الفصل السابع

وهكذا، كانت خبرتي تعمل على نوعٍ من أنواع الشفرة، وكما في ممرٍّ من المرايا، حيث تستمر صورةٌ واحدة تتكرر في العمق إلى ما لا نهاية، تشير ظلال الأشياء التي رأيتها في الماضي بوضوح إلى الأشياء الجديدة التي أقابلها لأول مرة، ويرشدني هذا التماثل إلى عمق الممر دون وعي أو دراية، أشعر أنني أقتحم غرفةً داخلية لا قاعَ لها. نحن لا نصطدم اصطدامًا مفاجئًا مع قدَرنا. إن الرجل الذي سيُعدَم في المستقبل، يرى شبح عامود المشنقة يتراءى له بلا انقطاع، في أعمدة إنارة الطريق وفي أعمدة المزلقان حيث يسير في أيامه العادية، ومن المفترض أنه أصبح أليفًا مع ذلك الشبح.

وبالتالي لم تكن تجاربي عبارة عن تراكماتٍ بعضها فوق بعض. لم يكن لها تراكمات تكوِّن طبقاتٍ ولم يكن لها سُمْك لتصنع جبالًا. إذا استثنينا المعبد الذهبي، فأنا ليس لديَّ أيُّ ألفة مع مختلف الأشياء، ولم أحمل أي ألفة خاصة تجاه تجاربي الذاتية. ولكني أدركتُ أن هناك صورةً ما مشئومةً ومؤلمة في طور التشكيل، تتكوَّن من سلسلة أجزاء صغيرة من بين تلك التجارب والخبرات، أجزاء لم يبلعها قاع البحر أثناء الظلام، أجزاء لم تسقط مرارًا وتكرارًا في بحرٍ لا نهائي من انعدام المعنى.

ولكن أحيانًا ما كنت أفكِّر قائلًا: ما هي هذه الأجزاء؟ ولكن كان ذلك عبارة عن قِطَع من التجارب المنفصلة تلمع متألقة، ولكن ينقصها المعنى والنظام أكثرَ من لمعان قِطَع زجاج من قنينة جَعة ملقاة في الطريق. ورغم قول ذلك، فلا يمكنني التفكير أن تلك القِطَع هي التي سقطت منهارةً، وهي كانت تشكِّل في الماضي الجَمال الكامل. لأن كل قطعة منها بدَت وكأنها ترى حُلم المستقبل داخل ذلك اللامعنى، في ظل الانعدام الكامل للنظام، ومع استغناء عن الهيئة القبيحة. تحلُم بمستقبلٍ بلا اعتبار، وبلا خوف، وبهدوء وريبة! مستقبل بلا علاج ولا استعادة صحة، ومستقبل لا تصل إليه يد، مستقبل لم يتحقَّق من قبلُ حقًّا!

كان مثل هذا التأمُّل الغامض، حتى بالنسبة لي أنا، ومع اعتقادي بأنه لا يليق بي، أحيانًا ما يعطيني أحدَ أنواع الإثارة الشاعرية. في ذلك الوقت، وعندما أسعد بليلة قمرية، أحمل الناي، وأذهب إلى جوار المعبد الذهبي لأعزف. أصبحت الآن أستطيع عزْفَ حتى لحن «عربة القصر الإمبراطوري» الذي كان يعزفه كاشيواغي، دون النظر إلى النوتة الموسيقية.

إن الموسيقى تشبه الحُلم. وفي نفس الوقت تشبه حالةً من يقظة مؤكَّدة بدرجة كبيرة، وهي عكس الحُلم. فكرتُ: يا تُرى أيهما هي الموسيقى حقًّا؟ تملك الموسيقى في كل الأحوال قوةً داخلها تستطيع جعْلَ هذين المتضادين ينقلبان إلى العكس. ثم وعند عزفي لحن أغنية «عربة القصر الإمبراطوري»، أتجسَّد أنا بمنتهى السهولة في كل مرة. وتعرفتْ روحي على متعة التجسُّد للموسيقى. كانت الموسيقى بالنسبة لي — بعكس كاشيواغي — عزاءً حقيقيًّا.

… بعد أن أنتهيَ من عزف الناي، في كل مرة أفكِّر في نفس الشيء، لماذا لا يقوم المعبد الذهبي بتأنيبي وتعطيلي عن التجسُّد بهذه الطريقة ويدعني أفعل ذلك وهو صامت؟ من جهة أخرى، هل حدث ولو مرةً واحدة أن تغاضى المعبد الذهبي عن تجسُّدي في حالة السعادة والمتعة الإنسانية؟ ألم يكن دَيْدان المعبد الذهبي أن يحجُب على الفور تجسُّدي، ويعمل على عودتي إلى ذاتي الحقيقية؟ لماذا فقط فيما ينحصر الأمر على الموسيقى، يسمح المعبد الذهبي بالسُّكر ونسيان النفس؟

… ينخفض سحر الموسيقى عند التفكير بهذه الطريقة، أي إنه فقط بمجرد التفكير أن المعبد الذهبي هو الذي يسمح. والسبب أنه ما دام المعبد الذهبي يعطيني قبولًا ضمنيًّا، فمهما ظهرت الموسيقى شبيهة بالحياة، فهي ليست إلا حياةً خيالية مقلَّدة، ومهما حاولتُ تجسيدها، فلن يكون ذلك التجسُّد إلا مؤقتًا فقط.

لا أريد منكم أن تعتقدوا أنني منذ فشلي مرتين مع النساء ومع الحياة، يئستُ وأصبحتُ أميل إلى الأفكار الانطوائية. فحتى نهاية عام ١٩٤٨ أُتيحت لي عدةَ مراتٍ فرصٌ من هذا النوع، وبسبب مساعدة وإرشاد كاشيواغي استطعتُ مواجهة الأمر دون جبن أو هروب. ولكن كانت النتيجة دائمًا هي نفسها.

يظهر المعبد الذهبي حائلًا بيني وبين المرأة، بيني وبين الحياة. وبعد ذلك تتحوَّل على الفور اليدُ التي كنتُ على وشْك الإمساك بها إلى رماد، ويتحوَّل المشهد أمامي إلى صحراء.

في أحدِ الأوقات، كنتُ أستريح من العمل في الحقل خلف المطبخ، كنتُ أتأمَّل منظرَ نحلة تطنُّ فوق زهرة أقحوان صيفية صفراء صغيرة. اختارت النحلة التي جاءت تطير وهي تطلِق صوتًا من جناحيها الذهبيِّين وسط أشعة الشمس التي في كل مكان، إحدى زهرات الأقحوان الصيفية من بين الكثير الموجود في المكان، ثم وقفتْ تترنح لفترة أمامها.

حاولت أن أنظر وكأنني عينا النحلة. كانت زهرة الأقحوان تفرش بَتَلاتها السليمة الحواف ذات اللون الأصفر الخالية تمامًا من العيوب. كانت بحقٍّ جميلةً وكأنَّها معبد ذهبي صغير، وفي كمال المعبد الذهبي، ولكنها لا تأخذ شكل المعبد الذهبي مطلقًا، وتوقَّفت عند كونها إحدى الحالات الشكلية لحلقة زهرة الأقحوان. تطلِق فتنتَها من خلال احتفاظها بوجودها بهذه الطريقة، التي تفيض بشدةٍ لتصبح شيئًا يناسب تمامًا رغبات النحل. يا له من أمرٍ سحري وإلهي أن تتنفَّس هكذا منكمشة بجسدها في وضع الشيء المستهدَف أمام الرغبات الديناميكية التي تطير وتنساب بلا شكل! تصبح الحالة الشكلية تدريجيًّا أكثرَ ضعفًا، وعلى وشْك التهتُّك وتهتز مرتعشة. وهذا هو المفترض؛ فالحالة الشكلية الأنيقة لزهرة الأقحوان، خُلقت لتتماشى مع رغبات النحل، وذلك الجَمال ذاته؛ لأنه تفتَّحت أزهاره باتجاه التوقُّعات، فالآن حقًّا هي اللحظة التي تلمع فيها وتتألق معنى الحالة الشكلية داخل الحياة. الشكل حقًّا، هو قالب الحياة الديناميكية بلا شكل، وفي نفس الوقت، طيران للحياة التي بلا شكل، هو قالب لجميع أنواع الأشكال في هذا العالم. تتقدم النحلة بهذا الحال نحو أعمق أعماق الزهرة، وتتلطخ بمسحوق الزهرة، ثم تغرق جسدها في السُّكْر. أصبحت زهرة الأقحوان الصيفية ذاتها التي تستقبل النحلة، وكأنها نفسها نحلة ترتدي درعًا أصفرَ فاخرًا، فبدت كأنها تهزُّ جسدها بعنفٍ محاوِلةً الطيران في التو والحال مبتعِدةً عن ساق النبات.

أحسستُ بدُوار تقريبًا بسبب أشعة الشمس وبسبب هذا الذي يحدث تحت أشعة الشمس تلك. وفجأةً مرة ثانية ابتعدَت النحلة عن نظري، ثم عندما عادت ظنَّت عيني التي كانت تتأمَّلها أنها بالضبط في موقع المعبد الذهبي. كان ذلك كما يلي: كأنني عدلتُ عن أن أكون عينَ النحلة ورجعتُ إلى عيني، وفي اللحظة التي تقترب فيها الحياة مني، فإنني أعدل عن النظر بعيني، وأمتلك عين المعبد الذهبي. ووقتها يَحول المعبد الذهبي بيني وبين الحياة.

… عدتُ إلى عيني. إن النحلة وزهرة الأقحوان الصيفي في عالم الأشياء الشاسع، لا تشكل إلا مجرد أشياء «موضوعة بانتظام». طيران النحل واهتزاز الزهور، لم يختلفا مطلقًا عن نسائم الريح. ففي ذلك العالم المتوقِّف المتجمِّد انتهت بالموت كلُّ الأشياء من نفس الدرجة، والهيئة التي تبث الإزعاج لهذه الدرجة. في حالة الأقحوان ليس من خلال هيئة، ولكن من خلالِ ما نطلق عليه نحن اسم «أقحوان» بطريقة مبهمة، من خلال التعهُّد لم يَزِد عن مجرد جَمال. ولأنني لم أكن نحلة فلم أحسَّ بإغراء الأقحوان، ولأنني لم أكن أقحوانًا فلم تعشقني النحلة. كافة أنواع الأشكال وديناميكية الحياة اختفت الألفة التي على هذا المنوال. ورُمي العالم في حالة نسبية، وكان الزمن وحدَه هو الذي يتحرك.

ظهر معبد الخلود الذهبي المطلَق، وعندما تغيَّرت عيني لتكون عينَ ذلك المعبد الذهبي، لا يجب أن أتكلَّم بإلحاح هكذا عن تغيُّر العالَم، ليحافظ المعبد الذهبي فقط على هيئته في ذلك العالَم المتغيِّر، ويحتكر الجَمال، وعن تحوُّل غير ذلك من الأشياء إلى تراب. من بعدِ ما دهستُ بقدَمي العاهرة في حديقة المعبد الذهبي، وكذلك منذ موت تسوروكاوا المفاجئ، كان السؤال التالي يتكرَّر في ذهني: «رغم كل ذلك، هل الشر ممكن؟»

•••

كان ذلك في اليوم الأول من شهر يناير عام ١٩٤٩.

انتهزتُ فرصة يوم السبت المنزوع العصا (يسمَّى كذلك لأنه تُنزع فيه عصا الزِّن)، وذهبتُ لمشاهدة فيلمٍ في قاعة عرض رخيصة من قاعات الدرجة الثالثة، وأثناء العودة مشيتُ بمفردي في منطقة شينكيوغو بعد غياب. في وسط الزحام، شاهدتُ وجهًا أعرفه تمامًا، وقبل أن أتذكَّر مَن هو، اختفى الوجه في زحام الناس واختلط فيمن خلفي.

كان ذلك الشخص يعتمر قبعةً بنمية ويرتدي معطفًا فاخرًا ويلفُّ عنقه بلِفاع، ويسير مع امرأة من الواضح جدًّا أنها من بنات الغيشا، ترتدي معطفًا بلون أحمر قانٍ. كان وجه الرجل المكتنز الوردي، له نضارة مريبة مثل نضارة بشرة الأطفال لا تُرى أبدًا في الرجال المتوسطي العمر العاديِّين، وأنفه الطويل نوعًا … كانت القبَّعة البنمية تخفي تلك الصفات المميزة لكبير الرهبان ولا أحد غيره.

