الفصل الثامن
مشيت بعد ذلك أكثرَ، حتى وصلتُ إلى محطة «تانغويورا» على خط «ميازو». كنا قد سرنا على نفس خط السير، وقت الرحلة المدرسية عندما كنتُ في مدرسة شرق مايزورو الإعدادية، ورجعنا في طريق العودة من هذه المحطة نفسها. كان عدد الناس قليلًا في الطريق التي أمام المحطة، وعرفتُ أن تلك البلدة تعتمد في دخلها على الازدهار والنشاط أثناء الصيف القصير الأمد.
وقررتُ أن أبيت ليلتي في نُزْل صغير أمام المحطة حينما وجدتُ لوحةً عليها اسمه، كان اسمه نُزُل يورا وهو مخصَّص للمصطافين. فتحتُ باب المدخل ذا الزجاج المُصَنفر، وناديت بصوتٍ عالٍ لعل أحدًا يرشدني، ولكن لم أجد استجابة. كان الغبار متراكمًا على مكتب الاستقبال، والمكان من الداخل مظلم بسبب إغلاق النوافذ، ولا أثر يدلُّ على وجود بشَر.
درتُ إلى خلف المبنى. ثمَّة حديقة صغيرة متواضعة بها زهور سحلبية ذابلة. وثمَّة حوض ماء بُني على مكانٍ عالٍ. ويتدلى من ذلك الحوض دشٌّ لكي يتمكن الزبائن الذين جاءوا بعد العوم في البحر أثناء الصيف، من إزالة الرمال من على أجسامهم.
وثمَّة بيتٌ صغير منفصل عنه قليلًا، يبدو أنه مسكن أسرة مالك النُّزل. يتسرَّب صوت مذياع من الباب الزجاجي المغلق تمامًا. بدا لي ذلك الصوت العالي لدرجة الإزعاج، وكأنه صوتٌ أجوف، وعلى العكس لم يعطني شعورًا بأن أحدًا يسكن في ذلك البيت. وفي النهاية، انتظرتُ أمام المدخل الذي تناثر أمامه قبقابان أو ثلاثة، وأنا أنادي صائحًا بلا جدوى بين فترات صمت المذياع.
ثم ظهر خلفي ظلُّ إنسان. كان ذلك في الوقت الذي انتبهت فيه إلى سطوع حبيبات الخشب في رفوف صندوق الأحذية، بسبب أشعة الشمس التي بدت دافئة من سماءٍ يكثر بها السحاب.
كانت امرأة جسدُها سمين أبيض ذابت حوافُّه وجحظت للخارج تنظر إليَّ بعيون رفيعة لحد الشك في أن لديها عيونًا أم لا. طلبتُ غرفةً للمبيت. استدارت المرأة للخلف صامتةً واتجهتْ نحو مدخل النُّزل، دون حتى أن تقول لي اتبعني.
… كانت الغرفة التي أُعطيت لي، صغيرةَ الحجم في أحد أركان الطابق الثاني، وتُطِلُّ نافذتُها تجاه البحر. أتلفتِ النار الخافتة للهبِ مصباحٍ يدويٍّ كانت تحمله المرأة، هواءَ الغرفة التي ظلَّت مغلقةً أمدًا طويلًا، ممَّا جعل رائحةَ العطن لا تُطاق. فتحتُ النافذة وعرضتُ جسمي للرياح الشمالية. في اتجاه البحر، استمرَّ لهو السحاب البطيء ثقيلًا كما كان منذ قليل، دون أن يُريه لأحد. كان السَّحاب كما لو أنه انعكاسٌ لدوافع الطبيعة التي ليس لها هدف تصبو إليه. تظهر قِطَع خفيفة من السماء الزرقاء، في جزء من ذلك، تشبه بِلَّورة صغيرة زرقاء ذات ذكاء واضح. ولكن لا يمكن رؤية البحر.
… بجوار تلك النافذة بدأتُ مرةً أخرى أتابع أفكاري التي كنت أفكِّر فيها منذ قليل. سألتُ نفسي لماذا لم تطفُ على ذهني مطلقًا فكرةُ قتل كبير الرهبان قبل فكرة حرق المعبد الذهبي؟
حتى ذلك الوقت أيضًا لم تطفُ فكرةُ قتل كبير الرهبان مطلقًا، ولكني على الفور عرفت بعدم فاعلية ذلك. والسبب هو أنني أدرك أنني حتى لو قتلت كبيرَ الرهبان وأنهيت أمره، فسوف يظهر من أفقِ الظلام في تتابُع عدد لا نهائي لشر ذلك الراهب الأقرع الضعيف.
إن كل الكائنات الحية، لا تملك خاصيةً فردية صارمة مثل المعبد الذهبي. فقد أعطت الطبيعة للبشر جزءًا من الانتماء الشامل، ولا يَزِد الأمر عن أنهم تكاثروا وتوارثوا ذلك بوسيلة يمكن تعويضها. إذا كان القتل من أجل القضاء على ضحيةٍ ذات حياة فردية، فسيكون القتل حسابًا خاطئًا للأبد. كنت أفكِّر بهذه الطريقة. وهكذا ظهر التباين الواضح بين المعبد الذهبي والوجود البشري. من جهة، برز وهمُ الأبدية على العكس، بسبب هيئة البشر السهلة الاندثار، وعلى العكس انبعث من جَمال المعبد الذهبي غير القابل للفَناء، إمكانية اندثاره. فلا يمكن القضاء على عنصر الموت عند البشر. ولكن يمكن إزالة عدم القابلية للفَناء عند المعبد الذهبي. لماذا يا تُرى لا ينتبه الناس إلى ذلك؟ لم يكن لديَّ أدنى شكٍّ في قدراتي الإبداعية. إذا أحرقتُ أنا المعبد الذهبي الذي سُجِّل أثرًا وطنيًّا في أواخر القرن العشرين، فسيكون ذلك دمارًا خالصًا، دمارًا لا يمكن النجاة منه، وسيكون بالتأكد تقليلًا من حجم الجَمال الذي صنعه البشر.
أثناء استمراري في التفكير، هجم عليَّ مزاج الدعابة. قلت لنفسي: «إذا حرقت المعبد الذهبي، تُرى هل هذا التعليم الفعَّال سيكون مميزًا؟ لأنه بفضله سيتعلم الإنسان من خلال القياس أن الخلود أمرٌ ليس له أيُّ معنًى. لأنه سيتعلَّم أن مجرد الاستمرار في الوجود ببساطة على ضفاف بركة كيوكو مدة ٥٥٠ عامًا، ليس له أي نوع من الضمانات. لأنه سيتعلم القلق من انهيار وجودنا ربما غدًا مثلًا لأنه يتبع هذه الحقيقة البديهية الشديدة الوضوح.»
حقًّا. بالتأكيد وجودنا، تم الحفاظ عليه محاطًا بأشياءَ مكثفة استمرت خلال فترة زمنية محددة. على سبيل المثال، الدُّرج الصغير الذي يصنعه النجار من أجل منفعته في الأعمال المنزلية، مع مرور الوقت يتخطى الزمنُ طبيعته تلك، وبعد عشرات ومئات السنين، على العكس يتكثَّف الزمن ويصبح وكأنه أخذ تلك الهيئة والطبيعة. الفراغ الصغير المحدَّد، في البداية يُشغل من خلال الجسم المادي، ولكن يُحتل بواسطة الزمن الذي تجمع. وهذا يتجسَّد في نوع من أنواع الروح. كُتب في مقدمة إحدى قصص الأطفال المشهورة في العصور الوسطى تسمَّى «قصص تسوكوموغامي» ما يلي:
«ما يقوله كتاب قصص متنوِّعة من سِيَر الكُهان، أن الأدوات بعد مرور مائة عام، تتجسَّد وتحصُل على روح، وتخدع قلوب البشر، وهذا ما يُطلِق عليه تسوكوموغامي «التصاق الروح بالأداة». وبناءً على ذلك ثمَّة عادة في العالم البشري في بداية الربيع من كل عام، نزع الأثاث القديم من البيوت وإلقاؤه في الطريق ويُسمى هذا إزالة سُخام البيت. وهذا ما يعني أنه كل عام قبل أن تمرَّ مائة سنة، تحدُث كارثة بسبب تسوكوموغامي.»
