الفصل الخامس
حسنًا، لم تكن تلك الفتاة تمشي في فناء الجامعة. ولكنها كانت تمشي في الطريق المحاذية للمنطقة السكنية. كانت الطريق منخفضة بحوالي قدمين عن الفِناء. جاءت قادمة من تلك الطريق. وكانت الفتاة قد خرجت من بوابة جانبية لمنزل عظيم مبني على الطراز الإسباني. ذلك البيت له مدخنتان، وله نافذة بأسلاك حديدية مائلة، وله سقف بزجاج غرف الحرارة الواسع، يعطي انطباعًا بأنه سهل الكسر للغاية، ولكن الشبكة المرتفعة التي من الطبيعي أن تكون قد أُنشئت بسبب معارضة مالك هذا البيت، تقف عاليًا على ضلع الفِناء في مواجهة البيت وتفصل بينهما الطريق.
كنتُ أنا وكاشيواغي نجلس على الأرجوحة التي بأقصى طرَف الشبكة. أصابتني الدهشة الشديدة عندما شاهدتُ وجه الفتاة. والسبب أن ذلك الوجه النبيل كانت به ملامح وجه «مُحِبَّة الأحنف» الذي شرحه كاشيواغي لي. ولكن بعد ذلك أصبحتُ أرى أن تلك الدهشة كانت منتهى الغباء، ولكن كاشيواغي كان يعرف ذلك الوجه منذ وقتٍ بعيد، وربما كان يحلُم به.
جلسنا كما نحن ننتظر الفتاة. تحت أشعة شمس الربيع التي تملأ المكان، على الجانب البعيد قمةُ جبل هيئزان باللون الأزرق الغامق، وعلى هذا الجانب امرأة تمشي مقتربة منَّا تدريجيًّا. كنتُ لا أزال غير قادر على الإفاقة من العاطفة القوية التي أعطتها لي كلمات كاشيواغي منذ قليل، تلك الكلمات السحرية التي تقول إنه نفسه يحقِّق شهوتَه في نفس وقت انغماسه اللانهائي في عالم الخيال، حيث تتبعثر قدمه الحَنْفَاء وامرأته في عالم الواقع الحقيقي مثل نجمتين ولا تتلامسان. في تلك اللحظة حجب الغيم سطحَ الشمس، وأحاطتنا أنا وكاشيواغي ظلالٌ خفيفة، فظهر عالمنا وكأنه تحوَّل على الفور إلى خيال. كل شيء غير مؤكَّد في لون رمادي، حتى وجودي ذاته أصبح غير مؤكد. ثم مع قمة جبل هيئزان الأرجوانية البعيدة، والمرأة النبيلة التي تمشي الهوينى، كان هذان الشيئان فقط يتألقان في عالم الوجود الفعلي، ويُعتقد أنهما فقط الموجودان وجودًا حقيقيًّا.
كانت المرأة تمشي بكل تأكيد. ولكن انتقال الوقت، يشبه المعاناة المتزايدة، المرأة تقترب قادمة ولكن يظهر بوضوح معها وجهٌ ليس له بها أي علاقة.
نهض كاشيواغي واقفًا. وهمس في أذني بصوتٍ ثقيل ولكنه مكتوم:
«دعنا نمشي. ثم افعل ما أقوله لك.»
لم يكن أمامي إلا المشي. بموازاة المرأة وفي نفس الاتجاه، كنا نسير نحن الاثنان بارتفاع حوالي قدمين عن الطريق التي تسير فيها المرأة بمحاذاة السور الحجري.
«اقفز من هنا.»
دفع كاشيواغي ظهري من الخلف بأصابعه الحادة. تخطيتُ بقدميَّ السورَ الحجري المنخفض للغاية وهبطتُ قفزًا إلى الطريق. ارتفاع قدمين لا يعني شيئًا. ولكن كاشيواغي الأحنف الذي تبِعني، سقط واقعًا بجواري مُصدرًا صوتًا مرعبًا. كان أمرًا طبيعيًّا جدًّا أنه يسقط بعد أن فشل في القفز من تلك المسافة.
ضرب ظهر الزي المدرسي الأسود، أمواجًا كبيرة تحت عيني مباشرةً، ولكن المنظر الخلفي المنبطح على ظهره لم يبدُ لي إنسانًا، وللحظة بدت لي تلك الهيئة بقعةً سوداء عملاقة بلا معنًى، مثل تجمُّع الماء المعكَّر بعد سقوط المطر.
انهار كاشيواغي معوجًا عند مقدمة الطريق التي تأتي فيها المرأة. وعندها توقَّفت المرأة متسمِّرة بلا حَراك. وأخيرًا جثوتُ بركبتي على الأرض محاولًا مساعدة كاشيواغي على الوقوف، ولكن بدا لي من أنف المرأة السامق البارد، وفمها الفاتر قليلًا، وعينيها الدامعتين، من كل هذه الأشياء، لحظيًّا بدت لي ظلال يويكو.
ولكن اختفى شبح الظلال على الفور، وتلك المرأة التي لم تتخطَّ العشرين من عمرها، نظرت إليَّ نظرة احتقار، وبدا أنها تحاول أن تتخطاني.
وكاشيواغي كان أسرع مني في ملاحظة ذلك بحساسية. فبدأ في الصراخ. تردَّد صدى ذلك الصراخ المرعب في جنبات المنطقة السكنية التي ليس بها أثر لإنسان.
«يا عديمة الإحساس! هل ستتركينني هكذا وترحلين؟ لقد أصبحتُ بهذه الحالة من أجلكِ أنت!»
كانت المرأة التي نظرت إلى الخلف ترتعش. حاولتْ أن تحكَّ خدَّها الذي شحب وانعدمت منه الدماء بأطراف أصابعها الرفيعة الجافة. وأخيرًا قمتُ أنا بالسؤال: «ما الذي يجب فِعله؟»
كاشيواغي الذي كان قد رفع وجهه بالفعل، حملق في المرأة، وقال وهو يؤكد على كل كلمة من كلامه.
«أليس في بيتكِ دواء على الأقل؟»
صمتت الفتاة فترة، ثم في النهاية أدارت لنا ظهرها، وعادت من نفس الاتجاه الذي أتت منه. ساعدتُ كاشيواغي حتى وقف على قدميه، كان ثقيلًا للغاية، وتلاحقت أنفاسه بما يبدو عليه من الألم، ولكن بعد أن أعرتُه كتفي ليستند عليها وبدأ المشي، تحرَّك جسده بخفة على غير المتوقَّع.
… جريتُ ووصلتُ إلى المحطة التي أمام موقف كاراسوما. وركبت الترام قفزًا. وأخيرًا انتظمت أنفاسي، عندما بدأ الترام في التحرُّك متوجهًا إلى المعبد الذهبي. وكان باطن يدي مليئًا بالعَرق.
حضنتُ كاشيواغي حتى فتحة الباب الجانبية لذلك البيت الإسباني الطراز، وبعد أن دخلت الفتاة مباشرةً، أنا الذي هجم عليَّ الرعب، تخليتُ عن كاشيواغي هناك، وعدتُ هاربًا دون النظر إلى الخلف. ولم يكن لديَّ أيُّ متسع من الوقت لكي أمرَّ على الجامعة. جريتُ في ممر المشاة الغارق في الهدوء والسكينة. جريت أمام البيوت المتراصة التي تتكوَّن من محلات الشاي والحلويات والأجهزة الكهربائية. في ذلك الوقت كان يلمع على طرَف عيني شيءٌ ما بلونين بنفسجي وأحمر. وأعتقد أن ذلك على الأرجح كان المصباح الورقي الذي به العلامة المميزة لتلك العائلة يتدلَّى من فوق السور الأسود لشجر البرقوق، وكان ملفوفًا على البوابة نفس الستائر البنفسجية لقصاري شجر البرقوق، رأيتها عندما جريت مخترقًا المنطقة التي أمام مبنى كوتوكو التابع لديانة تنري.
أنا نفسي لم أكن أعلم إلى أين أنا متَّجه. وعندما مرَّ القطار تدريجيًّا إلى موراساكينو عرفتُ أن قلبي الذي اضطرب فجأةً يستهدف المعبد الذهبي.
كان عدد الزائرين للمعبد الذهبي ذلك اليوم هائلًا، رغم أنه ليس يوم عطلة، ولكن ربما لأننا في الموسم السياحي. نظر الدليل العجوز بريبة إلى هيئتي وأنا أُسرِع إلى المعبد الذهبي متخطيًا صفوفَ الزائرين.