وعلى العكس أنا الذي خِفتُ من أن يكون كبير الرهبان قد تعرَّف عليَّ، رغم أنه من جانبي لم يكن ثمَّة ما يخجلني. والسبب هو أنني أصبحتُ شاهدَ عِيان على تنكُّر كبير الرهبان، ودليلَ إدانة له، وشعرت على الفور أنني أريد أن أتحاشى عقْدَ علاقةِ صمتٍ تتعلَّق بالثقة وعدم الثقة مع كبير الرهبان.

وقتها كان يسير كلبٌ أسود، متخفيًا في زحام العام الجديد. وبدا أن ذلك الكلب الأسود كثُّ الشعر معتادٌ السيرَ في الزحام، فكان يتسلل بمهارة فائقة بين معاطف الفتيات الجميلات ومعاطف الجنود ويقف وقفة خاطفة أمام المحلات هنا وهناك. وقف الكلب أمام محل هدايا شوغوئن الذي يبيع الحلوى اليابانية بهيئةٍ لا تختلف عن الماضي، ليشم الرائحة. بسبب إضاءة المحل استطعت أخيرًا رؤيةَ وجه الكلب، كانت إحدى عينيه مطموسة، وفي مؤخرة العين المطموسة كان المخاط المتجمِّد والدم يشبهان العقيق. وتنظر العين السليمة إلى الأرض تحته مباشرة. اختلجت أماكنُ مختلفة من ظهره ذي الشعر الكثِّ، وبرزت ضفائر الشعر المشدودة تلك واضحة.

لا أدري لِمَ جذب الكلب اهتمامي. ربما انجذبتُ إليه بسبب أن ذلك الكلب يسير تائهًا وهو يحتضن بعنادٍ في داخله عالمًا مختلفًا تمامًا عن هذه المنطقة الحيوية الصاخبة من المدينة. يمشي الكلب في عالَم مظلم ليس فيه إلا حاسة الشم فقط، ويصبح هذا في عالم البشر عالمًا مزدوجًا، وعلى العكس تهدِّده الأضواء وصوت غناء المسجِّل وأصوات الضحكات، برائحة مظلمة لحوحة. والسبب أن القانون المنظِّم للرائحة هو أكثرُ تأكيدًا، وارتبطت ارتباطًا مؤكدًا مع الرائحة الملتصقة بأقدام الكلب الرطبة، الرائحة الكريهة الضئيلة التي تبثُّها أحشاء البشر وأعضاؤهم.

كان الجو باردًا للغاية. ومرَّ اثنان أو ثلاثة شباب يبدو عليهم أنهم من تجار السوق السوداء، وهم يخطفون زينةَ أشجار الصنوبر من على أبواب المنازل التي لم يتم نزعها بعدُ رغم انقضاء موسمها. كانوا يتنافسون وهم يبسطون أكفَّهم التي ترتدي قفازات جلدية جديدة. في كفِّ أحدهم بضعة أعواد من الصنوبر، وبقي في كفِّ آخرَ فرعٌ صغير كامل للصنوبر. مر تجار السوق السوداء من أمامي وهم يضحكون.

حسنًا، كان الكلب قد أرشدني إلى هنا في غفلةٍ مني. عندما أعتقد أنني فقدتُ أثر الكلب أجده يظهر ثانية. كان قد انعطف عند طريق كاواراماتشي. وهكذا خرجتُ إلى ممر المشاة لطريق الترام التي كانت مظلمة نوعًا ما عن طُرق شينكيوغوكو. اختفى الكلب. أخذتُ أنظر يمينًا ويسارًا. ووصلت حتى طريق السيارات أبحث بعيني عن مصير الكلب.

وعندها وقفَت أمام عيني سيارةُ أجرة فاخرة ذات هيكل لامع. فُتح الباب، فركبتِ امرأة في البداية. نظرتُ بلا وعي إلى تلك الناحية. انتبه فجأةً لي الرجل الذي كان على وشْك أن يركب السيارة بعد المرأة، وتسمَّر واقفًا في مكانه.

كان ذلك الرجل هو كبير الرهبان. لا أدري كيف ولماذا كبير الرهبان الذي مرَّ بجانبي في الاتجاه المعاكس منذ قليل، دار دورةً كاملة هذه المرة، ثم يكون مصيري أن ألقاه أمامي مرةً أخرى؟ على كل حال كان ذلك الرجل هو كبير الرهبان، ولون المعطف الأحمر الفاقع الذي ترتديه المرأة التي ركبت أولًا، هو نفس اللون الذي رأيته منذ قليل ولا يزال باقيًا في ذاكرتي.

هذه المرة لم يكن هناك طريقة لتفاديه. ولكن مع صدمة المفاجأة لم أستطِع التكلم. من قبل أن يخرج صوتي، كان صوت التلعثم يغلي داخل فمي. وأخيرًا ظهرت على وجهي ملامحُ لم أكن أتخيل أنها تظهر. ما حدث أنني ابتسمتُ لكبير الرهبان دون أن يكون لذلك أي علاقة بالموقف الذي نحن فيه.

ولا أستطيع أن أفسِّر أو أشرح معنى تلك الابتسامة. فقد كانت الابتسامة كأنها جاءت من خارجي، والتصقت فجأةً فوق فمي. ولكن كبير الرهبان الذي رأى ابتسامتي تغيَّر لون وجهه.

«أيها الغبي! هل كنت تتبع أثري؟»

بعد أن عنَّفني ذلك التعنيف، ركب كبير الرهبان على الفور السيارة وهو ينظر إليَّ بطرْف عينيه، وأُغلق الباب محدثًا صوتًا مدويًا، وغادرت السيارة الفاخرة بسرعة عالية. وعندها اتضح لي فجأةً أن كبير الرهبان كان قد انتبه لي بالتأكيد عندما قابلته منذ قليل في طريق شينكيوغوكو.

في اليوم التالي، انتظرتُ أن يستدعيني كبير الرهبان لغرفته ليوبخني. ومن المفترض أن تكون تلك فرصةً لي لتبريرِ ما حدث. ولكن وكما حدث في حادثة دهسي للعاهرة بدأ تعذيب كبير الرهبان لي بالصمت والتجاهل.

وفي ذلك الوقت نفسه جاءت صدفةً رسالةٌ من أمي. وكانت نهاية الرسالة هي نفس ما في الرسالة السابقة، أنها تعيش على أملِ التمتُّع باليوم الذي أصير فيه صاحبَ معبد روكوؤنجي.

كلما أتذكَّر الكلمات العاصفة التي انهال بها عليَّ كبير الرهبان بقوله: «أيها الغبي! هل كنت تتبع أثري؟» أجدها لا تناسبه مطلقًا. لو كان راهبًا يتميز باتساع الأفق وغنيًّا بروح الدعابة، لمَا أمطر تلميذه بمثل هذا التعنيف الفظ كالرعد. وبدلًا من ذلك كان عليه أن يلفظ بكلمة لها فاعلية أكثر مثل طعن السيف. كان أمرًا لا يمكن إصلاحه أبدًا، ولكن لو فكَّرنا في الأمر بعد حدوثه، لا شك أن كبير الرهبان وقتها أساء فهمي، وفكَّر أنني عندما اكتُشِفت في نهاية تتبُّعي لأثره بسوء نية، أظهرتُ تلك الابتسامة الساخرة، فغضِب تلك الغضبة الوضيعة بعد قليل من الحَيرة والتردُّد.

ولكن على أي حال، صارت أيامي مثقلةً بالقلق مرةً ثانية مع صمت كبير الرهبان. صار وجود كبير الرهبان ذا قوة كبيرة، مثل ظلِّ حشرة العُثَّة التي تظل تطير أمام عين الشخص بإزعاج. كان من المعتاد أن كبير الرهبان عندما يُدعى إلى مناسبةٍ دينية أن يصطحب معه مساعدًا له أو اثنين، ورغم أنه في الأصل كان نائب كبير الرهبان كان هو بالضرورة الذي يقوم بدور مصاحبته، ولكن في الأيام الأخيرة، وكما يطلق عليه الدمقرطة، كان هذا الدور يجري بين خمسة بالتناوب، هم نائب كبير الرهبان والراهب المناوب وأنا واثنان آخران من تلاميذ الرهبنة. وكان مدير الدير الذي حتى الآن يتحدَّث الجميع عن استبداده، قد مات في الحرب بعد أن ذهب إلى الجيش ولم يَعُد، ولذا أُضيف إلى نائب كبير الرهبان ذي الخامسة والأربعين من العمر مهامُّ منصب مدير الدير، ومع موت تسوروكاوا استكمل التلاميذ بتلميذ بديل.

في ذلك الوقت نفسه، مات راهب معبد له تاريخ عريق يتبع نفس طائفة شوكوكوجي، فدُعي كبير الرهبان إلى مراسم ترسيم الراهب الجديد، وكان ذلك دوري أنا في مصاحبته. ولأن كبير الرهبان لم يتراجع تراجعًا خاصًّا عن صحبتي له؛ لذا انتظرتُ أنا الحصولَ على فرصة لتبريرِ ما حدث نوعًا ما أثناء الذهاب أو العودة. ولكن في الليلة التي قبل الذهاب مباشرةً أُضيف إلى الصحبة تلميذٌ آخر من زملائي، وبذلك صارت أمنيتي في ذلك اليوم بالفعل هباءً.

لا شك أن الشخص المحبَّ لأدب الخمسة جبال في عصر كاماكورا، يحفظ كلمات ترسيم الراهب زنكيو سكيشيتسو عند تنصيبه راهبًا مقيمًا لمعبد مانجوجي في كيوتو عام ١٣٦١. ترك الراهب الجديد كلماتِ ترسيم جميلة تصف كلَّ مشاهد الطريق التي أتاها واحدةً بعد أخرى من وصوله إلى معبده الجديد ودخوله من مدخل الجبل إلى قاعة بوذا ثم قاعة تسوتشيدو فقاعة الأسلاف، وفي النهاية تقدُّمه إلى غرفة مبيت الراهب المقيم.

يصِف الراهب المقيم ترسيمَه بفخر وقلبه يرقص فرحًا كما يلي:

«في أعظم مكان في السماء، أفتح قُفل بوابة تيجومانجو وأنا أعزلُ اليد، وأصعد جبل كونرون العظيم عاريَ القدَم.»

بدأ حرق البخور، وأُقيمَ طقس تبخير المصادقة من معلِّم الراهب المقيم ببخور التعميد. في الزمن الماضي عندما كانت طائفة الزِّن لا تتقيد بالعادات، وتعظِّم نِسبَ الاستنارة الفردية أكثرَ من أي أمرٍ آخر، لم يكن المعلِّم هو الذي يختار التلميذ، بل على العكس كان التلميذ هو الذي يختار معلِّمه. والتلميذ لا يحصُل على الاعتراف فقط من أول معلِّم تعلَّم على يديه، بل يحصُل من عدة معلِّمين حصل على أيديهم على شهادة الاستنارة، ومن بين هؤلاء يعلن على الملأ اسم المعلِّم الذي سيتبع تعاليمه وذلك عند طقس التبخير.

أثناء مشاهدتي لطقس حرق البخور المشرِق هذا، احترت في التفكير، إذا توليتُ أنا خلافة منصب كبير رهبان معبد روكوؤنجي وعند اشتراكي في طقس حرق البخور هذا، هل يا تُرى سيكون عليَّ كما جرت العادة أن أذكر اسمَ معلِّمي؟ ربما سأخرق التقاليد المستمرة من سبعمائة عام وأذكر اسمًا مختلفًا. أخذتُ أتخيَّل أحلامًا أنني إذا حرقتُ بخور طقس تبخير المعلِّم في يومٍ ما … يكون في ربيع مبكِّر وقت العصر حيث غرفة كبير الرهبان باردة، ورائحة خليط الأنواع الخمسة من البخور تملأ المكان، وسط الأشعة الخلفية اللامعة التي تحيط بظهر القاعة الرئيسة وأدوات الطقوس الثلاث التي تلمع في عمق ستائر الزينة النحاسية، ووسط أوشحة الرهبان المصطفِّين الزاهية الألوان. أخذت أرسم في خيالي هيئتي ككبير رهبان في طقس الترسيم.

… في ذلك الوقت حقًّا، من المؤكد أنني سأطيح عُرض الحائط بتلك التقاليد بخيانة مشرِقة في ذلك العالم وأنا أتراقص في هواء بارد لبداية الربيع. ولن يستطيع الرهبان المصطفُّون على مقاعدهم الكلام من شدة الدهشة، وبالتأكيد سيزرقُّ لون وجوههم من الغضب. فأنا لن أقول اسم كبير الرهبان بلساني. سأقول اسم شخص آخر … اسم شخص آخر؟ ولكن مَن هو يا تُرى معلِّمي الحقيقي الذي جعلني أصِل إلى الاستنارة. مَن هو شيخي الحقيقي في الديانة؟ يتلعثم فمي. ذلك الاسم الآخر يعيقه صوتُ التلعثم فلا يخرج بسهولة. من المؤكد أنني سأتلعثم. من المؤكَّد أنني وأنا أتلعثم سأحاول أن أنطقَ ذلك الاسم الآخر فأبدأ بقول «الجَمال»، ثم أبدأ في قول «العدم». وعندها تضجُّ القاعة بالضحكات، وفي وسط أصوات الضحك من المؤكد أنني سأقف في حالةٍ قبيحة يُرثى لها.