وسيكون الغرض من فعلي هذا، فتْحَ عيون الناس على شرور وكوارث تسوكوموغامي، ومن ثَم إنقاذهم من تلك الكوارث. أنا من خلال هذا الفعل، أدفع وأدور عالم المعبد الذهبي، إلى عالمٍ لا وجود فيه للمعبد الذهبي. ومن المؤكد أن عندها معنى العالم سيتغير …
أحسستُ إحساسًا مؤكدًا أنني أتحوَّل إلى شعور بالتفاؤل. كان العالم الذي يحيط بي الآن وأراه أمام عينيَّ تمامًا، قريبًا جدًّا من سقوطه وانتهائه. أشعة الشمس الغاربة تمتد راقدة في جميع الاتجاهات، كان العالم الذي يركب المعبد الذهبي المتألق لامعًا بتلك الأشعة، مثل الرمال التي تتسرب ساقطة من بين أصابعي، يسير حثيثًا نحو سقوطه.
•••
كانت صاحبة النُّزل هي التي قطعت إقامتي في نُزل يورا مدة ثلاثة أيام؛ فقد ارتابت في سلوكي وعدم خروجي من الغرفة خطوةً واحدة خلال تلك الفترة فاستدعت الشرطة. عندما دخل الشرطي بزيه الرسمي عليَّ الغرفةَ خِفت من اكتشاف أمري، ولكني على الفور تنبهتُ إلى عدم وجود سبب لذلك الخوف. أجبتُ عن استجواباته، وقلت له إنني هربت من المعبد بسبب رغبتي في البعد فترةً عن حياة المعبد والرهبنة، وأظهرت له بطاقتي الجامعية، وتعمَّدتُ أن أدفع حسابَ النُّزل كاملًا أمامه. ونتيجةً لذلك تغيَّر سلوك الشرطي إلى وضع الحماية لي.
اتصل الشرطي على الفور بمعبد روكوؤنجي، وتأكَّد من أن أقوالي ليس بها أي كذب، ثم أخبرني أنه من الآن سيصحبني حتى المعبد. ثم من أجل ألا يتسبَّب في جرح لي أنا الذي أحمل مستقبلًا زاهيًا، غيَّر ملابسه خصوصًا لملابس مدنية من أجلي.
أثناء انتظارنا القطار في محطة تانغويورا، هطلت أمطار الخريف الغزيرة، وفي لمح البصر ابتلَّت المحطة التي بلا سقف. اصطحبني الشرطي ودخلنا غرفةَ عاملي المحطة. وأوضح الشرطي ذو اللبس المدني لي بفخر أن رئيس المحطة وموظفيها أصدقاؤه. ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط. بل إنه عرَّف الجميع بي على أنني ابن أخيه الذي جاء لزيارته من كيوتو.
لقد أدركتُ عقليةَ الثائر. إن الشرطي ورئيس المحطة اللذين يتبادلان الحديث المرح وهما يحيطان بمجمرة الفحم الحديدية التي تشتعل فيها النيران الحمراء، لم يكن لديهما أيُّ توقُّع ولو قليلًا باقتراب انهيار نظامهما، وتغيُّر العالم الذي على وشْك أن يقع أمام أعينهما.
«لو أحرقتُ المعبد الذهبي … لو أحرقتُ المعبد الذهبي، سيتغير عالم هؤلاء، وستنقلب قواعدهم الذهبية رأسًا على عقب، وسيضطرب جدول مواعيد القطارات، ومن المؤكد أن قوانينهم ستصبح لاغية.»
أسعدني أنهم لم يكونوا منتبهين إلى أنه بجوارهم مباشرةً أحدُ مجرمي المستقبل يمدُّ يده إلى مجمرة الفحم بوجهٍ لا يعبأ بشيء. كان موظفو المحطة الشبان المرحون يتحدَّثون بصوتٍ عالٍ عن الفيلم الذي سيذهبون لرؤيته في المرة القادمة. كان ذلك فيلمًا رائعًا يثير الدموع من العيون، ولم يكن ينقصه الإثارة والحركات المبهرة. في العطلة التالية فيلمٌ سينمائي! ذلك الشاب المفعم بالحيوية والشباب والأقوى جسديًّا مني بمراحلَ بعيدة، في العطلة التي تلي ذلك، يشاهد فيلمًا، ويضاجع فتاة ثم ينام.
كان يسخر من مدير المحطة بلا توقُّف، ويطلق المزاح، ويصحِّح له، وأثناء ذلك يحمل الفحم على ظهره في عجل، ويكتب على السبورة أرقامًا ما. كان سحر وجاذبية الحياة، أو بمعنًى آخر، حسدُ الحياة اليومية على وشْك أن يأسرني مرةً أخرى. يمكنني تركُ الرهبنة دون حرق المعبد الذهبي، فقط الهروب من المعبد، والرجوع إلى حياة البشر المدنية والغرق هكذا في الحياة اليومية.
… ولكن على الفور، عادت إلى الحياة مرةً أخرى قوة ظلامية، وأخرجتني من ذلك. كما توقَّعت يجب عليَّ حرقُ المعبد الذهبي. وعندها ربما تبدأ حياة أخرى وترتيب مختلف، لم أسمع بهما من قبل ويناسباني تمامًا.
… ردَّ مدير المحطة على الهاتف. وأخيرًا ذهب أمام المرآة، واعتمر بانضباطٍ القبعةَ الرسمية التي بها خيوط ذهبية. وبعد أن سعل قليلًا، ثنى صدره، وكأنه يذهب إلى مقر احتفال، خرج متوجهًا إلى الرصيف الذي توقَّفت عنه الأمطار. وأخيرًا استطعت سماعَ صوت زمجرة القطار الذي يجب عليَّ ركوبه، وهو ينزلق قبل قدومه، بمحاذاة الجرف القائم بجوار خط السكة الحديد. يصلنا من أرض الجرف بعد سقوط الأمطار، ذلك الصوت المدوي المبلَّل بزخرفة.
•••
وصلتُ بصحبة الشرطي بالزي المدني إلى كيوتو في الساعة الثامنة إلا عشر دقائق مساءً، وجئنا إلى البوابة الرئيسة لمعبد روكوؤنجي. كانت ليلة باردة قليلًا. خرجنا من بين الجذوع السوداء لأشجار غابة الصنوبر المتصلة، وعندما اقتربنا من البوابة الرئيسة العنيدة، رأيت أمي التي تقف هناك.
كانت أمي تقف بالصدفة بجوار اللوحة الإرشادية التي سبق ذكرها. اللوحة الإرشادية التي كُتب عليها: «مَن يرتكب تلك الأفعال فسيتم معاقبته طبقًا لقوانين الدولة.» وبدت هيئة شَعرها الأشعث كغابة، تحت إضاءة مصباح البوابة، وكأن شَعرها الأبيض يقف منعكسًا شعرةً بشعرة. ورغم أن شَعر أمي ليس أبيضَ بهذه الدرجة، إلا أن انعكاس لهب المصباح جعله يبدو كذلك. كان وجهها الذي يحيط به ذلك الشَّعر جامدًا لا يتحرك.
وبدا جسد أمي الصغير عملاقًا بعد أن تضخَّم تضخمًا مريبًا ومقززًا. ويمتد خلفها ظلامُ الحديقة الأمامية داخل بوابة المعبد الرئيسة المفتوحة دومًا على مصراعيها، كانت أمي تعطي ظهرها للظلام، وتلفُّ حزام الكيمونو الرسمي الوحيد الذي تملكه وقد تهدَّلت بغباء هيئته المتواضعة، وبَليت خيوطُ تطريزه الذهبية، وهي تحملق في الفراغ كما لو كانت شخصًا مات وهو واقف كما هو في مكانه.
تردَّدتُ في الاقتراب منها. كنتُ مرتابًا في سبب مجيء أمي إلى هذا المكان، ولكن الذي عرفته فيما بعدُ، أن كبير الرهبان بعد أن عرف بهروبي، أرسل إلى أمي يسألها عني، فأُصيبت أمي بصدمة وجاءت لزيارة معبد روكوؤنجي، وأقامت في المعبد.
دفع الشرطي بالزي المدني ظهري. رغم أني أقترب فإن حجم أمي كان يتضاءل تدريجيًّا مع اقترابي. كان وجه أمي تحت عيني مباشرةً، وتنظر إلى أعلى تجاهي بوجه شديد الانبعاج.
لم يسبق أن سخِر إحساسي مني قط. أوضحت لي عينُ أمي الصغيرة التي يبدو عليها اللؤم ذات التجويف، أخيرًا أن كرهي لها شرعي وعادل. وقد ذكرت فيما سبق، أن سببَ شعوري بالخزي والعار العميقين، والكراهية المتأجِّجة هو أنني وُلدت من هذه المرأة … على العكس لم تعطني متسعًا لكي أقطع علاقتي بأمي، وأخطِّط للثأر منها. ولكن علاقة الدم لا سبيل لقطعها.
