الفصل السادس

لقد أقمتُ الحِداد ما يقرب من العام على تسوروكاوا. كنتُ إذا بدأت الوحدة، أتعوَّد عليها بسهولة، وعرفتُ مرةً أخرى أنني لا أحتاج إلى بذل أي جهد للعيش دون أن أتبادل كلمةً مع أحد. ورحلت عني الحَيرة تجاه الحياة. وكانت أيام الموت ممتعة.

وصارت مكتبة الجامعة هي مكان متعتي الوحيد، ولكني لم أقرأ فيها كتب الزِّن، بل كنت أقرأ ما تصل إليه يدي من الروايات وكتب الفلسفة المترجَمة. وأنا في حرجٍ من ذكر أسماء الروائيِّين والفلاسفة الذين قرأت لهم. فأنا أعترف أن لهم عليَّ تأثيرًا، وأن هذا التأثير كان سببًا لِما فعلته فيما بعدُ حتى ولو بمقدار قليل. ولكنني أريد أن أُومن أن الفعل ذاته من ابتكاري أنا. وأكثر من أي أمر آخر لا أريد لهذا الفعل أن يتم تفسيره وإرجاعه إلى أن يكون من تأثير فلسفةٍ ما موجودة بالفعل.

كما ذكرتُ من قبل، منذ فترة الصبا، وأنا أعتبر عدمَ فهم الناس لي هو الأمر الوحيد الذي أفخر به، ولم يكن لديَّ أيُّ دافع لكي أعبِّر عن نفسي تعبيرًا يجعلني مفهومًا. لقد كنت أحاول بلا أي اعتبار جعْل نفسي أكثرَ وضوحًا، ولكن من المشكوك فيه هل كان ذلك يأتي بدافع الرغبة في فهمِ النفس أم لا؛ لأن مثل هذا الدافع يتبع غريزةَ الإنسان الطبيعية فيكون هو الجسر الذي يعلِّقه الشخص بينه وبين الآخرين. لقد كان السُّكْر الذي يعطيه لي جَمال المعبد الذهبي يجعل جزءًا مني غير شفاف، وكان ذلك السُّكر يسلبني من كل أنواع السُّكر المتنوعة الأخرى، ولذا من أجل مقاومته، كان يجب عليَّ تأمين جزء آخر واضح خلال من إرادتي الذاتية. هكذا، ولا أدري عن الآخرين بالنسبة لي، كان الوضوح هو ذاتي، والعكس صحيح، بمعنى أنني لم أكن شخصًا يملك ذاتًا واضحة.

… كان ذلك في إجازة الربيع التي أصعد بعدها إلى السنة الثانية من المرحلة التمهيدية للجامعة في عام ١٩٤٨. في المساء كان كبير الرهبان كالعادة خارج المعبد، ولم يكن أمامي أنا الذي ليس لي صديقٌ سوى قضاء ذلك الوقت الحر الثمين في التنزُّه. دلفتُ من البوابة العمومية خارجًا من المعبد. كان الجانب الخارجي من البوابة العمومية محاطًا بخندق، وعلى جانب الخندق ثمَّة اللوحة الرسمية.

ورغم أنني اعتدتُ رؤيتها منذ زمن بعيد، ولكنني نظرت إلى الخلف وقرأت حروفَ اللوحة الرسمية القديمة التي أضاءها القمر حرفًا حرفًا كما هي.

تحذير

(١) حذارِ من تغيير الحالة الراهنة دون الحصول على تصريح مسبق.
(٢) يُمنع ارتكاب أي فعل يؤدي إلى إحداث تأثير على بيئة هذا المكان.
تم تحذيركم بالتحذير أعلاه.
ومَن يرتكب تلك الأفعال، فسيُعاقَب طبقًا لقوانين الدولة.
١٩٢٨/٣/٣١
وزارة الداخلية

من الواضح أن هذه اللوحة تتحدَّث عن المعبد الذهبي. ولكن دون معرفة ذلك، لا يُعتقد إلا أن المعبد الذهبي الخالد يقع في مكانٍ مختلف بعيدًا عن تلك اللوحة التحذيرية ذات الجُمل التجريدية. تشير هذه اللوحة نوعًا ما إلى فعلٍ غير مفهوم أو مستحيل. لا شك أن المشرِّع احتار في تلخيص نوع ذلك الفعل على الأرجح. من أجل وضعِ عقابٍ لفعلٍ لا يخطِّط له إلا مجنون، كيف يمكن لك أن تهدِّد ذلك المجنونَ قبل قيامه بفعله هذا؟ على الأرجح هناك ضرورة لأن تصبح تلك الكلمات لا يمكن قراءتها إلا لمجنون.

أثناء تفكيري في هذا الأمر التافه، كان شخصٌ يسير على الطريق المعبَّدة الواسعة التي أمام البوابة في اتجاهي. لقد اختفت تمامًا جماعاتُ زوار النهار، فقط تحتل هذه المنطقة في المساء، أشجار الصنوبر التي ينيرها ضوء القمر، وانعكاسات الإنارة الأمامية للسيارات التي تسير متضادة الاتجاه في طريق الترام البعيدة.

فجأة عرفت أنه ظلُّ كاشيواغي. لقد عرفته بالطبع من طريقته في المشي. ثم عندها تغاضيتُ عن فترة العام الطويلة التي كنت قد قرَّرت أنا البُعد عنه خلالها، وتذكَّرت فقط شعور الامتنان والشكر لِما سبَّبه لي من مواساة وتعزية في الماضي. حقًّا أنه واسى شعور الإعاقة لديَّ منذ أن قابلته لأول مرة وهو بتلك القدم الحَنْفَاء القبيحة، وكلماته التي تجرح الشعور بلا أي اعتبار، وبذلك الاعتراف التام الذي اعترفه لي. ويُفترض أنني وقتَها أدركت لأول مرة فرحةَ التحدُّث بندِّية. من المفترض أنني تذوَّقت فرحةً تشبه ارتكاب الشرور وأنا أغطس جسمي في قاع الوعي المؤكد لكوني راهبًا وفي نفس الوقت متلعثم. وهذا على العكس من علاقتي مع تسوروكاوا حيث كنت معتادًا إزالةَ كلا الوعيَين.

استقبلت كاشيواغي بوجه مبتسم. كان يرتدي الزيَّ الجامعي الرسمي ويحمل في يده لفةً رفيعة وطويلة. سألني:

«هل كنت على وشْك الخروج؟»

«لا …»

«حسن أنني استطعت لقاءك. في الواقع …»

جلس كاشيواغي على الدرجة الحجرية، وفتح اللفة التي في يده. فظهر ناي يلمع لمعانًا أسودَ.