… استيقظتُ من خيالاتي فجأة. فثمَّة ما يجب على كبير الرهبان فِعله ويحتاج مني مساعدته بصفتي مساعدًا له. في الأصل بالنسبة للمساعد الوقوفُ في هذا الموقف هو فخرٌ بمعنى الكلمة، فقد كان كبير رهبان معبد روكوؤنجي هو أعلى مرتبة بين الضيوف. والأعلى مرتبة من الضيوف هو الذي عند انتهاء طقس تبخير المعلِّم، يدقُّ بمطرقة تسمَّى المطرقة البيضاء، ويبرهن على أن الراهب المقيم الجديد ليس بوذا مزيفًا، بمعنى أنه ليس راهبًا مزيفًا.

كبير الرهبان تلا ما يلي:

«هوئن ريوشوشيو

طوكان داي اتشيغي.»

(بمعنى يجب أن يكون جميعُ مَن حضر هذا الطقس من الرهبان العظام أولَ العالمين بالأمر.)

ودقَّ المطرقة البيضاء بصوتٍ مدوٍّ. تردَّد صدى صوت تلك المطرقة في أنحاء غرفة الراهب المقيم، وجعلني مرةً أخرى أتذكَّر قوة السلطة المعجزة التي يمتلكها كبير الرهبان.

لم أعُد أتحمَّل التجاهل الصامت لكبير الرهبان الذي لا أعرف إلى متى سيستمر. لو كنت أحمل مشاعرَ إنسانية نوعًا ما، فما من قانون يقول بأنه لا يجب انتظار مشاعر من الطرف الآخر تناسب تلك المشاعر. سواء أكانت حبًّا أم كرهًا.

إن مراقبة وجه كبير الرهبان في كل وقت، صارت عادتي التي تدعو إلى الأسى، ولكن لم تبرُز على ذلك الوجه أي مشاعر ولو بقدر ضئيل. لم يكن ذلك الوجه الذي بلا مشاعر حتى باردًا. حتى كان عدم وجود مشاعر يعني الاحتقار، فلم يكن ذلك الاحتقار موجهًا لي شخصيًّا، بل هو نفس نوع الاحتقار الذي يوجَّه لشيء أكثرَ شمولية، على سبيل المثال إلى البشرية عامة، أو إلى أفكارٍ تجريدية متنوعة.

غصبتُ نفسي منذ ذلك الحين على تخيُّل رأس كبير الرهبان الحيواني، وهيئته الجسدية المخزية في ذهني. أتخيَّله وهو يتغوَّط، أكثرَ من ذلك، أتخيَّل منظره وهو نائم مع المرأة ذات المعطف الأحمر القاني. تخيَّلت موضعه وقد تحرَّرت ملامح وجهه التي بلا مشاعر، وصار وجهه ذا مشاعر لا يمكن التفرقة هل هي تضحك بتراخٍ بسبب المتعة، أم هي ملامح التألم؟

ذاب اللحم الطري اللامع مع لحم المرأة الطري اللامع مثله، وكان تقريبًا لا يمكن معرفة الفَرق بينهما. يتدافع بطن كبير الرهبان المتضخم مع بطن المرأة المتضخم … ولكن الأمر العجيب أنني مهما تشجَّعت في التخيل، يصل وجه كبير الرهبان الذي بلا مشاعر في التو والحال، مع ملامح حيوانية لممارسة الجنس أو التغوُّط، وما من شيء يدفن الفجوة ما بين ذلك. فلا يقلِّص تلك الفجوة ألوانُ مشاعر الحياة اليومية المتعددة بما يشبه قوس قُزح، ولكن كل واحدة تغيَّرت إلى واحدة مختلفة، من النقيض إلى النقيض. إذا تحدَّثنا عمَّا يقلِّص تلك الفجوة الضئيلة، ما يعطي إشارةً بسيطة لذلك، فليس إلا لحظة تأنيب في غاية الخسة يقول لي فيها: «أيها الأحمق! هل كنت تتبع أثري؟» فقط.

بعد طول التفكير وطول الانتظار، صرت أسيرًا لرغبةٍ لا أستطيع نزْعَها، محتواها أنني أريد الإمساكَ بوضوح، بوجه واحد كريه لكبير الرهبان. ونتيجةً لذلك كانت الحيلة التالية التي وصلت إليها تُعتبر مسًّا من الجنون، وأمرًا طفوليًّا، ومبدئيًّا، كانت تسبِّب لي أنا ضررًا واضحًا، ولكني لم أستطِع التحكُّم في نفسي. ولم أضَع أيَّ اعتبار حتى لكون مثل ذلك العبث يمكن أن يحمل ضررًا مثل أن يجعل كبير الرهبان يبالغ في سوء الفهم ويصل الأمر إلى أن يتأكَّد من جريمتي.

ذهبت إلى الجامعة وسألت كاشيواغي عن اسم المحل ومكانه. وأعلمني كاشيواغي ما أريد دون أن يسألني عن السبب. وعلى الفور ذهبت إلى المحل في ذلك اليوم، ورأيت الأعداد الكبيرة من الصور من حجم البطاقات البريدية الكبيرة لمشاهير الغيشا في منطقة غيون.

ظهرت في البداية وجوه الفتيات بالمساحيق الصناعية متشابهةً ومتساوية، ولكن مع الوقت بدأت تبرُز اختلافات لصفات شخصية دقيقة من وسطهن، ويشف من نفس قناع المساحيق البيضاء والحمراء، ومن الظلام والنور، المعرفة الرشيقة والغباء الجميل، الغضب والمرح الذي لا يتوقَّف، التعاسة والسعادة، بدأت النبرة اللونية المتنوعة تظهر في حيوية. وأخيرًا وصلت إلى الصورة التي جئتُ في طلبها. تلك الصورة، بفضل الإضاءة الباهرة للمحل، كانت الورقة اللميع تعكس لمعانها، وكنتُ على وشْك خطر أن أتخطَّاها ولا أراها، ولكن بعد أن هدأ اللمعان في داخل يدي، ظهر هناك وجهُ المرأة ذات المعطف الأحمر الغامق.

فقلت لصاحب المحل:

«أعطني هذه من فضلك!»

كان العجب من كيفية أنني صرتُ بهذه الدرجة من الجراءة، يتوافق بالضبط مع العجب أنني عندما بدأت هذه الخُطة تغيَّرتُ فجأةً لأصير مرِحًا وفرِحًا بشجاعة القلب التي لا يمكن تفسيرُها. فكرتُ في البداية أن أستغل وقتَ غياب كبير الرهبان عن المعبد، بطريقةٍ لا يُعرف بها مَن الذي فعل ذلك؟ ولكن تدريجيًّا ارتفعت معنوياتي كثيرًا، لدرجةٍ جعلتني أختار طريقةً خطيرة يُعرف منها أنني الفاعل.

ما زلتُ حتى الآن أتولَّى توصيل جرائد الصباح إلى غرفة كبير الرهبان. ذهبت في صباح أحد أيام شهر مارس حيث الجو ما زال به بعض البرودة التي تجعل البشَرة تقشعر، كما هي العادة إلى مدخل المعبد لإحضار الجرائد. ثم أخرجتُ من جيبي صورةَ فتاة غيون، وعندما حشرتها داخل إحدى الجرائد، دقَّ قلبي بعنف.

تصبُّ شمس الصباح أشعَّتها على أشجار النخيل المحاطة بسور الزرع الدائري في منتصف مدخل العربات الدائري للحديقة الأمامية. وتُظلل أشعةُ شمس الصباح تلك، سطحَ الجذوع الخشِن في تألُّق وازدهار. وفي الجهة اليسرى أشجارُ زيزفون. فوق تلك الأفرع تتوقَّف بضعة طيور من طيور الكناريا التي تأخَّرت في عودتها إلى موطنها، وتصدِر أصواتًا تشبه صوت طقطقة السبحة. شعرتُ بالدهشة بسبب وجود طيور كناريا إلى هذا الوقت، ولكنها كانت بالتأكيد طيورَ الكناريا بالنظر إلى امتداد ريش الصدر الأصفر القليل.

بعد أن قمتُ بالتنظيف والكنس بإهمال، مشيتُ في الممر المبتلِّ هنا وهناك، وأنا أحرص على ألا تبتلَّ قدماي. غرفة كبير الرهبان في مبنى المكتبة الكبرى، كانت الأبواب مغلقة في سكون. وكان الصباح مبكرًا لدرجة أن لون تلك الأبواب البيضاء ما زالت تبدو زاهية.

جثوت على أرضية الممر وقلت الكلمة المعتادة:

«أستأذنكم في الدخول!»

أجاب كبير الرهبان. فتحتُ الباب ودخلت، ووضعت الجرائد المطوية بخفةٍ فوق ركنٍ من أركان المكتب. كان كبير الرهبان خافضًا عينيه يقرأ في كتابٍ ما. ولم ينظر إلى عينيَّ … تراجعتُ وأغلقت الباب، اطمأن قلبي بشدة، ومشيت ببطء متجهًا إلى غرفتي.

جلستُ في غرفتي، وأخيرًا استسلمت لشعور الخفقان المرتفع أثناء انتظاري موعدَ الذهاب إلى الجامعة، ولم يسبق لي انتظارُ شيءٍ ما بمثل هذا الأمل. ورغم أنني فعلتُ فَعلتي تلك متوقعًا كراهيةَ كبير الرهبان، لكن قلبي وصل به الحال إلى درجة الحُلم بمشهدٍ تفور فيه العواطف الدرامية لإنسانٍ يتفاهم مع إنسان.

ربما يأتي فجأةً كبير الرهبان إلى غرفتي ويعفو عني. وأصل أنا الذي تم العفو عني، ربما للمرة الأولى في حياتي منذ ولادتي، إلى ذلك الشعور المشرق البريء الذي كان يشعر به تسوروكاوا يوميًّا. وعلى الأرجح سيحتضنني ولا شكَّ أنه سيتبقى فقط شعور الندم لتأخُّر تفهُّم كلٍّ منا للآخر.

لا أستطيع شرْحَ سببَ إصابتي بحمى تلك التخيُّلات البلهاء، حتى لو كان ذلك لفترة وجيزة. إذا فكرتُ بهدوء وسكينة أدركتُ أنني أثناء صنعي بنفسي سببًا لفقدان الأمل للأبد في أن أصبح سيدَ المعبد الذهبي، فبفضلِ فعلٍ شاذ ممل، أغضبتُ كبير الرهبان، وجعلته يُزيل اسمي من المرشحين لخلافته في منصبه، أثناء ذلك كنت قد نسيت حتى تعلُّقي الطويل بالمعبد الذهبي.

كنت أصغي السمع محاولًا سماعَ أيِّ شيء قادم من غرفة كبير الرهبان بمبنى المكتبة الكبرى. ولكن لم أستطِع سماع أي صوت.

هذه المرة انتظرت غضبَ كبير الرهبان العاصف في هيئة صراخ صاعق. وفكَّرت أنني لستُ نادمًا حتى لو وصل الأمر إلى سقوطي على الأرض تحت وطء الركل واللطم ونزفي الدماء.

ولكن مبنى المكتبة الكبرى كان غارقًا في السكينة والهدوء، ولم يأتِ من ناحيته أيُّ نوع من الأصوات.

عندما خرجت من بوابة معبد روكوؤنجي في صباح يوم بداية الدراسة أخيرًا، كان قلبي مرهقًا ومدمرًا تمامًا. وحتى لو وصلت إلى الجامعة، فلم يدخل من المحاضرات شيء ذو بال إلى أذني ولا إلى ذهني. وعندما وجَّه لي المحاضر سؤالًا وأجبتُ إجابةً خاطئة ضحِك الجميع، ولكن عندما نظرت إلى كاشيواغي وجدته يتأمل خارج النافذة بلا اهتمام. لا ريب أن كاشيواغي كان مدركًا للدراما التي داخل قلبي.