… ولكن الآن، شعرتُ أنني تحرَّرت فجأةً مع رؤيتي لأمي وقد غرق جسدها تقريبًا في عذاب الأمومة على الأرجح. أحسستُ أن أمي صارت غير قادرة على إخافتي أو تهديدي. ولا أدري سببَ ذلك.
… حدَث صراخٌ حاد وكأنه حشرجة الموت خنقًا. في اللحظة التي فكَّرت فيها هكذا، امتدت يدُها إلى خدي ولطمتني بضَعف.
«إيها العاق! يا ناكر الجميل!»
ظلَّ الشرطي بالزي المدني صامتًا ينظر إليَّ وأنا أُضرب وأُلكم. صارت أطراف الأصابع التي تضرب مضطربة، وفقدَت الأصابع قوَّتها، ولذا على العكس أصابت الأظافرُ الخدود وكأنها بَرَد. عندما رأيت أن ملامح أمي وهي تضربني كانت لا تنسى التضرُّع، أشحتُ بصري بعيدًا عنها. بعد فترة وجيزة، غيَّرت أمي من نبرة كلامها.
«لهذه الدرجة … لهذه الدرجة ذهبت بعيدًا، ماذا فعلتَ بالنقود؟»
«النقود؟ استعرتها من صديقٍ قبل الرحيل.»
«أحقًّا ما تقول؟ ألم تسرقها؟»
«لم أسرق شيئًا.»
كان على ما يبدو أن ذلك هو الأمر الوحيد الذي كانت قلقةً منه، أخيرًا تنفَّست أمي الصُّعداء واطمأنت.
«حقًّا؟ … أنت لم تفعل أيَّ شيء سيئ، أليس كذلك؟»
«لم أفعل.»
«حقًّا؟ على أي حال هذا أمرٌ جيد. يجب أن أجعلك تعتذر لكبير الرهبان. أنا اعتذرتُ له بالفعل، يجب عليك أن تعتذرَ من أعماق قلبك، وأن تنال منه العفو والمغفرة. فإنَّ كبير الرهبان رجل طيب القلب، وأعتقد أنه سيجعلك تستمر كما أنت، ولكن هذه المرة إن لم تتغيَّر تغيُّرًا حقيقيًّا فإن أمك ستموت. حقًّا. إذا لم تكن تريد أن تموت أمك بسببك، يجب عليك التغيُّر. ثم بعد ذلك تصير راهبًا عظيمًا … ولكن على أي حال قبل ذلك يجب الاعتذار.»
بعد أن سكتت أمي تبِعناها أنا وشرطي الزي المدني في السكوت. كانت أمي قد نسيت أن تلقيَ التحية كما يجب على الشرطي.
أخذتُ أفكِّر وأنا أتأمل خلفيةَ الحزام المتدلي الذي يهتز اهتزازاتٍ قصيرة، ما الذي يجعل أمي بهذه الدرجة من الدمامة التي هي عليها. إنه الأمل … الذي يجعل أمي دميمة. الأمل الذي يشبه الجرب العنيد الذي يعيش على أكل الجلد القذِر، الذي لا ينهزم أمام أي شيء في هذا العالم، الذي يسبِّب حكةً لا تنقطع بلون وردي أحمر رطب، إنه أملٌ غير قابل للشفاء.
•••
جاء الشتاء. وأخيرًا صار قراري صلبًا. أخذت الخطة تتأجل وتتأجل، ولكن لم أمَلَّ من مطِّها وتطويلها.
صار الأمر الذي كنت أعانيه خلال ستة أشهر منذ ذلك الوقت، شيئًا آخر. كان كاشيواغي في نهاية الشهر يلح عليَّ في ردِّ القرض، ويبلغني بمقدار المبلغ بعد إضافة الفوائد، ويلومني بكلمات نابية. ولكن في الواقع لم يكن عندي نيةٌ لرد القرض. كان من الأفضل أن آخذ إجازة من الجامعة حتى لا أقابل كاشيواغي.
بعد أن قررتُ ذلك مرة بحسم، لا يجب اعتبارُ عدم حديثي عن تفاصيل حَيرتي واهتزاز قلبي بين أخذ القرار والعودة عنه أمرًا عجيبًا. فلقد اختفى التردُّد من قلبي. وكنت أركِّز النظر في أثناء الأشهر الستة الماضية، على أمرٍ واحد من المستقبل. وكنت على الأرجح قد عرفتُ طَعم السعادة أثناء تلك الفترة.
أولُ شيء، أن حياة المعبد صارت سهلة. فقد كان من السهل تحمُّل ما لا يمكن تحمُّله، إذا فكَّرت أن المعبد الذهبي سيئول إلى الحرق. مثل الشخص الذي تنبأ بموته، صار سلوكي تجاه رجال المعبد ودودًا، وتعاملي لهم مشرقًا، وصرتُ أجتهد في التصالح معهم في كل الأمور. حتى الطبيعة تصالحتُ معها. وحملت ودًّا وألفة تجاه ريش صدر العصافير التي تأتي كلَّ صباح في الشتاء لتلتقط ثمارَ الآس البري المتبقية على الأشجار.
لقد نسيت حتى كرهي لكبير الرهبان! أصبحت متحررًا من أمي، ومن أقراني، ومن جميع الأشياء. ولكني لم أكن غبيًّا لدرجة أن أنخدع في أن استمتاعي بحياتي الجديدة هذه الأيام يعني تحقيق تغيُّر العالم دون أن يلمسه أحد. إذا تأملت أيَّ أمر كان من ناحية النهاية، يمكنك التسامح معه. إن برهان تحرُّري بحق، كان في جعل تلك العين التي تنظر من جانب النهاية ملكي أنا، بل والإحساس أن يدي أنا هي التي تقرِّر تلك النهاية.
حتى لو قلنا إنها فكرة تولَّدت فجأة بهذه الطريقة، ولكن كانت فكرة حرق المعبد الذهبي تشبه ملابسَ غربية تم تفصيلها توًّا، وتناسب مقاسي تمامًا. كما لو أنني كنت منذ وقت ميلادي أجعلها هدفًا نصب عيني. على الأقل منذ اليوم الذي جئتُ فيه بصحبة أبي ورأيت المعبد الذهبي لأول مرة في حياتي، فهذه الفكرة تربَّت داخلي وكأنها تنتظر تفتُّح وردتها. كانت حقيقة أن يبدوَ المعبد في عين صباي جميلًا جَمالًا لا مثيل له في هذا العالم، تُهيئ داخلي في النهاية جميعَ الأسباب لكي أكون مجرمَ حرائق متعمَّدة.
أنهيتُ الفصل التمهيدي في جامعة أوتاني في يوم ١٧ مارس من عام ١٩٥٠. وأخذًا في الاعتبار أن اليوم التالي لليوم الذي يليه، أي ١٩ مارس، هو عيد ميلادي، إذن كنتُ في الحادية والعشرين من عمري. كانت نتيجة الفصل التمهيدي في ثلاث سنوات رائعة. ترتيبي كان التاسع والسبعين من بين تسعة وسبعين طالبًا. أقلُّ درجة حصلتُ عليها بين كل المواد كانت ٤٢ درجة في اللغة اليابانية. عدد ساعات الغياب، كان ٢١٨ ساعة من بين ٦١٦ ساعة، أي أكثر من الثلث. ورغم ذلك ومن رحمة بوذا، لم يكن في هذه الجامعة رسوبٌ وإعادة السنة؛ ولذا استطعت التقدُّم للمرحلة الدراسية العادية. وافق كبير الرهبان أيضًا صامتًا على ذلك.
قضيت الأيام الجميلة من نهايات الربيع إلى بدايات الصيف، وأنا أتغيَّب عن المحاضرات، وأزور المعابد البوذية ومعابد الشنتو التي ليس بها رسوم دخول. مشيت حتى حدود ما امتدت قدماي. ويجعلني هذا أتذكَّر اليوم التالي.
كنتُ أسيرُ في الطريق الرئيسة التي أمام معبد ميوشينجي. وعندها انتبهتُ إلى طالبٍ يمشي أمامي بنفس سرعة خطواتي. عندما وقف عند محل للسجائر قديم ومنخفض الارتفاع لكي يشتريَ سجائره، بدا لي وجهه الجانبي تحت قبَّعة الجامعة.
