفور ارتبكتْ أفكار تسوروكاوا فقال:

«لا أدري.»

«مهما سمِعتُ أن الآخرين يغتابونني من وراء ظهري، فإذا كان كبير الرهبان فقط صامتًا ولا يقول شيئًا فهذا يدعو إلى الاطمئنان. أنا شخصيًّا أرى ذلك.»

ثم بعد ذلك أقنعتُ تسوروكاوا أن شرحه الأمر لكبيرِ الرهبان على العكس لن يكون ذا جدوى، بل ربما يعمِّق ارتياب الجميع تجاهي. وقلتُ له إن كبير الرهبان فقط متأكد من براءتي ولهذا السبب بالذات أنهى الموضوع دون تحقيق. وأثناء قولي ذلك برزت في قلبي بوادرُ الفرحة، وتدريجيًّا مدَّت الفرحة جذورها الراسخة إلى الأعماق. فرحة أنه «ليس هناك مَن عاين، وليس هناك شهود.»

حسنًا، لم أكن بالطبع أُومن أن كبير الرهبان فقط يؤمن ببراءتي. بل على العكس من ذلك. فإنهاء الراهب لكل شيء دون أن يسأل، يدلُّ على تأكده من أنني المذنِب.

وربما كان كبير الرهبان قد عرف الأمر بالفعل، عندما أخذ من يدي لفَّتي السجائر ماركة تشسترفيلد. وربما يعني إنهاء الأمر دون أسئلة، أنه ينتظر بعيدًا في صمت، اللحظةَ التي أقوم فيها بالاعتراف اعترافًا طوعيًّا من تلقاء نفسي. ليس هذا فقط. فهو قد أعطاني طُعم الدراسة في الجامعة، في مقابل أن أعترف، وإذا لم أعترف، يقوم بإيقاف الدراسة في الجامعة بسبب تلك الفَعلة الشنيعة مني، وإذا قمتُ بالاعتراف، يقوم بتدقيق لحظة التوبة، ويسمح لي باستكمال الدراسة في الجامعة جاعلًا الأمر يظهر في هيئة الجميل والنعمة التي منحني إياها. وكان الفخُّ الأكبر بعد ذلك، هو أنه أمر نائبه بعدم إبلاغي بما حدث. فإذا كنتُ بريئًا حقًّا، لا أحسُّ بأي شيء هكذا، وأقضي أيامي هنا يومًا بعد يوم دون أن أعرف أيَّ شيء. وعلى الجانب الآخر إذا كنتُ قد فعلت تلك الفَعلة، ثم إذا كان لديَّ بعضٌ من حكمة، فالأيام التي أقضيها أنا بريء القلب في صمت طاهر، أي تلك الأيام التي لا ضرورة للقيام بالاعتراف فيها، أستطيع أن أعمل محاكاةً كاملة لها. حسنًا، من الأفضل أن أقوم بالمحاكاة. تلك هي أفضل طريقة، وتلك هي السبيل الوحيدة التي أستطيع بها إبراءَ ذمتي. وهي الطريق التي يقودني كبير الرهبان خفيةً لها. وأنا حاليًّا وقعتُ في ذلك الفخ … وعندما وصلتُ بتفكيري إلى ذلك، أحسستُ بالغضب.

بالنسبة لي، ليس الأمر أنني أَعْدم وسيلةَ الدفاع عن نفسي. فلو لم أدُس على الفتاة، لكان الجندي الأجنبي قد أخرج مسدسه، وربما هدَّد حياتي. ولا أستطيع أنا أن أعارض جيش الاحتلال. فلقد فعلتُ كلَّ ما فعلتُ مرغمًا وتحت الإجبار.

ولكن بطن الفتاة الذي شعرتُ به في باطن حذائي المطاط الطويل، تلك القوة المرنة المتزلفة، وتلك الصرخات، ذلك الإحساس بانفتاح وردَّة اللحم المدهوس، تترنح أحاسيس معينة، الشيء الذي يشبه البرق المبهم الذي جاء من داخل جسد الفتاة وقتها واخترق جسدي … حتى وقتها لا أستطيع القول إنني قد أُجبرت على التذوق. وأنا الآن أيضًا، لم أنسَ تلك اللحظة الحلوة الممتعة.

كان كبير الرهبان يعرف لبَّ ما شعرتُ به، لبَّ تلك الحلاوة الممتعة!

على مدى عام كامل بعد ذلك، أصبحتُ مثل العصفور المقبوض عليه في قفص … القفص كان يبدو أمام عيني بلا انقطاع. ومع تصميمي على عدم الاعتراف، أصبحت أيامي بلا راحة أو أمان.

وحدث أمرٌ عجيب. بدأ يتألق تدريجيًّا داخل ذاكرتي، ذلك الفعل الذي لم أحسَّ وأنا أفعله بأنه إثم أو جريمة بأي حال، الفعل الذي دهستُ فيه الفتاة بقدمي. ولم يكن ذلك بسبب أنني عرفتُ فيما بعدُ أن الفتاة قد أسقطت جنينها. كان ذلك الفعل مثل رمال ذهبية ترسَّبت في أعماق ذاكرتي، وتصدر لمعةٌ متألقة تصيب العين على الدوام. إنه كذلك فعلًا. في غفلة من الزمن نبع داخلي إحساس أنني أعي بوضوح أنني ارتكبتُ إثمًا، مهما كان ذلك الإثم صغيرًا وضئيلًا. علَّقتُ ذلك الإحساس على صدري من الداخل مثل النيشان.

… حسنًا، كمشكلة واقعية، لم يكن أمامي وأنا أحاول تخمينَ نية كبير الرهبان، إلا الوقوع في حيرة تامة، أثناء انتظار موعد امتحان القبول بجامعة أوتاني. لم يقُل كبير الرهبان ولو مرةً واحدة إنه سيخلف وعدَه الشفوي لي باستكمال دراستي الجامعية. ولكنه كذلك أيضًا، لم يطلب مني الإسراع في الاستعداد لامتحان القبول. وعلى كلا الحالتين، كنتُ أنتظر في لهفةٍ أيَّ كلمة من كبير الرهبان. ولكن كبير الرهبان نكايةً فيَّ حافظَ على صمته، وبالغ في تعذيبي وقتًا طويلًا. وكنتُ أنا كذلك، لا أستطيع الاستفسارَ منه ولو مرةً واحدة بشأن استكمال دراستي الجامعية، ربما بسبب الخوف وربما بسبب العِصيان. وكان منظر كبير الرهبان الذي كنت أتأمَّله بعين النقد بعد أن تخليتُ عن التبجيل والاحترام العاديَّين اللذين كنت أبديهما له، أصبح تدريجيًّا يحمل حجمًا وحشيًّا عملاقًا، وأصبحتُ لا أستطيع رؤيته كوجود يحمل قلبًا إنسانيًّا. كم كان عدد تلك المرات، التي أحاول فيها تنحيةَ ذلك الوجود ولكنه، كان موجودًا هناك، ومتربصًا كأنه في قلعة وحوش.

كان ذلك في أواخر الخريف. دُعي كبير الرهبان إلى جنازة أحد قدامى أتباع المعبد. وكان ذلك في أرضٍ تبعُد ساعتين بالقطار، فأبلغ كبير الرهبان الجميعَ قبلها بليلة أنه سيرحل في الساعة الخامسة والنصف صباحًا. وكان نائبه أيضًا سيذهب معه. وكان يجب علينا نحن أيضًا الاستيقاظُ في الساعة الرابعة صباحًا للقيام بتنظيف المعبد وإعداد الطعام لكي نستطيع اللحاقَ بوداع كبير الرهبان وهو يخرج من باب المعبد.

أثناء قيام نائب كبير الرهبان برعايته، كنا نحن نتلو صلواتِ الصباح من السوترا ونحن شبه نائمين.