حتى بعد العودة إلى المعبد لم أجد أيَّ تغيير. كانت أبدية حياة المعبد اليومية ذات الرائحة العفنة، مصمَّمة بحيث لا يتولَّد بها أي اختلافات أو فجوات بين يوم ويوم. كان اليوم يوافق يومَ محاضرة الكتب الدينية التي تُعقَد مرتين في الشهر، فقد تجمَّع كلُّ مَن في المعبد في غرفة كبير الرهبان ليستمعوا إلى محاضرته، وكنت أومن أن كبير الرهبان سيعتمد على محاضرة «حاجز بلا أبواب» ويوبِّخني أمام الجميع.

وكان سبب إيماني بذلك هو اعتقادي التالي: أجلس أمام وجه كبير الرهبان للاستماع لمحاضرة هذه الليلة، وهو أمرٌ لا يتوافق مع شخصيتي بأي حال، ولكني أحسستُ داخلي بما يمكن تسميته نوعًا من أنواع الشجاعة الرجولية. وهنا يردُّ كبير الرهبان بإظهار فضيلة رجولية، وينهي حالةَ النفاق، فيعترف أمام كل رجال المعبد بأفعاله، وعلاوةً على ذلك يقوم بتوبيخي عن أفعالي الدنيئة.

… تجمَّع كل رجال المعبد تحت مصباح كهربائي مظلم، وفي الأيادي كتاب «حاجز بلا أبواب». كان الليل باردًا، ولكن لم يكن في الغرفة غير مجمرة صغيرة بجوار كبير الرهبان. ويُسمع صوت أحدهم يسحب مخاط أنفه. كانت جميع الوجوه المتجهة لأسفل مأخوذة في ركن الظل، ويفوح من كل وجهٍ منهم شيءٌ لا يمكن وصفُه من انعدام القوة. كان الراهب المستجد المنضم حديثًا رجلًا يعمل في النهار مدرسًا في مدرسة ابتدائية، يضع نظارة لقِصر النظر دائمًا تنزلق على أرنبة أنفه الفقير.

كنتُ الوحيد الذي يحسُّ داخلي بقوة. أو على الأقل هذا ما كنت أعتقده. فتح كبير الرهبان الكتاب ثم ألقى نظرةً على الحاضرين، وتابعتْ عيناي عينَي كبير الرهبان. كنتُ أحاول أن أريَه أن عينيَّ ليستا منكسرتين بتاتًا. ولكنَّ عينَي كبير الرهبان المحاطتين بتجاعيد سمينة، لم تُبدِ أيَّ مشاعر أو اهتمام، مرَّت بي ثم انتقلت ذاهبة إلى وجهِ مَن بجواري.

بدأ الدرس. كنتُ فقط أنتظر في أي جزء سيتحوَّل الدرس فجأةً إلى موضوعي. أصغيتُ أذني جيدًا. استمر كبير الرهبان في الدرس بصوتٍ حادٍّ وعالٍ. ولكني لم أستطِع سماع صوت قلبه الداخلي بتاتًا.

ظللتُ تلك الليلة مع عدم استطاعتي النومَ أحتقر كبير الرهبان، وحاولتُ أن أسخر من نفاقه، لكن لم يسمح لي الندم الذي بدأ ينمو تدريجيًّا، أن أظلَّ طويلًا بتلك المشاعر المتعجرفة. ارتبط احتقاري تجاه نفاق كبير الرهبان، ارتباطًا مريبًا مع ضَعفي الروحي، وأخيرًا بعد أن أدركت أنه منافس لا يمكن التغلُّب عليه، مهما بدا ذلك ممكنًا، وصلتُ لدرجة الاعتقاد أنني حتى إذا اعتذرتُ إليه، فلن يعنيَ ذلك هزيمتي. بدأ قلبي في طور الهبوط سريعًا بخطواتٍ متعجلة، من المنحدر الصاعد بدرجةِ ميل مفاجئة الذي صعده مرةً بالفعل.

قرَّرت أن أذهب في الصباح للاعتذار إليه. وعندما جاء الصباح قرَّرت الذهابَ إليه خلال اليوم للاعتذار. لم تَبدُ على ملامح كبير الرهبان أيُّ بادرة تغيُّر عما سبق.

كان يومًا تصخب فيه الرياح بشدة. بعد أن عدتُ من الجامعة، فتحتُ درج المكتب دون غرض معيَّن، واكتشفت وجود شيء ما ملفوف بورق أبيض. كان الشيء الملفوف هو الصورة. ولم يكن مكتوبًا أيُّ شيء على ورقة اللف.

ويبدو أن نيةَ كبير الرهبان إنهاءُ الأمر بهذه الطريقة. ويبدو أنه لم يتغاضَ عن الموضوع بوضوح، ولكنه أراد أن يعرفني عدمَ جدوى فعلي. ولكن تلك الطريقة المريبة في إعادة الصورة أعطت لي فجأةً حشدًا من التخيُّلات المتنوِّعة.

حدَّثتُ نفسي: «لا ريب أن كبير الرهبان أيضًا عانى نوعًا ما. ولا ريب أنه فعل ذلك الأمر بعد معاناة رهيبة. الآن هو بالتأكيد يكرهني. وربما لا يكرهني بسبب الصورة ذاتها، بل لأنني جعلته، وهو كبير رهبان هذا المعبد، يحمل تلك الصورةَ داخل معبده متسللًا لكيلا يراها أحد، وينتهز فرصة عدم وجود أحد في الممر فيتخطاه بخطوات مريبة، ويزور غرفةَ أحد تلاميذه التي لم يدخلها قط، ويفتح درج مكتبي مثل مجرم يرتكب جريمة، حصل كبير الرهبان على سببٍ كافٍ لكرهي الآن، بجعله يُضطر إلى فعل ذلك السلوك الخسيس.»

جاش صدري الذي وصل إلى هذا التفكير، فجأةً بفرحة عارمة لا يُعرف كنهها. وبعد ذلك عمِلت في أعمال ممتعة.

مزقتُ صورة المرأة إلى قِطَع دقيقة بالمقص، وطويت الورق المقوى للكراس إلى نصفين وقبضتُ عليها وذهبتُ إلى جوار المعبد الذهبي.

كان المعبد الذهبي تحت سماء الليل التي يصخب فيها القمر مع الريح، يرتفع شامخًا ممتلئًا بظلام كئيب لا يُعرف وقتها بدرجة متساوية. وعندما تستقبل الأعمدة ذات الجسد الرفيع ضوءَ القمر، بدت كما لو أنها أوتارُ آلة القانون الياباني، وبدا المعبد الذهبي وكأنه آلة موسيقية غريبة عملاقة. يبدو كذلك دائمًا بسبب تعرُّجات القمر، ولكن كان يبدو الليلة بصفةٍ خاصة حقًّا كذلك. ولكن كانت الريح تهب وتمرُّ بين فراغات أوتار آلة القانون بلا أي جدوى ودون أن تصدِر أيَّ صوت مطلقًا.

التقتُّ حجرًا صغيرًا من تحت قدمي، ووضعته في الورقة وغلَّفته بها جيدًا ثم ربطتها بشدة وحزم. وقمت بإلقاء قِطَع وجه المرأة الذي لُصق به مرساة ثقيلة وقُطِّع بهذا الشكل الرفيع في مركز بِركة كيوكو. امتدَّت موجات البِركة، ثم أخيرًا وصلتُ إلى ما تحت أقدامي أنا الذي أقف على حافة ماء البِركة.

•••

كان هروبي المفاجئ في شهر نوفمبر من ذلك العام نتيجةً لتراكم كل هذه الأمور.

عند التفكير في الأمر بعد حدوثه، فقد كانت هناك فترة للحيرة والتفكير الطويل المتأني لهذا الهروب الذي يبدو أنه مفاجئ، ولكني أفضِّل التفكير فيه على أنه فِعل مندفع فعلتُه للتخلُّص من كل ذلك. فلأن ثمة نقصًا داخليًّا جذريًّا في الاندفاع؛ لذا أفضِّل محاكاةَ السلوك المندفع خاصةً. على سبيل المثال، هل يمكن أن يقال عن الرجل الذي يفكِّر في زيارة قبر أبيه، فيضع خطةً لذلك في الليلة السابقة، ولكنه عندما خرج من بيته في الصباح ووصل إلى المحطة، غيَّر رأيه وذهب إلى بيتِ نديم له، هل يمكن في مثل هذه الحالة القول قولًا خالصًا عن ذلك الرجل إنه شخص مندفع؟ ألا يكون تغيُّر قلبه المفاجئ هذا، عبارة عن ثأر منه تجاه إرادته الذاتية بدرجةٍ أكثرَ وعيًا من التخطيط الطويل لزيارة القبر الذي قام به حتى ذلك الوقت؟

يمكن اعتبار الدافع المباشر لهروبي هو قول كبير الرهبان لي في اليوم السابق، بصوتٍ صارم، لأول مرة وبكل وضوح وبلا مواربة:

«لقد كنت أنوي في قرارة نفسي أن أجعلك في نهاية الأمر خليفتي، ولكن يجب عليَّ اليوم أن أخبرك أن ذلك الشعور قد زال تمامًا.»

ولكن رغم أنها كانت المرة الأولى التي قيل لي فيها ذلك، فإنني كنت أتوقَّع هذا القول منذ زمن بعيد، ومن المفترض أنني كنتُ على أتم الاستعداد لاستقبال ذلك الإعلان. فلم يتم إعلامي به إعلامًا مفاجئًا وعنيفًا. وعلاوةً على ذلك لا يمكن بعد كلِّ ما حدث أن أندهش أو أضطرب وأحتار. ورغم ذلك، كنتُ أفضِّل التفكير أن ذلك الهروب تم بدافع وتحفيز من جملة كبير الرهبان تلك.

بدأ فقدان اهتمامي بتحصيل العلم يبرُز مع الأيام بعد أن حصلتُ على تأكيد من كراهية كبير الرهبان لي من خلال مكيدة الصورة. كانت نتيجتي في العام الأول من البرنامج التأهيلي على رأسها ٨٤ درجة في مادتَي اللغة الصينية والتاريخ، وكان الإجَمالي ٧٤٨ درجة، وترتيبي كان الرابع والعشرين من إجَمالي ٨٤ طالبًا. وعدد ساعات الغياب لم يكن إلا مجرد ١٤ ساعة فقط من إجَمالي ٤٦٤ ساعة. وكانت نتيجة العام الثاني من البرنامج التأهيلي، الدرجات الإجَمالية كانت ٦٩٣ درجة، وانخفض ترتيبي إلى الترتيب الخامس والثلاثين من بين ٧٧ طالبًا. ولكن بدأ كسلي عن حضور المحاضرات لمجرد الحصول على متعة الغياب في السنة الثالثة، حيث إنني لم أكن أملك أموالًا أصرفها في أوقات الفراغ، وبدأ هذا الفصل الدراسي الجديد مباشرةً بعد حادثة الصورة.

عندما انتهى الفصل الدراسي الأول، جاء إنذار من الجامعة، وعنَّفني كبير الرهبان. كان سبب التعنيف هو أن درجاتي سيئة وعدد ساعات غيابي كثير، ولكن كان كسلي عن محاضرات التأمل والتركيز الذي تُخصِّص الجامعة له مجرد ثلاثة أيام فقط في الفصل الدراسي الواحد، هو الذي أغضب كبير الرهبان بشدة. كان وقت التأمل والتركيز هو ثلاثة أيام قبل كلٍّ من عطلة الصيف وعطلة الخريف وعطلة الربيع كلَّ مرة يوم على حدة، وكانت تُقام بنفس طريقة المحاضرات التخصصية للمواد المختلفة.

كان ذلك التوبيخ فرصةً نادرة لأن يستدعيني كبير الرهبان خصوصًا إلى غرفته. كنت أقف صامتًا متدليَ الرأس. ورغم أن ما أنتظر حدوثه في قلبي خفيةً هو شيء واحد وحيد، فإن كبير الرهبان لم ينبِس بكلمة واحدة بخصوص حادث الصورة، ولم يَعُد للماضي أكثرَ إلى حادث ابتزاز العاهرة.

ولكن منذ ذلك الوقت صار سلوك كبير الرهبان تجاهي واضحًا في أنه يعاملني بجفاء كالغرباء. ويمكن القول إن هذا هو المصير الذي كنت أريده، وهو الدليل الذي كنت أتمناه، ويُعتبر نوعًا من أنواع انتصاري عليه، وكان مجرَّد تكاسلي سببًا يكفي للحصول عليه.