كان وجهًا جانبيًّا حادًّا ذا لون أبيض تقترب حواجبه من بعضها، وعندما نظرتُ إلى قبَّعة الجامعة عرفتُ أنه طالب في جامعة كيوتو. نظر ناحيتي نظرةً خاطفة بطرف عينه. كانت نظرةً تشبه مجيء ظل أسود متدفِّق معها. وقتها جاءني حَدْس تلقائي أن ذلك الطالب «هو ولا ريب مجرمُ حرائق متعمَّدة.»
كانت الساعة الثالثة بعد الظهر. وكان الوقت غير مناسب مطلقًا لعمل جريمة حريق متعمَّدة. كانت الفراشة التي ضلَّت طريقها فخرجت إلى طريق الباصات المعبَّدة، تلف وتدور حول زهرة الكاميليا الذابلة في المزهرية المخصَّصة لزهرة واحدة فقط والموضوعة أمام محل السجائر. كان الجزء الذابل من زهرة الكاميليا البيضاء يبدو وكأنه بقايا احتراقها بنارٍ بلون بني غامق. لا يأتي الباص مهما مرَّ الوقت، وكان الزمن متوقفًا فوق الطريق.
لا أعلم لماذا أحسستُ أن ذلك الطالب يخطو حثيثًا نحو الحرق العمد خطوةً بخطوة. فقط بدا لي بوضوح أنه مهووس بالحرائق العمد. وكان يسير ببطء إلى الفعل الذي وضعه نُصب عينيه بعناد، وقد اختار معتمدًا وَضَح النهار الذي هو أصعبُ وقت يمكن إشعال حريق فيه. أمامه نار ودمار، وخلفه نظام هجره. أحسستُ بذلك من ظهر زيه الجامعي الموحَّد المهيب نوعًا ما. ربما كنتُ قد رسمتُ تلك الصورة في مخيِّلتي لما يجب أن يكون عليه ظهرُ شاب مهووس بالحرق العمد. كان يمتلئ ظهر ذلك القماش الأسود الذي تسقط عليه أشعة الشمس، بشيء حادٍّ ومشئوم وصعب المراس.
فكرتُ في أن أقلِّل من سرعة خطواتي وأتبع أثر الطالب. وأثناء سيري هكذا، صرتُ أعتقد أن ظهره الذي تسقط فيه كتفه اليسرى قليلًا، هو ظهري أنا. كان ذلك الطالب أجملَ مني بدرجة كبيرة جدًّا، ولكن لم يكن هناك اختلاف في أن نفس الوحدة، ونفس التعاسة، ونفس الأفكار الضالة عن الجَمال، تحثُّه على نفس الفعل. صرتُ في غفلةٍ من الزمن مع تتبُّعي له، وكأنني أتابع تصرفاتي أنا الشخصية مقدمًا.
وكان ذلك أمرًا محتملَ الحدوث بكثرة في ظهيرة أواخر الربيع، بسبب شدة كآبة الجو والإضاءة. بمعنى أن أصير مزدوجًا، ويحاكي جزءٌ مني تصرفاتي من البداية، وعندما أقرِّر التنفيذ، يظهر أمامي بوضوحٍ جزئي غيرُ المرئي. ذلك هو ما يحدث.
مهما مرَّ الوقت فالباص لا يأتي، وانقطع مرور الناس في الطريق. اقتربتْ بوابة المدخل الجنوبي لمعبد شوهوزان ميوشينجي. بدت البوابة التي فُتحت على مصراعيها يمينًا ويسارًا، وكأنها تبتلع جميع أنواع الظواهر الكونية. وذلك أنه عندما ننظر من هذه الجهة، نجد داخل ذلك الإطار العملاق، منظرَ الأعمدة المتكررة لبوابة مبعوث الإمبراطور وبوابة الجبل، وقرميد سقف قاعة تمثال بوذا، والكثير من الصنوبر، وإضافة إلى ذلك فهي تبتلع جزء السماء الزرقاء المقتَطَع، وبعض قِطَع السحاب النحيلة. تمتد الطرقات المغطاة بالأحجار طولًا وعرضًا في أنحاء المعبد الواسع، مع الاقتراب من البوابة، وكذلك تنضم إليها أسوار المعابد الفرعية الكثيرة، وأشياء لا حدود لها. إذا مررت من البوابة مرةً، تعرف أن البوابة السحرية ذات القداسة، تحتل جميع الغيوم مع كامل السماء الزرقاء التي داخل البوابة. هكذا يجب أن يكون المعبد البوذي الكبير.
دخل الطالب من البوابة. ودار من الجهة الخارجية لمدخل مبعوث الإمبراطور، ووقف على ضفاف بِركة اللوتس التي أمام مدخل الجبل. ثم علاوةً على ذلك وقف فوق الجسر الحجري الذي يعبر البِركة، وتوجَّه بنظره إلى بوابة مدخل الجبل التي تعلو سامقة. فكرتُ: «من المؤكَّد أنه يدخل هذا الجبل بنية الحرق العمد.»
كان ذلك مناسبًا لأن تحيط به النيران أمام مدخل الجبل المهيب الجميل. في هذا الظهر المشرق، على الأرجح لن تُرى النيران بوضوح. ستُعرف فقط النيران خلال رؤية انبعاج السماء الزرقاء فقط تهتز، حيث يلتفُّ الدخان الكثيف حولها ويلحس اللهب غير المنظور الهواء.
اقترب الطالب من مدخل الجبل، ولذا من أجل ألا يكتشفني درتُ من الجهة الشرقية لمدخل الجبل ونظرت. كان ذلك وقتَ عودة رهبان جمْع التبرعات إلى المعبد. تأتي مجموعة التبرعات المتسلسِلة المكوَّنة من ثلاثة رهبان، من طريق الشرق يأتون بمِشية الأوزة على الطريق المرصوفة بالأحجار وهم يرتدون خُفَّ القش. ويعلِّق الثلاثة في أيديهم قبَّعة الخيزران. وكما تنص قواعد جمْع التبرعات، لا ينظرون إلا إلى مسافة ثلاثة أو أربعة أقدام أمامهم، دون تبادل أي أحاديث خاصة مع بعضهم البعض حتى العودة إلى مقر المبيت، ورحلوا من أمام عيني خاصة بهدوء شديد منحرفين لليسار.
مرةً أخرى تردَّد الطالب بجوار مدخل الجبل. وأخيرًا أسند ظهره على أحد الأعمدة، ثم أخرج من جيبه علبة السجائر التي اشتراها منذ قليل. وأخذ ينظر فيما حوله في قلقٍ وعدم سكينة. كنتُ أعتقد أنه من المؤكَّد أنه يتظاهر بتدخين السجائر، لكي يقومَ بإشعال حريق. حسنًا، لقد وضع السيجارة الأولى في فمه، وقرَّب وجهه ثم حكَّ الثقاب.
أظهرت نار الثقاب في لحظةٍ تألقًا شفافًا صغيرًا. كان سبب الاعتقاد أن لون النار لم تبدُ مرئيةً في عين الطالب، أن شمس الظهيرة تحيط منذ فترة مدخل الجبل من ثلاثة اتجاهات، فأعطت ظلالًا فقط في الجانب الذي أقفُ فيه. ثمَّة نار بجوار وجه الطالب الذي يستند على أحد أعمدة مدخل الجبل على ضفاف بِركة اللوتس، في لحظة واحدة سريعة، طفَت ما يشبه نيران زائلة مؤقتة. ثم أُطفئت بواسطة يد الطالب التي اهتزَّت بعنف لإطفائها.
ويبدو أن الطالب لم ترتَح نفسه بمجرد إطفاء الثقاب فقط. الثقاب التي رماها فوق حجر الأساس ظل يدعسها بباطن حذائه زيادةً في التأكيد. حسنًا، مع استمتاعه بتدخين السيجارة، ودون أي اعتبار لليأس المتبقي داخلي أنا، عبَر الطالب الجسرَ الحجري ومرَّ بجوار بوابة تيشي، وسار مختالًا، ورحل مغادرًا من البوابة الجنوبية التي يُرى منها الشارع الواسع الممتدة فيه قليلًا ظلالُ البيوت المتراصة.
لم يكن ذلك الطالب مجرم إشعال حرائق، بل كان طالبًا يقوم بنزهة. وعلى الأرجح أنه كان طالبًا به قليل من الملل والفقر، فقط لا غير.