وهكذا أصبحتُ أمام المعبد الذهبي في الربيع محاطًا بجموع الناس البغيضة والغبار المتصاعد. في وسط تردُّد صوت الدليل العالي، كان المعبد الذهبي يُخفي تقريبًا جَماله المعتاد، وبدا وكأنه يتصنَّع التجاهل. كان انعكاس الظل على البِركة فقط ساطعًا وواضحًا. ولكن حسب طريقة الرؤية، مثل تمثال بوذا المرحِّب، المحاط بالعديد من البوديساتفا في لوحة نزول بوذا والقديسين، تتشابه سُحب الغبار مع اللون الذهبي للسُّحب المحيطة بتماثيل البوديساتفا، كذلك شكلُ المعبد الذهبي المبهم في الغبار، يتماثل مع ألوان الرسم القديمة التي شحبت، ومكوِّنات الصورة التي بَليت. ذلك الزحام والضجيج، يدخل في نقاء داخل هيئة الأعمدة المنحوتة بدقة، لم يكن من العجيب أن يُمتص طائر العنقاء الذي في قمة كوكيوتشو الصغيرة إلى داخل السماء شبه البيضاء التي تقف شامخةً ملاصقة ترتفع تدريجيًّا. كان المبنى المعماري يسيطر ويحكم بمجرد وجوده فقط في ذلك المكان. كلما زاد الضجيج المحيط، فالمعبد الذهبي الذي يخفي في غربه مبنى السوسيه، وكوكيوتشو الذي يعتلي قمةَ الطابق الثاني ويرفع فجأة، هذا المبنى المعماري ذو التماثل الرقيق، يقوم بفاعلية مرشح المياه الذي يحوِّل المياه المعكَّرة إلى ماء نقي. لا يرفض المعبد الذهبي صخبَ الأحاديث الشخصية للناس المحيطة به، فتدخل بين فراغات الأعمدة الحنونة، في النهاية، تترشَّح إلى سكون واحد ونقاء ووضوح واحد. بعد ذلك يحقِّق المعبد الذهبي على هذه الأرض في غفلة من الزمن شيئًا شبيهًا بالظل الساقط على البِركة الذي لا يهتز ولو قليلًا.
هدأ قلبي، وبصعوبةٍ بالغة انخفض مقدار الرعب. كان الجَمال بالنسبة لي، يجب أن يكون هكذا. فهو يحجبني عن الحياة، ويحميني منها.
قمتُ بالدعاء من كل قلبي:
«لو كانت حياتي مثل حياة كاشيواغي، أرجو أن تحميني بأي حال؛ لأنني لا يبدو أنني أستطيع تحمُّل ذلك.»
في الحياة التي يُلمح إليها كاشيواغي، والتي مثَّلها أمامي على الفور، كان معنى الحياة هو نفسه معنى التدمير. ولم تكن تلك الحياة إلا أحد أنواع الرِّعشة المؤلمة التي ينقصها الطبيعية، كما ينقصها جَمال التكوين مثل المعبد الذهبي. والحقيقة أنني كنتُ منجذبًا بشدة إلى ذلك، وحددتُ اتجاهي في ذلك، ولكن في البداية كنتُ مرعوبًا من ضرورة إغراق يدي في الدماء من قطع الحياة المليئة بالأشواك. لقد احتقرتُ غريزة كاشيواغي وعقلانيته بنفس الدرجة. مثل الكرة ذات الشكل المشوَّه، كان وجوده ذاته، يدور متدحرجًا ويحاول أن يحطِّم حائطَ الواقع. لم يكن حتى فعلًا من الأفعال. بمعنى أن الحياة التي ألمح إليها كانت لعبة خطيرة عبارة عن تنكُّر مجهول، تُحطِّم الواقع الذي يسخر منَّا، من أجل تطهير العالم لكيلا يتضمنَ أيَّ قدْر من الجهل مرةً أخرى.
والسبب لذلك أنني بعدها، رأيت على مسكنه البوستر التالي:
كان البوستر عبارة عن رسمة مطبوعة على لوح الإردواز الجميل لجمعية رحلات جبال الألب اليابانية، وفوق قمَّة الجبال البيضاء التي تطفو على سماء زرقاء، مكتوب عليها بالعرض «ندعوك … إلى العالَم المجهول!» مسح كاشيواغي تلك الحروف وقمة الجبل بخطٍّ أحمر ممسوح مشكِّلًا علامةَ إكس كبيرة وكتب على عجلٍ بخطه المتراقص الذي يجعلك تتذكَّر حركة قدمه الحَنْفاء:
«لا يمكنني الصبر على حياة المجهول.»
ذهبتُ إلى الجامعة في اليوم التالي، وأنا قلِقٌ على كاشيواغي. عندما أعيد التفكير في هروبي ذلك اليوم عائدًا وتركه بمفرده، أرى أنه سلوك يعتبر دليلًا على الصداقة القوية، ولذا لم أكن أحسُّ بمسئولية كبيرة تجاه ذلك السلوك، ولكن كان لديَّ قلق حيال ماذا لو لم أجِده الآن موجودًا داخل قاعة المحاضرات. ولكن عندما اقترب وقتُ بداية المحاضرة بقليل، رأيت كاشيواغي يدخل القاعة رافعًا كتفيه بطريقةٍ غير طبيعية ولا يختلف بتاتًا عنه في العادة.
في وقت الراحة أمسكت على الفور بذراع كاشيواغي. كانت مثل هذه الحركة النشيطة والحيوية بالنسبة لي أمرًا نادرَ الحدوث للغاية. ضحك كاشيواغي بطرَف فمه وجاء معي إلى الممر.
«هل برأ الجُرح؟»
«أي جُرح تقصد؟»
… نظر كاشيواغى إليَّ وهو يبتسم في شفقة.
«متى أصابني جُرح؟ هل رأيتَ حُلمًا أو ما شابه أنني جُرحت؟»
ظللتُ دون أن أنطق بالجملة التالية. ثم كشف لي الملعوب بعد أن بالغ في التمنُّع.
«لقد كان ذلك تمثيلًا. لقد تدرَّبت أكثرَ من مرة على الوقوع في تلك الطريق، وتعلَّمت كيف أقع جيدًا بمبالغة كبيرة وكأن عظامَ الساق قد انكسرت. ولكن تجاهُل الفتاة ومرورها أمامي دون اعتبار كان خارجَ نطاق حساباتي. ولكن يمكنك أن ترى الآن. فلقد أصبحتِ الفتاة على وشْك الافتتان بي. لا، لقد أخطأتُ هذا القول. بمعنى أنها على وشْك الافتتان بقدمي الحَنْفَاء. تقول إنها تريد أن تضع على قدمي صبغةَ اليود بنفسها.»
رفع طرَف البنطلون عاليًا وأراني ساقه المصبوغة بلون أصفر باهت.
وقتها ظننتُ أنني رأيت إحدى حِيَله الخداعية، ولكن وقوعه في عُرض الطريق هكذا، كان الغرض منه بالطبع أن يلفت نظر الفتاة، ولكن ألا يكون تظاهره بالإصابة كان الهدف منه إخفاء حَنَف قدمه؟ ولكن لم يؤدِّ ذلك التساؤل إلى الشعور بأي احتقار، بل على العكس، كان سببًا لزيادة الإحساس بالأُلفة تجاهه. بطريقة إحساس تليق بشاب عاديٍّ، كنت أعتقد أنه كلما كانت فلسفته مليئة بالحِيَل الخداعية، كانت برهانًا على إخلاصه تجاه الحياة.
لم يتفاءل تسوروكاوا لعلاقتي مع كاشيواغي، وعندما جاء يحذِّرني تحذيرًا مليئًا بمشاعر الصداقة، أحسستُ بالانزعاج منه. ليس هذا فقط بل إنني اعترضتُ عليه وقلت له إذا كان الأمر يخصه يمكنه الحصول على أصدقاءَ رائعين، أما أنا فكاشيواغي هو المناسب لي. لا يمكن وصفُ لون الحزن الذي طفا على عين تسوروكاوا وقتَها، وكنتُ أتذكَّر ذلك فيما بعدُ بدرجة عنيفة من الندم.
•••
جاء شهر مايو، فوضع كاشيواغي خطةً لكي نذهب للَّهو في منطقة أراشياما نغيب فيها عن المحاضرات في يوم من أيام الأسبوع العادية لنبتعدَ عن زحام الناس في الإجازة. وقال بما يتناسب مع شخصيته، إذا كان الجو صحوًا وجيدًا فلن نذهب، ولكن إذا كان الجو غائمًا ومظلمًا في كآبة فسنذهب. ووضع خُطة لكي تأتيَ معه فتاة المنزل الذي على الطراز الإسباني، وتأتي فتاةُ مسكنه من أجلي.
اتفقنا على التواعد في محطة كيتانو بخط قطار كيفوكو الكهربائي الذي يُطلق عليه اسم «راندن». ويومها لحسن الحظ كان الجو غائمًا وكئيبًا وهو أمرٌ نادر الحدوث في شهر مايو.