في الفصل الدراسي الأول من السنة الثالثة بلغ عدد ساعات غيابي عن المحاضرات بضعًا وستين ساعة، وهو ما يبلغ خمسة أمثال الفصول الدراسية الثلاثة كلها في السنة الأولى. كل هذه الساعات لم أقضِها في قراءة الكتب مثلًا، ولم يكن معي المال الذي أصرفه في المتعة؛ لذا غير الوقت الذي كنتُ أحيانًا أقضيه مع كاشيواغي، كنت أنفرد بنفسي لا أفعل شيئًا. لقد كنت أقضي الوقت وحيدًا صامتًا دون فعل أي شيء لدرجة أن ذاكرة جامعة أوتاني لا يمكن فصلها عن ذاكرة الكسل والخمول. هل كان ذلك الكسل والخمول أحدَ أنواع التركيز على طريقي الخاصة؟ فأنا لم أشعر بأي ملل من ذلك ولو لحظةً واحدة.

أحيانًا كنتُ أجلس بالساعات فوق العشب أتأمل النمل وهو يبني عشَّه باستخدام حبات من الطين الأحمر. لم يكن النمل هو الذي جذب اهتمامي. وأحيانًا كنتُ أظل وقتًا طويلًا أنظر شاردًا إلى الدخان الرفيع المرتفع من مدخنة المصنع الموجود خلف الجامعة. ولم يكن الدخان هو الذي أثار اهتمامي. كنت أشعر أنني أغطس عنقي تمامًا في وجودي الذاتي. أماكن متفرقة من العالم الخارجي، تبرُد ثم تسخن مرةً أخرى. حقًّا! ماذا يمكنني القول يا تُرى؟ يكوِّن العالم الخارجي نقاطًا متفرقة، ثم يكوِّن مرة ثانية خطوطًا. يتبادل ما في داخلي والعالم الخارجي تبادلًا رخوًا غير منتظم، وتظل المناظر التي بلا معنًى حولي تنعكس على عينيَّ، تقتحم المناظر داخلي بلا إذن، بل وتلمع الأجزاء التي لا تدخل في حيوية ونشاط في الأفق البعيد. ذلك الشيء اللامع، في وقت معيَّن، يكون راية مصنع، أو يكون بقعةً مملة في السور، أو فردة قبقاب قديم رُمي في أرضٍ بها كلأ. تقوم في داخلي الأشياء، كل شيء وأي شيء، لحظةً بلحظة، ثم تنتهي بالموت مرةً ثانية. هل يمكنني الحديث عن الأفكار المتنوعة التي لا تأخذ أشكالًا؟ يمسك الشيء الهام يدَ الشيء التافه، ويأتيني اعتقاد أن الحادث السياسي في أوروبا الذي قرأت عنه في جرائد اليوم وفردة القبقاب التي أمام عينيَّ بينهما رابطةٌ وثيقة لا تنفصم عُراها.

ظللت في إحدى المرات فترة طويلة جدًّا أفكر في الزاوية الحادة التي في طرَف ورقة أحد الأعشاب. ربما كلمة «تفكير» غير مناسبة. فهذه الأفكار العجيبة الضئيلة لا تستمر مطلقًا، فعلاوةً على أنها مشاعرُ ولا تعرف هل هي حية أم ميتة، إلا أنها تظهر متكررة بإلحاحٍ يشبه تكرار اللازمة. لِمَ يجب أن يكون طرَف ورقة العشب هذه، بهذه الزاوية الحادة لهذه الدرجة؟ إذا كانت بزاوية منفرجة فهل ستفقد الأعشاب نوعَها ويجب أن تنهار الطبيعة من هذه الزاوية الواحدة؟ إذا جرَّبت وخلعت أصغر تروس الطبيعة، هل يمكن لك أن تقلب الطبيعةَ بأكملها رأسًا على عقب؟ ثم أظلُّ أفكر عابثًا في هذه الطريقة أو تلك التي تؤدي إلى ذلك.

… تسرَّب على الفور توبيخُ كبير الرهبان، ومع مرور الأيام صارت معاملة رجال المعبد لي تتسم بالعدوانية. وزميلي تلميذ الرهبنة الذي يحقد عليَّ لاستكمالي دراستي الجامعية، كان دائمًا ما يتأملني بضحكةٍ خفيفة تنِم عن التفاخر بالفوز.

استمرَّت حياتي داخل المعبد في الصيف وفي الخريف، دون أن أتكلم تقريبًا مع الآخرين. وأمر كبير الرهبان نائبه أن يستدعيني في صباح اليوم الذي هربت فيه.

كان ذلك في اليوم التاسع من شهر أكتوبر. وكان قبل ذهابي مباشرةً إلى الجامعة، فقد ذهبت إلى كبير الرهبان بالزي الرسمي للجامعة.

عندما قابلني كبير الرهبان الذي في الأصل وجهه سمين، ومن استيائه من وجوب التحدُّث إليَّ، كان ذلك الوجه جامدًا منكمشًا بدرجة غير طبيعية. أمَّا عن حالي أنا، فقد كنتُ مستمتعًا بنظرة كبير الرهبان إليَّ كأنه ينظر إلى مجذوم. كانت تلك العين بحقٍّ هي العين التي تمدح المشاعر الإنسانية التي تمنيتُها.

أشاح كبير الرهبان بنظره عني على الفور، وتحدَّث وهو يُدلِّك يديه فوق المجمرة. كان الصوت الصادر عن احتكاك لحم اليدين الطريين بعضهما ببعض، يتردَّد صداه داخل هواء الصباح في بدايات الشتاء، تردُّدًا خافتًا، ولكن على أنه تشويش في طبلة الأذن التي تهدف إلى الصفاء والنقاء. كان لحم كبير الرهبان يعطي إحساسًا بالألفة بعضه مع بعض أكثرَ من اللازم.

«هل تفكر إلى أي درجة يعاني ويتعذَّب والدك المتوفى؟ انظر إلى هذا الخطاب. أرسلَته الجامعة بلهجة عنيفة. ماذا تعتقد أن يصيرَ عليه الأمر بهذا الحال؟ عليك التفكير في الأمر بنفسك بجدية.» وبعد ذلك، استمر في الحديث وقال تلك الكلمات: «لقد حدث أنني كنتُ أفكِّر مليًّا وأنوي في قلبي أن أجعلك تخلفني، ولكن يجب عليَّ الآن أن أقول لك بمنتهى الوضوح إن هذه المشاعر لم تَعُد موجودة.»

بعد أن ظللتُ صامتًا فترة طويلة قلتُ:

«هل يعني ذلك أنك ستتخلى عني؟»

لم يُجِب كبير الرهبان على الفور. ثم أخيرًا:

«أما زلتَ تريد مني التخلِّي عنك، بعد كلِّ أفعالك تلك؟»

لم أُجِب. بعد مرور فترة من الوقت، نسيتُ نفسي وتكلمتُ عن شيء آخر وأنا أتلعثم.

«أنت يا كبير الرهبان تعرف عني كلَّ شيء. وأنا أعتقد أنني كذلك أعرفك.»

«ماذا تعني بأنك تعرفني؟» … عيونُ كبير الرهبان صارت مظلمة. «هذا أمرٌ لا نفع فيه وغير ذي فائدة.»

لم أرَ في حياتي كلِّها وجهًا لشخص قد تخلَّى عن هذه الدنيا تخليًا تامًّا وكاملًا مثل ما رأيتُ وقتها. لم أرَ وجهَ إنسان يحتقر هذه الدنيا بهذه الدرجة وتفاصيل الحياة المعيشية، والأموال، والنساء، مع تلويث يده بكل تلك الأشياء … أحسستُ ببشاعة أنني لمست جثةً حية ساخنة تنبض بالدماء.

في ذلك الوقت، فار وقام فيَّ إحساس مؤلم برغبتي في الابتعاد فترة عن كل الأمور التي تحيط بي. بعد أن غادرت غرفةَ كبير الرهبان، فكرتُ في ذلك الأمر، وزادت تلك الأفكار عنفًا.

لففتُ معجم البوذية والناي الذي أعطاه لي كاشيواغي في صرة قماش. وأثناء إسراعي إلى الجامعة وأنا أحمل حقيبتي وتلك الصرة، لم أكن أفكِّر إلا في الرحيل فقط.

عندما دخلت من بوابة الجامعة كان من حسن الحظ أن كاشيواغي يسير أمامي. سحبت ذراع كاشيواغي وأخذته إلى طرف الممر، وطلبت منه قرضًا بثلاثة آلاف ين. وطلبت منه أن يستبدل ذلك بقاموس البوذية والناي الذي أهداني إياه دون زيادة على ذلك.

اختفت من وجه كاشيواغي ما يمكن القول عنه إنه الحبور الفلسفي الذي يعتليه دائمًا عندما يتكلم بطريقة متناقضة. ونظر إليَّ بعين صغيرة ضيقة كأنها تطلق دخانًا.

«في مسرحية هاملت، هل تذكر ماذا كانت نصيحة أبي لايرتيس لابنه؟ [لا تقترض مالًا، ولا تُقرضه. إذا أقرضتَ فستخسر المال، ومع المال ستخسر الصديق].»

قلت أنا:

«أنا لم يَعُد لي أب. إذا كنت ترفض فلا بأس.»

«لم أرفض الأمر بعدُ. لنناقش الأمر في هدوء. فأنا الآن لو جمعتُ كل أموالي لا أدري هل تبلغ ثلاثة آلاف ين أم لا.»

كنتُ على وشْك أن أقول له أن يعصر المال من امرأته، بطريقته التي سمِعتها من معلِّمة تنسيق الزهور، ولكني أعرضتُ عن ذلك.

«أولًا لنفكر في كيفية التصرف في هذا المعجم وهذا الناي.»

بعد أن قال كاشيواغي ذلك، على الفور دار للخلف وتوجَّه ناحية بوابة المدرسة، فدرتُ أنا كذلك، وقلَّلت من سرعة خطواتي ومشيت بمحاذاته. وحكى كاشيواغي لي عن شركة «هيكاري كلوب» المشهورة التي كان رئيسها طالبًا جامعيًّا، وقُبض عليه وحُقق معه بتهمة التعامل في سوق الإقراض السوداء، ولكن أُفرج عنه في شهر سبتمبر، بعد الإفراج عنه انهارت سُمعته للحضيض وأنه يبدو عليه أنه يواجه مصاعب.

كان كاشيواغي يهتم اهتمامًا شديدًا برئيس شركة «هيكاري كلوب» هذا منذ بداية الربيع، وظهر اسمه كثيرًا في أحاديثنا، ولم يتوقَّع كاشيواغي مطلقًا أن ينتحر رئيس شركة «هيكاري كلوب» بعد أسبوعين فقط؛ لأنه كان يؤمن تمامًا أنه من أقوياء المجتمع.

«فيمَ ستستخدم تلك الأموال؟»

فوجئتُ بهذا السؤال؛ لأنني كنت أعتقد أنه سؤال لا يتناسب مع طبيعة شخصية كاشيواغي.

«أريد أن أذهب إلى مكانٍ ما في رحلة استجمام.»

«وهل ستعود ثانية؟»

«ربما.»

«تريد الهروب من ماذا؟»

«أريد الهروب تمامًا من جميعِ ما يحيط بي، من رائحة الضَّعف والاستكانة التي تفوح بكثرة من كلِّ ما يحيط بي … حتى كبير الرهبان، بلا حول ولا قوة، ضعيفٌ ضعفًا مزريًا. هذا ما فهمته.»

«وتهرُب من المعبد الذهبي كذلك؟»

«نعم هو كذلك. أهرُب من المعبد الذهبي أيضًا.»

«هل المعبد الذهبي كذلك بلا قوة؟»

«لا، المعبد الذهبي ليس بلا قوة. ليس ضعيفًا مطلقًا، ولكنه منبعُ كل الضَّعف.»

«هذا أمرٌ متوقَّع أن تفكِّر فيه أنت.»

قال كاشيواغي ذلك وهو يمشي على رصيف المشاة بخطوته إياها التي يحرِّك فيها قدَمه حركةً مُبالغًا فيها، وقرقع لسانه بما يبدو أنه في غاية الاستمتاع.

دخلنا محلًّا صغيرًا باردًا للتحف للقديمة وبِعنا له الناي، كما أرشدني كاشيواغي تمامًا. ولم يمكننا بيعُه إلا بأربعمائة ين فقط. وبعد ذلك عرَّجنا على محل كتب قديمة، وأخيرًا استطعنا بيْعَ المعجم بمائة ين. واصطحبني كاشيواغي إلى مسكنه، من أجل أن يُقرضني الألفين وخمسمائة ين المتبقية.