تردَّد صدى أصوات قرقعة المغارف بلا توقُّف من المطبخ المظلم والبارد. كان رجال المعبد يتعجَّلون في غسل وجوههم. ويُسمع صياح الدِّيكة الصافي الأبيض في الحديقة الخلفية للمعبد مخترقًا ظلامَ الفجر في أواخر الخريف. وحَّدْنا زيَّ الرهبان الذي نرتديه، وأسرعنا إلى قاعة بوذا في مبنى الزوار.

ثمَّة غرفة واسعة لا ينام فيها أحد، وكان حصير التاتامي الواسع له ملمسٌ يجعلنا ننتفض في وسط الهواء البارد قبل شروق الشمس. وكان لهب المصباح يترنَّح. قمنا بالصلاة ثلاثة. نقف ثم نسجد، ثم نجلس مع صوت الجرس ثم نسجد ثانية. كرَّرنا ذلك ثلاث مرات.

كانت عادتي أثناء فرض قراءة كتب السوترا في الصباح، الشعور دائمًا بالحيوية في صوت الرهبان الرجالي. تكون قراءة السوترا الصباحية هي الأقوى من كل قراءات اليوم، وكأن الأحبال الصوتية أثناء تلك القراءة القوية تنفث رذاذًا أسودَ، يبعثر أفكارَ الليل الشريرة. لا أعلم شيئًا عن صوتي أنا. ولكن اعتقادي أنه حتى صوتي أنا الذي لا أعلم قوَّته، ينثر بعيدًا الأفكار الرجولية القذرة مثل الآخرين، كان يعطيني شجاعةً بدرجة عجيبة.

كان وقت رحيل كبير الرهبان قد أزِف قبل أن نشرب حساء الأرز الصباحي. كانت طريقة الوداع هي أن كل رجال المعبد يقفون أمام مدخل المعبد في صف منتظم.

لم تكن الشمس قد أشرقت بعدُ. وكانت السماء ممتلئة بالنجوم. ويعكس البلاط الحجري الممتد حتى مدخل الجبل، أضواء النجوم في الصباح الباكر، ولكن ظلال شجر السنديان العملاقة وأشجار البرقوق والصنوبر تنتشر في كل مكان، تذوب الظلال في الظلال وتحتل الأرض. أحسستُ بنسيم الفجر البارد يدخل مرفقي من فتحات السترة الصوفية التي أرتديها.

تم كل شيء دون كلمات. أحنينا رءوسنا في صمت، ولم يردَّ كبير الرهبان بأي حركة. ثم أخذتْ أصوات قبقابَي كبير الرهبان ونائبه تبتعد عنا مطلقة صوتًا عند ارتطامها ببلاط الطريق الحجري. ومن الأدب في طائفة الزِّن أن يتم وداعهما حتى يختفيا تمامًا عن النظر.

من بعيد لا يُرى ظهراهما رؤيةً كاملة تمامًا. بل الذي يُرى فقط هو طرَف رداء الرهبان الأبيض والجوارب البيضاء. وأحيانًا ما يُعتقد أنهما لا يمكن رؤيتهما مطلقًا، ولكن يكون ذلك لأنهما مختفيان فقط خلف ظلال الأشجار. ومن الناحية الأخرى من الظل يظهر مجددًا الطرَف الأبيض والجوارب البيضاء، وعلى العكس كان يبدو أن صدى أصوات القبقابين يرتفع أكثر.

كنا نودِّعهما ونحن متجمدون. كان الوقت الذي ودَّعناهما فيه منذ خروجهما من بوابة المعبد الرئيسة وحتى اختفائهما تمامًا عن الأنظار، طويلًا جدًّا.

ووقتها تولدتْ داخلي رغبة شاذة وغريبة. مثلما يحدُث أن أتكلم بشيء هام ويعوقني تلعثم النطق، تلك الرغبة كانت تلتهب في قاع حنجرتي. كنت أريد التحرُّر والانطلاق. لم تكن لديَّ تلك الرغبة الغبية التي اقترحتها عليَّ أمي سابقًا، أن أستهدف تولي منصب كبير الرهبان بعدَه، ولا حتى رغبة استكمال دراستي الجامعية. كنت أريد الهروبَ من الشيء الذي يقيدني بصمت ويسيطر علي. لا أستطيع القول إنه وقتها كانت تنقصني الشجاعة، ما من شيء يسمَّى شجاعة المعترف! لقد عشتُ زمنًا يبلغ عشرين عامًا ملتزمًا الصمت، ولم أجد قيمةً للاعتراف. هل يمكن القول إنني أبالغ؟ أنا الذي وصلتُ إلى هذه النقطة دون اعتراف، في تحدٍّ لصمت كبير الرهبان، أعتقد أنني كنتُ أختبر شيئًا، إلا واحدًا وهو مقولة «هل الشر مستطاع؟» إذا لم أقُم بطقس الاعتراف حتى النهاية، فسيكون الشر قد أصبح بالفعل ممكنًا، حتى ولو كان شرًّا ضئيلًا للغاية.

هكذا أصبحتِ القوة الملتهبة التي في عمق حلقي، قوةً من الصعب السيطرة عليها، مع رؤيتي لطرَف ثوب كبير الرهبان وخفِّه الأبيضين، يظهران ثم يختفيان في ظلال الأشجار المنتصبة، ويبتعدان داخلَ ظلام الفجر. فكرتُ في البوح بكل شيء. فكرتُ أنني أريد أن ألحق بكبير الرهبان، وأتعلَّق بطرَف ثوبه، وأخبره بصوتٍ عالٍ كلَّ ما حدث في يوم الجليد. لم يكن بالطبع الذي أخرج هذه المشاعر هو التبجيل والاحترام الموجَّهان لكبير الرهبان. كانت قوة كبير الرهبان بالنسبة لي، تشبه قوةً فيزيائية مادية بالغة القوة.

… ولكن أوقفني عن فِعل ذلك، تفكير أنني لو بوحت، فالشر الصغير الأول في حياتي سينهار، وجذب شيءٌ ما ظهري بحزم. دخل كبير الرهبان من البوابة العمومية واختفى تحت سماء الفجر المعتِم.

فجأةً تفرَّق الجميع، ودخلوا من باب المدخل مسرعين. ضرب تسوروكاوا على كتفي وأنا شارد. استيقظت كتفي، واستعادت تلك الكتف النحيفة البائسة كبرياءها.

•••

… ومع وجود كل هذه التفاصيل، إلا أنني واصلت الدراسة في النهاية بجامعة أوتاني كما ذكرتُ آنفًا. لم يكن هناك ضرورة لطقس الاعتراف. بعد ذلك اليوم بعدة أيام، استدعانا كبيرُ الرهبان أنا وتسوروكاوا، وأبلغَنا بضرورة بداية الاستعدادات لامتحان دخول الجامعة، وإعفائنا من الأعمال الروتينية اليومية لتوفير الوقت من أجل مذاكرة امتحانات القبول.

بهذا دخلتُ الجامعة لإكمال دراستي الجامعية، ولكن لم يكن ذلك معناه أنه قد تم تسوية كل شيء. فلم يُنبئ هذا التصرف من كبير الرهبان عن أي شيء الآن، ولم أستطِع أن ألمح أيَّ شيء عن نيته فيمن سيخلفه.

كانت جامعة أوتاني هي المكان الذي التقيتُ فيه لأول مرة بالفكر، بل والتعرُّف من قربٍ بالفكر الذي اخترته بنفسي بحرية، وهو المكان الذي أصبح نقطةَ تحوُّل في حياتي.