وكان تسوروكاوا قد أخذ عطلة مدة أسبوع وعاد إلى طوكيو بسبب حدوث بعض المشاكل العائلية. لم يكن من النوع الذي يفشي الأسرار مطلقًا، ولكن أعفاني ذلك من إحساس الألم لوجوب التحايل للاختفاء منه، بعد أن نأتيَ معًا إلى الجامعة في الصباح.
أتذكَّر أن هذه النزهة الجبلية كانت تجربةً مريرة بالنسبة لي. على أي حال رغم أننا جميعًا كنا شبابًا، ولذا تلوَّنت تلك النزهة الجبلية كلها في ذلك اليوم بمشاعر الاكتئاب والغضب والقلق والعدمية التي يحملها الشباب. وعلى الأرجح كان كاشيواغي قد تنبأ بكل شيء، ولا شك أنه اختار ذلك اليوم بهذا الجو الكئيب الملبَّدة سماؤه بالغيوم.
كانت الرياح في ذلك اليوم جنوبية غربية، وعندما نعتقد أنها تزيد من قوَّتها، نجدها فجأةً تتوقَّف، وتصبح النسائم القلقة مثيرةً للضجيج. وكانت السماء مظلمة، ولكن لم يكن مكان وجود الشمس محجوبًا تمامًا. فقد كانت تطلِق شعاعًا أبيضَ وكأنها صدرٌ أبيضُ يبدو خافتًا من بين ياقة ملابس كثيرة مزدوجة يرتديها جزء من الغيوم، في العمق الذي يغبِّشه ذلك البياض يمكن معرفة مكان وجود الشمس، ولكن يذوب ذلك مرةً أخرى على الفور في سماء الغيوم المتجانسة ذات اللون الرمادي الغامق.
لم يكن وعد كاشيواغي كذبًا. فقد ظهر بالفعل عند بوابة التذاكر محميًّا بفتاتين.
كانت إحداهما هي بالفعل تلك الفتاة. الفتاة الجميلة ذات الأنف الطويل البارد، وحواف الفم المتدلية، ترتدي ملابسَ غربية الطراز مصنوعة بقماش مستورد وتدلي من كتفها زمزمية الماء. أمام تلك الفتاة لا يمكن أن نقارن مقارنةً عادلة مع فتاة المسكن القصيرة ذات سِمنة خفيفة لا من حيث ملابسها ولا ملامحها. كانت أنوثتها تقتصر فقط على الفك الصغير والشفتين اللتين بدتا كأنهما موثقتين.
انهارت بالفعل مشاعرُ النزهة الجبلية الممتعة، في داخل القطار أثناء الذهاب. لم أستطِع الاستماع جيدًا إلى محتوى ذلك الحديث، كان كاشيواغي والفتاة لا يتوقَّفان عن العراك اللفظي، وكانت الفتاة من حين لآخر تعضُّ على شفتيها لتستطيع التحكم في دموعها. كانت فتاة المسكن لا تبالي بأي شيء، وكانت تدندن بصوت خفيض أغنيةً منتشرة. فجأة بدأت فتاة المسكن تحكي القصة التالية متوجِّهة بالحديث إليَّ أنا:
«بجوارنا معلِّمة فن تنسيق الزهور في غاية الجَمال، منذ أيام، حدَّثتني بقصة رومانسية حزينة. أثناء الحرب كان لدى المعلِّمة حبيب، أصبح ضابطًا في القوات البرية، وصار من المحتَّم عليه الذهاب إلى الحرب في القريب العاجل، فقامت بتوديعه خلال زمن قصير جدًّا في معبد نانزنجي. كان أهلها رافضين هذه العلاقة بينهما، ولكن قبل الوداع بفترة بسيطة كانت قد حملت في طفل منه، ولكن الطفل المسكين وُلد ميتًا. الضابط أيضًا في نهاية انتحابه عليها، قال لها على الأقل أريد أن أرضع لبنك لكي تكوني أمًّا حقيقية، ولأنه لا وقت قالت إنها أرضعته لبن ثديها بعد أن حلبت ثديها وأخرجت اللبن في كوب شاي. ثم بعد مرور شهر، مات ذلك الحبيب في الحرب. وبعد ذلك سلكت هذه المعلِّمة سبيلَ العفة والطهارة، وآثرت أن تعيش بمفردها. رغم أنها ما زالت شابة وجميلة.»
لقد ارتبت في أذني. عاد إلى ذاكرتي ذلك المنظر الذي لا يمكن تصديقه والذي شاهدته أنا وتسوروكاوا من مدخل جبل معبد نانزنجي في فترة نهاية الحرب. وتعمَّدتُ ألا أتحدث بتلك الذكريات إلى الفتاة. والسبب هو أنني اعتقدتُ أنه إذا تحدَّثتُ عن ذلك، فالتأثُّر الذي أحدثَته هذه القصة التي سمِعتها توًّا، سيخون التأثُّر السحري الذي أحسستُ به وقتها، ومن خلال صمتي عن الحكي، لن تحُلَّ القصة الحالية لغزَ السحرية فقط، بل على العكس ستجعل السحرية مزدوجة، وأحسستُ أن ذلك سيجعلها أكثرَ عمقًا بدرجة كبيرة.
كان القطار وقتها يمر بجوار غابة من الخيزران الضخم عند منطقة ناروتاكي. كان الخيزران مصفرًّا لأننا في موسم الذبول من شهر مايو. رغم أن الريح التي تهزُّ الأفرع تجعل الأوراق الذابلة تهطل كالمطر وسط الغابة ذات الكثافة العالية، إلا أن الأجزاء القريبة من الجذور وكأنها لا علاقة لها بذلك، كانت هادئة تتقاطع عُقلاتها الغليظة حتى نخاع النخاع في فوضى مع بعضها البعض. وتتمايل أعوادُ الخيزران القريبة بدرجةٍ مُبالَغ فيها في اللحظات القصيرة التي يسرع فيها القطار بجوارها. ولفت نظري أن أحد الأعواد كان بارزًا وفتيًّا أخضرَ لامعًا. ظلَّ منظر ذلك العود وهو يميل بتألُّم، بانطباع الحركة المريبة الفاتنة، فترة في عيني، ثم ابتعد ورحل مختفيًا عن العيون.
وصلنا إلى أراشياما، بعد أن أتينا إلى ضفاف جانب جسر توغتسو، ثم ذهبنا لزيارة قبر الأميرة «كوغو» الذي لم يكن أحدٌ منَّا على علم بوجوده هنا حتى الآن.
أخفَت هذه الأميرة نفسَها في ساغانو مخافةَ تعرُّضها لغضبِ القائد العسكري تايرا نو كيوموري. وبناءً على أمرٍ إمبراطوري خرج ميناموتو نو ناكاكوني للبحث عنها، واكتشف مكان اختبائها من خلال سماعه صوتًا خافتًا لآلة القانون في ليلة قمرية من ليالي الخريف. وكان لحن القانون الذي كانت تعزفه هو «مشاعر حب للزوج». يظهر المشهد التالي في مسرحية «كوغو» لمسرح «النو»:
«عندما ظهر في الليل وبه حنين وشوق إلى ضوء القمر، أتى إلى طريق بوذا، وهناك سمِع صوتَ آلة القانون. ولم يكن يعرف هل هذا هو صوت العاصفة في قمَّة الجبل أم صوت الريح التي بين الصنوبر. وعندما استعلم عن صوت القانون هذا، قيل له إنها سيدة تعزف لحن «مشاعر حب للزوج» معبِّرة عن مشاعر حبِّها لزوجها.»
ولكن الأميرة عاشت بعد ذلك النصفَ الأخير من حياتها في كوخ ساغانو، تصلي من أجل أن ينال الإمبراطور تاكاكورا النيرفانا.
المقبرة التي كانت في نهاية طريق قصيرة وضيقة، لم تكن تزيد عن مجرد عمود حجري صغير محشور بين شجرتين عتيقتين هما شجرة قيقب عملاقة وشجرة برقوق متآكلة بأقصى درجة. قمتُ أنا وكاشيواغي كراهبين ورِعين بتلاوة جزء قصير من السوترا. انتقلت لي طريقة تلاوة كاشيواغي الفظيعة والغارقة في الجِدية وهو يدنِّس السوترا، ولكني استطعت الانتهاءَ من التلاوة بنفس الطريقة الروحية للطلاب العاديِّين الذين يتلون السوترا من خلال أنوفهم، ولكن هذا التدنيس البسيط ساعد في أن تتحرَّر أحاسيسي بشدة وجعلتني أشعر بالانتعاش والحيوية.