لم يكن يروق لي مطلقًا أنا الذي شاهدتُ جميع الخطوات، أن ذلك كلَّه من أجل تدخين سيجارة واحدة، وليس من أجل حريق متعمَّد. وبصفة خاصة لم يرُق لي ما حدث بعد ذلك؛ أي «تربيته الثقافية» التي جعلته يفرح كطالب في بخلٍ بمجرد خروجه عن النظام، والتي تجعله يتلفَّت بجبن واضطراب فيما حوله هكذا، وسلوكه في الحرص على إطفائه الثقاب المطفأة بالفعل بهذه الطريقة. وبفضل تلك التربية التي تشبه سَقَط المتاع، سيطر على النار الصغيرة التي أحدثها بمنتهى الأمان. وهو على الأرجح يريد أن يكون بارعًا في السيطرة على ثقابه، وأن يكون تجاه المجتمع، المسيطرَ الكامل على النار الذي لا يتأخَّر.
كانت تلك التربية سببَ عدم احتراق المعابد البوذية في وسط مدينة كيوتو وفي ضواحيها، بعد ثورة ميجي (١٨٦٧) إلا نادرًا. حتى لو وُجد حريق بطريق الصدفة، يتم تقطيع النيران إلى قِطَع صغيرة، وفصلها بعضها عن بعض، وفي النهاية يسيطر عليها. ولكن لم يكن الأمر بهذا الحال على الإطلاق فيما مضى. فلقد احترق معبد تشيؤنين في عام ١٤٣١، وبعد ذلك أيضًا عانى الحرائق أكثرَ من مرة. واحترق معبد نانزنجي في عام ١٣٩٣؛ فقد احترقت قاعاته مثل قاعة بوذا في المبنى الرئيس، وقاعة المحاضرات وقاعة كونغو ومبنى دايونان. وتحوَّل معبد إينرياكوجي إلى رماد في عام ١٥٧١. وطالت النيران معبد كينَّينجي في عام ١٥٥٢ بسبب الحرب الأهلية. وتدمَّر معبد سانجوسانغن حرقًا في عام ١٢٤٩. واحترق معبد هونَّوجي بسبب الحرب الأهلية في عام ١٥٨٢.
في تلك العصور كانت النيران حميمية. ولم تكن تُفصل النيران بهذه الطريقة، بل كانت تستمر وتوثِّق يدها مع نيرانٍ أخرى، وتستطيع أن تتجمَّع في نيران بلا عدد. وكان البشَر على الأرجح أيضًا على نفس المنوال. كانت النيران لديها القدرة على استدعاء نيرانٍ أخرى مهما كان موقعها، وكان صوتها يصل في التو والحال. كانت المعابد تحترق فقط بسبب نيرانٍ تنشأ من خطأ، أو نيران بسبب الحرب أو بسبب نيران انتقلت إليها من حريق في مكانٍ آخر، وما من تسجيل لحريق متعمَّد لمعبد، ولذا فشخص مثلي لو وُجد في عصر من العصور القديمة، كان يكفيه أن يحبس أنفاسه ويختبأ ثم ينتظر فقط. فلا بد أن يحترق المعبد في يومٍ ما. كانت النيران وفيرة، وتفعل ما يحلو لها. لو انتظر فقط، فالنار التي ترقب أي ثغرة، كانت بالضرورة تنطلق، وتمتد يد النيران إلى يد نيران أخرى، وتنجز ما يجب إنجازه. أما المعبد الذهبي ففي الواقع أنه أفلت من النيران بمجرد صدفة نادرة ليس أكثر. تستعر النيران استعارًا طبيعيًّا، يتجاور الفَناء والنفي تجاورًا دائمًا، المعبد البوذي الذي يُبنى لا بد وأن يحترق، فالمنطق البوذي وقانونه يسيطران على العالم سيطرةً سحرية وغامضة. حتى لو كان حريقًا عمدًا، فهو لجوء طبيعي للغاية إلى قوى النار المختلفة، ولذا ربما لم يعتقد أيٌّ من المؤرخين أن ذلك حرقٌ عمد.
كان الوضع في تلك العصور على الأرض غير مستقر. كان اضطرابًا لا ينهزم أمام الاضطراب الموجود على الأرض حاليًّا في عام ١٩٥٠. إذا كانت المعابد البوذية احترقت في الماضي من خلال الاضطراب والفوضى، فلِمَ يُفترض أن المعبد الذهبي لا يحترق الآن؟
•••
لأنني كنتُ أتكاسل عن حضور المحاضرات وأتردَّد مراتٍ فقط على المكتبة فقد قابلت كاشيواغي الذي كنت أتفاداه في أحد أيام شهر مايو. لمحني أحاول تفاديَه فلحقني بمشاعرَ مستمتعة، وتعمَّد على العكس أن يوقفني بسبب تفكيره أنني لو جريت فلا يفترض أن يستطيع صاحب القدَم الحَنْفَاء اللَّحاق بي.
كانت أنفاس كاشيواغي الذي أمسك بكتفي تتقطَّع. كان الوقت الساعة الخامسة والنصف تقريبًا بعد انتهاء المحاضرات. كنتُ قد خرجتُ من المكتبة وانحرفت من الجانب الخلفي لمباني الجامعة من أجل ألا أقابل كاشيواغي، فوصلت إلى الطريق التي بين السور الحجري العالي وبين الثكنات التي تحوَّلت إلى قاعاتٍ للمحاضرات في الجانب الغربي. كان ذلك المكان يتبقى فيه القمامة من الورق والزجاجات الفارغة وسط زهور الأقحوان البرية التي تنبُت طبيعيًّا فيه، وكان الطلاب الذين تسلَّلوا إليه يلعبون لعبةَ تبادُل قذف كرة البيسبول. كان ذلك الصوت الحاد يجعل قاعاتِ الدرس الخاليةَ بعد انتهاء المحاضرات التي تُرى من خلال زجاج النوافذ المنكسر وداخلها مقاعدُ الدرس وقد علاها التراب، موحشةً بدرجة بارزة وواضحة.
وقفتُ أنا بعد أن تخطيت ذلك ووصلت إلى المبنى الرئيس، ثم جئت أمام الكوخ الصغير المعلَّق عليه لافتة المعمل قد علَّقها عليه جماعة تنسيق الزهور في الجامعة بعد خروجي من الجانب الغربي. تشف أشجار ظلال أوراق الكافور التي تقف عاليةً بمحاذاة السور متخطيةً سقف الكوخ، أشعة شمس الغروب، التي تنعكس على جدران المبنى الرئيس المبنية من الطوب الأحمر. بدا الطوب الأحمر متألقًا وشمس الغروب تغمره بأشعَّتها.
ولأن كاشيواغي أسند جسمَه على ذلك الحائط لأن أنفاسه تتقطع، فقد لوَّنَت ظلال أوراق شجر الكافور الصاخبة خدودَه الذابلة دائمًا وأعطتها ظلًّا متراقصًا في ريب. أو ربما انعكاسات الطوب الأحمر التي لا تتناسب معه جعلته يظهر بهذا المنظر.
قال:
«أصبح المبلغ خمسة آلاف ومائة ين. أنت تصعِّب السَّداد على نفسك.»
ثم أخرج من جيب صدره ورقةَ القرض المثنية التي يضعها فيها على الدوام، ثم فردها وأراني إيَّاها. ثم قبض على يدي مخافةَ أن أقوم بتمزيقها، ثم أسرع بثنيها مرةً ثانية وأعادها مكانها الأصلي، ولذلك لم يتبقَّ في نظري إلا بقايا اللون الأحمر الفاقع لبصمة الأصبع المسمومة. بدت بصمةُ أصبعي مريعة بشدة.
«رُدَّ المال لي بسرعة. فهذا من أجل مصلحتك أنت. ألا يمكنك أن تختلس من مصاريف الدراسة أو شيء من هذا القبيل؟»
كنتُ ساكتًا. فهل ثمَّة أي التزام بإعادة القرض والعالم مقبِل على الفَناء؟ كنت على وشْك الوقوع في إغراء التلميح قليلًا بذلك لكاشيواغي، ولكني أعرضت عن ذلك.
«لن أفهم شيئًا من صمتك. هل تخجل من التلعثم؟ بعد ماذا! فحتى هذا يعلم أنك متلعثم. حتى هذا.»
قال ذلك وهو يضرب حائط الطوب الأحمر المُنار بانعكاسات شمس الغروب بقبضة يده. اصطبغت قبضة يده بمسحوقٍ ذي لونٍ بنيٍّ محروق.
«حتى هذا الحائط. ما من أحدٍ في هذه الجامعة لا يعرف ذلك.»