«منذ فترة توفِّي عمي الذي يعيش في قريتنا، وأخذتُ هذا مما تركه. ولكن أنا معي نايِيَ الذي أهداه له عمي منذ فترة طويلة عندما تعلَّمت على يديه، ورغم أنه يقال إن هذا الناي تحفةٌ ثمينة، إلا أنني أفضِّل الذي اعتدته، ولن يفيدني وجودُ اثنين معي فجئتُ به لأعطيَك إياه.»

لم يسبق لي أن تسلَّمت هديةً من أحد؛ لذا كانت الهدية مفرحة لي بشدة بغضِّ النظر عن محتواها. أخذته في يدي وجرَّبت مسْكَه. الفتحات أربعٌ في الأمام وواحدة في الخلف.

أكمل كاشيواغي فقال:

«إن طريقتي في العزف تتبع مدرسة كينكو. القمر اليوم جيد، وهو أمرٌ نادر، ولذا جئتُ راغبًا في العزف عند المعبد الذهبي، وهي فرصةٌ لك كذلك لأن تتعلَّم …»

«أجل إن اليوم الفرصةُ متاحة. فكبير الرهبان في الخارج والعجوز متكاسلٌ لم ينهِ التنظيف بعدُ؛ لأنه يغلق بوابة المعبد الذهبي بعد انتهائه من التنظيف.»

كان ذلك كلُّه خيانةً لصورة كاشيواغي التي أعرفها، من مفاجأة ظهوره غير المتوقَّع، إلى مفاجأة طلبه العزف في المعبد الذهبي لأن الليلة قمرية جميلة. ورغم ذلك كان مجرد مفاجئتي بهذا الشكل سببًا لسعادتي، مقارنةً بحياتي اليومية الرتيبة. أمسكتُ الناي الذي أهداه لي وصحِبته إلى المعبد الذهبي.

لا أتذكَّر عن ماذا تحاورنا أنا وكاشيواغي في ذلك المساء. على الأرجح لم نتحدَّث في أمرٍ ذي بال. وما من بوادرَ على أن كاشيواغي سيتكلم عن فلسفته العجيبة أو نظرياته العكسية المسمومة.

ربما أتى كاشيواغي خصوصًا لكي يريني جانبًا آخرَ من شخصيته لم أكن أتخيَّل وجوده. لقد أظهر لي هذا الناقد اللاذع اللسان المنجذب إلى هواية تلويث وازدراء الجَمال، جانبًا آخرَ له في منتهى الرقة والرهافة. لقد كان يحمل عن الجَمال نظريةً دقيقة ومحكمة أكثرَ مني بكثير جدًّا جدًّا. حكى لي ذلك، ليس من خلال الكلمات، ولكن من حركة جسمه وعيونه، ودوْزَنة الناي بالنفخ فيه، وكذلك من خلال جبهته التي ينيرها ضوء القمر.

استندنا بظهرينا إلى درابزين طابق تشوندو الثاني. وتبرُز الحافة الجانبية لإفريز السقف العميق المنحني برفق، معتمدةً على ثماني أقواس على طراز تنجيكو، ومقتربة من البِركة التي سكن فيها القمر.

عزف كاشيواغي في البداية الأغنية القصيرة «عربة القصر الإمبراطوري» ولقد اندهشتُ من براعته في العزف. قلدتُه بوضع شفتَيَّ في فتحة النفخ بالناي، ولكن لم يصدُر صوتٌ. بدأ يعلِّمني بعناية شديدة من أول طريقة الإمساك بالناي وأن تكون يدي اليسرى في الأعلى، وأن أجعل مَسند الفك عند حدود ذقني، وأيضًا طريقة فتح شفتيَّ اللتين ألمس بهما فتحةَ الناي، وكيفية نفْخ الهواء ببطء في تلك الفتحة. حاولت فِعل ذلك عدةَ مرات ولكن لم يخرج صوت. أحسستُ بتشنُّج في خدَّيَّ وعينيَّ وأن القمر الساكن في البركة يبدو وكأنه ينفطر إلى ألف قطعة رغم عدم وجود أي ريح.

بعد أن بلغ بي الإرهاق مداه، بدأ يتسرب إليَّ الشك في أن كاشيواغي تعمَّد أن يغصبني على هذا التدريب القاسي من أجل أن يسخر من تلعثمي في النطق. ولكن تدريجيًّا بدأتُ أعتقدُ أن الجهد البدني الذي يحاول إخراج ذلك الصوت الذي لا يخرج، يُنقِّي الجهد الذهني المعتاد حين أحاول إخراجَ بداية الكلمات بسلاسة مخافةَ التلعثم. اعتقدتُ أن الصوت الذي لا يخرج موجودٌ بالفعل وبدرجةٍ مؤكَّدة في مكانٍ ما من هذا العالم الهادئ الذي ينيره ضوء القمر. كان فقط المطلوب مني هو الوصول إلى ذلك الصوت في نهاية جهودٍ متنوِّعة، وإيقاظه.

تُرى ما الوسيلة لجعل ذلك الصوت يصل إلى الصوت السحري الذي يعزفه كاشيواغي؟ ليس إلا التدريب المتواصل هو الذي يجعل ذلك ممكنًا؛ فالجَمال هو تدريب متواصل، وكما وصل كاشيواغي رغم قدَمه الحَنْفَاء القبيحة تلك، إلى نوع صوت جميل صافٍ هكذا، أنا أيضًا أستطيع الوصولَ إلى ذلك من خلال التدريب المتواصل فقط، أعطت هذه الفكرة لي شجاعة. ولكن تولَّد داخلي وعيٌ مختلف. ألا يكون سببُ قدرتي على سماع عزف كاشيواغي للحن «عربة القصر الإمبراطوري» بهذا الجَمال بغضِّ النظر عن الخلفية الرائعة لليلة القمرية، هو من أجل قدَمه الحَنْفَاء القبيحة تلك؟

ثمَّة أمرٌ عرفته من خلال توطُّد علاقتي بكاشيواغي، وهو أنه يكره الجَمال المستديم طويلًا. فالأشياء التي يحبُّها تنحصر في الموسيقى التي تختفي على الفور، أو فن تنسيق الزهور التي تذبل خلال أيام، ولكنه يكره المباني المعمارية والأدب. ولا شك أنه جاء إلى هنا طالبًا فقط المعبد الذهبي خلال فترة إنارته بضوء القمر. على كل حال إن جَمال الموسيقى شيءٌ عجيب! إن هذا الجَمال القصير الذي يبدِعه العازف، يُغيِّر فترةً زمنية محدَّدة إلى استمرارية خالصة، ولكن ذلك لا يكون تكرارًا مؤكدًا، بل يكون تجريدًا كاملًا للحياة ذاتها وخَلْقًا لها، مثل حياة كائن حي قصيرة كذبابة مايو. ما من شيء يشبه الحياة مثل الموسيقى، وما من جَمال يبدو محتقرًا للحياة وبعيدًا عنها مثل جَمال المعبد الذهبي، رغم أنه نفس الجَمال. في اللحظة التي أنهى فيها كاشيواغي عزْفَ «عربة القصر الإمبراطوري»، ماتت الموسيقى، تلك الحياة الخيالية، وتبقَّى مرةً أخرى ذلك الوعي المظلم الكئيب بجسده القبيح، دون أن يُجرَح ولو قليلًا أو يتغيَّر للأحسن.