وهناك طرح عليَّ طرحًا غريبًا. فلأني أعدتُ له الناي، وكذلك يعتبر المعجم هديةً فيبدو الأمر أنني أعدت له الاثنين، فتعتبر الخمسمائة ين التي بيعا بهما أموالَ كاشيواغي، وإذا أضفنا الألفين وخمسمائة ين إلى ذلك، فمن الطبيعي أن يصبح القرض ثلاثة آلاف ين. وقال إنه يريد فائدة ١٠٪ على كل شهر حتى موعد إرجاعها. وهي مقارنةً بفائدة «هيكاري كلوب» المرتفعة التي تبلغ ٣٤٪ تعتبر فائدةً بسيطة ورحيمة. أخرج ورقة ودواة حبر، وكتب تلك الشروط في صيغة فخمة ومهيبة، ثم طلب مني أن أبصم على وثيقة القرض تلك. ولمَّا كنت أكره التفكير في المستقبل، صبغتُ على الفور إبهامي في دواة الحبر وبصمتُ عليها.

… كان قلبي يتعجَّل الأمر. وضعتُ الثلاثة آلاف ين في جيبي وخرجت من مسكن كاشيواغي، وركبت القطار حتى محطة حديقة فوناؤكا ونزلت من القطار، وجريت صاعدًا درجات السلالم الصخرية المنعطفة التي تؤدي إلى معبد تاكيه إيساو الشنتوي. ورأيت أن أحصل على إيحاءٍ ما للمكان الذي أقرِّر السفر إليه من خلال سحبِ قرعة المعبد.

وأثناء صعودي الدرجات الحجرية، بدا لي معبد يوشيترو إيناري الشنتوي ذو اللون الأحمر الفاقع على يميني، وتمثالا الثعلبين الحجريين المتقابلين والمصفَّدين داخل صندوق من الحديد. يلقم الثعلب مخطوطًا بفمه، وأذنه المنتصبة بحدة، مصبوغة من الداخل باللون الأحمر.

كان يومًا يميل إلى البرودة، ومن وقت لآخر تهبُّ نسائم لامعة تحت أشعة الشمس الخافتة. يبدو لون أحجار الدرجات الحجرية التي أصعدها كما لو أنه هطل عليها رمادٌ دقيق بسبب لون الشمس الضعيفة التي تتسرَّب من بين ظلال الأشجار. وبدت تلك الأشعة بسبب ضَعفها الشديد وكأنها رماد متَّسخ.

ولكن عندما وصلتُ إلى الحديقة الأمامية الواسعة لمعبد تاكيه إيساو، كنتُ غارقًا في العَرق لأنني صعدتُ حتى ذلك الارتفاع دفعةً واحدة دون توقُّف. كانت الدرجات التي تؤدي إلى المدخل الرئيس لمعبد الزيارة مستمرة. وتؤدي إليه ساحة مبلَّطة بالأحجار كذلك مستوية وممتدة. تكمُن بين الجانبين اليمين واليسار أفرعُ صنوبر منخفضة ومختبئة في سماء طريق الزيارة. وفي الجانب الأيمن مبنى إدارة المعبد القديم بلون سور الأشجار، وكان معلَّقًا على باب المدخل لافتةٌ كُتب عليها «مركز أبحاث الأقدار». ثمَّة تمثال صنم أبيض أقربُ إلى مبنى الإدارة منه إلى قاعة الصلاة، وتستمر من هناك أشجار أَرْز صغيرة متناثرة هنا وهناك، ويمكن رؤية الجبال الممتدة في الجانب الغربي من ضواحي كيوتو، تحت سماء غائمة وباردة بلون البروتين تضطرب محتويةً على أشعة كئيبة وحزينة.

أُسِّس معبد تاكيه إيساو الشنتوي من أجل القائد نوبوناغا، وهو معبد مخصَّص كذلك للقائد نوبوتادا الابن الأكبر لنوبوناغا. إنه معبدٌ بسيط ومتواضع، ولكن كان الدرابزين ذو اللون الأحمر الذي يحيط بالقاعة الرئيسة هو فقط الملوَّن بالألوان الزاهية.

صعدتُ الدرجات الحجرية، وصلَّيتُ وأخذتُ في يدي الصندوقَ الخشبي القديم السداسي الشكل الموضوع فوق الرفِّ الذي بجانب صندوق النذور والتبرعات. ثم هززتُ الصندوق الخشبي، فوقع من فتحته سهمٌ من الخيزران الرفيع مدبَّب السن. كان مكتوبًا عليه بحبر الفحم الأسود «١٤» فقط.

درتُ للخلف، وأخذتُ أنزل درجات السلالم الحجرية وأنا أهمس «١٤ … ١٤ …» توقَّف على لساني صوتُ ذلك الرقم، واعتقدتُ تدريجيًّا أنه صار له معنًى من المعاني.

طلبتُ الدليل عند مدخل مبنى الإدارة. ظهرت امرأة في منتصف العمر، يبدو عليها أنها كانت تقوم باستخدام الماء في عملٍ ما، وهي تجفِّف يديها في مريولها بإلحاح، فأخذت العشرة ينات المقرَّرة التي قدمتُها، بلا إظهار أي ملامح على وجهها.

«كم الرقم؟»

«رقم ١٤.»

«حسنًا، انتظر عند تلك الحافة.»

انتظرتُ وأنا أجلس في البلكونة المفتوحة. وأثناء انتظاري هكذا، فكرتُ أن تقرير تلك المرأة ذات الأيدي المشقوقة المبتلة لمصيري، هو أمرٌ بلا معنًى بدرجة كبيرة، ولكن لأنني جئتُ إلى هنا وفي نيتي الرهان على هذا اللامعنى، فقد كان ذلك أمرًا حسنًا. صدر من خلف الباب المغلق، صوتُ اصطدام حلْقة أحد الأدراج الصغيرة القديمة، الذي يبدو أنه صعب الفتح، ثم صدر صوتُ تقليب أوراق. وأخيرًا فُتح الباب فتحةً صغيرة:

«هذه هي، تفضَّل.»

وأعطتني ورقةً واحدة خفيفة، ثم أغلقت الباب مرةً ثانية. كان ركن الورقة مبتلًّا بأثر أصابع المرأة.

ثم قرأتُ المكتوب. كان مكتوبًا: «الرقم الرابع عشر: شؤم».

«أنت، إذا بقيت هنا في النهاية فستدمرك الآلهة العديدة. وجب على أوكوني ذي الأحجار الحارقة والرماح الساقطة، مغادرةُ هذه البلاد، وذلك اتباعًا لتعاليم أسلافه الآلهة، يجب عليك الهروب سرًّا.»

ويقول الشرح إن في طريقي قلقًا يترقَّب، وثمَّة العديد من النيَّات الشريرة، ولكني لم أخَف. وفي أسفل الورقة حيث كُتب عددٌ لا نهائي من البنود نظرتُ إلى بند السفر. كان المكتوب:

«السفر: شؤم. وبصفةٍ خاصة اتجاه شمال الغرب هو الأكثر سوءًا.»

وعندها قررتُ السفر في اتجاه شمال الغرب.

•••

تحرَّك القطار المتَّجه إلى مدينة تسوروغا من محطة كيوتو الساعة السادسة و٥٥ دقيقة صباحًا. كان موعد الاستيقاظ في المعبد هو الساعة الخامسة والنصف. بعد أن استيقظتُ في صباح اليوم العاشر من الشهر، غيرتُ ملابسي على الفور لزي الجامعة، ورغم ذلك لم يشكَّ فيَّ أحد. كنت قد تعوَّدت تظاهُرَ الجميع بعدم النظر إليَّ.

في ظلام الفجر، بدأ الأشخاص في التناثر هنا وهناك للقيام بأعمال الكنس والمسح والنظافة. ويستمر وقت التنظيف حتى الساعة السادسة والنصف.

قمتُ بتنظيف الحديقة الأمامية. كانت خُطتي هي الرحيلَ في رحلة دون أن أحمل حقيبةً واحدة، أختفي اختفاءً سويًّا وغامضًا. مثلًا، أن أتحرك وفي يدي المقشة بعد الفجر بقليل فوق الطريق المغطاة بالحصى الأبيض الخفيف. وفجأة تسقط المقشة وأختفي، ثم بعد ذلك تتبقى فقط طريق الحصى الأبيض وسط الضوء الخافت. كنت أحلُم بأنني يجب أن أغادرَ المكان بهذه الطريقة.

من أجل ذلك أيضًا لم أقُم بوداع المعبد الذهبي.

ثمَّة ضرورة في أن أنزع نفسي فجأةً من كلِّ ما يحيط بي ومن ضمن ذلك المعبد الذهبي. قمتُ بالكنس متجهًا تدريجيًّا ناحية البوابة الرئيسة للمعبد. كان يمكنني تأمُّل نجوم الفجر من بين أفرع أشجار الصنوبر.

كان صدري يدقُّ بعنف. يجب أن أرحل. يمكن القول إن تلك الكلمة كانت ترفرف داخل صدري بعنف. أرحل من بيئتي، من فكرة الجَمال التي تقيِّدني، من إهمال العالم لي، من تلعثمي، من ظروف وجودي، يجب عليَّ الرحيل من كل ذلك بأي حال.

سقطت المقشة من يدي على الحشائش في ظلام الفجر، وكأنها ثمرة فاكهة تنفصل انفصالًا طبيعيًّا عن شجرتها. ومشيت متسللًا ناحيةَ البوابة الرئيسة للمعبد وأنا أتخفَّى في ظلال الأشجار، وبعد أن خرجتُ منها جريتُ بأقصى سرعتي. اقترب أول ترام في الصباح. وأحسستُ أن هذه هي المرة الأولى لي التي آتي فيها إلى مكانٍ بمثل هذا الإشراق.

أستطيع حاليًّا أن أتذكَّر بمنتهى الوضوح التفاصيلَ الدقيقة لتلك الرحلة في عقلي. فلم أنطلق مغادرًا جامحًا بلا معرفة المكان الذي أنوي الوصول إليه. بل كنت قد قرَّرت أن أذهب إلى أحد الأقاليم الذي زرته مرةً ضمن رحلة مدرسية في المرحلة الإعدادية. ولكن أحسستُ أثناء توجُّهي إلى ذلك الإقليم واقترابي تدريجيًّا، أن كل شيء أمامي مجهول تمامًا بالنسبة لي، بسبب أن مشاعر الرحيل والتحرُّر كانت على درجة كبيرة من القوة.

ورغم أن خط القطار الذي يصل إلى ذلك المكان، كان هو نفسه خطَّ السكك الحديدية المتجه إلى موطني الأصلي، وكنتُ معتادًا عليه، إلا أنه لم يسبق لي من قبلُ أن نظرتُ إلى القطار القديم المتسخ بالسُّخام، بهذه الدرجة من الطزاجة والجِدة وكأنه شيء نادر. كانت المحطة وصافرة القطار، وحتى صدى الصوت الأجش من مكبرات الصوت في الصباح الباكر، تُكرِّر شعورًا واحدًا عدةَ مرات وتقويه، فيمتد أمامي مشهدٌ شاعريٌّ امتدادًا بانوراميًّا واسعًا. قسمت شمس الصباح الرصيفَ الواسع. وكان صوت الأحذية، وصوت قرقعة القبقاب على الطريق، والجرس الذي ظل يرنُّ بصوت رتيب، ولون اليوسفي الظاهر من أقفاص البيع في محل المحطة … كانت كل تلك الأشياء، تعتبر إيحاءات واحدة بعد واحدة، وتوقُّعات واحدة بعد واحدة لذلك الأمر الضخم الذي أسلمتُ له نفسي.

جُمعت وتبلورت كل قطعة من المحطة مهما صغُرت، في اتجاه مشاعري الموحَّدة للرحيل والفِراق. يتراجع الرصيف للخلف تحت عينيَّ بأدب واحترام، وبدرجة كبيرة من التسامح. لقد أحسستُ إلى أي مدًى يجعل الراحلون وهم يتحركون من هنا ويغادرون، ذلك السطحَ الأسمنتي الذي بلا أي ملامح، لامعًا ومتألقًا.

لقد وثقتُ في القطار. إنها طريقة قول مضحكة، ولكن ما من طريقة للقول غير هذه الطريقة تؤمِّن هذا الاعتقاد الذي لا يمكن تصديقه بانتقال موقعي والابتعاد تدريجيًّا عن محطة كيوتو. لقد كنتُ أسمع مراتٍ عديدة في ليل روكوؤنجي، صوتَ صافرة قطار البضائع الذي يمرُّ بالقرب من حديقة الزهور، ولا أملِك إلا الدهشة والعجب من أنني الآن على وشْك ركوب ذلك الشيء الذي كان ينطلق مسرعًا بهذا الحال بعيدًا عني، ليلًا ونهارًا انطلاقًا مؤكدًا.