قال كاشيواغي:
«إن المقبرة الفخمة شيءٌ مأسوي. فالقوة السياسية، والقوة المالية، تُبقِي مقابرَ عظيمة، مقابرَ في منتهى المهابة. ولأن هؤلاء لم يكن لديهم أثناء حياتهم أي قدْر من قوة الخيال، فالمقابر كذلك من جهتها تُبنى دون أي مساحة من قوة الخيال. ولكن الفخامة من جهة أخرى وُلدت فقط خلال قوة خيال النفس والآخرين، فالمقبرة بهذا الحال تبقى شيئًا لا حيلة له إلا بتشغيل قوة الخيال. وهذه الحالة أراها أنا مثيرة للشفقة. لأنه يجب على الشخص أن يستجديَ قوة الخيال حتى بعد موته.»
قاطعتُ حواره بحيوية ونشاط قائلًا:
«ما من فخامة إلا داخل الخيال فقط. ما الجوهر الحقيقي للفخامة، الجوهر الحقيقي الذي تتحدَّث أنت عنه؟»
«إنه هذا.»
ضرب كاشيواغي بكفِّ يده المنبسطة على رأس العمود الحجري المليء بالفطر العفن.
«إنه الحجر أو العظام، الجزء غير العضوي المتبقي من الإنسان بعد موته.»
«يا للغباء! إنه تفكيرٌ بوذي صرف.»
«لا بوذية ولا غيرها. الفخامة والثقافة، وما يفكِّر فيه الإنسان من شيء جَمالي، كل هذه الأشياء، جوهرها الحقيقي هو شيء أجدبُ وغير عضوي. لن أذكر معبد ريوانجي، ولكن لا يزيد عن حجارة. الفلسفة كذلك حجارة، الفن هو كذلك حجارة. ثم إذا تحدثنا عن اهتمام البشر العضوي، أليس أمرًا مؤسفًا؟ إنه السياسة فقط. إن البشر على الأغلب كائن حي يدنِّس نفسَه بنفسه.»
«الشهوة الجنسية أيهما يا تُرى؟»
«الشهوة الجنسية؟ أعتقدُ أنها بين بين. الإنسان والحجر يعودان أحدهما إلى الآخر من خلال لعبة العفريت.»
فكَّرتُ أن أزيد في الحال من الهجوم على فكرته عن الجَمال، ولكنَّ الفتاتين اللتين ملَّتا نقاشنا، كانتا على وشْك التوجه إلى الطريق الضيقة للعودة؛ لذا لحِقنا بهما. عند تأمُّل نهر هوزو من الطريق الضيقة، ثمَّة جسر توغتسو الشمالي الذي بدا وكأنه جزء من قناطر نهرية. جبل أراشياما الذي في الجهة الأخرى من النهر، رغم أنه مدفون في مساحة خضراء كئيبة، هذا الجزء فقط من النهر، يمتد خطٌّ أبيض واحد من الرذاذ الحيوي المنعش، ويتردَّد صدى خرير الماء في المكان.
ولم يكن عددُ المراكب الطافية على سطح النهر قليلًا. ولكننا تقدَّمنا في الطريق المحاذية للنهر، وعندما دخلنا من بوابة حديقة كامياما في نهاية الطريق، لم يكن على الأرض من القمامة المتناثرة إلا الأوراق فقط، وأدركنا أنه يوم يندُر فيه وجود زوار للتنزُّه داخل الحديقة.
عند البوابة نظرنا إلى الخلف، ومرةً أخرى تأمَّلنا منظرَ أوراق الأشجار الشابة على جبل أراشياما ونهر هوزو. وعلى الضِّفة المقابلة يسقط شلال صغير.
«إن المنظر الجميل عبارة عن جحيم.»
مرةً أخرى قال كاشيواغي ذلك.
فكرتُ أن طريقة حديث كاشيواغي تلك عشوائية على الأرجح. ولكن أنا أيضًا كذلك، تعلمتُ منه، وجرَّبت أن أنظر إلى ذلك المنظر على أنه جحيم. ولم تكن تلك الجهود بلا جدوى. حتى في منظر الأوراق اليانعة الساكنة التي لا يؤبه لها الذي أمام عيني، كان الجحيم يتأرجح. يبدو أن الجحيم يظهر كما يحلو لك ليلًا ونهارًا، في كل وقت وفي كل مكان. يبدو أنه يأتي على الفور في المكان الذي نتطوَّع بدعوته إليه.
ولأن الصنوبر كان الشيء الأكثر وجودًا في حديقة كامياما؛ لذا كانت ألوان الموسم في هذا المكان لا تتحرَّك. كانت كل أشجار الصنوبر تمتد سامقة في الحديقة الضخمة التي بها تعرُّجات كبيرة، ولم تكن بها أوراق إلا في الأجزاء المرتفعة ارتفاعًا عاليًا، وهذه الأعداد المهولة من الجذوع العارية تتقاطع معًا بلا قواعد تنظِّمها، فتجعل شكلَ الحديقة مضطربًا.
إذا اعتقدنا أننا نصعد، نجد منحنًى ملتويًا يلفُّ الحديقة، وهنا وهناك جذع مقطوع من شجرة أو ذابل، وأجزاء صنوبر صغيرة، وتتفتح أعدادٌ لا نهائية من زهور الأزالية حول السطح الأبيض لصخرة عملاقة مدفون أغلبها في الأرض. بدا لونها تحت السماء ذات الغيوم، محملًا بالنوايا السيئة.
تسلَّقنا من جانب أرجوحة مبنية في تجويف أرضي يلهو عليها ولدٌ وبنت معًا، واسترحنا عند ظليلة تعلوها مظلة من الخيزران عند قمة هضبة صغيرة. يمكن رؤية الحديقة بكاملها تقريبًا على الناحية الشرقية من ذلك المكان، ويمكن النظر من جهة الغرب من علٍ إلى ماء نهر هوزو المختبئ خلف الأشجار. صعِد صرير صوت الأرجوحة الذي يشبه صوتَ اصطكاك الأسنان، دون توقُّف إلى الظليلة.
فتحت الفتاة صرةً كانت تحملها، ولم يكن ما قاله لي كاشيواغي عن عدم الحاجة إلى إحضار وجبة غداء معنا كذبًا. كان في الصرة سندويتشات تكفي أربعة أشخاص، وأنواع من الحلويات المستوردة التي يصعُب الحصول عليها، وفي النهاية ظهر ويسكي من شركة سانتوري لا يمكن الحصول عليه إلا من السوق السوداء لأنه يوجَّه فقط لاحتياجات قوات الاحتلال. ويقال إن كيوتو في ذلك الوقت، كانت موضعَ السوق السوداء المركزية لمنطقة كيوتو وأوساكا وكوبيه.
تقريبًا لم أشرب منه شيئًا، ولكن أخذتُ الكأس التي قُدِّمت إليَّ مع كاشيواغي بعد أن لامستُ كفيَّ إحداهما بالأخرى. أما الفتاتان فقد شربتا الشاي الأحمر من الزمزمية.
كنتُ حتى ذلك الوقت أرتاب في أنَّ بين الفتاة وكاشيواغي علاقةً حميمية إلى هذه الدرجة. لم أفهم لماذا تقيم فتاة تبدو صعبةَ المراس مثل تلك الفتاة علاقةً حميمية مع طالبٍ أحْنَفَ فقيرٍ مثل كاشيواغي. بعد أن شرب كأسين أو ثلاثًا قال كاشيواغي وكأنه يجيب عن هذا التساؤل:
«منذ قليل تعاركنا في القطار، أليس كذلك؟ السبب أن أهلها يلحُّون عليها في الزواج من رجلٍ تكرهه. وهي على وشْك أن تضعُف في الحال وتستسلم لهم. ولذا قلتُ لها إنني سأبذل كلَّ ما في وُسعي لأعيقَ ذلك الزواج، محاولًا أن أواسيَها حينًا وأهدِّدها حينًا آخر.»
هذا الكلام في الأصل لا يجب أن يقوله أمامها شخصيًّا، ولكن كاشيواغي كان يتحدَّث بهدوء كامل وكأنها ليست بجواره. وكذلك الفتاة التي كانت تسمع ذلك لم يبدُ على ملامحها أيُّ تغيير. كانت تضع حول جيدها الرشيق قلادةً زرقاء تتدلَّى منها حلية خزفية، معطية ظهرها لسماء غائمة، ويجعل الخط المحيط بالشعر المتماوج ملامحَ وجهها الواضحة بدرجة زائدة عن الحد، غيرَ واضحة. كانت العين مبتلة بدرجة زائدة عن المعتاد، ولهذا السبب تعطي العين فقط انطباعًا عاريًا وفاضحًا. وكانت حواف الفم المترهل كذلك، كما هو المعتاد منها مفتوحةً فتحةً رقيقة. وتسلَّلت من الفتحة الرقيقة بين تلك الشفتين صفوفُ أسنان حادة دقيقة، تبدو جافة وناصعة البياض. جعلتني أحسُّ كأنها أسنان حيوان صغير رقيق.