كانت بداية هذه الجامعة في الأصل منذ ما يقرُب من حوالي ٣٠٠ عام، عندما تم نقل مسكن طلاب جامعة معبد تسوكوشي كانزيون في عام ١٦٦٣ إلى داخل قصر كيكوكو في مدينة كيوتو. ومنذ ذلك الحين ولفترة طويلة صار هو مسكن دير رهبان هونغانجي طائفة أوتاني المبتدئين، ولكن في وقت الراهب جونيو كبير رهبان معبد هونغانجي الخامس عشر، تبرَّع سوكين تاكاغي من أكابر أتباع المعبد في منطقة نانيوا بمبلغ كبير للطائفة، اختِيرت هذه الأرض في منطقة كاراسوماغاشيرا في شمال العاصمة كيوتو وبُني بها المبنى الرئيس للجامعة. لم تكن تلك الأرض التي لا تَزيد مساحتها على عشرة أفدنة تكفي أبدًا كمساحة لجامعة. ولم يكن شباب طائفة أوتاني فقط، بل يتعلَّم هنا شباب جميع الطوائف البوذية، ويتحصَّلون على المعارف الأساسية للفلسفة البوذية.

تفصل البوابة القديمة المبنية من الطوب الأحمر، الجامعةَ عن طريق الترام وملعب الجامعة، وتواجه جبل هيزان الذي تتراكم طبقاتُه في سماء الغرب على الجهة الأخرى. بعد الدخول من البوابة، تؤدي طريق من الحصى إلى المدخل الدائري لعربات الخيل أمام المبنى الرئيس للجامعة. ويتكوَّن المبنى الرئيس من طابقين مبنيَّين بطوب أحمر قديم وكئيب. ويرتفع شامخًا برجٌ صغير من البرونز على قمة سطح المدخل لا يُعرف كنهه، فإذا كان برج ناقوس فلا يُرى الناقوس، وإذا كان برج ساعة فما من ساعة. في ذلك البرج الصغير ثمَّة فقط نافذة مربَّعة مفتوحة تُظهِر السماء بلا حيلة تحت عمود حديدي هشٍّ ورفيع للحماية من الصواعق.

وشجرة زيزفون عتيقة على جانب المدخل، تعكس أوراقها المهيبة تلك، أشعةَ الشمس بلون نحاس أحمر عند سقوطها عليها. تتكوَّن الجامعة من مبانٍ زِيدت مرةً بعد مرة على مبنى الجامعة، فهي مترابطة دون أي نظام أو قانون، وأغلبها عبارة عن مبانٍ قديمة من طابق واحد مبنية من الخشب، ولمَّا كان محرَّمًا ارتداء الأحذية داخل المباني في هذه الجامعة، لذا ثمَّة ممراتٌ بلا نهاية تربط بين كل مبنًى وآخر مصنوعة من حصير الخيزران. ويتم إصلاح الأجزاء المكسورة فقط من تلك الممرات وكأنهم تذكَّروها فجأة. وهنا عندما تعبُر من مبنًى إلى مبنًى آخر، تدوس بقدمك على فسيفساء متباينة بأنواع مختلفة من الألوان من الأحدث إلى الأقدم.

وكما هو حال الطلاب المستجدين في كل الجامعات، كنتُ أتردَّد يوميًّا على الجامعة بمشاعرَ حيوية وطازجة، وفي نفس الوقت بأفكارٍ لا تتوقف. كنتُ لا أعرف إلا تسوروكاوا، ولذا فمهما كان لم أتحدَّث إلا معه فقط. ويبدو أن تسوروكاوا من جهته أحسَّ أنه بذلك لن يكون هناك معنًى لانتقالنا لعالم جديد؛ لذا بعد مرور عدة أيام، ابتعد عني خصوصًا، وحاول كلٌّ منا على حدةٍ البحثَ عن أصدقاء جدد. ولكن لأنني لم أكن أنا المصاب بالتلعثم أملك الشجاعةَ لفعل ذلك، ولذا ازدادت وحدتي أكثرَ وأكثر، مع زيادة أصدقاء تسوروكاوا.

في العام التمهيدي الأول من الدراسة الجامعية، كنا ندرُس عشر مواد هي: الأخلاق واللغة اليابانية والكتابة الصينية واللغة الصينية واللغة الإنجليزية والتاريخ وكتب السوترا البوذية وعلم المنطق والرياضيات والتربية الرياضية. كنت أعاني منذ البداية من محاضرات المنطق. في أحد الأيام بعد أن انتهت محاضرة المنطق، وفي راحة الغداء، فكَّرت أن أسأل أحد الطلاب، كنتُ منذ فترة أضعه في حساباتي صديقًا محتمَلًا، سؤالين أو ثلاثة عن المحاضرة.

كان ذلك الطالب دائمًا يأكل من وجبة غدائه منفردًا بعيدًا عن باقي الطلاب بجوار أحواض الزهور في الحديقة الخلفية. كانت تلك العادة تبدو بالنسبة له نوعًا من أنواع الطقوس، وطريقة تناوله الطعام التي تبدو طاردةً للشهية كانت منفِّرة للبشر، ولذا لم يكن أحدٌ يتقرب منه. ولم يكن يتكلم مع أيٍّ من زملاء الدراسة، وبدا لي أنه يرفض قبولَ صداقة أحد.

كنتُ أعرف أن اسمه «كاشيواغي». كانت السِّمة الملحوظة للغاية له هي أنه لديه حَنَفٌ شديد في قدميه الاثنتين. كانت طريقة مشيه في غاية التعقيد. كان وكأنه يمشي في وحل، عندما يرفع إحدى قدميه من الوحل أخيرًا، تسقط القدم الأخرى في ذات الوحل. وبالتزامن مع ذلك يهتز جسده كلُّه بعنف، فكان مشيه عبارة عن أحد أنواع الرقص المُبالغ فيه، ولم يكن به شيء يدل على الحياة اليومية.

منذ بداية دخولنا الجامعة، لم يكن وضعُ عيني على كاشيواغي بلا سببٍ منطقي. فإعاقته كانت تريحني. كان حَنَفُ قدميه منذ البداية يعني موافقته لظروفي التي وضعتني الحياة فيها.

فتح كاشيواغي علبة غدائه فوق حشائش نبات النفل بالحديقة الخلفية. كانت تُطِلُّ على تلك الحديقة الخلفية غرفُ نادي الكاراتيه ونادي تنس الطاولة المهجورة التي تحطَّم أغلب زجاج نوافذها. تنبُت في تلك الحديقة خمس أو ست أشجار من الصنوبر النحيف، وثمَّة أحواض صغيرة فارغة. كانت الأحواض المصبوغة بالبوية الزرقاء منزوعةَ القشرة ومتجعِّدة في خشونة كأنها أزهارٌ صناعية ذابلة. وعلى الجنب اثنتان أو ثلاثة أرفف لأشجار البونساي، وكومة من الأنقاض، وأصص زرع بها زهور الخُزامى وزهرة الربيع.

كانت أرض حشائش النفل مناسِبة للجلوس عليها. وكانت الأوراق الرقيقة تمتص أشعة الشمس وتملأ المكان بظلال دقيقة؛ لذا بدا ذلك المكان وكأنه يرتفع عن الأرض قليلًا. كاشيواغي الجالس هناك، وخلافًا عن حالته أثناء مشيه، كان طالبًا لا يختلف في شيء عن باقي الطلاب. ليس هذا فقط، بل كان في وجهه الأزرق الشاحب نوعٌ من جَمال صارم وحاد. إن الشخص الذي يحمل إعاقةً جسدية تجِده مثل المرأة، يملك جَمالًا لا نظير له. إن المعوَّق، والمرأة الجميلة كذلك، يرهقهما النظرُ إليهما، ويبلغ بهما الملَل مداه من أنهما وجودٌ منظورٌ، ومحاصر، ويرُدَّان النظر من خلال وجودهما ذاته. فالفوز لمن ينظر. كان كاشيواغي وهو يأكل وجبة غدائه ينظر إلى أسفل، ولكني أحسستُ أن عيونه ترى كل العالم المحيط به بكل تفاصيله.