كان القطار يسير محاذيًا لنهر هوزو ذي اللون اللازوردي الذي كنتُ قد رأيته في الماضي مع أبي المريض. كانت المناطق التي بين سلسلة جبال أتاغو، والجانب الغربي من منطقة أراشياما، من هناك وحتى قرب سونوبِه، كانت تلك المناطق على الأرجح وبسبب تأثير تيارات الرياح، يختلف طقسُها تمامًا وجليًّا عن مدينة كيوتو. ويلفُّ ضباب متصاعد من نهر هوزو، هذه المنطقة تمامًا في كل ركن من أركانها دون أن يترك أيَّ جزء، من الساعة الحادية عشرة ليلًا حتى الساعة العاشرة صباحًا، أثناء شهور أكتوبر ونوفمبر وديسمبر، بطريقةٍ منتظمة تمامًا. وكان هذا الضباب يتحرَّك دون توقُّف، ومن النادر أن ينقطع.

ظهرت الحقول ممتدةً بصورة ضبابية، وبدت حقول الأَرُز الجرداء في لون الفطريات الخضراء. تتناثر الأشجار المختلفة الأطوال والأحجام حيثما اتفق كحاجز بين حقول الأَرُز، وكانت فروعها وأوراقها مقلَّمة حتى ارتفاع عالٍ، وتُحاط جذوعها الرفيعة بكوم قش يسمَّى في هذا الإقليم قفص البخار، وتظهر بترتيبها المتكرر من داخل الضباب كأنها أشباح أشجار. كذلك، في بعض الأحيان تظهر مهتزةً في الضباب شجرةُ صفصاف كبيرة واضحة جلية، بالقرب نافذة القطار، وفي خلفيتها حقولٌ زراعية رمادية اللون تقريبًا لا يصل إليها مدى النظر، وتتدلى من الشجرة بثقل أوراق مبتلة تمامًا.

أُرشد قلبي إلى ذكرى الموتى الآن، وقد كان في غاية المرح والحيوية بهذا الحال عند رحيلي من كيوتو. أيقظت ذكريات يويكو وأبي وتسوروكاوا داخلي طيبةً لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، وجعلتني أشكُّ في أنني لا يمكن أن أحبَّ من البشر إلا الموتى. ولكن لماذا يكون الموتى مقارنةً بالأحياء يمكن حبُّهم بهذه السهولة يا تُرى؟!

كان الأحياء غير القابلين للحب، في عربة الدرجة الثالثة القليلة الازدحام، ينفثون دخانَ التبغ بكثرة، ويقشِّرون اليوسفي. وكان يجلس في المقعد الذي بجواري شخصان كبيران في السن يبدو أنهما موظفان بإحدى الهيئات الحكومية العامة ويتحدثان بصوتٍ عالٍ. كان كلاهما يرتدي بذلةً خرقاء، أحدهما يَخرُج من فتحة أحد كمي بذلته، وجهُ بطانة داخلية بالية ذات شكل مخطَّط. ولقد تأثرتُ أنا مرةً أخرى، أنه حتى مع تراكم سنوات العمر لا يضعُف الابتذال ولو قليلًا. كان وجهاهما بتجاعيدهما العريضة المحروقان من أشعة الشمس اللذان ينمَّان عن أصولهما الريفية، مع نبرة الصوت الأجش التي أصبحت معربِدة بسبب الخمر، يُظهِران للعِيان ما يجب وصفُه بأنه جوهر وخلاصة أحد أنواع الابتذال.

كانا يتجادلان حول مَن هم الذين يجب عليهم التبرُّع للهيئات العامة. كان أحدهما ذا رأس أصلع، ولا يتدخل في الكلام بل يمسح يديه مرةً بعد مرة بمنديل الكتان الأبيض وقد تحوَّل لونه إلى الأصفر بسبب غسله مراتٍ ربما تصل إلى الآلاف.

«هذه اليد السوداء. تتسخ تلقائيًّا من السُّخام. شيء مزعج.»

«أتذكَّر أنك أرسلت مرةً مقالةً لصفحة الرأي بإحدى الجرائد عن السُّخام.»

«لا، لم يحدُث!»

أنكر العجوز ذو الرأس الأصلع ذلك. ثم أضاف:

«على كل حال هو أمرٌ مزعج.»

سمِعتُ الحوار رغم عدم نيتي الاستماعَ إليه. وكان ذلك بسبب ظهور المعبد الذهبي والمعبد الفضي من حينٍ لآخر في الحوار.

كان ذلك ملخَّص الحوار كالتالي:

كان الرأي الذي اجتمعا عليه هو أنه يجب جعل المعبد الذهبي والمعبد الفضي يتبرعان بكمياتٍ كبيرة. ربما يكون دخل المعبد الفضي نصفَ دخل المعبد الذهبي من الأموال، ولكنه رغم ذلك مبلغ هائل جدًّا. أحدُ الأمثلة أنَّ دخْلَ المعبد الذهبي السنوي يُعتقد أنه أكثر من خمسة ملايين ين، ولأن المعبد نشاطاته كلها تُدار عادةً بطريقة الزِّن، فحتى لو أضفنا تكاليفَ الكهرباء والماء فالمصاريف لا تزيد على مليوني ين في العام. وإذا سألنا فيما تُستخدم الأموال المتبقية، نجد أن كبير الرهبان الذي يُطعِم رهبانه أطعمةً باردة، يذهب إلى حي غيون الترفيهي كلَّ ليلة ويصرف كما يحلو له. ورغم هذا فالمعبد مُعفًى من الضرائب، فهو بنفس قانون الحصانة خارج حدود الدولة. يجب طلب التبرعات من مثل هذه الأماكن بلا أي تسامح.

العجوز الأصلع السابق الذكر عندما جاءت نقطة وقوف فاصلة في الحوار قال وهو ما زال يمسح يديه بالمنديل بلا تغيير:

«إنه أمرٌ مزعج.»

وأصبحت تلك الكلمة هي خلاصة الحوار. ولم يَعُد بيد العجوز التي اكتمل مسحُها وتلميعها، أيُّ أثرٍ للسُّخام، وأصبحت تطلِق لمعانًا مثل زينة الأحزمة المصنوعة من الأحجار الكريمة. في الواقع وصلت حالة تلك اليد وكأنها قفزات وليست يدًا طبيعية.

كان أمرًا عجيبًا أن هذه أول مرة أسمع فيها انتقادَ المعبد لدى المجتمع. فنحن ننتمي إلى عالم الرهبان، وكذلك المدرسة تقع في ذلك العالَم؛ ولذا لم ينتقد أحدٌ منَّا المعبد. ولكني لم أُصَب بأي دهشة ولو قليلةً لهذا الحوار بين موظفي الهيئة العامة كبار السن هؤلاء. فقد كان كل ذلك أمرًا جليًّا واضحًا للجميع! نحن نأكل أطعمة باردة. وكبير الرهبان يتردَّد على حي غيون … ولكن، كان لديَّ شعورٌ مقزَّز ما من طريقة للتعبير عنه، تجاه فهمي أنا لطريقة فهم الموظفين الكبار السن تلك. لم أكن أتحمَّل أنني أستطيع فهْم «كلماتهم»؛ لأن «كلماتي» أنا مختلفة عن ذلك. وأريد منكم أن تتذكَّروا أنني عندما شاهدتُ كبير الرهبان يسير مع غانية من غانيات غيون، لم آخذ الأمر على سبيل التقزُّز الأخلاقي مطلقًا.

هكذا اختفى حوارُ الموظفين تاركًا في قلبي تقززًا ضئيلًا يشبه رائحةَ انتقال الابتذال. لم أشعر يومًا برغبة في التماس الدعم من المجتمع لأفكاري. ولم أشعر كذلك بضرورة وضْع تلك الأفكار في إطارٍ يَفهمني المجتمع من خلاله بسهولة. وكما قلت أكثرَ من مرة، فعدم قدرة الناس على فهمي كان هو سبب وجودي.

… فجأةً فُتح باب العربة، وظهر بائع بصوت أجش، يتدلى من صدره قفص كبير. تذكرتُ فجأةً أنني جائع، فاشتريت منه بدلًا من الأَرُز، وجبةَ معكرونة بلون أخضر يبدو أنها صُنعت من أعشاب البحر، وأكلتها. زال الضباب ولكن لم تشرق السماء. وبدأت تظهر في الأرض النحيفة، بالقرب من جبال تامبا أشجارُ التوت المزروعة، والبيوت المصنوعة من الورق.

خليج مايزورو. يغسل هذا الاسم قلبي بلا اختلاف عن الماضي. لا أدري سببًا لذلك. ولكن منذ فترة الصبا التي قضيتُها في قرية شيراكو، كان ذلك هو الاسم العام للبحر اللامرئي، وفي النهاية صار اسمًا للتنبؤ بالبحر ذاته.

ولكن كان ذلك البحر اللامرئي، يمكن رؤيته جيدًا من أعالي قمة جبل أوباياما الذي يرتفع سامقًا خلف قرية شيراكو. ولقد صعدتُ إلى قمة جبل أوباياما مرتين فقط. في المرة الثانية، رأيت أسطول قوات الحلفاء الموجود في ميناء مايزورو العسكري.

ربما تكون سفن الأسطول المستقرة داخل الميناء المتلألئ، متجمعةً في ذلك الوقت بكامل عددها. كان كلُّ ما يتعلَّق بذلك الأسطول من الأسرار العسكرية، لدرجةِ أننا كنا نشكُّ في وجود ذلك الأسطول فعلًا. لذلك فقد ظهر أسطول قوات الحلفاء الذي يُرى من بعيد، وكأنه سربُ طيور بحرية سوداء ذات جلال ومهابة، يُعرف اسمُها فقط ولم تُر من قبلُ مطلقًا إلا في الصور، وهي تعبث وتلهو سرًّا في البحر تحت حماية الحراسة الشديدة لكبارها، ولا تعرف أنها مرئية للبشر.

… أعادني للواقع صوتُ كمساري القطار الذي يُخبر باسم المحطة التالية وهي «محطة غرب مايزورو». هذه المرة انعدم وجودُ ركَّاب من جنود البحرية يهمُّون بالنزول حاملين حقائبهم على أكتافهم مسرعين. كان الذي بدأ في عمل استعدادات النزول غيري، اثنين أو ثلاثة رجال يبدو عليهم أنهم تجار في السوق السوداء.

كان كل شيء قد تغيَّر. وكانت المدينة قد تحوَّلت كأنها مدينة ساحلية في دولة أجنبية تبرُز لوحات المرور الإرشادية باللغة الإنجليزية هنا وهناك من أركان المدينة وكأنها تُهدد المارِّين. ويسير عدد كبير من الجنود الأمريكان في الطرقات.

وتحت سماءٍ ملبَّدة بالغيوم في بداية الشتاء، تهبُّ على طريقٍ واسعة مخصَّصة للجيش، نسائمُ متردِّدة باردة خفيفة مفعمة بهواء البحر المالح. فاحت رائحةٌ تبدو وكأنها رائحة غير عضوية لحديد به صدأ، أكثر من كونها رائحة البحر. وكان البحر الضيق بسطحه الميت هذا وتلك البارجة الصغيرة المربوطة بضفة البحر، يشبه قناةً مُدت إلى عمق مركز المدينة … ثمَّة هنا سلام مؤكَّد، ولكن التحكم في النظافة المنتشرة أكثر من اللازم، سلب الميناء الحربي القديم حيويته الجسدية المضطربة، وحوَّل المدينة بأكملها إلى ما يشبه مستشفًى.

لم أكن أعتقد أن أقابل البحر هنا بأُلفة. وربما جاءت سيارة «جيب» من الخلف وألقت بي في البحر على سبيل المزاح. أنا أعتقد هذا الآن، ولكن كان من دوافع رحلتي هذه إشارةٌ سرية من البحر، وعلى الأرجح أن ذلك البحر ليس هو هذا الميناء الصناعي، ولكنه بحرٌ مضطرب عنيف كما ولدته الطبيعة مثل الذي لمسته في طفولتي في موطني الأصلي في ناريو. إنه بحر اليابان الخلفي المنزعج الذي يحتوي على روحٍ غاضبة ذات تفاصيل دقيقة في كل أرجائه.

ولذلك كنت أنوي الذهاب إلى يورا. كان الشاطئ الذي يمتلئ حيويةً بالمصطافين في الصيف، يعاني الوحدةَ في هذا الوقت من الموسم، ولم أجد إلا تَقاتُل البر والبحر كلاهما للآخر بقواهما المظلمة. كانت الطريق التي تربط يورا بغرب مايزورو تصل إلى اثني عشر كيلومترًا، ولكن كانت أقدامي تتذكَّرها تذكرًا ضبابيًّا.