«إنها تؤلمني … تؤلمني!»
صرخ كاشيواغي بصوتٍ يقترب من الحقيقي. ودون وعي نظرتُ أنا إلى وجه الفتاة المجاورة لنا. ظهر على ذلك الوجه ملامحُ مختلفة تمامًا، وفقدت عيناها السكينة، وارتعشتْ شفتاها بحركاتٍ متسرعة، وأظهر عدم اهتزاز أنفها البارد الناتئ لأي شيء تباينًا غريبًا، وانهار توافق وتماثل أجزاء وجهها.
«الصبر! الصبر! سأداويك حالًا! الآن حالًا!»
… لأول مرة أسمع صوتَ الفتاة الحاد والعالي المقزِّز ذلك. عوجَت الفتاة النبيلة رقبتَها وجعلت تستطلع المكانَ حولها، وعلى الفور جثتْ على ركبتيها فوق صخرة ظليلة، وحضنت ساق كاشيواغي. ومسحت خدَّها فيها وفي النهاية أخذت تقبِّل تلك الساق.
أصابني مرةً أخرى نفس الرعب الذي حدث لي في ذلك الوقت. ونظرتُ إلى فتاة المسكن. كانت فتاة المسكن تنظر إلى اتجاه مختلف تمامًا وتغني بأنفها.
… في ذلك الوقت يعتقد أن أشعة الشمس تسرَّبت من بين السحاب، ولكن ربما يكون ذلك خداعًا بصريًّا من عيني أنا. ولكن تولَّد اختلال في تركيبة المنظر العام للحديقة الهادئة، وسطح المنظر الشفاف النقي الذي يحيط بنا، غابة الصنوبر، أشعة النهر، الجبال البعيدة، ملمس الصخور البيضاء، زهور الأزالية المبعثرة … أركان ذلك المشهد الممتلئ بكل هذه الأشياء ركنًا ركنًا، أحسستُ أنه حدث شرخ دقيق ورفيع في سطح ذلك المشهد.
وفي الواقع، يبدو أن المعجزة التي يجب أن تقع قد وقعت. توقَّف كاشيواغي تدريجيًّا عن التأوه. ورفع وجهه، وعندما رفع وجهه، ألقى ناحيتي بنظرة تشبه الضحكة الساخرة.
«خفَّت! أمرٌ عجيب! عندما يبدأ الألم ثم تقومين بفعل ذلك لي، دائمًا يتوقَّف الألم.»
ثم أمسك بكلتا يديه شَعر الفتاة ورفعه لأعلى. الفتاة التي مُسِكت من شعرها نظرت ضاحكة لكاشيواغي بملامح كلبٍ وفيٍّ. بدا لي وجه الفتاة الجميل في تلك اللحظة، مع درجة الأشعة البيضاء المغيِّمة، كأنه وجه العجوز ذات الستين عامًا التي كلمني عنها كاشيواغي.
… ولكن كاشيواغي الذي قام بمعجزةٍ كان مرحًا. كان مرِحًا لدرجةٍ قريبة من الجنون. ضحِك بصوتٍ عالٍ، وعلى الفور رفع ركبة الفتاة عاليًا وقبَّلها. تردَّد صدى ضحكاته بين أطراف أفرع الصنوبر في الأرض المنخفضة.
«لماذا لا تغازلها؟» قال كاشيواغي ذلك لي أنا الصامت. «رغم أني قد أحضرت هذه الفتاة خصوصًا من أجلك. خسارة. أم إنك تخجل أن تتلعثم فتكون مدعاةً لضحكها؟ تلعثم! تلعثم! ربما تكون هذه الفتاة متيَّمة بالمتلعثمين!»
«هل أنت متلعثم؟»
قالت فتاة المسكن ذلك وكأنها تنتبه لهذا الأمر لأول مرة.
«إذن تجمَّع اليوم اثنين من الثلاثة المعاقين!»
طعنتني تلك الكلمات بعنف، وجعلتني أشعر بشعورٍ لا يحتمل البقاء معهم. وكان الأمر الغريب هو أن الحقد الذي أحسسته تجاه الفتاة، بدأ يتحول كما هو فجأة إلى رغبة، لكن مع نوع من الدُّوار.
«لنختبئ في مكانٍ ما، كلُّ اثنين معًا. لِنعُد هنا مرة أخرى بعد مرور ساعتين إلى هذه الظليلة.»
قال كاشيواغي ذلك وهو ما زال ينظر من علٍ إلى الفتى والفتاة اللذين يركبان الأرجوحة بلا ملل.
هبطتُ مع فتاة المسكن، بعد أن افترقنا مع كاشيواغي وفتاته، من هضبة تويا متَّجهين ناحيةَ الشمال، ثم انعطفنا مرةً ثانية، وصعِدنا منحدرًا بزاوية ارتفاع ضئيلة في اتجاه الشرق.
قالت الفتاة:
«هذا الشخص جعل من فتاته «قديسة» إنها الحيلة المعتادة.»
سألتها بعد أن تلعثمتُ تلعثمًا شديدًا:
«لماذا تعرفين ذلك؟»
«إنه كذلك. أنا أعرف ذلك. فلي علاقة بالسيد كاشيواغي.»
«والآن لا، أليس كذلك؟ ولكن يا للعجب أنك قادرة على تحمُّل هذا الأمر!»
«إنه لا شيء. فما باليد حيلةٌ مع هذا المعاق.»
كانت تلك الكلمة هذه المرة على العكس أعطتني أنا شجاعة، وخرج السؤال التالي سلسًا دون تلعثم.
«ولكن أنتِ أيضًا كنتِ تحبين في وقتٍ ما ساق ذلك المعاق.»
«توقَّف عن هذا. إنها ساقٌ تشبه الضفدعة. أنا … حسنًا … أعتقد أن عيني ذلك الرجل هي عيون جميلة.»
وبهذا فقدتُ أنا شجاعتي ثانية، فمهما كان تفكير كاشيواغي، فقد كانت المرأة تحب فيه نوعيةَ جَمال لا ينتبه هو لها. ولكن أنا وبسبب الغرور الذي يجعلني أعتقد أنني لا أملِك شيئًا واحدًا لم أنتبه له بالفعل، كنتُ أرفض وجودَ هذا النوع فقط من الجَمال.
… حسنًا انتهينا أنا والفتاة، من صعود المنحدر، ووصلنا إلى سهلٍ صغير يغرق في هدوء عميق. يمكن للمرء بصعوبة رؤيةٌ ضبابية لجبل دايمونجي وجبل نيويغاتاكيه وباقي الجبال، في الفراغات بين أشجار الصنوبر وأشجار السرو. وتغطي غابة الخيزران من الهضبة حيث كنا نقف وحتى أسفل المنحدر، الذي يقود إلى المدينة. عند حافة الغابة، تزهر شجرة كرز وحيدة متأخرة عن موعدها، ما زالت لم تسقط أزهارها بعدُ. وهذه في الواقع أزهار متأخرة جدًّا، ويأتيك اعتقادٌ أنها ما زالت محتفظة بأزهارها على هذا النحو بسبب أنها أزهرت في تباطؤ وتلعثم.
انقبض صدري، وثقلت مَعِدتي عبئًا. ولم يكن هذا بسبب الخمر. ولكن وقت الجِد، يزداد ثِقل الغريزة، فتحمل تركيبة تجريدية منفصلة عن جسدي، فيجثم فوق أكتافي. وكان ذلك يعطي شعورًا وكأنه مثل أجهزة التصنيع الحديدية الثقيلة السوداء.
وكما ذكرت مرارًا من قبل، كنت مقدِّرًا للغاية طيبةَ كاشيواغي أو ربما خباثته التي جعلتني أُقبِل على الحياة. فقد كنتُ أرى رؤيةً مؤكدة أنني — أنا الذي جرحتُ غمد خنجر زميلي الأقدم مني عندما كنت في المدرسة الإعدادية — غير مؤهل لدخول معترك الحياة من بابها الأمامي المشرق. فكان كاشيواغي هو أولَ صديق دلَّني على الطريق المظلمة التي تصلني بالحياة من بابها الخلفي المظلم. ومع أنه يبدو للوهلة الأولى مآله الهلاك، إلا أنه من الأفضل أن نعتبره أحدَ أنواع الخيمياء، فهو مفعَم بحيلٍ غير متوقَّعة، تُحوِّل الدناءة كما هي إلى شجاعة، وتُعيد ما يطلق عليه الرذائل إلى طاقة نقية وخالصة مرةً أخرى. ورغم ذلك، فإن الحقيقة أنها مع ذلك حياة. إنها حياة يمكن فيها التقدم للأمام والتنقُّل، والامتلاك والفقدان. حتى لو لم تكن حياة نموذجية، فهي تحتوي على كل قدرات ووظائف الحياة. فلو كانت تلك الحياة تعطينا، في مكانٍ ما لا يُرى في أعيننا نحن، كلَّ أنواع الحياة التي بلا هدف كمبدأ، فهذا يعني أكثرَ وأكثر أنها حياةٌ لها نفس قيمة الحياة العادية الأخرى.