وبعد ذلك وقفتُ في مواجهته وأنا على صمتي. في ذلك الوقت فلتت الكرة من أحد الطلبة، وجاءت تتدحرج بيننا نحن الاثنين. أحنى كاشيواغي جسمه لالتقاطها وإعادتها إليه. نهض فيَّ ذلك الفضول المنحرف فحاولت رؤية كيف سيمسك الكرة التي على بُعد قدم منه بيده، كيف ستجعل قدمه العرجاء تنشط. ويبدو أن عيني دون وعي كانت تنظر إلى قدمه. ويمكن القول إن سرعة ملاحظة كاشيواغي لذلك كانت سرعةَ ملاحظةٍ ربانية. فقد رفع جسده قبل أن يبدوَ عليه الانحناء وحملق فيَّ، كان في تلك العين، حقدٌ ينقصه البرود، وهو ما لا يتناسب معه.
اقترب الطالب متكاسلًا، والتقط الكرة من بيننا وهرب. وأخيرًا قال كاشيواغي:
«حسنًا إذا كان ذلك هو موقفك فأنا لديَّ فكرة. قبل أن أعودَ إلى بلدتي في الشهر القادم، سأريك كيف أحصُل على ما أستطيع الحصول عليه مهما كانت الطريقة. وأنت أيضًا بالتأكيد مستعدٌّ لذلك.»
•••
بعد دخول شهر يونيو، تدريجيًّا تناقصت المحاضرات المهمة، وبدأ الطلاب كلَّ الاستعدادات للعودة إلى قراهم. ولن أنسى ما حييت يومَ العاشر من يونيو.
عند دخول الليل صارت الأمطار التي كانت تهطل منذ الصباح أمطارًا غزيرة. وكنت بعد وجبة العشاء في غرفتي أقرأ كتابًا. اقتربَت في الساعة الثامنة مساءً، أصواتُ أقدام في الممر الذي يصل بين المكتبة الكبرى وقاعة الزوار. يبدو أن أحد الزوار جاء لزيارة كبير الرهبان الذي لم يخرج هذه الليلة على غيرِ عادته. ولكن الشيء العجيب أن صوت الأقدام كانت تشبه صوت ارتطام الأمطار الهائجة بألواح الأبواب. ورغم أن صوت أقدام الراهب المبتدئ الذي يرشدها إلى المكان منتظمةٌ وفي غاية الهدوء، فإن صوت أقدام الزائر جعل ألواح أرضية الممر تصدر صريرًا غريبًا، وعلاوةً على ذلك بطيئًا للغاية.
كان إفريز سقف معبد روكوؤنجي المظلم يحتوي على صدى أصوات الأمطار. تجعل الأمطار التي تنصبُّ هاطلة على المعبد الضخم العتيق، رائحةَ العفن التي بلا عدد تملأ تمامًا الغرفَ العديدة الفارغة. لا تسمع الأذن في المخازن الخلفية ومبنى مبيت الموظف الإداري ومسكن الرهبان وقاعة الزوار إلا صوت المطر. فكرتُ في ذلك المطر الذي يسيطر على المعبد الذهبي. فتحتُ باب الغرفة قليلًا. امتلأت الحديقة الوسطى الصغيرة الحجم التي أكثرها أحجارٌ بمياه الأمطار، تنتقل المياه من حجر إلى حجر وهي تُظهر ظهرَها الأسود اللامع.
كان الراهب المبتدئ الجديد عائدًا من غرفة كبير الرهبان، وعندما مرَّ من أمام غرفتي، أطلَّ برأسه فقط داخل الغرفة قائلًا:
«لقد جاء طالبٌ اسمه كاشيواغي لمقابلة كبير الرهبان. لا ريب أنه صديقك، أليس كذلك؟»
أصابني قلق شديد فجأةً. ثم قمت بإيقاف هذا الراهب الذي يرتدي نظارةَ نظر والذي يعمل في النهار مدرسًا بمدرسة ابتدائية بعد أن همَّ بالإسراع في الجري، وأدخلته غرفتي. والسبب أنني لم أقدِر على احتمال الوحدة وأنا أتخيَّل الحوار الدائر في مبنى المكتبة الكبرى.
مرَّت خمس دقائق. سمِعنا صوتَ الجرس اليدوي الذي يرنُّه كبير الرهبان. دقَّ صوت الجرس منتشرًا بشجاعة ومخترقًا أصوات الأمطار ثم توقَّف فجأة. نظر بعضنا إلى وجه بعض.
قال الراهب المستجد:
«إنه أنت.»
نهضتُ واقفًا بصعوبة.
كانت الوثيقة الممهورة ببصمة أصبعي مفرودة فوق مكتب كبير الرهبان، ثنى كبير الرهبان جنبًا من تلك الورقة وأشار بها إليَّ، حيث كنتُ جاثيًا على ركبتي في الممر أمام غرفته. ولم أحصل على إذن بدخول الغرفة.
«هل هذه بصمتك؟»
أجبتُ:
«نعم.»
«لقد فعلتَ ما يسبِّب إزعاجي حقًّا. إذا فعلت ذلك مرةً أخرى فلن أُبقيَ عليك بالمعبد. كنتُ على علمٍ بذلك. فهناك العديد …»
كان كبير الرهبان على وشْك قول شيءٍ ما، ولكنه أغلق فمه مراعاةً لوجود كاشيواغي.
«سأقوم أنا بردِّ المال. هيَّا يمكنك الرحيل الآن.»
بهذه الكلمة تولَّد لديَّ متَّسع للنظر إلى وجه كاشيواغي. كان يجلس بملامحِ وجهٍ وديعة. وكان حريصًا على أن يتَّجه بوجهه بعيدًا عني. كان وجه كاشيواغي عندما يفعل شيئًا شريرًا، يتخذ الملامحَ الأكثر براءةً وطهرًا وكأنه دون أن ينتبه بنفسه لذلك، قد اقتلع شخصيته الجوهرية. كنتُ أنا الوحيد الذي يعرف ذلك.
أحسستُ فجأةً بعد أن رجعتُ إلى غرفتي، أنني حصلتُ على حريتي، وسط الوحدة والعزلة، وسط أصوات المطر العنيفة. كان الراهب المستجدُّ قد غادر غرفتي بالفعل.
لقد قال كبير الرهبان:
«لن أبقيَ عليك بالمعبد.»
عندما سمِعتُ هذه العبارة من فم كبير الرهبان لأول مرة، أخذتُها على أنها يمكن اعتبارها وعدًا من كبير الرهبان. أصبحتِ الأمور فجأةً في غاية الوضوح. ففكرة طردي من المعبد موجودةٌ بالفعل في ذهن كبير الرهبان. يجب الاستعجال في التنفيذ.
لو لم يفعل كاشيواغي ما فعله اليوم، لم تكن هناك فرصة أخرى لكي أسمع هذه الكلمة من فمِ كبير الرهبان، وربما كان التنفيذ تأجَّل أكثرَ من ذلك. وعندما أفكِّر أن الذي أعطاني قوةَ الدفع هو كاشيواغي، يفور داخلي إحساسٌ غريب بالشكر والامتنان تجاهه.
لم تكن هناك أي بوادر لزوال المطر. الجلد يشعر ببعض البرودة رغم أننا في شهر يونيو، وغرفة المخزن ذات التسعة أمتار مربَّعة والمحاطة بألواح الخشب، بدت كئيبةً موحشة تحت إضاءة المصباح المظلم. كانت هذه غرفتي التي ربما أُطرد منها في النهاية. ليس بها أي نوع من أنواع الزينة، وتغيَّر لون حافة حصير التاتامي السوداء بفعل الزمن، وبقي ممزقًا ومعوجًا وتظهر خيوطه الداخلية الصلدة للعيان. عندما أدخل الغرفة وأنيرُ المصباح، دائمًا ما تشبك أصابع قدمي في ذلك الخيط، ولكن لم أحاول خياطته. فما من علاقة لحصير التاتامي أو لغيره في درجة حماس حياتي المعيشية.
تفوح مع اقتراب الصيف، رائحةُ عرقي اللاذعة في تلك المساحة الصغيرة. والأمر الذي يجب الضحك منه هو أنني راهب، بل وأملك رائحةَ جسد شاب. التصقت الرائحة بالأعمدة الغليظة العتيقة في الأركان الأربعة التي تشع أشعةً سوداء، وكذلك في ألواح الباب القديمة، فكانت تلك الأشياء تطلق رائحةً عفنة لكائن حي شاب من بين عُقَد الأخشاب التي أعطت لها السنين والشهور صدأ الأركان الملتوية. وقد تحوَّلت هذه الأعمدة والألواح، إلى ما يشبه كائناتٍ حية متوحشة لا تتحرك.