ما يطلبه كاشيواغي من الجَمال لم يكن المواساةَ ولا التعزية! فهمت أنا ذلك دون أن يقوله أو يتحدَّث عنه. كان يحب بقاء قدَمه الحَنْفَاء ووعيه المظلم، أزيدَ عمَّا قبلُ وأوضحَ وبها جِدَّة، بعد فترة طويلة من الجَمال الذي يصنعه في وسط السماء نَفَسُه المتجدِّدُ الذي ينفخه في فتحة الناي من خلال شفتَيه. كان الذي يحبُّه كاشيواغي هو إيمانه بعدم فائدة الجَمال، ومرور الجَمال عبر جسده دون أن يترك أثرًا، وألا يغير ذلك أي شيء مطلقًا. لو كان الجَمال له نفس المعنى بالنسبة لي أنا، فلا ريب أن حياتي كانت ستكون أكثرَ خفةً واحتمالًا.

… لقد جربتُ فعلَ ما يعلِّمني إياه كاشيواغي أكثرَ من مرة دون ملل أو كلل. ولكن ملأتِ الدماء عروقَ وجهي، وأصبحت أنفاسي متقطعة. عندها خرج من الناي أولُ صوت عميق يتردَّد صداه، وكأنني أصبحتُ فجأةً طائرًا، تتسرب من حنجرتي زقزقة طائر.

«هو ذا.»

صاح كاشيواغي بذلك وهو يضحك. لم يكن صوتًا جميلًا بتاتًا، ولكن تتابع خروج صوت مماثل. وقتها، من ذلك الصوت السحري الذي لا يمكن الاعتقاد أنه صوتي، كنت أرى حُلمًا بأنه صوت طائر العنقاء البرونزي الذي فوق رأسي.

•••

وبعد ذلك تعجَّلت في رفع مستواي في عزف الناي كلَّ يوم، اعتمادًا على كتاب التعليم الذاتي الذي أعطاني إياه كاشيواغي. ومع بدء عزْفي لأغنية «اصبغ عَلم اليابان بأرض بيضاء وشمس حمراء» يصبح جيدًا، عادت علاقتي الحميمية بكاشيواغي إلى سابق عهدها.

فكَّرت في شهر مايو، أنني يجب أن أردَّ جميل الناي بشيءٍ ما. ولكنني لا أملك مالًا. وعندما تشجَّعت وقلت ذلك لكاشيواغي، ردَّ بأنه لا يريد شكرًا بشيء يكلِّف مالًا، ثم عوج طرَف فمه بطريقة غريبة وبدأ يقول ما يلي:

«حقًّا! إذا كنتَ تقول ذلك فعلًا فيجب ألا أرفض، فثمَّة شيء أريد الحصول عليه. فأنا أريد مزاولةَ فن تنسيق الزهور، ولكن الزهور غالية السعر في هذا الوقت. إنه موسم تفتُّح زهرات السوسن والأقحوان في المعبد الذهبي، أليس كذلك؟ هل يمكن أن تحضِر لي أربعًا أو خمسًا من زهْر الأقحوان مثل البراعم والزهور التي بدأت تتفتح، وكذلك أريد ستة أو سبعة أعواد من نبات الكُنْباث. ولا مانع أن يكون ذلك الليلة. هل يمكنك أن تذهب الآن وتأتيَ بهم؟»

بعد أن قبِلت ذلك بسهولة ودون وعي، انتبهتُ إلى أنه في الواقع يحثُّني على السرقة. ثم من أجل المحافظة على ماء وجهي أمامه وجب عليَّ أن أصبح سارقَ زهور بأي حال كان.

كان طعام العشاء في تلك الليلة بلا أرز. بل كان خبزًا شديدَ السواد ثقيلَ الوزن وخضراوات مسلوقة ومنقوعة في صوص. ومن حسن الحظ أنه كان يوم السبت، وما من تدريبِ تأمُّلٍ للزِّن بعد الظهر، وخرج من المعبد مَن وجب عليه الخروج. وهذه الليلة تُدعى «وضع الوسادة في الداخل» فيمكن للشخص أن ينام مبكرًا ويمكنه كذلك أن يذهب خارج المعبد حتى الساعة الحادية عشرة مساءً، وعلاوةً على ذلك يمكن التأخُّر في الاستيقاظ صباحًا باسم «النسيان في النوم». وقد خرج بالفعل كبير الرهبان.

غربت الشمس أخيرًا بعد الساعة السادسة والنصف. وبدأ هبوب الريح. وانتظرتُ دقَّ ناقوس بداية الليل. في الساعة الثامنة، تردَّد صوت صدى الدقات الثماني عشرة لبداية الليل، ذلك الصوت النقي الصافي العالي الذي تستمر توابعه إلى ما لا نهاية، والذي يصدره الناقوس الأصفر الذي يقع في الناحية اليسرى من البوابة الوسطى.

بجوار طابق سوسيه في المعبد الذهبي، ثمَّة شلالٌ صغير تصبُّ من خلاله مياه مستنقع اللوتس في بِركة كيوكو، ويحيط به سور حديدي نصف دائري. وفي تلك المنطقة تنبت زهور السوسن. الزهور خلال هذه الأيام القلائل جميلة على الأغلب.

عندما ذهبت إلى هناك كانت عناقيدُ زهور السوسن تصخب مع نسائم الليل. وكانت البَتَلات البنفسجية التي ارتفعت عاليًا تهتز وسط خرير الماء الهادئ. كان الظلام عميقًا في تلك المنطقة، وبدا اللون البنفسجي ولون الخضرة الغامق يُرَيان بلون أسود. حاولتُ أن أمسك ببضع زهرات من السوسن. ولكن الزهرات والأوراق أفلتت من يدي محدِثةً صخبًا مع الريح، وجرحت إحدى الأوراق إصبعي.

عندما زرتُ مسكن كاشيواغي وأنا أحمل زهورَ السوسن والكنباث، كان مستلقيًا على الأرض يقرأ كتابًا. كنتُ أخاف من ملاقاة فتاة المسكن ولكن يبدو أنها كانت خارج البيت.