كان مكتفيًا ذاتيًّا وسط أشعة الشمس. أثَّر ذلك الانطباع في قلبي كثيرًا. عرفتُ من النظر إلى هيئته تلك وسط أشعَّة الشمس وزهور الربيع، أنه لا يحمل نفس شعور الخجل والتقهقر اللذين أحسُّ أنا بهما. كان ظلُّه يؤكد عليه، لا بل كان ظلًّا له وجود. لا ريب أن أشعة الشمس كانت لا تخترق جِلد بشرته الصلد ولا تقتحم ذاته.

كانت وجبة غداء كاشيواغي التي يأكل منها بكل عزم وبامتعاض في نفس الوقت، تبدو فقيرةً ولا تقلُّ في بشاعتها عن وجبتي التي أعددتُها بنفسي في مطبخ المعبد هذا الصباح وأحضرتها معي. كان ذلك في عام ١٩٤٧ حيث كان من المستحيل الحصولُ على غذاء صحي، دون اللجوء إلى السوق السوداء.

حملتُ وجبة غدائي ودفتر المحاضرات، ووقفتُ بجواره. وقع ظلِّي على وجبة غدائه؛ لذا رفع كاشيواغي وجهه، ثم نظر إليَّ نظرةً سريعة، وأعاد النظر إلى طعامه، واستمر يمضغ بحركة رتيبة وكأنه مثل دودة القز التي تمضغ ورقةَ توت.

«كنتُ أريد أن تعلمني بعضَ الأشياء التي لم أفهمها في المحاضرة التي انتهت توًّا.»

قلتُ ذلك باللهجة المعيارية وأنا أتلعثم تلعثمًا شديدًا؛ لأنني كنت قد قررت التحدُّث باللهجة المعيارية إذا دخلتُ الجامعة.

قال كاشيواغي فجأةً:

«لا أفهم ماذا تقول بسبب تلعثمك المستمر.»

اصطبغ وجهي بالحمرة من الخجل. ثم أضاف وهو يلعق طرَف عصتَي الأكل:

«أنا أعرف جيدًا لمَ تبادلني الحديث. أنت اسمك … ميزوغوتشي، أليس كذلك؟ لا مانع من أن نصبح أصدقاءَ بسبب إعاقتنا، ولكن هل أنت تعتبر تلعثمك مقارنةً بي أمرًا في غاية الضخامة؟ أنت تعطي لنفسك اهتمامًا أكثر من اللازم. ولذلك فأنت تعطي لتلعثمك اهتمامًا أزيد من اللازم كالذي تعطيه لنفسك، أليس الأمر كذلك؟»

بعد ذلك عندما علمتُ أنه ابنٌ لعائلة تملك معبدًا من طائفة «رينزاي»، فهمت أنه في الحوار الأول بيننا كان يتقمَّص دور راهب الزِّن بشكل أو بآخر، ولكن رغم ذلك لا أستطيع إنكارَ الانطباع العنيف عنه الذي تكوَّن لديَّ وقتَها.

«تلعثم! تلعثم!»

أمام عدم استطاعتي مواصلةَ نطق الحرف الثاني من كلمة البداية، قال كاشيواغي ذلك باستمتاع.

«أنت أخيرًا اصطدمت بمن تستطيع التلعثم أمامه بطمأنينة. أليس كذلك؟ البشر يبحثون عادةً عن صديقهم الحميم بهذه الطريقة. إذا كان الأمر كذلك، فهل ما زلتَ بِكرًا؟»

أومأتُ برأسي دون حتى أن أبتسمَ. كانت طريقة سؤال كاشيواغي تشبه طريقةَ الطبيب، جعلتني أشعر أن عدم الكذب هو من أجل حالتي الصحية.

«هذا هو المتوقَّع، أنت بِكر. بِكر ليس لك من الجَمال أي نصيب. فلا تنجذب إليك الفتيات، وليس لديك الشجاعة على شراء بنات الهوى. هذا هو كلُّ ما في الأمر. ولكن إذا كانت نيتك أن نكون أصدقاء من باب أنني بِكر مثلك فأنت مخطئ تمامًا. هل أحدِّثك كيف تخلصتُ من عذريتي؟»

بدأ كاشيواغي الحديثَ دون انتظار ردي.

•••

أنا وُلدتُ أحنفَ في معبدٍ لطائفة الزِّن في ضاحيةٍ من ضواحي مدينة سانوميا … عندما أبدأ الاعتراف هكذا ربما تظن أنت أنني مريضٌ مسكين يبدأ الكلام حول مرضه دون أي اعتبار لمن يحادثه، ولكن في العادة أنا لا أتحدَّث بهذه الأمور لأي أحد. حتى أنا هذا الكلام يخجلني، ولقد اخترتك أنتَ بالذات من البداية مستمعًا لِمَا سأبوح به من أسرار، والسبب أنني أعتقد أنه ربما تكون أنت أكثر مَن يستفيد مما فعلتُه أنا، وأنك إذا فعلتَ تمامًا مثلما فعلتُ أنا حتى الآن، فسيكون ذلك على الأرجح هو أفضل طريق تسير عليها. وأعتقد أنك أنت أيضًا تعرف أن رجال الدِّين هكذا يجمعون المؤمنين، فالممتنع عن الخمر يجمع حوله رفاقًا لا يشربون.

هو كذلك. لقد كنتُ أخجل من ظروف وجودي. وكنتُ أعتقد أن العيش متصالحًا مع تلك الظروف وفي هدنة معها هو إعلان هزيمة. وإذا رغبتُ في الحقد والغضب فهناك الكثير. فقد كان يجب على والديَّ إجراء جراحة تقويم لي في طفولتي. ولكن الآن فات وقتُ ذلك. ولكن رغم ذلك فأنا لا أحمل أيَّ اهتمام بوالديَّ وحتى فكرة كرههما كانت مزعجة.

لقد كنت أحمل تأكدًا مطلقًا أنه لن تحبني أيُّ امرأة حبًّا مطلقًا. والسبب، وربما أنك أيضًا تعلم ذلك، أن هذا التأكد فيه راحة وسلام نفسي أكثر مما يتخيَّل الإنسان. لا يؤدي بالضرورة قراري الحاسم بعدم التصالح مع ظروف وجودي، وهذا التأكد المطلق، إلى تناقض. والسبب هو أنه إذا آمنتُ أنه من المحتمل أن أُحَبَّ من امرأةٍ ما، أكون قد تصالحت مع ظروف وجودي. عرفت أن شجاعة الحكم بدقةٍ على الواقع، وشجاعة القتال ضد هذا الحكم، تعتادان إحداهما الأخرى. لقد شعرت بأنني أقاتل رغم أني قعيد.

ويجب القول إنه من الطبيعي أنني، وهذا حالي، لم أجتهد في أن أتخلَّص من عذريتي من خلال بنات الهوى، كما يفعل أصدقائي. والسبب أن بنات الهوى لا يحببن الزبائن ولا يخترنهم. فيمكن لأي أحد حتى العجوز والمتسول والأعمى والوسيم وكذلك المجذوم إن جهِلن مرضَه أن يكون زَبونًا. يستريح الشخص العادي لهذه المساواة ويشتري من بينهن أولَ امرأة له. ولكني لم أكن أُعجَب بتلك المساواة. لم أستطِع احتمال أن أُعامَل نفس معاملة الرجل الطبيعي المكتمل الصحة ونحمل نفس المؤهلات، وكنت أرى أن ذلك هو ازدراء مرعب للنفس. إذا مرَّ ظرفُ قدمي الحَنْفَاء مرورَ الكرام وتم تجاهلها، فوجودي ذاته سينعدم، أي إنني كنت مقيدًا بنفس الرعب الذي تحمله أنت الآن. ويُفترض وجود ضرورة لمنظومةٍ أكثرَ رفاهية بمراتٍ عن الشخص العادي من أجل الإقرار الكامل بصحة موقفي. كنتُ أعتقد أن الحياة لا بد بأي حال أن تكون مخلوقة بهذه الكيفية.