أعتقد أنه لا يمكنني القول إن كاشيواغي ليس سكرانَ. مهما كان اعترافه بالكآبة، كنتُ أعرف منذ زمن بعيد أن ذلك الاعتراف نفسه غارق في السُّكر. ثم الذي يُسكِر البشر على أي الأحوال هو الخمر.
… كان المكان الذي جلسنا فيه هو تحت ظل زهور أزالية تآكلت وبهت لونها. لا أدري ما هو سبب أن فتاة المسكن صارت عندها رغبة مصاحبتي هكذا. ولكن لم أفهم — وأنا أستخدم متعمدًا تعبيرًا قاسيًا لوصف حالي — لماذا تقع فتاة في براثن الرغبة في تلويث نفسها. من المفترض أن في هذا العالم أمورًا لا تقاوم تمتلئ بالطيبة والخجل، ولكن تلك الفتاة وضعت يديَّ فوق يديها الصغيرتين المكتنزتين قليلًا، وكأنها ذباب تجمَّع على جسم شخص ينام في غفوة القيلولة.
ولكن أيقظ شهوتي قُبلة طويلة وملامسة خد الفتاة الطري. ومع أنه أمرٌ ظللت أحلُم به على مدًى طويل، ولكن كان الشعور الواقعي ضحلًا وضعيفًا، ودارت الشهوة في مدارٍ مختلف. كانت أشياء مثل السماء الغائمة بسُحب بيضاء، وضوضاء غابة الخيزران، واجتهاد حشرة الدعسوقة ذات السبع نقاط في تسلُّق أوراق زهرة الأزالية … كما هي دائمًا، متفرقة ومنفصلة بلا أي نظام كوني.
أنا على العكس حاولت أن أهربَ من جعل الفتاة التي أمام عيني هدفًا لشهوتي. يجب التفكير أن هذه هي الحياة. يجب التفكير أن تلك عقبةٌ كئود لا بد من تخطيها من أجل الامتلاك والتقدم للأمام. إذا أفلتت هذه الفرصة الحالية، فلن تأتيني الحياة مرةً أخرى وللأبد. ولكن عندما فكرتُ بهذه الطريقة، أعاقتني ذكريات عار التلعثم الهائل، عندما تقف الكلمة على طرَف لساني لا تستطيع الخروج لأن التلعثم يحجزها. كان يجب عليَّ أن أفتح فمي، وأقول أيَّ شيء ولو بتلعثم، كي أجعلَ الحياة مِلكًا لي. بُعِثَت مرةً ثانية في أذني كلماتُ تشجيع كاشيواغي القاسي لي: «تلعثم! تلعثم!» شجَّعتني تلك الصرخات غير اللبقة … وأخيرًا انزلقت يدي إلى طرف ثوب الفتاة.
في تلك اللحظة، ظهر المعبد الذهبي.
ذلك البناء المعماري الدقيق الكئيب المليء بالرهبة والجلال. ذلك البناء المعماري الذي يشبه جثةً لهيئته الفاخرة قديمًا نُزعت طلاؤها الذهبي في أماكنَ مختلفة منه. ظهر ذلك المعبد الذهبي الذي يبرز دائمًا واضحًا نقيًّا، والذي كلما اعتقدتُ أنه قريب، يبعُد ليكون على مسافة عصية على الفهم ذات أُلفة، ولكن مع وجود فجوة بيننا. وقف حائلًا بيني وبين الحياة التي أهدف إليها. بدا في البداية كأنه صورةٌ دقيقة صغيرة، وكلما نظرتُ إليه أصبح أكبر. ومثلما يمكن رؤية نموذج مناظر لمعبد ذهبي عملاق يحتوي العالَم كله تقريبًا داخل ذلك النموذج الدقيق البديع الصنع، أصبح المعبد الذهبي الذي ظهر أمامي يدفن كلَّ ركن من أركان العالَم المحيط بي، يملأ كل هذا العالم كما هو بنفس مقاسه. يملأ العالم وكأنه موسيقى ضخمة، وبتلك الموسيقى فقط، يحاول إعطاءَ العالم معناه الكافي. المعبد الذهبي الذي كان يُعتقد أحيانًا أنه يعتزلني لهذه الدرجة، ويقف شامخًا خارجي، الآن هو يحتويني ويلفني كاملًا وسمح بموضع قدم لي داخل تركيبته المعمارية تلك.
طارت فتاة المسكن بعيدًا وتضاءلت مثل ذرة غبار. إذا كانت الفتاة قد رفضها المعبد الذهبي فلا بد أنه رفض حياتي أيضًا. كيف لي أن أمدَّ يدي إلى الحياة وهذا الجَمال يحتوي كلَّ ركن حولي؟ من موقف الجَمال، هل كان لي حق التخلي واليأس؟ فمن المستحيل أن تلمس الخلود بأصابع إحدى يديك، وتلمس الحياة بأصابع اليد الأخرى. إذا كان معنى الفعل تجاه الحياة هو القسم بالإخلاص في لحظةٍ ما، وإيقاف تلك اللحظة في مكانها، فعلى الأرجح أن المعبد الذهبي كان يعلم ذلك تمامَ العلم، وفي وقتٍ خاطف ألغي إبعادي، وتجسَّد المعبد الذهبي ذاته في مثل تلك اللحظة، وجاء ليُعلمني عدم جدوى لهفتي للحياة. في الحياة، تُسْكِرنا اللحظة التي تتجسَّد في الخلود، ولكنها لا شيء إذا قارناها بمظهر الخلود الذي يتجسَّد في لحظة، وقد كان المعبد الذهبي يعلم ذلك تمامَ العلم، بدليل فِعله ما فعله وقتها. وهذا هو حقًّا الوقت الذي يمنع الوجود الأبدي للجَمال عيشنا، ويسمِّم حياتنا. لا يصمد الجَمال اللحظي الذي تُظهِره لنا الحياة من حين لآخر، أمام ذلك السُّم، فينهار بسرعة رهيبة ويندثر، والحياة ذاتها تصبح مستباحة تحت أشعة الاندثار الباهتة.
… لم يكن الزمن الذي احتواني فيه شبحُ المعبد الذهبي احتواء كاملًا وتامًّا طويلًا. وعندما عدتُ إلى وعيي، كان المعبد الذهبي قد اختبأ بالفعل. وأصبح مجرَّد بناء معماري يقبع كما هو في أرضِ كينوغاسا على الشمال الشرقي من هنا، ولا احتمال لإمكانية رؤيته. رحل وقت الوهم الذي تقبلني المعبد الذهبي بهذا الحال واحتواني فيه. كنتُ أرقد فوق قمة هضبة حديقة كاميياما، ولم يكن حولي مع أزهار الحشائش وأجنحة الحشرات البليدة، إلا فتاة وحيدة تنام على الأرض كما يحلو لها.
تجاه تأخُّري النفسي المفاجئ رمت الفتاة عليَّ نظرة باردة ونهضت بجسدها. وعوجت خَصرها وجلست ملتفتة إلى الخلف، وأخذت تنظر في مرآةٍ أخرجتها من حقيبتها. لم تقُل شيئًا، ولكن احتقارها، وكأنه أشواك سنابل الخريف، ينغرز في مسام جلدي كله بلا تفرقة.
تدلَّت السماء منخفضة. وبدأت قطراتُ مطر خفيفة تضرب أوراق الحشائش وزهور الأزالية التي حولنا. نهضنا واقفَين في عجلة وأسرعنا الخُطى في طريق الظليلة التي كنا فيها منذ قليل.
•••
لم يكن الانطباع الكئيب البارز الذي تبقى من ذلك اليوم بأكمله، بسبب انتهاء الرحلة الجبلية بهذا الحال البائس فقط. ففي نفس الليلة وقبل الخلود للنوم، وصلت لكبير الرهبان برقيةٌ من طوكيو، فقام بعرضها على الفور على كلِّ مَن في المعبد.
لقد مات تسوروكاوا. كان محتوى البرقية بسيطًا للغاية فكان المكتوب أنه مات في حادث، وما عرفته فيما بعدُ من تفاصيلَ كان كما يلي. في ليلة اليوم السابق للوفاة ذهب تسوروكاوا إلى بيت عمِّه في حي أساكوسا، وقُدِّم له الساكي وهو غير معتاد عليه. وعند عودته دهسته عربة نقل ظهرت فجأةً من شارع جانبي ضيق بجوار المحطة، فكُسرت جمجمته وتوفي في الحال. ولم تنتبه العائلة التي وقعت في بلبلة عظيمة، إلى ضرورة إرسال برقية لمعبد روكوؤنجي إلا في عصر اليوم التالي.