جعلتني تلك السرقة الصغيرة أحسُّ بمتعة حيوية. كانت علاقتي بكاشيواغي، تجعلني دائمًا أشعر بخيانة صغيرة للأخلاق، وازدراء صغير للمقدَّس وشرور صغيرة، وكان يصاحب ذلك متعةٌ حية بدرجة مؤكدة، وكنتُ لا أدري هل إذا زاد حجم تلك الشرور يزداد معها حجمُ المتعة الحية إلى ما لا نهاية أم لا؟

أخذ كاشيواغي هديتي بفرحة كبيرة نوعًا ما. ثم ذهب إلى صاحبة المسكن ليستعيرَ منها قاعدة ماء ودلوًا يستخدمها في جلب الماء. كان البيت عبارة عن طابق واحد وله غرفة منفصلة مساحتها أربعٌ ونصف من حصير التاتامي.

أخذتُ النايَ الخاص به الذي كان موضوعًا في مكان الزينة بالغرفة ووضعته على شفتي، وحاولتُ أن أعزف لحنًا تدريبيًّا قصيرًا، فكان أن نجحت في ذلك مما أدهش كاشيواغي الذي عاد. ولكن لم يكن كاشيواغي في تلك الليلة هو نفسه الذي جاء إلى المعبد الذهبي.

«مع الناي لا تتلعثم على الإطلاق. لقد كان هدفي من تعليمك العزفَ على الناي، سماعَ ألحان متلعثمة.»

بتلك الجملة، رجعنا إلى نفس الموقع الذي كنا فيه عند لقائنا للمرة الأولى. وعند ذلك استطعتُ أن أسأله بارتياح عن فتاة المنزل الذي على الطراز الإسباني التي سبق ذكرُها.

«آه، تقصد تلك الفتاة؟ لقد تزوجتْ منذ زمن بعيد.»

أجاب ببساطة متناهيةٍ ثم أضاف:

«لقد علَّمتها بالتفصيل الممل الطريقةَ التي لا تنكشف بها أنها ليست عذراء، ويبدو أن عريسها كان متزمتًا، ليس له في اللعب واللهو، ولذا سارت الأمور على ما يرام.»

كان وهو يقول ذلك يُخرج زهور السوسن الغارقة في الماء زهرةً بعد زهرة على حدة، ويتأمَّلها في عناية كبيرة، ويضع المقصَّ في الماء، ثم يقص الساق داخل الماء. ظِلُّ زهرة السوسن الممسوكة بيده كان يتحرك بكثرة فوق التاتامي. ثم مرة ثانية قال فجأة:

«هل تعرف المقولة الشهيرة المذكورة في فصل الوعظ من كتاب «سجلات رينساي»، إذا قابلت بوذا فاقتله، وإذا قابلت أسلافك فاقتلهم …»

أكملتُ المقولة:

«… إذا قابلت الراكان١ فاقتله، إذا قابلت الأبوين فاقتلهما، إذا قابلت الأهل فاقتلهم، وبذلك تحصُل لأول مرة على حرية الروح.»

«هو كذلك. هذا النص، تلك الفتاة كانت هي الراكان.»

«وبذلك حصلت أنت على حرية الروح؟»

«لا.»

قال كاشيواغي وهو يتأمَّل زهرات السوسن التي صفَّها بعد أن قطعها:

«لا، كمية القتل ليست كافية لذلك بعدُ.»

اصطبغ الجانب الداخلي لقاعدة الماء التي امتلأت بالماء الشفاف، بلون فضي. كان كاشيواغي يُصلح بعناية قاعدةَ المسامير المعوجة.

استمررت في الكلام بسبب إحساسي بوطء الصمت:

«أنت تعلم القصةَ التعليمية «ذبح الراهب نانسن للهرة» أليس كذلك؟ كبير الرهبان في ليلة انتهاء الحرب، جمَعَنا كلَّنا وقصَّ علينا هذه القصة …»

«ذبحُ الراهب نانسن للهرة؟»

أجاب كاشيواغي وهو يفحص طول نبات الكنباث، ويقيسه على قاعدة الماء.

«تلك القصة، تَظهر عدة مرات في حياة الإنسان، فهي تغيِّر من شكلها وتأخذ أكثرَ من شكل. إنها قصة تثير الاشمئزاز. كلما قابل الإنسان نقطةَ تحوُّل في حياته، تكون نفس القصة، باختلاف الشكل والمعنى. الهرة التي ذبحها الراهب نانسن هي الشر. تلك الهرة كانت جميلة، كانت في منتهى الجَمال، الجَمال الذي لا يمكنك إيجادُ شيء يماثله. فقد كانت عيونها ذهبية، وشَعرها ناعمَ الملمس، ويُختزن في جسمها الصغير الطري، كلُّ أنواع المُتَع النادرة والجَمال الموجودة في هذا العالم، ملفوفة مثل زنبرك. أغلب المفسِّرين قالوا إن تلك الهرة كانت كتلةً من الجَمال، باستثنائي أنا. ولكن تلك الهرة، تقفز فجأةً من بين حشائش النباتات، وكأنها تقصد ذلك عمدًا، فيتم الإمساك بها وهي بعيون ماكرة وطيبة. وكان ذلك سببًا أساسيًّا في صراع الطائفتين. لأن الجَمال يمكن لأي أحد أن يستسلم له، ولكنه ليس ملكًا لأحد. إن ما يُطلَق عليه الجَمال، حسنًا ماذا يمكنني القول؟ إنه مثل ضرس تسوَّس. إنه يلمس اللسانَ ويحتك به ليتألم، في سبيل التأكيد على وجوده. وأخيرًا يصبح المرء غير قادر على تحمُّل الألم، فيترك طبيب الأسنان يخلعه. وعندما يضع المرء ضرسَه الصغير البني اللون المتسخ والملطَّخ بالدماء في كفه، ألا يقول: «هل هذا هو؟ أكان بهذا الحجم؟ الشيء الذي سبَّب لي كل هذا الألم، والذي تسبَّب بلا توقف في قلقي إزاء وجودي بأكمله، والذي رسخت جذوره داخلي بعناد، لم يَعُد الآن إلا مجرَّد جماد ميت. ولكن هل يا تُرى هذا وذاك هو نفس الشيء؟ إذا كان ذلك الشيء في الأصل له وجود خارجي أنا، لماذا وبأي سبب أو علاقة ارتبط بداخلي، وصار قادرًا على أن يكون منبعًا لآلامي؟ ما هو مصدر وجود ذلك الشيء؟ وهل ذلك المصدر داخلي أنا، أم إنه داخل ذلك الشيء ذاته؟ حتى لو الأمر كذلك، هذا الشيء الذي خُلع مني وصار الآن فوق كفي، هو شيء مختلف عني اختلافًا مطلقًا. مطلقًا ليس هو ذاك.»