كان عدم الاكتفاء المرعب الذي يضعنا في حالة صراع مع العالم، من المفترض أنه يمكن علاجه إذا تغيَّر العالم أو تغيَّرنا نحن، ولكني كرِهت أوهام الحُلم بالتغيير، وأصبحت كارهًا بلا حدود لأي نوع من الأوهام. ولكن كان التأكُّد المطلَق، الذي وصلت إليه منطقيًّا، والذي يقول إنه إذا تغيَّر العالَم فلا وجود لي، وإذا تغيرتُ فلا وجود للعالم، يشبه نوعًا من التصالح أو نوعًا من الوفاق. لأنه أمكن الحصول على التعايش بين العالم وبين فكرةِ أنني لا أُحَب بشكلي هذا كما هو. ثم الفخ الأخير الذي يسقط فيه المعاق ليس زوال حالة التضاد، ولكن بتحقيقِ الشكل الذي يتم فيه الإقرار الكامل بصحة حالة التضاد. وهكذا تكون الإعاقة حالةً ميئوسًا من شفائها.

في هذا الوقت حدَث لي في عمر المراهقة (أنا أستخدم هذه الكلمة بصدقٍ مريع) أمرٌ لا يمكن تصديقه بحال. بنتُ أحدِ أتباع معبدنا، كانت غنيةً وشهيرة بجَمالها وخريجة مدرسة كوبيه للبنات، اعترفت لي بحبها في أحد اندفاعاتها. لفترة من الوقت لم أستطِع تصديقَ أذني.

ولأنني بفضل تعاستي لديَّ خبرة طويلة في سبْر أغوار الحالة النفسية للبشر، عرفتُ بسهولة أن دافع حبِّها لي ناتجٌ من التعاطف، ولكن رغم ذلك لم أعاند على الإطلاق. وذلك لأنني أعلم تمامَ العلم أنه ما من افتراض أن تحبَّني فتاة بدافع من التعاطف فقط. الأمر الذي توقَّعته هو أن مصدرَ حبِّها لي هو كبرياء غير عاديَّة؛ لأنها تعرف تمامًا قيمتها كفتاة جميلة بدرجة كافية، لم يكن يمكن لها أن تقبل حبَّ شخص لديه ثقة بنفسه. لم تكن تسمح أن يتم وزن كبريائها وعشق مَن يطلب حبَّها على كفتي الميزان نفسه. بمعنى أنه كلما زادت كفاءة الطرَف الآخر، كرهته. وأخيرًا، أخلت يديها تمامًا من حبٍّ قائم على التوازن (كانت مخلصة في هذه النقطة)، ووضعت عينها عليَّ.

كان ردِّي مقررًا. ربما تضحك أنت من قولي، ولكني أجبت تلك الفتاة قائلًا: «أنا لا أحبُّك.» وهل ثَم ردٌّ غير هذا الرد؟ فهذا الرد كان صادقًا، ولم يكن به أيُّ قدرٍ ولو قليلًا من الادعاء. شعرتُ أنه لا يجب إفلاتُ فرصة الاحتفاظ باعتراف الفتاة، عملة نادرة وعدم استخدامه. فمن المؤكد أنَّ ردَّ «أنا أيضًا كنتُ أحبُّك» لو صدر مني أنا، سوف يتخطى السخرية ويكون مأساة. لقد كنتُ أعلم الحيلةَ التي يمكن بها لرجلٍ له مظهرٌ خارجي مثير للسخرية، أن يتفادى بذكاء أن يبدوَ مأسويًّا بطريق الخطأ. لأنني كنتُ أعلم أنه إذا بدا في شكلٍ مأسوي فعلى الفور لن يعامله الناس بارتياح. عدم إظهار النفس في حالٍ يُرثى له، هو أمرٌ في غاية الأهمية من أجل روح الآخرين أكثر من أي أمر آخر. ولذلك قلتُها بلا ندم «أنا لا أحبُّك».

لكن الفتاة لم تتراجع، بل قالت إنَّ ردي هذا كذِب. بدأت الفتاة بعد ذلك تكرر الحرصَ على عدم جرح كبريائي، وكانت طريقتها في محاولة إقناعي تستحق المشاهدة. بالنسبة لها، الرجل الذي لا يحب النساء خارج نطاق تخيُّلها، وإن وُجِد فهو يكذب على نفسه. وبهذه الطريقة، تعاملت الفتاة بمهارة مع تحليلي النفسي الدقيق، وفي النهاية قرَّرت من تلقاء نفسِها أنني في الواقع أحبُّها منذ وقت طويل. لقد كانت في منتهى الذكاء. لو افترضنا أنها كانت تحبني حقًّا، فهذا يعني أنها أحبَّت شخصًا لا يمكن الوصول إليه، فهي إن قالت على وجهي الدميم هذا إنه جميل فسوف تثير غضبي، وإذا قالت عن قدمي الحَنْفَاء هذه إنها جميلة فستثير غضبي أكثر، وإذا قالت إنها تحب محتواي الداخلي الذي يختلف عن مظهري الخارجي، فسأكون في قمة الغضب، فهي قد وضعت كلَّ ذلك في حسابها، وظلَّت تردِّد فقط أنها تحبني. وبهذا، بحثتُ في داخلي ووجدتُ، من خلال التحليل، المشاعرَ التي أقابل بها هذا الموقف.

لم أستطِع الاقتناعَ بهذا الأمر اللامنطقي. في ذلك الحين بدأت رغبتي تحتدُّ بعنف، ولم أعتقد أن تلك الرغبة ستربطني بالفتاة. إذا كانت الفتاة تحبني أنا حقًّا وليس شخصًا آخر، فلا بد أن تكون لي صفة مميزة عن الآخرين. وهذه الصفة ليست إلا أن تكون هذه القدم الحَنْفَاء ولا غيرها. وبذلك تكون الفتاة محِبةً لقدمي الحَنْفَاء دون أن تصرِّح بذلك، وهذا النوع من الحب مستحيلٌ وقوعُه في فكري. ولكن إذا كانت لي صفة مميزة غير الحَنَف، فربما كان الحبُّ ممكنًا. ولكن إذا كانت الصفة المميزة لي غير الحَنَف فممكن أن تعترف بسبب وجودي، وإذا اعترفت بسبب وجودي يكون الوضع أنني أعترف بتلك الصفة اعترافًا تكميليًّا، وتبِعًا لذلك أكون قد اعترفت بسبب وجود الآخر اعترافًا تكميليًّا متبادلًا، وأكثر من ذلك، بل يمكن القول إنني اعترفت بذاتي المحاطة بهذا العالم. أما الحب فمستحيل. وكون الفتاة تعتقد أنها تحبني فهو شعور مخادع، وكذلك حبي مستحيل. ولذا فقد كرَّرت قولي: «أنا لا أحبُّك.»

والشيء العجيب أنني كلما كررت قول إنني لا أحبُّها كانت الفتاة تغرق في الشعور المخادع أنها تحبُّني. بعد ذلك في إحدى الليالي، وصلت إلى أن ألقت بجسدها أمامي. كان جسدها جميلًا جَمالًا متألقًا. ولكن أصابتني عُنَّة فلم أقدِر.

حلَّ هذا الفشل الكبير كلَّ شيء بمنتهى السهولة. أخيرًا يبدو أن ذلك برهن لها «أنني لا أحبُّها»، فابتعدَت عني.

كان هذا عارًا لي، وإذا قارنت ذلك بعار قدمي الحَنْفَاء، أو أي عارٍ آخرَ فلا يمكن مقارنته بذلك. ولكن الذي أصابني بالفزع كان أمرًا آخرَ. لقد كنتُ أعرف سبب عجزي ذلك. فكنت لمَّا وصلت لهذا الحد وأفكر أن قدمي الحَنْفَاء هذه ستلمس قدمَ الفتاة الجميلة، أُصِبتُ بالعُنَّة. هذا الاكتشاف جعل السلام الذي يحمل تأكيدًا مطلقًا بأنني لن أُحبَّ بتاتًا، ينهار من داخله.