ذرفتُ الدموع التي لم أذرفها لموت أبي. وأعتقد أن السبب هو أن موت تسوروكاوا كان يرتبط بمشكلة ضرورية ملحَّة بالنسبة لي أكثرَ من موت أبي. بعد أن تعرفتُ على كاشيواغي كنت قد حجَّمت علاقتي مع تسوروكاوا ولكن بعد فقدانه الآن، فهمت أنني فقدتُ بعد موته الخيطَ الوحيد الذي يربطني بعالم النهار المشرق. لقد بكيتُ من أجل النهار المفقود، والضوء المفقود، والصيف المفقود.
ولم يكن معي نقود للذهاب إلى طوكيو على وجه السرعة لتقديم واجب العزاء. فلا يزيد مصروف الجيب الذي يعطيني إياه كبير الرهبان عن خمسمائة ين في الشهر. وأمي في الأصل فقيرة. أقصى ما تستطيعه هو إرسال ما بين مائتين إلى ثلاثمائة ين مرة أو مرتين في العام. وسبب بيعِ ما تركه أبي من إرث والذهاب إلى بلدة كاساغون لتعيش في كنف خالي، أنه لم يكن يمكنها بعد موت أبي المعيشةُ فقط بما يرسله أتباع المعبد من أرز المعونة بمبلغ خمسمائة ين في الشهر ودعم بلدية المحافظة الضئيل.
احترتُ كيف أتأكد في قلبي من موت تسوروكاوا دون رؤية جثته ودون الذهاب إلى جنازته. الآن يحترق جانب قميصه الأبيض الذي كان يتموَّج وهو يتلقى في الماضي أشعةَ الشمس المتسربة من بين الأشجار. مَن الذي يمكنه أن يتخيَّل أن ذلك الجسد وتلك الروح اللذين خُلقا فقط من أجل مثل تلك الأشعة، واللذين كانا يُليقان تمامًا بالأشعة، دُفنا في تربة القبر ويمكنهما الراحة. فلم يكن به ذرة من علامات الموت المبكِّر، وقد حمَته الطبيعة بأنه وُلد متخلصًا من القلق والكآبة، ولم يكن يحمل أيَّ صفة تنتمي أو تتشابه مع الموت بأقل القليل. وربما كان ذلك في الأصل هو سبب موته المفاجئ. ومثلما تكون حياة الحيوان النقي الدم في خطر، ولأن روح تسوروكاوا مخلوقة فقط من عنصر الحياة النقي ربما لم يكن لديه حيلة لتفادي الموت. وإذا كان الأمر كذلك فأنا على العكس تمامًا، يُعتقد أنني موعود بطول عمر ملعون.
كانت تركيبة العالم الشفاف الذي كان يسكن فيه تسوروكاوا، في كل الأحوال لغزًا بالنسبة لي، ولكن من خلال موته صار اللغز أكثرَ رعبًا. كان عالمه شفافًا تمامًا مثل زجاجٍ لا تراه من شدة شفافيته فتصطدم به، وهكذا حطَّمته عربة النقل التي خرجت مسرعة من جانب الطريق. يحقِّق موت تسوروكاوا، الذي لم يكن موتًا بسبب المرض، بدرجة كبيرة هذا التشبيه، موت بسبب حادث كموتٍ نقي، كان يليق تمامًا لتركيبة حياته النقية التي لا يمكن مقارنتها بشيء. التلامس من خلال تصادم لحظي ضئيل للغاية، جعل حياته تذوب مع موته. تأثير كيميائي فوري … لا شك أنه لم يكن يمكن لذلك الشاب الغريب الذي لا يملك ظلًّا، لكي يربط موته مع ظله إلا بهذه الطريقة الزائدة في العنف.
حتى لو كان العالم الذي يعيش فيه تسوروكاوا يمتلئ بالمشاعر المشرقة والنيَّات الحسنة، لكن يمكن القول قولًا قاطعًا إنه لم يسكن في ذلك العالم من خلال سوء تفاهم أو قرار طائش. لقد دُعم قلبه المشرق الذي لا ينتمي إلى هذا العالم، بقوة مرونة واحدة صارت كما هي قانون حركته. كانت طريقته في ترجمة مشاعري المظلمة واحدة بعد أخرى إلى مشاعر مشرقة، في غاية الدقة بدرجةٍ ليس لها مثيل. أحيانًا ما كنت أشكُّ في أن تسوروكاوا قد خبر بإخلاص وتفانٍ قلبي، بسبب شدة إضاءة إشراقه لظلامي في كل ركن من أركانه، وشدة إظهاره لتباين التفاصيل. ولكن لم يكن الأمر كذلك! فقد كان إشراق عالمه نقيًّا وفي نفس الوقت غير عادل، وتكوَّن ذلك في نظامٍ جسديٍّ دقيقٍ ومفصَّل، وربما اقتربت تفاصيل تلك الدقة تقريبًا من نفس تفاصيل دقة الشر. وربما كان ذلك العالم المشرق الشفاف لينهار سريعًا، لو لم تسنده قوة ذلك الجسد المتين بممارسة الرياضة بلا انقطاع. لقد ظلَّ تسوروكاوا يجري بكل طاقته. ثم دهست عربةُ نقل ذلك الجسد.
قادتني تلك الملامحُ النابغة التي كانت منبعَ إعطاء الناس توقُّعًا جيدًا عن تسوروكاوا، وذلك الجسد الممتلئ حيويةً اللذان فُقدا الآن، إلى أفكار سحرية عن الجزء المرئي من الإنسان. فكرتُ في غرابة أن شيئًا موجودًا، يُفعِّل قوة مشرقة بهذه الدرجة بمجرد أن تراه أعيننا. وأنه من أجل أن تملك الروح ذلك الإحساس غير المتكلف بالوجود الواقعي لهذه الدرجة لا بد أن تُعلِّم الجسد الكثير. يقال إن الزِّن يجعل العدم جسدًا، ومعرفة أن قلبك عدَمٌ لا شكل له ولا ملامح هو بحق الوعي بالذات، ولكن من المفترض أن تكون قدرة الوعي الذاتي التي تصل إلى درجة رؤية العدم كما هو على طبيعته، هي على الأرجح أقصى درجات حِدة الإحساس تجاه جاذبية الشكل. كيف يستطيع الشخص الذي لا يستطيع رؤيةَ الوجود بإحساس اللاأنا الحاد، معرفةَ العدم أو اللاوجود بهذه الدرجة من الوضوح. وهكذا، عندما يُفقد الشيء الذي يصدِر أشعةً بمجرد وجوده، الشيء الذي يُلمس باليد ويُرى بالعين، أي ما يجب أن نطلق عليه الحياة من أجل الحياة فقط، مثل تسوروكاوا الآن، تكون هيئته الواضحة تلك هي المجاز الأكثر وضوحًا لشكل العدم غير الواضح، وجوهر ذلك الوجود هو النموذج الأكثر واقعيةً للعدم الذي بلا شكل، بل يُعتقد أنه لم يَزِد عن مجرد هذا المجاز. مثلًا تشابهه هو وزهور شهر مايو وملاءمتها له، جعلها هي الزهور التي أُلقيت داخل تابوته من خلال موته المفاجئ في شهر مايو هذا ولا شيء غيره.
على أي حال، كانت حياتي تنقصها رمزية مؤكدة مثل حياة تسوروكاوا. ومن أجل ذلك، كنت أحتاج وجوده بجانبي. وكذلك الأمر الذي يجعلني في غَيرة شديدة منه، أنه أنهى حياته دون أن يحمل أقلَّ القليل من الفردية أو الوعي بأنه يحمل على عاتقه مهمةً فردية، مثلما كنت أفكِّر أنا. تلك الفردية بالذات، هي التي سلبت رمزيةَ الحياة منه، أي سلبت رمزية إمكانية جعل حياته مجازًا لشيء آخر، وبالتالي سلبت إحساس امتداد وتضامن الحياة، وكانت هي المنبع الأصلي الذي يلد الوحدة التي تطارده في كل مكان. وإنه لمن العجيب أنني لم أملك تضامنًا حتى مع العدم.