حسنٌ. ما يطلق عليه الجَمال في هذا الشيء، ولذلك فذبح الهرة، كما لو كان مثل خلعِ الضرس المسوَّس المسبِّب للألم، وقد يبدو الأمر على أنه إفشاء للجَمال، ولكن لا أعرف هل ذلك هو الحل الأخير أم لا. لا تنقطع جذور الجَمال؛ لأنه حتى لو ماتت الهرة، فربما لم يمُت جِمال الهرة. وهنا، انتقادًا غير مباشر لسهولة ويُسر هذا الحل، وضع الراهب تشوشو الحذاء فوق رأسه. كان يعرف ما معناه أنه لا حل لتلك المسألة غير تحمُّل آلام التسوس.»

كان التفسير من درجة كاشيواغي الممتازة، ولكن أعتقد أن ذلك كان ربما أنه أراد أنه يختال أمامي، بأنه عرفَ ما في داخلي، فينتقد بطريقةٍ غير مباشرة هذا اللاحل. وأنا لأول مرة أخاف كاشيواغي حقًّا. ولأني خِفت من الصمت سألته أكثرَ:

«وفي أي الجهتين أنت؟ الراهب نانسن أم الراهب تشوشو؟»

«أيهما يا تُرى؟ حتى هذه اللحظة أنا نانسن، وأنت تشوشو، ولكن في يومٍ ما، ربما ستكون أنت نانسن، وأصير أنا تشوشو. فتلك القصة تتغيَّر تمامًا [مثل عيون الهرة].»

حسنًا، ومع التحدُّث بهذا الكلام، كانت يدَي كاشيواغي تتحركان بدقة، يرتِّب داخل قاعدة الماء قاعدة المسامير الصغيرة الصدئة، ويرتب الكنباث الذي يحف بالسقف بغرزِه هناك، ثم يوزِّع فيه السوسن الذي أعدَّ به مجموعات أوراق من ثلاث ورقات، وتدريجيًّا كان يصنع شكلًا من التنسيق على طراز كانسوي. وبجوار قاعدة الماء تتكوَّم حبَّات الزلط والرمل النقية الدقيقة ذات اللونين الأبيض والبني التي غُسلت جيدًا في انتظار دورها في التنسيق في النهاية.

وما من وصفٍ لحركاتِ يده إلا أنها رائعة. يتتابع في إصدار القرارات الصغيرة واحدًا بعد آخر، ويركز في فاعلية التضاد والتماثل، انتقل النبات الطبيعي ببراعة في ظل لحن محدَّد إلى داخل نظام صناعي يبهِر الناظرين. تتحول الزهور والأوراق مستسلمة كما هي، في لمح البصر، لِما يجب أن تكون عليه، وذلك الكنباث والسوسن، لم يعودا حُزمًا من نباتات مجهولة من نفس النوع، بل ظهرا في وصف صادق في غاية الاختصار لِما يجب القول عنه إنه الجوهر الأصلي للكنباث، والجوهر الأصلي للسوسن.

ولكن كانت تحرُّكات يده قاسيةً وعنيفة. كان يتصرَّف تجاه النبات وكأنه يملك امتيازًا خاصًّا مظلِمًا ومحزنًا. ولا أدري هل ذلك هو السبب أم لا، ولكن في كل مرة أسمع صوت المقص يقطع ساق النبات، أشعر وكأنني أرى دمي ينزف.

انتهى من تنسيق قاعدة الزهور على طراز الكانسوي. في الطرَف الأيمن من قاعدة الماء امتزاجُ الخط المستقيم للكنباث والخط المنحني لأوراق زهور السوسن النقية، زهرة واحدة فقط متفتحة، والأخريان براعم على وشْك التفتح. وضع كل ذلك في مكان الزينة الصغير ليملأه تمامًا، وهدأ مسقط ظل ماء الإناء، وحبات الحصى والرمل التي أخفت حامل المسامير، ظهرت بدرجة رائعة وكأنها منظرٌ لضفة ماء صافية.

سألته:

«عمل رائع. أين تعلَّمت؟»

«عند مدرِّسة فن تنسيق زهور جارتنا. لقد حان الوقت لتأتيَ إلى هنا. لقد تعلَّمت منها تنسيقَ الزهور وأنا أصاحبها، إذا أصبحتُ هكذا لديَّ القدرة على التنسيق بمفردي، وصلتُ لحالة الملل منها بالفعل. إنها مدرِّسة شابة وجميلة. أثناء الحرب وقعَت في حب ضابط بالجيش، وسقط جنينها، ومات الضابط في الحرب، وبعدها لم تتوقَّف عن هواية الرجال. إنها امرأة تملك بعضَ المال، وتقول إنها تُعلِّم تنسيق الزهور كهواية. لو كان الأمر كذلك، يمكنك أن تصحبها إلى مكانٍ الليلة. فهي تذهب إلى أي مكان.»

… كانت المشاعر التي هجمَت عليَّ وقتَها مضطربة. عندما رأيتها من فوق مدخل الجبل في معبد نانزنجي، كان تسوروكاوا بجانبي، واليوم بعد مرور ثلاثة أعوام، كان من المفترض أن تظهر أمامي من خلال عيون كاشيواغي. في الماضي رأيتُ مأساتها بعيون مشرقة ربانية ساحرة، والآن مرة ثانية، أختلس إليها النظر بعيون مظلمة لا تؤمن بشيء. ثم الشيء المؤكد، أن الثديَ البعيد الذي كان يشبه وقتَها قمرَ النهار الأبيض، كانت يد كاشيواغي قد لمسته بالفعل، والركبة التي كانت محاطة وقتها بكُم الكيمونو الزاهي الألوان، قد لمسَتها بالفعل قدَم كاشيواغي الحَنْفَاء. الأمر المؤكَّد أنه تلك المرأة، بواسطة كاشيواغي، بمعنى بواسطة الوعي، أصبحت مُدنَّسة.

جعلتني تلك الأفكار أعاني لحد الألم، وأصابتني بمشاعرَ لا أقوى على البقاء بها في ذلك المكان. ولكن الفضول جعلني أبقى. كنتُ أنتظر بفارغ صبر أن تظهر أمامي الآن تلك المرأة التي يمكن حتى القول إنها ميلادٌ جديد ليويكو، كامرأة استغنى عنها طالب فاشل. وبلا وعي، انحزتُ إلى كاشيواغي، وغرقتُ في فرحة الخداع التي تُظهر لي أنني أدنِّس بنفسي وبيدي ذكرياتي.

… حسنًا، جاءت المرأة، فلم تقف أيُّ أمواج في داخل قلبي. وأتذكَّر ذلك الآن بكل وضوح. ذلك الصوت المبحوح قليلًا، ذلك السلوك المؤدَّب للغاية وطريقة الكلام المحترمة للغاية، ورغم ذلك، لون العيون التي تلمع باضطراب، وكلمات اللوم والعتاب التي توجِّهها إلى كاشيواغي وهي تحاول أن تراعي وجودي … وقتَها لأول مرة، أدركت سببَ دعوة كاشيواغي لي تلك الليلة، فقد كان كاشيواغي يحاول أن يستخدمني كحائط صدٍّ دفاعي له.