في ذلك الوقت تردَّد في الممر ذلك الصوتُ الغريب الذي سمِعته منذ قليل. نهضت وخرجت إلى الممر. شجرة الصنوبر البعيدة التي على شكل مركب والتي تتلقى إضاءة غرفة كبير الرهبان البعيدة، وترتفع عاليًا مقدمة المركب المبتلة الخضراء التي بها سواد، ويقف في ظهرها كاشيواغي ساكنًا وكأنه أوقف فجأةً حركتَه الميكانيكية. أما أنا فقد علَت وجهي ابتسامة.
ولقد حصلتُ على شعورٍ بالرضا التام عندما ظهر على وجه كاشيواغي الذي رأى ذلك، إحساسٌ يقترب من الرعب. ثم قلت:
«ألا تأتيَ لزيارة غرفتي؟»
«ما هذا؟ لا تُخِفْني. أنت إنسان غريب!»
… وأخيرًا جلس كاشيواغي على الوسادة التي قدَّمتُها له، جِلسة جانبية ببطء بعد حركة الجثو المعتادة. رفع رأسه وألقى نظرةً فاحصة على الغرفة. كان صوت المطر خارج باب الغرفة يغلق المكان وكأنه عباءةٌ سميكة. وترتطم من وقتٍ لآخر، قطرات مطر، من الرزاز المتناثر الذي يصطدم بالشرفة المفتوحة، في الباب الورقي هنا وهناك.
«حسنًا، لا تحقد عليَّ. فأنت الذي أرغمتني في النهاية على اتخاذِ هذه الوسيلة، لقد نلتَ جزاء عملك. هذا هو ما حدث.»
قال ذلك وأخرج من جيبه مظروفًا مطبوعًا عليه اسم روكوؤنجي وأخذ يَعُد العملات الورقية. كانت النقود عبارة عن ثلاث ورقات من فئة الألف ين التي يبدو أنها صدرت في بداية هذا العام. قلت له:
«ألا ترى أن عملات المكان هنا نظيفةٌ وجديدة؟ فكبير الرهبان مصابٌ بمرض هوس النظافة ويجعل نائبه يذهب إلى البنك مرةً كل ثلاثة أيام ويبدل كلَّ النقود.»
«انظر، إنها ثلاث ورقات فقط. ماذا عن بخل كبير رهبان معبدك؟ فهو لا يعترف بوجود فوائد في القروض التي بين الطلبة بعضهم بعضًا. رغم أنه يكسب الكثير من المال.»
استمتعتُ من كل قلبي بفقدان الأمل غير المتوقَّع هذا من كاشيواغي.
ضحكتُ بلا أي مراعاة لكاشيواغي وهو أيضًا شاركني الضحك. ولكن التصالح هذا كان للحظة زمن، بعدها أنهى كاشيواغي ضحكاته، وقال وهو ينظر إلى جبهتي، وكأنه ينفصل عني:
«أنا أفهم الأمر. أنت في الفترة الأخيرة تخطِّط لعملٍ مدمِّر.»
كنت أعاني تحمُّلَ ثقلِ نظراته. ولكن عندما فكَّرتُ أن العمل المدمِّر على طريقته في الفهم، يبتعد تمامًا عمَّا أهدفُ أنا إليه، عاد إليَّ هدوئي. ولم أتلعثم في ردي بتاتًا.
«لا … لا شيء مطلقًا.»
«حقًّا. أنت شخصٌ غريب فعلًا. أغرب شخص قابلته حتى الآن.»
عرفتُ أن تلك الكلمة موجَّهة إلى الابتسامة الأليفة التي لا تختفي من حواف فمي، ولكن معنى الامتنان الذي يفور من داخلي، التوقُّع المؤكد أنه لن يلاحظه كاشيواغي مطلقًا، جعل ابتسامتي تمتد امتدادًا تلقائيًّا وطبيعيًّا. سألته السؤال التالي بعلاقة الصداقة السطحية المعتاد في المجتمع:
«هل ستعود إلى بلدتك؟»
«نعم … أنوي العودة غدًا. الصيف في مدينة سانوميا! إنها مكانٌ آخر ممل …»
«إذًا لن نتقابل في الجامعة فترةً طويلة.»
«ماذا؟ إنك تقول ذلك مع أنك لا تأتي تقريبًا.»
قال كاشيواغي ذلك، ثم فتح بتسرُّع زرَّ صدر الزي المدرسي وعبث بأصابعه في الجيب الداخلي، ثم قال:
«… قبل أن أعودَ إلى قريتي، فكرتُ في إسعادك فجئتُ إليك بهذه. فأنت كنت تقدِّر ذلك الشخص بإفراط كبير.»
ثم رمى أربعة أو خمسة خطابات فوق مكتبي. وعندما نظرتُ إلى المرسِل وفوجئت، قال كاشيواغي ما يلي بطريقة عابرة:
«اقرأها؛ فهي شيء من رائحة تسوروكاوا.»
«هل كنت على علاقة طيبة مع تسوروكاوا؟»
«نوعًا. نعم علاقة طيبة بطريقتي الخاصة. ولكنه أثناء حياته، كان يكره بشدة أن يظهر كصديق لي. ومع ذلك فهو قد باح إليَّ أنا فقط. لقد مرَّت ثلاث سنوات على موته، فلا بأس من أن يراها أحدٌ غيري. وخاصة أنك كنت صديقًا حميمًا له، كنتُ أنوي أن أطلعك أنت فقط عليها في وقتٍ ما.»
كان تاريخ الخطابات جميعها قبل موته مباشرة. شهر مايو من عام ١٩٤٧، كان يرسل كلَّ يوم تقريبًا خطابًا من طوكيو إلى كاشيواغي. إنه لم يرسل إليَّ خطابًا واحدًا، ولكن عند النظر إلى هذه الخطابات نجد أنه من اليوم التالي لعودته إلى طوكيو كان يكتب كلَّ يوم خطابًا ويرسله إلى كاشيواغي. كان خط الخطابات بلا أي ريب أو شك خطَّ يدِ تسوروكاوا الطفولي المربَّع الزوايا. احتواني حقدٌ خفيف. كان تسوروكاوا الذي لم يكذب أمامي بواحدة من المشاعر الشفافة، وأحيانًا ما يبدي رأيه في أعمال كاشيواغي السيئة، كان وهو ينتقد علاقتي الجيدة معه، في نفس الوقت يخفي بجِدية هذه العلاقة السرية لهذه الدرجة مع كاشيواغي.
قرأتُ تلك الرسائل ذات الخط الرفيع المكتوب على ورقٍّ مسطَّر حسب تاريخ إرسالها. كانت الجُمل في منتهى الرداءة بدرجةٍ لا يمكن ضرب مثال لها، والأفكار تتوقَّف في كل مكان، ولم يكن من السهل قراءتها، ولكن من خلفية الجُمل السابقة واللاحقة تبرُز معاناة غامضة، وعند قراءة الرسالة بالتاريخ التالي ظهرت لي بوضوح وجِدَّة معاناة تسوروكاوا. ومع استمراري في القراءة بكيت. ومع بكائي، ذُهلت من معاناة تسوروكاوا التافهة.
فلم يَزدِ الأمر عن حادثة حبٍّ من النوع المنتشر في كل مكان وزمان. لم يَزِد عن علاقة حبٍّ تعيسة لا يقبل بها المجتمع بسبب رفض أبويه للطرف الآخر. ولكنَّ تسوروكاوا نفسَه كاتب تلك الرسائل ربما بسبب المبالغة في المشاعر التي هجمت عليه دون أن يدريَ، كتب الجملة التالية التي أصابتني بالذهول:
«عندما أفكِّر في الأمر الآن، أرى أن هذا الحب التعيس أيضًا كان من أجل قلبي التعيس. فأنا قد وُلدت بقلبٍ مظلم كئيب. وأعتقد أن قلبي لم يعرف في أيِّ وقت مشاعرَ الإشراق الرحبة.»
في آخرِ جملة من آخرِ رسالة قرأتُها، ولأنها كانت متقطعة بعنف، لأول مرة بدأتْ تستيقظ داخلي شبهةٌ لم أكن أتخيَّلها حتى تلك اللحظة ولا في الأحلام.
«ربما كان …»
بدأتُ في قول ذلك، فأومأ كاشيواغي موافقًا.