والسبب هو أنه وقتها، تولَّدت لديَّ سعادة لاهية، ومن خلال الرغبة، من خلال تنفيذ تلك الرغبة، كنتُ أحاول البرهنة بالتجربة على استحالة الحب، ولكنَّ الجسد خانني، لقد كنتُ أحاول فِعل ذلك من خلال الروح فقط، ولكنَّ الجسد هو الذي لعِب هذا الدور. لقد تلاقيتُ مع التناقض. إذا تحدَّثت دون الخوف من التعبيرات الشعبية الشائعة، فأنا مع حمل التأكيد المطلق أنني لن أُحبَّ، كنت أحلُم بالحب، وفي المرحلة الأخيرة كنتُ أستريح بوضع الرغبة وكيلًا للحب. وبالتالي تطلب الرغبة في ذاتها نسيانَ شروط وجودي، تطلب التخلي عن التأكيد المطلَق أنني لن أُحبَّ، ذلك الذي يعتبر العقبة الوحيدة أمامي. كنت أدرك ذلك. ولكن لأنني كنت أُومن أن الرغبة تكون أكثرَ وضوحًا، لم أفكر بضرورة الحُلم بها بالذات.

ومن ذلك الوقت، أصبح فجأةً الجسد هو الذي يجذب اهتمامي أكثرَ من الروح. ولكن لم أستطِع تجسيدَ الرغبة النقية الخالصة، ولذا حلَمت بها فقط. وأصبحتُ وجودًا لا يراه الآخرون مثل الريح، ولكن من جانبي أرى كلَّ شيء، وأقترب بخفةٍ متناهية من الهدف المرسوم، وألمس حبَّ ذلك الهدف في كل ركن منه، ثم في النهاية أقتحم ما في داخله، كل ذلك في الحُلم … أنت عندما يقال لك الوعي الذاتي للجسد ربما تتخيَّل وعيًا ذاتيًّا يتعلَّق ﺑ «المادة» المؤكَّدة تأكيدًا مطلقَ الشفافية التي لها كتلة محدَّدة. ولكن أنا لم أكن كذلك. فأنْ أكونَ مكتملًا، جسدًا واحدًا برغبةٍ واحدة، فهذا يعني أن أكونَ شفافًا غيرَ مرئيًّا، أي أن أكون رياحًا.

ولكن على الفور تتدخل قدمي الحَنْفَاء وتأتي لتوقفني. هذه فقط الوحيدة التي لا يمكن أن تصبح شفَّافة. وهي لم تكن قدمًا بقدرِ ما كانت روحًا عنيدة مستقلة بذاتها. كانت في شكل «مادة» لها تأكيدٌ مطلَق أكثر بكثير من كونها جسدًا.

يعتقد الإنسان أنه لا يستطيع رؤيةَ نفسه إلا باستعارةِ مرآة، ولكن يملك المعاق دائمًا مرآة ملتصقة بطرَف أنفه. هذه المرآة تعكس جسمَه بالكامل طَوال اليوم. من المستحيل النسيان. ولذلك ما يُطلِق المجتمع عليه قلقًا هو بالنسبة لي ليس إلا نوعًا من أنواع لعب الأطفال. ما من شيء اسمه القلق. إن وجودي هكذا، هو أمرٌ مؤكَّد مثل وجود الشمس والأرض والطيور الجميلة والتماسيح القبيحة. العالم ثابتٌ لا يتحرك مثل شاهد القبر. من هنا بدأت طريقتي المبتكَرة في الحياة، دون أي نوع من القلق، ودون أي نوع من الثوابت المبدئية. أنا أعيش من أجل ماذا؟ يحسُّ الإنسان بالقلق بسبب ذلك السؤال لدرجةِ الانتحار. ولكن لا شيء لديَّ من ذلك. فالقدم الحَنْفَاء هي شرط حياتي، وهي سببُها، وهي الهدف، وهي المثال … لأنها نفسي وحياتي ذاتها؛ لأن مجرد وجودي فقط هو أمرٌ كافٍ للغاية بالنسبة لي. في الأصل أليس قلق الوجود، هو عدم رضًا مُرفَّه تولَّد بسبب الإحساس بأن وجودنا غيرُ كافٍ؟

لقد وضعتُ عيني على أرملةٍ عجوزٍ تعيش وحيدةً بمفردها في قريتنا. يقال إنها في الستين من العمر، وأحيانًا يقال إنها أكبرُ من الستين. عندما ذهبت بدلًا من أبي لقراءة السوترا في ذكرى وفاة أبيها، لم يأتِ أحدٌ من أقاربها، فقمنا أنا وتلك العجوز فقط بإحياء الذكرى. بعد انتهائي من قراءة السوترا وعندما قدَّمتْ لي شايًا في حجرة مختلفة، كان الوقت صيفًا؛ فلذا طلبتُ منها أن أغتسل. فصبَّت العجوز الماءَ عليَّ من ظهري بعد أن خلعتُ ملابسي وأصبحتُ عاريًا. وعندما رأيتُ العجوز تنظر إلى قدمي بشفقة، طرأت الخُطة على ذهني.

وعندما عُدنا إلى الغرفة التي كنا فيها، وأنا أجفِّف جسدي بدأتُ أتحدَّث بطريقة وقورة مصطنعة. فحكيتُ لها أنني عندما ولدتُ ظهر بوذا لأمي في أحلامها، وأخبرها أنني عند بلوغي سنَّ الرجال، المرأة التي ستعبد قدمي هذه من قلبها سيكون مآلها جنةَ النعيم. أخذتِ المرأة العميقة الإيمان تتأمَّل عيني وهي تكرُّ حبَّات المِسبحة بيدها. فأخذتُ أتلو آياتٍ مبهمة من كتاب السوترا، ثم لامستُ يدَها الممسكة بالمِسبحة ووضعتها فوق صدري، ونمتُ عاريًا كما أنا مثل الجثة مغمض العينين. أما فمي فكان لا يزال يردِّد آيات السوترا.

لك أن تتخيَّل المجهود الذي كنتُ أبذله لمنع نفسي من الضحك؛ فلقد كان الضحك في داخلي كالطوفان. ثم لم أكن أغترُّ بنفسي وأسقط في الأحلام ولو قليلًا. فقد فهمتُ أن العجوزَ بدأت تعبدُ قدمي وهي تتلو من كتاب السوترا. عندها فكرتُ أنا فقط في قدمي تلك التي تُعبَد، وكادت أنفاسي أن تختنق لِما في ذلك المشهد من سخرية. فكنت أفكِّر فقط في قدمٍ حَنْفَاء، قدمٍ حَنْفَاء، مجرَّد قدمٍ حَنْفَاء، ولم أرَ في ذهني إلا ذلك. ذلك الشكل المريب. تلك الحالة البالغة الشناعة التي وُضعت فيها. تلك السخرية الجامحة. والحقيقة أن شَعر العجوز المشعث كان أحيانًا يلمس قدمي عندما كانت تسجد أمام قدمي، فكانت تدغدغني مما زاد شعوري بالملهاة الساخرة التي تحدُث. أنا في الماضي وعندما لمستُ تلك القدم الجميلة فأُصبتُ بالعُنَّة، من وقتها كنت أحمل فكرةً خاطئة عن الرغبة. والسبب أنني وقتَها، وفي وسط تلك الصلاة البالغة السوء، انتبهتُ إلى أنني مستثار. ودون أن أرى أيَّ نوع من الأحلام! تحت ذلك الوضعِ البالغِ في قسوته!

نهضتُ واقفًا، ودفعتُ فجأةً العجوز لتقع على الأرض. ولم يكن لديَّ وقتٌ فارغ لكي أتعجَّب من عدم إحساس العجوز بأي قدرٍ من الاندهاش. الأرملة العجوز ظلَّت مغمِضةً عينيها وهي ملقاةٌ كما هي ترتِّل كلمات السوترا.