لم ترتبط المرأة مع ما كنتُ أراه من أوهام. فلقد توقَّف الأمر عند انطباعٍ لجسم مختلف أراه لأول مرة رؤيةً مطلقة. وبدأت المرأة في الاضطراب كما هي بنفس طريقة الحديث المؤدب تدريجيًّا، ولم تحاول أن تنظر إليَّ مطلقًا.

وأخيرًا المرأة التي لم تَعُد تتحمَّل وضعها البائس، يبدو أنها تراجعت عن بذلِ جهدها لتغيير قلب كاشيواغي. هذه المرة تظاهرت بالهدوء فجأة، ودارت بنظرها في غرفة السكن الضيقة. ويبدو أنها لأول مرة تنتبه رغم وجودها هنا لأكثر من نصف ساعة إلى الزهور المنسَّقة التي ملأت مكان الزينة بحجم ضخم.

«منظرها رائع جدًّا. لقد أحسنت تنسيقها حقًّا.»

كاشيواغي الذي كان ينتظر تلك الكلمات، طعنها الطعنة الأخيرة.

«ألا ترين أنني قد أصبحتُ ماهرًا؟ وبهذا لم يَعُد هناك ما أتعلَّمه منكِ. لا حاجة لي بكِ. حقًّا، لا حاجة.»

عندما رأيتُ المرأة وقد تغيَّر لونُ وجهها من كلمات كاشيواغي الجارحة، أشحتُ بوجهي عنها. يبدو أن المرأة ضحِكت قليلًا، ثم بعد ذلك اقتربت من مكان الزينة زاحفةً على ركبتيها بطريقةٍ مؤدبة للغاية، ثم سمعتُها تتكلَّم:

«ما هذه الزهور؟ ماذا؟ كل هذه!»

ثم تطاير الماء، وسقط الكنباث، وزهور السوسن المتفتِّحة تمزعت وشُدَّت، أصبحت الزهور التي جلبتها بعد أن ارتكبتُ جريمة السرقة في حالةٍ يرثى لها من الهياج الجنوني. نهضتُ واقفًا بلا وعي، وأسندتُ ظهري خائفًا إلى زجاج النافذة. ورأيت كاشيواغي يقبض على رُسغ المرأة الرفيع. وبعد ذلك، رأيته يمسك شَعر المرأة، ويلطمها بكفِّه على خدِّها. وكنتُ أعتقد أن تلك الحركات المضطربة السريعة من كاشيواغي، في الواقع لا تختلف كثيرًا عنه عندما كان يقطع بالمقص ساق وأوراق الزهور أثناء تنسيقها منذ قليل، بل كانت تبدو وكأنها امتدادٌ لذلك الفعل كما هو.

غطَّت المرأة وجهَها بيديها، وخرجت مسرعةً من الغرفة.

أمَّا كاشيواغي، فقد رفع بصره تجاهي أنا الذي كنتُ واقفًا في سكون، ثم أظهر ابتسامةً طفولية بدرجة مريبة وقال:

«حسنًا، عليك اللَّحاق بها. قُم بمواساتها. هيا أسرع!»

هل دُفعتُ بكلمات كاشيواغي تلك، أم كنتُ فعلًا متعاطفًا مع المرأة، كانت تلك المسألة غامضةً داخلي، ولكن على أي حال، تحرَّكت قدماي على الفور وتبِعت المرأة. ولحِقتُ بها على بُعد بيتين أو ثلاثة من مسكن كاشيواغي.

كان المكان، منطقة إيتاكوراتشو خلف جراج كاراسوما. أضاء صدى الترام الذي يدخل الجراجَ سماءَ الليل الغائمة، وظُلِّلت السماء بأشعة الوميض البنفسجي الخافت. دلفت المرأة إلى جهة الشرق من منطقة إيتاكوراتشو، وصعِدت متخذةً الطرق الخلفية. مشيتُ وراء المرأة التي تمشي باكيةً بميلٍ صامتًا، وأخيرًا انتبهتْ لي، فاقتربتْ مني. ثم بصوتٍ مبحوح بسبب البكاء المستمر، ولكنها لم تتخلَّ عن طريقة الحديث المؤدبة للغاية، أخذت تشتكي إليَّ طويلًا من سوء أفعال كاشيواغي.

يا تُرى كم من الوقت مشينا!

سوء أفعال كاشيواغي التي ظلَّت تنصبُّ على أذني دون انقطاع، تلك البنود الشنيعة والشريرة كلُّها كانت فقط تتردَّد في أذني تحت مسمَّى كلمة «الحياة». كانت قسوته وطريقة كلامه المتحايلة، وخيانته، وبروده العنيف، والوسائل العديدة التي يعتصر بها المال من المرأة، لم تزِد عن أنها تفسِّر الجاذبية التي يتمتَّع بها وتَصعُب على الوصف. ثم كان من الأفضل لي أن أومن بإخلاصه هو تجاه قدَمه الحَنْفَاء.

أنا الذي لم ألمس الحياةَ ذاتها من بعدِ موت تسوروكاوا المفاجئ، تراقصتُ بعد فترة غياب، مع حركة حياة فردية مظلِمة أكثر تعاسة، وعوضًا عن ذلك، حياة لا تتوقف عن تجريح الآخرين بكلِّ ما لها من قدرة على الحياة. عادت كلمته المختصرة الجامعة «كمية القتل ليست كافية» إلى الحياة مرةً أخرى، وضربتْ أذني. ثم استعاد قلبي كلمةَ الدعاء التي دعوتُها وقت انتهاء الحرب، عند قمَّة جبل فودوسان، تجاه الأضواء الكثيفة لمدينة كيوتو، كان ملخَّص الصلاة الخالصة كالتالي «أرجو أن يصبح الظلام الذي في قلبي، مساويًا لظلام الليل الذي يحيط به عددٌ لا نهائي من الأضواء.»

لم تكن المرأة ذاهبةً في اتجاه بيتها. بل كانت تمشي بلا هدف محدَّد، وتختار فقط الطرقَ الخلفية التي يقلُّ فيها المارة من أجل مواصلة حديثها معي. وأخيرًا عندما وصلنا إلى أمام بيتها الذي تسكن فيه بمفردها، لم أكن أعرف أين يقع مكانه في المدينة.

كانت الساعة قد صارت العاشرة والنصف بالفعل، وكنتُ على وشْك توديعها والعودة إلى المعبد، ولكني صعدتُ إلى بيتها مجبرًا بعد أن دعتني إلى الصعود.

