الفصل التاسع

كان كبير الرهبان دائمًا بدلًا من أن يقوم بإعطائي موعظة، وفي الوضع الذي من الواضح جدًّا أنه يجب أن يقوم فيه بإعطائي موعظة، على العكس يأتي ويمنحني بَركة، وعلى الأرجح لم يكن ذلك من قبيل الصدفة، بعد خمسة أيام من مجيء كاشيواغي لأخذ المال، استدعاني كبير الرهبان وأعطاني في يدي مبلغ ٣٤٠٠ ين قيمة مصاريف دروس الفصل الأول، و٣٥٠ ينًّا قيمة مصاريف القطار للتردد على الجامعة، و٥٥٠ ينًّا لمصاريف شراء الأدوات الدراسية. كانت قواعد المدرسة تنص على تسديد مصاريف الدراسة قبل العطلة الصيفية، ولكن بعد أن حدث ما حدث، لم أكن أتوقَّع أو أتخيَّل أن كبير الرهبان سيعطيني ذلك المال. وحتى لو كان يرغب في تغطية تكاليف الدراسة، فبعد أن عرف أنني لست جديرًا بالثقة؛ لذا كنت أعتقد أنه سيرسل ذلك المال إلى المدرسة مباشرةً من خلال حوالة بريدية.

لقد كنتُ أعرف جيدًا ربما أكثر منه، أن ثقته بي مزيفة، رغم إعطائه المال لي بهذه الطريقة. ففي البَركة التي يمنحها إياي كبير الرهبان صامتًا، ما يشبه لحمه الوردي الطري. ذلك اللحم المفعم بالأكاذيب، ذلك اللحم الذي يقابل الثقة بالخيانة، ويقابل الخيانة بالثقة. اللحم الذي يتكاثر خفيةً بلون وردي ساخن وإن لم يصِبه أيُّ نوع من أنواع الفساد.

في الوقت الذي جاء فيه الشرطي إلى نُزل يورا، وكأنني فجأةً أخاف أن يُكتشف الأمر، فكنتُ أشعر مرةً أخرى، بخوفٍ يقترب من الوهم محتواه هو ألا يكون كبير الرهبان قد كشف خطتي، وهو لذلك يعطيني المال لكي يبعد عني أيَّ فرصة لتنفيذها؟ فقد كنتُ أشعر أثناء حملي لذلك المال بحرص بالغ، أن شجاعة التنفيذ تنقصني. ولذا يجب عليَّ بأي طريقة كانت إيجاد سبيل، لإنفاق ذلك المال بأسرع وقت، واليوم قبل غدٍ. إن الفقير بصفة خاصة لا تأتيه بسهولة أفكارٌ جيدة لإنفاق المال. يجب عليَّ إيجاد تلك الطريقة التي عندما يعرفها كبير الرهبان لا يحتمل اندفاع غضبه العنيف، ثم لا يصبر على طردي في التو والحال وإبعادي عن المعبد.

تلك الليلة كان دوري في تولية مسئولية الطبخ. وبعد وجبة العشاء، وبينما كنتُ أغسل الصحون الصغيرة في المطبخ كنت أنظر شاردًا إلى قاعة الطعام التي أصبحت خاليةً بالفعل. عند العامود الذي يقع في آخر المطبخ ويشع شعاعًا أسودَ بسبب السُّخام، ثمَّة بطاقة قدُمَت لدرجة أن لونها تغيَّر.

تميمة حامية معبد أتاغو

«احترسوا من الحرائق»

… رأيت في خيالي النارَ وقد شحب لونُها بعد أن أحاطتها تلك التميمة ومسكت بها. وبدا لي أن ما كان مزدهرًا في الماضي، خلف تميمة الحماية تلك، صار ضعيفًا مريضًا ذا لون أبيض شاحب. هل يا تُرى يصدِّقني أحد إذا قلت إنني في الآونة الأخيرة صرت أشعر بالرغبة الجسدية في شبح النار؟ إذا كانت كل رغباتي في الحياة تعتمد على النار، أليس من الطبيعي أن تتجه رغبتي الجسدية تجاهها أيضًا؟ ثم تصنع تلك الرغبة الجسدية شكلًا طريًّا من هيئة تلك النار ويقوم اللهب باستشفاف العمود الذي يطلق شعاعًا أسودَ، ويدرك أنني أنظر إليه فيُهندِم نفسه بحنان. لقد كانت تلك اليد وتلك القدم وذلك الصدر جميعًا في غاية الضَّعف.