لأمرٍ غريب، ما زلت أتذكَّر بوضوح أن الذي كانت تتلوه العجوز وقتَها هو آية في كتاب سوترا دايهي شيندراني.

«إيكي إيكي شينو شينو. أراسان. فوراشاري. هازاهازا. فوراشاري.»

وكما تعلم أنت، بناءً على «التفسيرات»، فهذا معناه ما يلي:

«نبتهل إليك! نبتهل إليك! من أجل الجسد النقي البريء الذي لا تهلكه السموم الثلاث، الطمع والغضب والغباء.»

أمام عيني، وجهُ امرأةٍ تخطَّت الستين من العمر خالٍ من أي مساحيق، وقد لفحته أشعةُ الشمس، تستقبلني مغمضة العينين. لم تنقطع إثارتي ولو قليلًا. ثم وكان هذا هو قمةَ المهزلة كان قد تم إرشادي دون وعي …

ولكن لا يجب ذكر كلمة دون وعي الأدبية تلك. لقد كنتُ أرى كلَّ شيء. رأيتُ بوضوحٍ اللونَ المميز للجحيم في كل ركن من أركانه. بل وفي وسط الظلام الدامس والكامل!

وجهُ الأرملة العجوز المليء بالتجاعيد، ليس به أيُّ جَمال، وليس به أي قداسة. ولكن ذلك القبح وكبر السن، في داخل حالتي أنا الذي لا أرى فيها أيَّ نوع من أنواع الأحلام، يبدو أنهما كانا يعطياني برهانًا مؤكدًا لا ينقطع؛ فعندما تنظر إلى وجهِ امرأة جميلة أيًّا كانت درجة جَمالها، دون أن ترى فيه حُلمًا فلن يختلف عن وجه تلك العجوز، يجب أن يقول أحدٌ هذه الحقيقة. قدمي الحَنْفَاء وذلك الوجه … حقًّا! الخلاصة أن رؤية الحقيقة كما هي هو الذي ساعد في استثارة جسدي. ولأول مرة أومن برغبتي وأنا أحمل تجاهها شعورًا بالأُلفة. ثم عرفتُ أن المشكلة لم تكن هي تقريب المسافة بيني وبين الهدف، ولكن المشكلة كانت هي كيفية المحافظة على المسافة بيني وبين الهدف في حدِّ ذاته كهدف.

من الأفضل النظر. فلقد اخترعتُ من وقتها نظريةَ الشبق الخاصة بي، من النظرية التي لا يمكن مطلقًا أن أعانيَ إيَّاها، من نظرية الإعاقة التي كنتُ وصلت إليها وقتَها ومتوقفًا عندها. لقد اخترعت تركيبةً مؤقتة للمماثل الذي يدعوه الناس افتتانًا. التوحُّد من خلال الشهوة التي تشبه الرياح و«رداء الإخفاء»، لم تكن بالنسبة لي سوى حُلم، وعندما أنظر، كان من المحتَّم أن يُنظر إليَّ نظرة شاملة. في ذلك الوقت أُلقي بكلٍّ من قدمي الحَنْفَاء وامرأتي خارج عالَمي. حافظَ كلٌّ من قدمي الحَنْفَاء والمرأة على نفس المسافة مني. وهنا الواقع الحقيقي فلا تزيد الشهوة عن كونها مجرَّد خيال. ثم أنا الذي أرى، وأنا أسقط وسط ذلك الخيال بلا نهاية، أقذفُ المنيَّ وأنا أتجه إلى الواقع الحقيقي الذي يُرى. فلم تتلامس قدمي الحَنْفَاء مع المرأة بتاتًا، ولم تلتحما، بل بقيتا كما هما، متباعدتين بانفصال خارج عالَمي … ويستمر اهتياج الشهوة إلى ما لا نهاية. والسبب أن تلك القدم الجميلة لن تتلامس مع قدمي الحَنْفَاء إلى الأبد.

تُرى هل طريقةُ تفكيري صعبة الفَهم؟ تُرى هل تحتاج إلى شرح؟ ولكن أنت أيضًا تفهم أنه منذ ذلك الوقت وأنا أصبحتُ مستريحًا، ومتأكدًا من أن «الحب مستحيل»، أليس كذلك؟ لا قلق ولا حب. فالعالم في حالة توقُّف إلى الأبد، وفي نفس الوقت حالة وصول. أثمَّة ضرورةٌ لوضع هامش يوضِّح خصوصًا أن هذا العالَم هو «عالمنا»؟ هكذا أستطيع تعريفَ الأوهام الخاطئة التي يضعها المجتمع تحت كلمة واحدة هي «الحب». إنه الوهم الخاطئ يحاول الربطَ بين الواقع الحقيقي والخيال … وأخيرًا أصبحتُ أدرك أن تأكُّدي المطلَق من أنني لن أُحبَّ أبدًا، هو حالة جذرية للوجود الإنساني. تلك هي ظروفُ تخلُّصي من عذريتي.

•••

انتهى كاشيواغي من الحديث.

أنا الذي كنت أستمع فقط أخيرًا تنفَّست الصُّعداء. وأُصِبت بتأثُّر عنيف فلم أفُق من الألم الذي أحسستُ به لتعرُّفي على طريقة تفكير لم أفكِّر فيها من قبل قط. بعد فترة من انتهاء كاشيواغي من الكلام أيقظَت أشعَّة شمس الربيع ما حولي وبدأت حشائش النفل المشرقة تتألق. وعاد إلى الحياة صدى صيحات التشجيع في ملعب كرة السلة الذي في الخلف. ولكن أعتقد أن كل ذلك ظهر مرةً ثانية متغيرَ المعنى تمامًا رغم أنه كان كما هو ظهيرة يوم من أيام الربيع.

لم أستطِع البقاء صامتًا؛ لذا حاولتُ أن أقول شيئًا متفقًا ما مع حكاه، فقلتُ ملاحظة غبية وأنا أعاني تلعثمًا شديدًا:

«وبهذا أصبحتَ وحيدًا بعد ذلك وإلى الآن، أليس كذلك؟»

مرةً أخرى تصنَّع كاشيواغي بفظاظة عدم قدرته على سماعِ ما قلته، وجعلني أعيده مرةً أخرى. ولكنه ردَّ على ذلك بودية.

«أتقول وحيدًا؟ ولماذا يجب عليَّ أن أكون وحيدًا؟ ستعرف من نفسك إذا صاحبتني كيف هي حالتي بعد ذلك.»

تردَّد صدى رنَّات الجرس التي تعلن بدايةَ محاضرات بعد الظهيرة. تهيأتُ لأن أنهض واقفًا. جذب كاشيواغي طرف ردائي بخشونة وهو جالس كما هو. كان زيي المدرسي هو نفسه من عهد مدرسة الزِّن ولقد قمتُ بتعديله وتغيير الأزرار فقط، القماش كان قديمًا وباليًا. علاوةً على ذلك، كان شديد الضيق على جسدي، وجعل جسدي الهزيل يبدو ضعيفًا وصغيرًا أكثرَ وأكثر.

«المحاضرة التالية الكتابةُ الصينية أليس كذلك؟ ألا ترى أنها مملة؟ لنذهب في نزهة في الجوار.»

قال كاشيواغي ذلك ثم نهض واقفًا بعد تعبٍ كبير، وكأنه فكَّك كلَّ أجزاء جسمه مرةً ثم أعاد تركيبها من جديد. وجعلني أتذكَّر قيام الجَمل من رقدته التي نراها في الأفلام.

لم أتكاسل من قبلُ عن حضور المحاضرات، ولكن رغبتي في معرفة أمورٍ أكثر عن كاشيواغي صعَّبت عليَّ إفلاتَ تلك الفرصة. بدأنا السير في اتجاه البوابة الرئيسة.