«نعم هو كذلك. لقد كان انتحارًا. أنا كذلك لا يبدو لي الأمر إلا أنه انتحار. وأهله اخترعوا حكايةَ عربة النقل ليحافظوا على سُمعتهم أمام المجتمع.»
ألححتُ في طلبٍ الرد من كاشيواغي وأنا أتلعثم من الغضب:
«أكيد كتبت له ردودًا على رسائله، أليس كذلك؟»
«كتبت. ولكن وصلت بعد موته على ما سمِعت.»
«ماذا كتبت؟»
«كتبت له إياك أن تنتحر. هذا فقط.»
سكتُّ أنا عن الكلام.
فقد كان تأكُّدي الذي يقول إن مشاعري تسخر مني بلا طائل. ثم أجهز كاشيواغي عليَّ بالطعنة الأخيرة.
«ماذا حدث لك. هل تغيَّرت نظرتك للعالم بعد قراءتك تلك الرسائل؟ ألم تتحطَّم جميع خططك الآن؟»
كانت خطة كاشيواغي في أن يريني تلك الرسائل بعد ثلاث سنوات واضحةَ المعنى والهدف تمامًا. ولكن مع استقبالي لهذه الصدمة، لم تَنمَحِ من ذاكرتي صورةُ أشعة الشمس الصباحية المتسربة من بين الأشجار التي تتناثر كنقاطٍ صغيرة فوق قميصٍ أبيضَ، لفتًى ينام وسط الأعشاب النابتة في الصيف. مات تسوروكاوا، وبعد موته بثلاث سنوات تغيَّر حاله هكذا، ومع أنه كان يعتقد أن الشيء الذي استودعه قد اختفى مع موته، عاد إلى الحياة ثانيةً في هذه اللحظة على العكس من خلالِ حقيقةٍ واقعية أخرى. وصلتُ أنا إلى الإيمان بحقيقة الذاكرة الفعلية أكثرَ من معنى الذاكرة ذاتها. لقد آمنتُ بذلك في وضعٍ يقول إن عدم الإيمان به على الأرجح سيجعل الحياةَ نفسَها تنهار. ولكن كاشيواغي وهو ينظر إليَّ من علٍ، كانت يداه على العكس تمتلئ وتفيض بالقتل القلبي.
«ما رأيك؟ ألم يَنْهَر شيءٌ ما بداخلك؟ فأنا لا أستطيع رؤيةَ صديق يعيش وهو يحمل داخله شيئًا سهلَ الكسر. ومن طيبتي أن أظل أكسر ذلك الشيء.»
«إذا لم يكن قد انكسر بعدُ، ماذا أنت فاعل؟»
«لا تكن كالأطفال، وتمتنع عن الإقرار بالهزيمة.»
ثم ضحِك كاشيواغي ساخرًا وأضاف:
«لقد كنتُ أريد إخبارك. أن الوعي هو الذي يغيِّر هذا العالم. هل تسمع؟ ما من شيء آخر يغيِّر هذا العالم. الوعي فقط، هو الذي يجعل هذا العالم الثابت يتغيَّر، يتغيَّر وهو ثابت كما هو. إذا نظرنا من وجهة نظر الوعي، فالعالم غير متغير تغيُّرًا أبديًّا، ثم يتغيَّر باستمرار إلى الأبد. ربما تقول أنت وماذا يفيد ذلك؟ ولكن لنقُل إن الإنسان حمل سلاح الوعي من أجل احتمال هذه الحياة. وهذا الشيء لا ضرورةَ له لدى الحيوانات. فليس لدى الحيوانات أيُّ إدراك لمسألة تحمُّل الحياة. فالوعي جعل صعوبةَ تحمُّل الحياة كما هي سلاحًا للإنسان، ولكن مع ذلك لا يمكن تقليلُ صعوبة التحمُّل تلك ولو قليلًا. هذا هو مبلغُ الأمر.»
«ألا تعتقد أن ثمَّة طريقةً أخرى لتحمُّل الحياة؟»
«نعم. ليس إلا الجنون أو الموت.»
«الذي يغيِّر العالم ليس الوعي مطلقًا.»
رددتُ بهذا دون وعي وأنا على وشْك الوقوع في خطر الاعتراف.
«الفعل هو الذي يغيِّر العالم. ما من شيء إلا الفعل فقط.»
في النهاية تقبَّل كاشيواغي ما أقوله بتلك الابتسامة الباردة التي تبدو ملتصقةً على فمه.
«انظر لقد عاد إلى القول نفسه! عاد يقول الفعل! ولكن الشيء الجميل الذي تحبُّه أنت، ألا تعتقد أنه يستمتع بشَرَهِ النوم وهو في حماية الوعي؟ إنها هرة قصة «ذبح الراهب نانسن هرة» التي تحدَّثت عنها في وقتٍ ما من قبل. تلك الهرة التي لها جَمالٌ لا يمكن إعطاء مثال له. فصراع الجانبين من الرهبان، هو من أجل حماية الهرة التي في الوعي الذي يحمله كلٌّ منهما، وتربيتها، ولأنهما يريدان جعلها تنام بارتياح. حسنًا ولأن الراهب نانسن كان هو الفاعل، فلقد قطع رأس الهرة ورماها. والراهب تشوشو الذي جاء بعد ذلك، وضع حذاءه فوق رأسه. لقد كان الراهب تشوشو يريد قولَ ما يلي: هو بالطبع كان يعرف أن الجَمال يجب حمايته بالوعي وجعله ينام. ولكن ما من شيء يسمَّى وعيَ كلِّ فرد على حدة، أو وعيًا منفردًا. فالوعي هو بحر الإنسان، وهو سهول ومراعي البشر، إنه وضْع الوجود العام للبشر. أنا أعتقد أن الراهب كان يحاول قول ذلك. هل أنت الآن تحاول أن تتقمَّص دورَ نانسن؟ … إن الشيء الجَمالي، الشيء الجَمالي الذي تعشقه أنت، هو الجزء الباقي داخل نفس الإنسان الذي تم توكيله من الوعي، الجزء الوهمي المتبقي منه. إن ما تقوله أنت عن «طريقة أخرى لتحمُّل الحياة» وهمٌ. ويمكن القول إن هذا الشيء لا وجودَ له من الأصل. يمكن قولُ ذلك، ولكن كما المتوقَّع الذي يعطي قوة كبيرة لهذا الوهم ويمنحه طبيعةً واقعية بأقصى حدٍّ من الاستطاعة: هو الوعي. من خلال الوعي لا يكون الجَمال سلوانًا على الإطلاق. ربما يكون امرأة أو يكون زوجة ولكن لن يكون سلوانًا. ولكن هذا الشيء الجَمالي الذي لم يكن مطلقًا سلوانًا، يُولَد من زواجه بالوعي شيءٌ ما. شيء عديم الفائدة تمامًا مثل الرغوة التي لا تحقِّق شيئًا، ولكن على الأقل يُولَد شيء. وذلك الشيء هو ما يُطلِق عليه المجتمع: الفنون.»
«الجَمال …»
بعد أن بدأت بهذا القول تلعثمتُ بشدة. في ذلك الوقت، خطر على ذهني شكٌّ في أن يكون تلعثمي شيئًا وُلد من فكرة الجَمال. وهي على أي حال، فكرةٌ ليس لها نتيجة ولا نهاية.
«الجَمال … أي شيء ينتمي إلى الجَمال هو بالفعل عدوي اللدود.»
«تقصد أن الجَمال عدوٌّ لدود؟»
… فتح كاشيواغي عينيه على اتساعهما بمبالغة. عاد إلى الحياة مرةً أخرى الانتعاش الفلسفي المعتاد على وجهه الذي اصطبغ بلون الدم.
«يا لها من كلمة غريبة، عندما أسمعها تخرج من فمك أنت. يجب عليَّ أنا أيضًا أن أعدِّل درجة عدسة إدراكي للأمور.»
… وظللنا بعد ذلك أيضًا، نتجادل جدالًا أليفًا بعد غياب مدة طويلة. ولم يتوقف هطول الأمطار. وفي طريق العودة، حدَّثني كاشيواغي عن حي سانوميا وميناء كوبيه اللذين لم أتعرَّفهما بعدُ، وحكى لي عن السفن العملاقة التي تغادر الميناء في الصيف وغير ذلك من حكايات. وتيقَّظت على ذكريات مايزورو. ولأول مرة نرى اتفاقَ آراء طالبَين فقيرين، في وهم أن أي إدراك أو فعل لا يمكن أن تعادل فرحة إبحار السفينة من الميناء.