وضعتُ الأموال في جيبي ليلة ١٨ يونيو وخرجت متسللًا من المعبد. وذهبت إلى حي كيتاشينتشي الذي يُعرف في العادة باسم الحي الخامس. لقد سمِعت أن المحلات في ذلك الحي أسعارها رخيصة وأنهم يعاملون رهبان المعبد بلطفٍ وأريحية. يقع الحي الخامس على مسافةٍ تبعُد من معبد روكوؤنجي قرابة ثلاثين أو أربعين دقيقة سيرًا على الأقدام.

كانت ليلة ازدادت فيها درجة الرطوبة، ولكن كان القمر يظهر ضبابيًّا في سماءٍ خفيفة الغيوم. كنتُ ألبس سروالًا كاكيَّ اللون، وأرتدي معطفًا، وفي قدمي قبقاب خشبي. على الأرجح بعد بضع ساعات، سأعود مرتديًا الأشياء نفسها مرةً أخرى. ولكن كنت قد أقنعت نفسي إلى حدٍّ ما أن لديَّ توقعًا أنَّ مَن في داخل تلك الملابس سيكون شخصًا مختلفًا تمامًا.

لقد كنت بالتأكيد أفكِّر في حرق المعبد الذهبي من أجل أن أستطيع أنا الحياة، ولكن كان ما أفعله يشبه استعدادات الموت. مثلما يذهب الرجل البتول الذي قرَّر الانتحار إلى المواخير، فأنا كذلك أذهب إلى نفس الحي. من الأفضل أن أطمئن. فهذا الفعل من الرجل يشبه التوقيعَ على نموذج ورقة رسمية، فلن يصير ذلك الشخص «إنسانًا آخرَ» على الإطلاق بفقد عذريته. لا يجب الخوف هذه المرة، من حالات الفشل السابقة، ذلك الفشل الذي كان المعبد الذهبي يقف حائلًا بيني وبين المرأة. وذلك لأنني هذه المرة لا أرى أحلامًا، ولم أحاول مطلقًا أن أشارك في الحياة من خلال المرأة. فحياتي تقرَّرت بالفعل في ذلك النداء الذي يأتي من بعيد، وتجاربي حتى ذلك الحين لا تزيد عن مجرد إجراءات بشعة ومرعبة فقط.

… كنت أقول وأردِّد ذلك لنفسي. وعندها عادت إلى أذني كلمات كاشيواغي.

«المرأةُ المحترفة لا تحب الزبونَ ولا تختاره. فحتى لو كان الزبون عجوزًا أو شحاذًا، أو ضريرًا، أو وسيمًا، أو حتى لو كان مريضًا بالجذام وهي لا تعلم، فهي تستقبله زبونًا. الإنسان العادي يطمئن تجاه هذه المساواة في التعامل، ويشتري أول امرأة في حياته. ولكن أنا لم أتقبَّل تلك المساواة. فلم أستطِع الصبر وتحمُّل أنها تستقبل رجلًا كاملَ القدرات وتستقبلني أنا بنفس الشروط، وكان ذلك يمثِّل لي مهانة وازدراءً ذاتيًّا مخيفًا.»

كانت تلك الكلمات التي تذكَّرتها، غير مريحة لي في وضعي الحالي. ولكنني أختلف قليلًا عن كاشيواغي، فبغض النظر عن التلعثم، أنا جسمي ليس به إعاقة، ويمكنني الإيمان بأن قُبحي في مستوًى عاديٍّ جدًّا.

«… ولكن رغم ذلك القول، هل يا تُرى لا تقرأ المرأة من خلال حاستها المباشرة ما يشبه علامةَ مجرم عبقري فوق جبهتي القبيحة؟»

هكذا حملتُ داخلي قلقًا لا يمكن تمييزه عن الغباء.

لم تَعُد قدماي تجِدَّان في السعي. وبعد قتل الفكرة بحثًا في عقلي، لم أفهم هل أنا أحاول التخلي عن عذريَّتي من أجل حرق المعبد الذهبي، أم أنا أحاول حرق المعبد الذهبي من أجل التخلص من عذريتي؟ وفي ذلك الوقت، طفَت على قلبي بلا معنى كلمةِ «قدَر السماء صعبُ المسير» النبيلةِ، وأخذتُ أردِّد هامسًا وأنا أمشي: «قدَر السماء صعبُ المسير، قدَر السماء صعبُ المسير، قدَر السماء صعبُ المسير.»

وأثناء فعلي ذلك، بدأت تظهر لي من بعيد محلات القمار والبارات التي تصل فيها الضوضاء إلى منتهاها، وتتراص مصابيح الضوء البيضاء وكذلك إضاءات النيون الكثيرة، بقواعدَ صارمة في وسط الظلام.