كانت الطريق تسير بمحاذاة الضلع المنخفض للميناء من مدينة غرب مايزورو في اتجاه الغرب، بالتبادل مع خط ميازو بزاوية قائمة، أخيرًا تخطيت قمةَ جبل تاكيشيري، ووصلتُ إلى نهر يورا. وبعد أن عبَرت جسر أوكاوا، اتجهتُ شمالًا بمحاذاة الضفة الغربية لنهر يورا. يتبقى فقط أن يقودَني تيار النهر إلى مصبِّه في البحر.

خرجتُ من مركز المدينة وبدأتُ المشي.

عندما تعِبت قدماي من المشي، سألتُ نفسي ما يلي:

«ماذا في يورا؟ ما البرهان الذي أمشي بعجلٍ هكذا من أجل الاصطدام به؟ أليس هو فقط بحر اليابان الخلفي، وشاطئًا مهجورًا بلا روَّاد؟»

ولكن، لم يبدُ على قدميَّ الخمود. كنت أحاول الوصولَ إلى مكانٍ ما، أيَّ مكان كان! لم يكن هناك أي معنًى لاسم المكان الذي أحاول الذهاب إليه. فلقد تولَّدت داخلي شجاعة — أغلبها شجاعةٌ غير أخلاقية — لمواجهةِ ما سأصل إليه أيًّا كان وأينما كان.

أحيانًا ما تسطع أشعةُ شمس خفيفة على حسب مزاجها، وشجرة الدردار الكبيرة التي على جانب الطريق، تحثُّني إلى ما تحتها من أشعة الشمس الدقيقة المتسربة من بين فروعها، وبلا معرفة السبب، أحسستُ أنني ليس لديَّ وقتٌ لراحة جسمي وأنا أحرِّك الزمن في مماطلة وإرجاء.

وأنا أقترب، لم يكن ثمَّة ميلٌ تدريجي للمنظر، ولكن ظهر فجأةً حوض النهر الضخم من الطريق المنحصرة بين الجبل والنهر. ورغم أن ماء النهر أزرق، وعرض النهر واسع، إلا أن جريان تيار النهر بدا تحت السماء الغائمة معكرًا وغير صافٍ وكأنه يُساق في اتجاه البحر تدريجيًّا ضد رغبته.

عندما وصلتُ إلى ضفة النهر الغربية، انقطع تمامًا مرور الناس والسيارات. ومن حين لآخر تظهر بمحاذاة الطريق حقولُ اليوسفي الصيفي، ولكن لا يظهر أثرٌ لإنسان. وكان آخر شيء ظهر هو وجه كلبٍ ذي شعر أسود في مقدمة أنفه بعد أن صدر فجأةً صوتُ تفريق الحشائش بجوار تجمُّع بيوت قروية صغير اسمه «وايه».

كنتُ أعلم أن في تلك المنطقة من الأماكن التاريخية الشهيرة أطلالَ قصر دايو سانشو صاحب التاريخ المريب. ولأنه لم يكن عندي أي رغبة في زيارته ولو زيارةً خاطفة، فقد مررتُ من أمامه وتخطيته في غفلة مني. والسبب أنني كنت أنظر ناحيةَ النهر على الدوام. في داخل النهر جزيرةٌ نهرية مغطَّاة بغابة من الخيزران. ورغم أن الطريق التي أسيرُ فيها ليس بها ريح إلا أن أجَمَة الخيزران في الجزيرة النهرية كانت منحنيةً من الرياح. ثمَّة حقول أَرُز فوق الجزيرة بمساحة اثني عشر هكتارًا تقريبًا تُزرع بمياه الأمطار، ولا أثر لمزارعين، فقط شخص واحد يعطي ظهره تجاهي ويدلي خيط صيد في مياه النهر.

شعرتُ بأُلفة تجاه هذا الإنسان الذي أراه بعد فترة من انقطاع رؤية البشر.

«هل يا تُرى يصيد سمك البُوري؟ إذا كان فعلًا ما يصطاده هو سمك البوري، يكون من المفترض أن مصبَّ النهر ليس بعيدًا.»

حين ذلك، علا صوتٌ صاخب صادر من أجَمَة الخيزران المنحنية حتى غطَّت على صوت النهر، وما بدا لي أنه ضباب مرتفع كان على ما يبدو أمطارًا. صبغت قطراتُ المطر ضفةَ جزيرة النهر الجافة. وأثناء تفكيري في ذلك، كان المطر قد بدأ يتساقط عليَّ. لا أثر بالفعل للمطر فوق الجزيرة، التي أنظر إليها ومياه الأمطار تبللني. ولم يحرِّك الشخص الذي يصطاد، بنفس وضعه السابق، جسمَه قيد أُنملة. ثم انزاحت بعد ذلك السحابة الممطرة من فوقي.

غطَّى الحسك وأعشاب الخريف مجالَ رؤيتي، في كل منحنًى من منحنيات الطريق. ولكن امتداد مصب النهر أمامي كان قريبًا. وذلك لأن رياح البحر الباردة بدأت في الأغلب تضرب أنفي.

كلما اقترب نهر يورا من نهايته ظهر عدد من الجزر النهرية المنعزلة. مياه النهر كانت تقترب اقترابًا مؤكدًا من البحر، ويقتحمها تيار البحر، ولكن سطح الماء كان يزداد هدوءًا ولم يبدُ أي بادرة عن حدوث شيء. مثل شخص يموت بعد فقدانه الوعيَ.

كان مصب النهر ضيقًا على غير المتوقَّع. وهناك دخلَ البحرُ الذي يتبادل الامتزاج والاختراق مع النهر، مندسًّا في تراكمات غيوم السماء المظلمة، ويرقد فقط على جنبه في غموض مبهم.

كان يجب عليَّ السير لفترة باتجاه الرياح التي تهبُّ بعنفٍ عابرةً السهول والحقول، من أجل أن ألمس البحر وأتعرَّف عليه. كانت الرياح ترسم البحر الشمالي بلا أي فراغات. كان البحر هو سبب إسراف وتبذير تلك الرياح القاسية بتلك الدرجة، فوق حقولٍ ينعدم فيها أيُّ أثر لبشر. وذلك ما يمكن تسميته بحر البخار الذي يغطي شتاء هذا الإقليم، البحر اللامرئي الآمر والحاكم.

انتشرت تدريجيًّا موجاتٌ مطوية عدة طيات على الجانب الآخر من المصب، ليظهر سطح البحر رماديَّ اللون. وبرزت في مواجهة المصب تمامًا جزيرة أخذت شكل قبعة عالية مستديرة. وكانت تلك هي جزيرة كاموري وتبعُد ثلاثين كيلومترًا عن مصب النهر، ويعيش فيها طائر «جلم الماء المخطَّط» المسجَّل طائرًا تذكاريًّا للدولة.

دخلتُ أحدَ الحقول الزراعية. ودُرت ببصري فيما حولي. كانت أرضًا منعزلة وموحشة.

في ذلك الوقت لمع في ذهني أحدُ المعاني. ولكنه بعد أن لمع اختفى في الحال وفقدَ معناه. ظللتُ فترة ساكنًا، ولكن الريح الباردة التي تهبُّ بقسوة سلبتني أفكاري. ثم بدأتُ السيرَ في عكس اتجاه الرياح.

استمرَّت الأرض الزراعية النحيلة وبعدها أرضٌ قاحلة يكثر بها الأحجار والحصى، وأغلب الحشائش البرية ذابلة، والخضراء التي لم تذبُل، هي فقط التي التصقت بالتربة التي تشبه الطحالب العفنة، وأوراق تلك الحشائش متقطِّعة ومفلطحة. وكانت تربة الأرض مختلطة بالفعل مع الرمل.

سمِعت صوتًا مهتزًّا بطيئًا. ثم سمعتُ صوتًا بشريًّا. سمِعت ذلك وقتما كنتُ بلا وعي أعطي ظهري للرياح القوية أنظر عاليًا نحو قمة جبل يوراغاتاكه الذي في الخلفية.

بحثتُ عن مكان وجود الناس. فعثرتُ على طريق ضيقة تهبِط بمحاذاة الجرف من أجل الهبوط إلى الشاطئ. وهنا عرفتُ أنه أشغالٌ متواضعة لدعم الشاطئ ليقاوم عوامل التعرية والنحر العنيفة. كانت تمتد هنا وهناك أعمدةٌ خرسانية تشبه الهيكل العظمي، ولكن بدا لون تلك الخرسانة الجديدة فوق الرمال حيويًّا ونشطًا. كان الصوت المهتز البطيء هو صوت هزاز الخرسانة الذي يهز ويحرك الأسمنت داخل الإطار الخاص به. نظر العمال الأربعة أو الخمسة ذوو الأنوف المحمرة الطرف، بارتيابٍ إليَّ أنا الذي يرتدي زيَّ الطلبة الجامعي.

أنا بالطبع كنت أنظر إليهم أيضًا. وبهذه الطريقة انتهت التحية التي يتبادلها البشر بينهم.

كان البحر يسقط بشدة وعنف في شكل الهاون من الشاطئ الرملي. مرةً أخرى كان يهاجمني، مع وطئي للرمل الذي يغلُب عليه نوعية الجرانيت، وأثناء سيري إلى مكان ارتطام الأمواج، شعورُ الفرح والسعادة من اقترابي اقترابًا مؤكدًا وخطوة بعد أخرى متوجهًا إلى إحدى الفِكَر التي لمعت في ذهني منذ قليل. بسبب برودة الرياح القوية وعدم ارتدائي قفازاتٍ، فقد كانت يدي متجمِّدة على الأغلب، ولكن لم يكن الأمر بهذه الدرجة من السوء.

كان ذلك بالفعل هو بحر اليابان الخلفي! النبع الصافي لكل أنواع التعاسة والأفكار السوداء المظلمة، النبع الصافي لكل أنواع قبحي وقوَّتي. كان البحر مضطربًا وهائجًا. وتتدافع الأمواج واحدةً بعد أخرى بلا توقُّف ولا فراغات بينها، ويمكن رؤية اللون الرمادي في قاع الأعماق الملساء خلال المسافة بين الموجة الآتية توًّا والموجة التي تأتي بعدَها. كانت الغيوم المتراكمة كثيرًا فوق سماء البحر المظلم، تجمع بين ثقل الوزن ورهافة الحس. وذلك لأن تراكمات الغيوم الثقيلة التي لا تفصل بينها حدود، تحيط بسماء موجودة وغير موجودة ذات اللون الأزرق الشاحب من منتصفها تمامًا، بعد أن يستمرَّ بعدها شريطٌ يشبه ريش أجنحة باردة في غاية الخفة. وكذلك يخفي البحر ذو اللون الرصاصي، جبال رأس البر ذات اللون البنفسجي الأسود. تعطي كل الأشياء المتحركة والساكنة، إحساسًا بأنها تبلورت مثل الجماد ومثل القوة المظلمة التي لا تتوقف عن الحركة.

فجأةً تذكرتُ ما قلتُه في اليوم الذي قابلتُ فيه كاشيواغي للمرة الأولى. تلك الكلمات التي قلت فيها: «إن اللحظة التي نصبح فيها فجأةً في منتهى القسوة، هي اللحظة التي نتأمل فيها شرود الأشعة المتسربة من بين الأشجار وهي تتراقص في عصر يوم ربيعي جميل، ونحن نجلس فوق نجيل مقصوص بعناية بالغة.»

أتوجَّه الآن نحو الأمواج ونحو الرياح الشمالية العاتية. ما من عصرِ يوم ربيعي جميل هنا، ولكن ثمَّة نجيل مقصوص بعناية بالغة. وكانت تلك الطبيعة المقفرة الكئيبة، تتملقني ربما أكثرَ بكثير من النجيلة وقتَ العصر، وكانت سرَّ وجودي الحميم. كنتُ هنا معتمدًا على ذاتي. ولم أكن مهدَّدًا أو خائفًا من أي شيء.

هل يمكن القول إن الفكرة التي طرأت في ذهني فجأة، هي فكرة بالغة القسوة، مثلما يقول كاشيواغي؟ على أي حال تولَّدت تلك الفكرة داخلي فجأة، وأوحت بالمعنى الذي لمع لي منذ قليل، وبدأت تنير ما بداخلي بتوهُّج. ولم أجرِّب بعدُ التفكير في ذلك بعمق، ولم يكن الأمر إلا أن تلك الفكرة قد ضربتني، مثلما أُصاب بضربة شمس. ولكن تلك الفكرة التي لم تخطر على بالي مطلقًا حتى الآن، زادت من قوَّتها في ذات اللحظة التي وُلدت فيها، وزادت من حجمها، على العكس أعتقدُ أنها تحتويني. كانت تلك الفكرة هي:

«يجب أن أحرق المعبد الذهبي!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