عندما خرجنا من البوابة الرئيسة للجامعة، فجأةً أثارت الطريقة المميزة جدًّا التي يسير بها كاشيواغي انتباهي وأيقظت داخلي شعورًا قريبًا من شعور الخجل. كان أمرًا غريبًا أن أشعر بالخجل وأنا أسير مع كاشيواغي، مؤيدًا مشاعرَ المجتمع العادية هكذا.

إن كاشيواغي هو مَن عرَّفني بدرجةٍ واضحة مكانَ وجود الخجل داخلي. وفي نفس الوقت كان يحثني على الحياة … سُبِكت من خلال كلماته، كلُّ مشاعري المختفية من السطح، كل شرور قلبي، وصارت نوعًا جديدًا طازجًا. وربما بسبب ذلك، عندما وطِئنا الحصى وخرجنا من البوابة الرئيسة المبنية بالطوب الأحمر، ظهر لنا جبل هيئزان الذي يمكن رؤيته من تلك البوابة رطبًا بشمس الربيع، وكأنه جبل نراه اليوم لأول مرة.

وكان ذلك أيضًا مثل الكثير من الأشياء التي كانت نائمة حولي ظهرت مرةً أخرى بمعانٍ جديدة. كانت قمة جبل هيئزان ترتفع شامخة، ولكن كان سفحه ممتدًّا بلا نهاية، وكأنه نغمة واحدة مستمرة في ترديد صداها إلى الأبد. رأيت ظلال طيات جبل هيئزان، خلف الأسطح المنخفضة المتسلسلة في الأفق البعيد، وكان ذلك الجزء فقط من الطيات يبدو قريبًا وفي منتهى الوضوح، ويبرُز بطن الجبل الذي يتزين بدرجات من لون الربيع، وكأنه مدفونًا في لون أزرق غامق ومظلم.

كان عدد المارة وكذلك عدد السيارات أمام بوابة جامعة أوتاني قليلًا. وكذلك لا يتردَّد إلا على فترات متباعدة صدى الترام الذي يسير في خط الترام الذي يصل من أمام محطة كيوتو وحتى أمام موقف كاراسوما. تصطف على الجانب الآخر من الطريق أعمدة البوابة القديمة لملعب الجامعة لتتقابل مع البوابة الرئيسة على هذا الجانب، وعلى الجهة اليسرى تصطفُّ سلسلة أشجار الجِنكو ذات الأوراق الشابة.

قال كاشيواغي:

«هل لنا أن ندور حول الملعب لفترة؟»

ثم سبقني وعبر طريق الترام. كان يحرِّك جسمه كله حركةً عنيفة، ويعبُر الطريق التي لا تسير فيها السيارات تقريبًا وكأنه ساقية شديدة الهياج.

كان الملعب فسيحًا للغاية، وعلى البُعد كان عددٌ من أزواج الطلبة المتكاسلين عن حضور المحاضرات، أو أن ليس لديهم محاضرات من الأصل، يتبادلون إلقاءَ كرة البيسبول، وفي ناحيتنا كان خمسة أو ستة أفراد يتمرنون للماراثون. رغم أنه لم يمرَّ إلا عامان على انتهاء الحرب، إلا أن الشباب مصرُّون على التخطيط لتدمير قواهم مرةً ثانية. كنت أنا أفكِّر في وجبات المعبد الفقيرة.

جلسنا على الأرجوحة ونحن نتأمل دون أن نرى الأشخاص الذين يتدرَّبون على الماراثون فيقتربون ثم يبتعدون ثانيةً فوق المضمار البيضوي. في الوقت الذي تتكاسل فيه عن الدراسة، تشعر البشَرة التي تدلَّى منها القميص في وسط أشعة الشمس المحيطة بهبوب نسائم ضئيلة من الرياح. يقترب اللاعبون في عصبة واحدة وتضطرب أقدامهم من صعوبة التنفُّس وزيادة الإرهاق، ثم يبتعدون تاركين الغبارَ يتراقص عاليًا عن الأرض.

«أناس أغبياء حقًّا!»

قال كاشيواغي ذلك دون أن يترك أي علامة على إحساسه بحسرة الهزيمة ولو قليلًا. ثم أكمل وكأنه يرى حُلمًا:

«ما هذه الهيئة يا تُرى؟ هل هؤلاء أصحاء؟ ولو كان الأمر كذلك، ما الفائدة التي ستعود عليهم من التباهي أمام الآخرين بصحتهم هذه؟

إن الحديقة مليئة بمن يمارسون الرياضة هنا وهناك. إنها حقًّا علامةُ الانحطاط ونهاية العالم. الأشياء التي يجب إظهارها على الملأ لا تظهر علنًا بأي حال. أنا أعني بالشيء الذي يجب إظهاره علنًا … حكمَ الإعدام. لماذا لا يتم إظهار الإعدام علنًا؟ ألا تعتقد أن نظام الأمن والأمان أثناء الحرب، تم الحفاظ عليه من خلال إذاعة الموت العنيف علانيةً؟ يقال إن علانية حكم الإعدام لم تَعُد تُطبَّق بسبب التفكير أن ذلك يجعل قلبَ الإنسان متعطشًا للقتل. كلام في منتهى الغباء. الناس الذين كانوا يتولَّون أمرَ الجثث بعد القصف الجوي قاموا جميعًا بذلك عن طيب نفس وفي رحمة وعطف.

إن مشاهدة عذاب الإنسان ودماءه وصرخات احتضاره، تجعل الشخص متواضعًا، وتجعل قلب البشر حساسًا مشرقًا هادئًا مسالمًا. في ذلك الوقت لا نصير متوحشين قاتلين مطلقًا. إن اللحظة التي نتحوَّل فيها فجأةً إلى متوحشين، هي على سبيل المثال، في ظهيرة يوم ربيعي مشمس كهذا اليوم، عندما نتأمل في شرود أشعَّة الشمس المتسربة من بين الأشجار، وهي تهفُّ علينا فوق حشائش تم قصُّها بعناية كبيرة، ألا تعتقد هذا؟

هكذا وُلدتِ الكوابيس المتنوِّعة في العالم، والكوابيس المتعددة الموجودة في تاريخ البشرية. ولكن منظر البشر وقد غاب عنهم الوعي من الألم وهم غارقون في دمائهم تحت الشمس الحارقة، يعطي الكوابيس ملامحَ واضحة، فتتجسَّد. ويصبح الكابوس مجرَّد ألم جسماني للآخرين فقط لا غير، ولا علاقة له بمعاناتنا. بالمناسبة نحن لا يمكننا الشعور بآلام الآخرين. يا لها من نجاة!»

ولكني الآن كنتُ أريد أن أستمع إلى سيرته بعد أن تخلَّص من عذريته، وليس إلى استبداده الدموي هذا (بالطبع كان ذلك الأمر بمفرده له ما له من جاذبية). فكما ذكرتُ سابقًا، كنتُ أتوقَّع منه «الحياة» على الدوام. ولذا قمت بفتح فمي والإشارة إلى ذلك السؤال.

«أتقصد المرأة؟ حسنًا. أنا في الفترة الأخيرة أصبحتُ أعرف تمامًا المرأة التي تحب رجلًا أحْنَفَ بحَدْسي. هل تعلم! هذا النوع من النساء موجود. ربما كانت ستخفي هذه الذائقة في حب الرجل الأحنف طوال عمرها وتذهب معها إلى القبر، إنها الهواية الشريرة الوحيدة، والحُلم الوحيد لهذا النوع من النساء.

حسنًا، إن الطريقة التي تعرف بها المرأة التي تحب الأحنف من نظرة واحدة هي: أولًا هي في العادة تكون ذات جَمال فوق العادة، أنفها معقوف ببرود، ولكن كان فمها متدليًا نوعًا ما …»

في ذلك الوقت جاءت امرأة تمشي من الجهة الأخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