دخلت المرأة أولًا وأضاءت النور، ثم قالت ما يلي فجأة:

«هل حدث لك أن فكرتَ مرةً في لعن أحدٍ وتمنِّي موته؟»

أجبتُ دون تردُّد «حدث». وكان الأمر العجيب أنني حتى ذلك الوقت كنتُ قد نسيت؛ فقد كنت قد تمنيت بكل وضوح موتَ فتاة المسكن التي كانت شاهدة على عاري.

«أمرٌ مخيف. أنا أيضًا كذلك.»

جلست الفتاة على حصير التاتامي بالجانب وهي تكاد تقع. كان مصباح الغرفة على الأرجح ١٠٠ واط؛ لذا كانت درجة الإضاءة عاليةً علوًّا نادرًا في وقت وضع قيود على استهلاك الكهرباء، كانت شدة الضوء تبلغ ثلاثة أضعاف درجة الإضاءة في مسكن كاشيواغي. ولأول مرة ينعكس جسد الفتاة متألقًا من الضوء. وبدا قماش هاكاتا الذي في حزام الكيمونو أبيضَ زاهيًا، وبرز واضحًا من اللون البنفسجي لرسمةِ زهرة الوستارية المطبوعة على الكيمونو.

ثمَّة مسافةٌ من مدخل جبل نانزنجي وحتى غرفة الزبائن في مطعم تنجوان، لا يمكن عبورها إلا للطيور، ولكنني شعرتُ أنني اقتربتُ من تلك المسافة، ووصلت أخيرًا إلى هناك، بعد أن استغرقتُ عددًا من السنوات. منذ ذلك الوقت، قطَّعت الزمن قِطَعًا متناهيةَ الصِّغر، واقتربتُ اقترابًا مؤكدًا مما يعنيه منظر تنجوان السحري. فكرتُ أن الأمر يجب أن يكون كذلك. فلم يكن هناك شكٌّ أن طبيعةَ الفتاة تغيَّرت، في الوقت الذي يصل فيه ضوءُ نجم بعيد، مثلما يتغير كلُّ ما على الأرض بالفعل. مع مثل هذا التغيير، يمكن التفكيرُ أنه إذا كنا توقَّعنا مسبقًا لقاءنا اليومَ عندما نظرتُ إليها من فوق مدخل جبل نانزنجي، كنا نستطيع التلاقي مرةً أخرى، أنا وهي وقتها ونُعيد العلاقةَ القديمة مرةً أخرى بتعديل بسيط.

وعندئذٍ تحدثتُ. تحدثتُ بتلعثم وأنفاسي تلهث. عادت كلمات ذلك الوقت إلى الحياة، وعادت الأوراق الشابة إلى الحياة، وعاد إلى الحياة الملاك والعنقاء اللذان في لوحة سقف البرج الخماسي العالي. عادت الدماء الحيوية تنبض في خدود الفتاة، وبديلًا عن الإضاءة العاصفة في عينيها سكنت إضاءة مضطربة وغير مستقرة.

«هل حقًّا ما تقول؟ هل كان الأمر كذلك بالفعل؟ يا لها من صدفة غريبة! الصدفة الغريبة هي ما يُطلَق على هذا الأمر.»

هذه المرة امتلأت عينَي الفتاة بدموع فرح الكبرياء. فقد نسيت الخزي الذي نالها توًّا، وألقت بجسدها مقلوبًا في بحر الذكريات، وغيَّرت الهياج نفسَه كما هو إلى حالةٍ أخرى من الهياج المستمر، وأُصيبت بحالة تشبه الجنون. وتبعثر طرف كيمونو الزاهي.

«لم يَعُد الثدي يُخرِج لبنًا. آه … يا للطفل المسكين! ما من حليب ولكنه يريد أن يظهر لك هكذا. منذ ذلك الوقت، وأنت تحبُّني، الآن أنا أراك ذلك الرجل. إذا رأيتك ذلك الرجل فلن يكون هناك خجل. حقًّا سأُريكهما هكذا.»

بدا ما فعلته المرأةُ بعد أن قالت ذلك بنبرة مَن يُقرِّر قرارًا حاسمًا، دافعه الفرحة المجنونة، أو شدة اليأس. على الأرجح في نطاقِ وعيها فقط ثمَّة الفرحة المجنونة والقوة الحقيقية التي تحثُّها على ذلك الفعل العنيف، اليأس الذي أعطاها إيَّاه كاشيواغي، أو ربما هو الطَّعم ذو اللزوجة القوية المتبقي لليأس.

هكذا رأيت أمام عينيَّ تفكُّك حزام الكيمونو، وتفكُّك أحزمة كثيرة، ورأيت حرير الحزام يُحل مصدِرًا أصواتًا صاخبة. وسقطت ياقة المرأة. أخرجت يد المرأة الثدي الأيسر أمام عينيَّ، من موضعٍ يظهر فيه صدرها الأبيض قليلًا.

سأكون كاذبًا إذا قلتُ إنني لم أُصَب بأحد أنواع الدُّوار. لقد كنتُ أشاهد، أشاهد كلَّ التفاصيل. ولكني توقفتُ عند كوني شاهدًا. بدا لي من أعلى شجرة الكرز تلك عند مدخل الجبل، شيءٌ كنقطة بيضاء بعيدة وسحرية، لم تكن لحمًا يملك حجمًا وكمًّا محدَّدًا مثل هذا. بسبب تخمُّر ذلك الانطباع لفترة طويلة أكثرَ من اللازم، فقد كان الثدي نفسُه الذي أمام عينيَّ لحمًا، ولم يَزِد عن كونه أحدَ الأشياء المادية. بل وكان يشتكي من أمرٍ ما، لم يكن لحمًا يعرض نفسَه ويُغري. كان دليلًا بلا طَعم على الوجود، ومنفصلًا عن الحياة انفصالًا كاملًا وتامًّا، كان فقط مجرَّد شيء مكشوف وموجود ها هنا.

كنتُ أحاول أن أكذبَ ثانية. حقًّا إنه كذلك، أنا كنتُ على وشْك الإصابة بالإغماء. ولكن لأن عيني من كثرة رؤيتها للتفاصيل، فلقد تخطت حقيقةَ أن الثدي هو ثدي أنثى، ونظرتُ إليه جزءًا بعد آخر حتى تحوَّل تدريجيًّا إلى قِطَع متناثرة بلا معنًى.

… كان ما حدث بعد ذلك عجيبًا. والسبب أنه في نهاية المرور بتلك التفاصيل المؤلمة، أخيرًا بدأ ذلك يبدو جميلًا في عيني. لقد مُنِح ذلك الثدي أثناء وجوده أمام عيني طبيعةَ الجَمال القاسي والعقيم، وانغلق تدريجيًّا داخل ذلك المبدأ نفسه. مثلما تنغلق الوردة داخل مبدأ الورد.