•••
بدأت وحدتي مرةً أخرى. فلم أقابل فتاة المسكن بعد ذلك، ولم أصحب كاشيواغي بأُلفة مثلما كنا في السابق. لقد أمسكتْ جاذبية طريقة حياة كاشيواغي بي بدقة، ولكن كنت أشعر أن البعد عنها ومقاومتها ولو بدرجة ضئيلة، حتى لو كان ذلك ضد إرادتي، هو وفاء لذكرى تسوروكاوا. أرسلتُ إلى أمي خطابًا وكتبت إليها فيه بحسمٍ ألا تأتيَ لزيارتي إلا بعد أن أُصبح راهبًا. كان ذلك ما سبق أن قلته شفويًّا لأمي وجهًا لوجه، ولكني أحسستُ أنني لن أرتاح إذا لم أكتبه وأرسله لها مرةً أخرى بنبرةٍ أقوى وعبارات أشد. كان الرد عبارة عن جُمل متبعثرة متلعثمة، عن أنها مشغولة في مساعدة خالي في أعمال الزراعة، وفي النهاية كتبت النصائح التربوية البسيطة والمزعجة وأنهت الخطاب بالجملة التالية: «أريد أن أموت بعد أن أراك قد أصبحت كبيرَ رهبان معبد روكوؤنجي.» كرهتُ تلك الجملة، وظلَّت تقلقني عدة أيام بعد ذلك.
ولم أزُر أمي في مكان إقامتها عند خالي، خلال هذا الصيف أيضًا. وعانى جسدي مع الصيف بسبب الوجبات الفقيرة. ذلك اليوم من شهر سبتمبر الذي مرَّ منه عشرة أيام، كانت ثمَّة توقُّعات مناخية بهجوم إعصار ضخم. تقرَّر أن يبيت أحدُنا ليلًا في المعبد الذهبي، فتطوعتُ أنا لأقوم بذلك وتوليت الأمر.
ويُعتقد أنه من ذلك الوقت تولَّد تغيُّر طفيف في مشاعري تجاه المعبد الذهبي. ليست مشاعر كراهية، ولكنه توقُّع أن الشيء الذي بدأ ينبت تدريجيًّا داخلي سيأتي وقتٌ يستحيل فيه مطلقًا التوافق مع المعبد الذهبي. وقد صار هذا الأمر واضحًا جليًّا، منذ ما حدث في حديقة كامياما، ولكني كنت أخاف أن أضعَ لهذه الحالة اسمًا. ولكن في نوبة الحراسة الليلية كنت فرحًا مسرورًا من جعل المعبد الذهبي في عهدتي ليلةً كاملة، ولم أُخفِ سعادتي بذلك.
كان الراديو يعلن كلَّ ساعة عن اقتراب الإعصار، ولكن لم يكن هناك أيُّ بوادر على ذلك مطلقًا. ووقت العصر توقَّفت الأمطار التي كانت تهطل من وقتٍ لآخر وصارت السماء صافية، وفي سماء الليل صعِد القمر في هيئة بدرٍ كامل لا تخطئه العين. خرج رهبان المعبد إلى الحديقة ليشاهدوا حالةَ السماء تلك، وتناقلوا الحديثَ المشهور أن هذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة.
كان المعبد يرزح تحت الهدوء، وأنا وحيد في المعبد الذهبي. وعندما أكون في مكانٍ لا يصل إليه ضوء القمر، تصيبني نشوة التفكير أنني محاط بظلام المعبد الذهبي الفاخر الثقيل. غمرني ذلك الإحساس بذلك الواقع الفعلي تدريجيًّا للأعماق، وصار كما هو كأنه شبحٌ وهمي. وعندما انتبهت، أدركتُ أنني داخل ذلك الوهم الذي باعد بيني وبين الحياة في حديقة كاميياما.
كنتُ بمفردي وحيدًا، وكان المعبد الذهبي يحيطني إحاطةً مطلقة. هل أقول إنني كنت أمتلك المعبد الذهبي، أم أقول إن المعبد الذهبي هو الذي يمتلكني؟ أم إنه حدث بيننا مساواةٌ نادرًا ما تحدث، هل كان الأمر محاولةَ جعل حالة أن أكون أنا المعبد الذهبي ويكون المعبد الذهبي هو أنا، ممكنة؟
ازدادت الرياح وقويت عند الساعة الحادية عشرة والنصف ليلًا. صعدتُ درجات السُّلم وأنا أعتمد على المصباح اليدوي، ووضعت المفتاحَ في فتحة قُفل القاعة العلوية.
وقفتُ أستند بظهري إلى درابزين سلالم الكوكيوتشو. كانت الرياح جنوبية شرقية. ولكن لم تظهر تغيُّرات على السماء بعدُ. كان القمر يتلألأ على سطح بِركة كيوكوتشي بين الطحالب والأعشاب، وتسيطر على المكان أصواتُ الحشرات والضفادع.
عندما اصطدمت ريحٌ قوية بخدودي في البداية، اجتاحت جلدي تقريبًا حالة من الذهول يمكن أن نطلق عليها الحسي الشبقي. ازدادت الرياح كما هي دون حد أو نهاية مثل الزعابيب العنيفة، وجعلتني أشعر وكأنها ستوقِع المعبد الذهبي. كان قلبي داخل المعبد الذهبي، وفي نفس الوقت كان فوق الرياح. لم يملِك المعبد الذهبي الذي يضع مقاييسَ تركيبية عالمية، وستائر تهتزُّ مع اهتزاز الرياح، وكان يستقبل تدفُّق أشعة القمر، برباطة جأش. ولكن لا ريب أن إرادتي الآثمة والرياح قادرتان في وقتٍ ما على هزِّ المعبد الذهبي وإيقاظه وسلب المعبد الذهبي معنى وجوده المتكبر والمتعجرف، في اللحظة التي يسقط فيها منهارًا.
لقد كنتُ في ذلك الوقت محاطًا بالجَمال، كنتُ بالفعل داخل الجَمال، ولكن ثمَّة شك في هل كان الجَمال يحيطني إحاطةً كاملة إلى هذه الدرجة؟ حيث لم تسندني إرادة الرياح العنيفة الآثمة التي تزيد بلا حد ولا نهاية. مثلما لامني كاشيواغي بشدة عندما صرخ فيَّ: «تلعثم! تلعثم!» كنتُ أُضرب بسياط، وجربتُ أن أصرخ بكلماتِ تشجيعٍ فرس أصيل.
«كن قويًّا! كن قويًّا! أسرِع! بقوة أكبر!»
بدأتِ الغابة في الصياح بصخب. وتتلامس أفرع الأشجار التي على حافة البِركة. فقدَت سماء الليل لونَها الأزرق الهادئ، وتعكَّر لونها بلون رصاصي غامق. ورغم أن زقزقة الحشرات لم تضمحل، ولكن اقتراب صوت الرياح من بعيد كأنه صوت ناي سحري خلاب، جعل تلك الأصوات تتميز أكثرَ وتبرُز أكثر.
رأيت الغيومَ الكثيرة التي أمام القمر تطير. جاءت الغيوم من الجبال البعيدة، كأنها جيشٌ عملاق واحدةً بعد أخرى، تتَّجه من الجنوب إلى الشمال. كانت بينها غيوم كثيفة. وكذلك غيوم خفيفة وغيوم ضخمة. وغيوم كقطع صغيرة متعددة. كل تلك الغيوم جميعًا تظهر من الجنوب، وتمرُّ أمام القمر، وتغطي سطح المعبد الذهبي، وكأنها تسرع للحاق بشيءٍ ما، تذهب مسرعةً إلى الشمال، حتى ظننتُ أنني أسمع صياحَ طائر العنقاء الذهبي الذي فوق رأسي.
هدأت الرياح فجأة، ثم قويت مرةً أخرى. أرهفتِ الغابة أذنَها بحساسية لتسمع، فتهدأ ثم تهجُّ زاعقة. وفي كل مرة، يُظلِم ظل القمر على البركة ثم يضيء، وتتقلص الأشعة المتناثرة، في بعض الأحيان، وتُزيل بسرعةٍ هائلةٍ ما على سطح البِركة.
انتشرت تعقيدات الغيوم الكامنة في الجبال البعيدة، على سطح السماء وكأنها يدٌ كبيرة، كانت مهولة وهي تقترب مكفهرة مزمجرة. ومرةً ثانية غطَّى الغيم سريعًا نصف السماء الذي كان يبدو واضحًا صافيًا في فترة توقُّف الغيوم. ولكن عندما يمر منها غيمٌ رفيع للغاية، نستشف منه القمر، ويمكننا النظر إليه يرسم هالةً من الضوء المعتم.
وهكذا كانت السماء أيضًا تتحرك طوال الليل. ولكن لم تتجمَّع الرياح بزيادة أكثر من ذلك. نمتُ أنا أسفل الدرابزين. وفي الصباح الباكر الصحو، جاء راهب عجوز من رهبان المعبد، ليوقظني وقال لي إن الإعصار لحسن الحظ انحرف مسارُه بعيدًا عن مدينة كيوتو.