كنتُ منذ خروجي من المعبد أسيرَ وهم أن يويكو ما زالت حية تعيش في مخبأ بذلك الحي. أعطاني ذلك الوهم قوة.

كان تفكيري منذ أن أخذت قرار حرق المعبد الذهبي، ولأنني كنتُ مرةً أخرى في حالة براءة جديدة تشبه تلك التي كنتها في فترة صباي، أنني من المفترض أن أقابل مرةً ثانية الأشخاصَ والأشياء التي قابلتها في بداية حياتي.

مع أنه من المفترض أنني سأحيا من الآن فصاعدًا، إلا أن الأمر العجيب، أنه زادت شدة أفكار التشاؤم مع مرور الأيام، وكنتُ أعتقد أن الموت على مقربة مني وكأنه سيزورني غدًا، وكنت أصلي وأدعو أن يتغافل الموت عني ويتركني حتى أقوم بحرق المعبد الذهبي. ليس معنى هذا أنني مريض، مطلقًا، ما من بوادر حتى للمرض. ولكن يومًا بعد يوم صرت أشعر بقوة أن مسئولية وترتيب العناصر المختلفة التي تجعلني أعيش، تضع كلَّ ثقلها على كتفي وحدي.

أمسِ أثناء التنظيف، جُرِح أصبع السبابة بسبب خُطَّاف المقشة، وحتى ذلك الجُرح البالغ الصِّغر صار مدعاةً للقلق والخوف. وتذكَّرت ذلك الشاعر الذي كان سبب موته جَرْحَ أنامله بشوك الورد. لا يموت الإنسان العادي الطبيعي بسببٍ كهذا. ولكن لأنني صرُت بالفعل شخصًا ذا قيمة كبرى، لا أدري طريقةَ الموت التي أعدَّها القدرُ لي. ولحسن الحظ لم يسبِّب جرحُ الأصبع قيحًا، وصار اليوم لا يزيد عن مجرد إحساس بسيط بالألم إذا ضغطتُ عليه.

وبالطبع لا داعيَ لذكر إلى أي مدًى أخذتُ الاحتياطات الطبية اللازمة وأنا في سبيلي للذهاب تجاه الحي الخامس. ففي اليوم السابق ذهبتُ إلى صيدلية بعيدة لا يعرفني فيها أحد، واشتريت منها عازلًا مطاطيًّا. وكان ذلك الغشاء الذي يبدو كمسحوق غيرَ صحيٍّ ولا يُعتمد عليه مطلقًا. في ليلة أمس قمتُ بتجربة واحد منها. ففي وسط لوحة بوذا التي رسمتُها لاهيًا بقلم شمع أحمر، والتقويم السنوي الذي تقوم بإصداره هيئة السياحة في مدينة كيوتو، وكتاب السوترا الذي كان مفتوحًا بالضبط عند فصل داراني بوتشوسونشو، وجواربي المتسخة، وحصير تاتامي تكثر به الشقوق … وسط تلك الأشياء جميعًا، يقف شيء في لون رمادي سلس، مثل تمثال بوذا مشئوم لا عين له ولا أنف. جعلتني تلك الهيئة المزعجة، أتذكَّر ذلك الفعل الوحشي الذي يُدعى راستسو١ الذي يبقى فقط حاليًّا كأسطورة محكية.

حسنًا، دخلتُ حارةً جانبية تتراص بها القناديل المعلَّقة.

يتكوَّن الحي من مائة وبضع عشرات من المنازل تأخذ جميعها نفس الشكل والتصميم. يقال إن أي هارب من العدالة يمكنه الاختفاء هنا بسهولة لو اعتمد على زعيم المنطقة. ويقال كذلك إن الزعيم لديه جرس، إذا دقَّه يتردَّد صداه في كل بيت من بيوت حي الدعارة، ليُعرِّف الزوار بوجود خطر يهدِّدهم.

وفي كل بيت نافذةٌ مظلمة مزوَّدة بشُباك على جانبٍ من المدخل، وكل بيت مكوَّن من طابقين. وتتراصُّ الأسقف ذات القرميد الثقيل العتيق، بنفس الارتفاع تحت القمر الرطب. وفي كل مدخل ستارة من قماش بلون أزرق غامق مكتوبة عليها بصبغة بيضاء كلمة «نيشيجين»، وتميل قوادة ترتدي ملابس مريول مطبخ بجسدها، لتراقب مدخل البيت من حافة الستارة.

لم يكن لدي أيُّ قدْرٍ من التفكير في المتعة. كان شعوري كأنني تم استبعادي من نظامٍ كونيٍّ ما، وصرفي عن الصف بمفردي، وأنا أجرُّ قدميَّ المرهقتين، وأحس أنني أسيرُ عليها في منطقة معزولة. كانت الشهوة داخلي تدير لي ظهرها ممتعضة، وتجلس منحنية حاضنة ركبتيها.