يصل إليَّ الجَمال متأخرًا. متأخرًا عن الناس؛ فالناس تكتشف الجَمال والغريزة الحسية في نفس الوقت، ولكن يأتيني ذلك بعد مرور وقت طويل جدًّا. استعاد الثدي سريعًا علاقةَ الاتصال مع الجسد كلِّه، وتخطَّى اللحم … ليصير مادةً بلا حسٍّ، ولكنها رغم ذلك خالدة، ومتصلة إلى الأبد.

أريد منكم إدراكَ ما أحاول قوله. فلقد ظهر هنا المعبد الذهبي مرةً أخرى. أو بالأحرى لقد تحوَّل الثدي إلى المعبد الذهبي.

تذكَّرت وقتَ مناوبة ليلة الإعصار في بداية الخريف. حتى لو انعكس القمر لامعًا، كان الظلام المهيب الثقيل الفاخر يعكِّر ما داخل المعبد الذهبي في الليل، الجانب الداخلي من النافذة، والجانب الداخلي من الباب ذي الإطار المتعدِّد، وتحت السقف الذي نُزعت عنه القشرة الذهبية. كان ذلك أمرًا طبيعيًّا. والسبب أن المعبد الذهبي ذاته، لم يكن إلا العدم نفسه بُني بعناية فائقة. وهكذا يطلِق سطح الثدي الخارجي الذي أمام عيني لمعانًا للحم مشرق ولكن كان داخله ممتلئًا بنفس الظلام. ذلك الجوهر الحقيقي كان نفس الظلام المهيب الثقيل الفاخر.

لم يُصبني الوعي بالسُّكْر مطلقًا. بل على العكس تم العبث بالوعي واحتقاره. وبالطبع الحياة والشهوة كذلك! … ولكن لم يرحل عني شعورٌ بالنشوة العميقة، ولفترة وكأنني تخدَّرت ظللتُ جالسًا أمام ذلك الثدي العاري.

•••

وهكذا مرةً أخرى، قابلتُ نظرة الاحتقار الباردة تمامًا للمرأة وهي تعيد ثديها إلى داخل ملابسها. استأذنت في الرحيل. أغلقَت المرأة التي ودَّعتني حتى المدخل، البابَ خلفي بصوتٍ عالٍ.

… كنتُ لا أزال في نشوة أثناء عودتي إلى المعبد. تأتي وتروح على ذهني صورتَي الثدي والمعبد الذهبي بالتبادل. وملأني شعور بالسعادة الضعيفة.

ولكن برد قلبي تدريجيًّا، عندما بدت في الأفق البعيد البوابة العمومية لمعبد روكوؤنجي، وتصخب خلفه غابة الصنوبر الأسود، وانتصر الضَّعف، وتحوَّل إحساس السَّكرة إلى شعور بالاشمئزاز، وازداد شعور الكراهية الذي لا أعرف تُجاه ماذا هو موجَّه؟

«مرة أخرى انفصلتُ عن الحياة!» قلتُ هذا إلى نفسي، وتابعتُ: «مرة ثانية نفس الأمر. لماذا يحرص المعبد الذهبي على حمايتي؟ رغم عدم طلبي ذلك منه، لماذا يحاول فصلي عن الحياة؟ أنا حقًّا أفهم أن المعبد الذهبي ربما ينقذني من السقوط في الجحيم. ولكن من خلال ذلك جعلني المعبد الذهبي شخصًا أكثرَ شرًّا من البشر الذين سقطوا في الجحيم، جعلني [رجلًا يعرف خبايا الجحيم أكثرَ من أي شخص آخر].»

كانت البوابة الرئيسة تغرق في سواد الهدوء والسكينة. وتقف إضاءة المدخل الخافتة التي تُطفأ عندما يدقُّ ناقوس الصباح. دفعتُ باب المدخل. انفتح ذلك الباب وأحدثت السلسلة القديمة التي علاها الصدأ صوتًا وهي تجرُّ الثِّقل الذي في الداخل.

كان الحارس نائمًا بالفعل. في الجانب الداخلي من البوابة، ورقةٌ بها تعليمات المعبد أنه يجب على آخر مَن يهبط من الجبل بعد الساعة العاشرة مساء، إغلاقُ البوابة، وثمَّة لوحتان هما لمن لم يرجع بعدُ إلى المعبد. الأولى كانت باسم كبير الرهبان، والثانية باسم خادم الحديقة العجوز.

كلما مشيت، أظهرت لي الأخشاب التي تصل أطوالها إلى حوالي خمسة أمتار والمتراكمة في موقع أعمال البناء على الجانب الأيمن، لونَ الخشب المشرق رغم الليل. وعندما اقتربت، كانت نشارة الخشب ساقطةً متناثرة وكأنها زهورٌ صفراء مفروشة ومبعثرة، وتفوح في الظلام رائحةُ الخشب النفَّاذة الجميلة. درتُ حول جانب بَكرة البئر الموجودة على طرَف موقع أعمال البناء، للذهاب إلى المطبخ.

كان يجب عليَّ قبل الخلود إلى الفراش، مقابلةُ المعبد الذهبي مرةً ثانية. تركتُ خلفي المبنى الرئيس لمعبد روكوؤنجي الغارق في هدوء النوم، ومررتُ من أمام البوابة ووصلتُ إلى الطريق المؤدية إلى المعبد الذهبي.

بدأ المعبد الذهبي في الظهور. محاطًا بضجيج الأشجار حوله، كان ذلك المعبد يقف في الليل راسخًا دون حَراك تقريبًا، ولكنه ليس نائمًا على الإطلاق. وكأنه هو ذاته حارس الليل … حقًّا! أنا لم يسبق لي أن رأيتُ المعبد الذهبي نائمًا في هدوءٍ مثل باقي المعابد. لقد استطاع هذا المبنى المعماري الذي لا يسكنه أحد، نسيانَ النوم. فهرب الظلام الذي يسكنه، من القواعد والقوانين البشرية تمامًا.

توجهتُ نحو المعبد الذهبي في نبرةٍ تشبه اللعنَ تقريبًا، وناديته للمرة الأولى في حياتي بما يلي:

«في يومٍ ما سأسيطر عليك. لكيلا تأتي لتعوقني مرةً ثانية، يومًا ما سأجعلك مِلك يدي بالتأكيد.»

تردَّد صدى الصوت تردُّدًا أجوفَ في بهيمِ ليل بِركة كيوكو.

١  الراكان في البوذية هو الشخص الذي وصل إلى أعلى درجات التدريبات الروحية فتخلَّص من كل الشهوات وغادر دورةَ الحياة والموت فلا يتناسخ، وصار في مرتبةٍ تؤهله لتقديم العطايا له من البشر. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