«على أي حال إن واجبي الآن هو صرف المال هنا»، ظللت أفكر في ذلك قائلًا لنفسي «يكفي صرفُ كل أموال الدراسة هنا بأي طريقة كانت. وبفعل ذلك أكون قد أعطيتُ كبيرَ الرهبان سببًا منطقيًّا بالغَ القوة لطردي من المعبد».

كنتُ على هذه الحال لا ألاحظ أيَّ تناقض غريب في تلك الفكرة، ولكن إذا كانت تلك هي رغبتي الحقيقية، فمن المفترض أنني من المحتم أن أكون محبًّا لكبير الرهبان.

كان المارة في هذا الحي بالذات قليلين بدرجة غريبة، ربما بسبب أن الوقت ليس وقت الذُّروة. وكان صوت قبقابي الخشبي يتردَّد صداه بدرجة فاضحة. صوت الاستدعاء الرتيب الممل الضعيف للقوادين، يُسمع وكأنه يدور زاحفًا داخل هواء فصل الأمطار المتدلي والمنخفض في رطوبة. وتمسك أصابعُ قدميَّ بشدة بأصبع القبقاب المرتخي قليلًا. ثم فكَّرت كما يلي: من المؤكَّد أن أنوار هذا الحي كانت وسط الأنوار العديدة التي تأمَّلتها بعد نهاية الحرب من فوق قمة جبل المعبد.

ويُفترض وجود يويكو في المكان الذي ستقودني قدماي إليه. ثمَّة محلٌّ اسمه «أوتاكي» في ركن من أركان تقاطع أربع طرق. اخترقتُ ستارة ذلك المحل عشوائيًّا وبلا تفكير. فوجدت مباشرةً غرفةً تبلغ مساحتُها قرابة عشرة أمتار مربَّعة مفروشة بالبلاط، وفي العمق تجلس ثلاث بنات على أريكة، يجلسن وكأنهن قد تعِبن من الانتظار الطويل لقطارٍ لا يأتي. كانت إحداهن بملابس يابانية، وتلفُّ ضمادةً على عنقها. إحدى اللائي يرتدين ملابسَ غربية كانت محنية الرأس، ومن وقتٍ لآخر تخفِض جَوربها لأسفل لكي تحكَّ رَبْلَة ساقها. كانت يويكو غائبة. ولكن عدم وجودها ذلك، جعلني أشعر بالطمأنينة.

رفعت الفتاة التي كانت تحكُّ ساقها، وجهَها مثل كلبٍ ناداه صاحبه. بدا ذلك الوجه المستدير متورمًا قليلًا وبه مسحوق الوجه الأبيض، وأحمر الشفاه بدرجة مكتملة، ولكنَّ نظرتها عاليًا تجاهي — مع أنها طريقة وصف غريبة — كانت في الواقع بها براءة مثل لوحةٍ زاهية الألوان لوجه طفل. نظرت الفتاة تجاهي وكأنها تنظر إلى شخصٍ لا تعرفه بعد اصطدامهما في ركن من الطريق. لم تتعرَّف تلك العيون مطلقًا الرغبةَ التي بداخلي.

ما دامت يويكو غائبة فأي واحدة غيرها ستؤدي الغرض. فقد ظلَّت في داخلي الخرافة التي تقول إنه إذا اخترتُ وتأمَّلت خيرًا، فسيؤدي ذلك إلى الفشل. وبما أن الفتاة ليس لديها حرية اختيار الزبون، فمن الأفضل لي ألا أختار أنا الفتاة. يجب ألا أسمح ولو بجزء ضئيل للغاية بتدخُّل فكرة الجَمال المرعبة تلك التي تجعل الإنسان بلا أي قوة معنوية.

سألتني القوادة:

«أي فتاة ستختار؟»

أشرتُ إلى الفتاة التي تحكُّ قدمَها. كانت الحكَّة التي وصلت إلى قدمِ تلك الفتاة وقتها — وهي على الأرجح من أثر قرص بعوضة الزاعجة المنتشرة هنا وهناك على سطح البلاط — هي الصلة التي ربطت بيني وبينها. بفضل تلك الحكَّة، ستحصل تلك الفتاة على حق أن تكون شاهدي فيما بعدُ.

قامت الفتاة وجاءت إلى جواري، وضحكتْ بجعل شفتيها ترتفعان لأعلى، ولمست قليلًا ذراع معطفي.

أثناء صعود درجات سُلَّم مظلم قديم يقود إلى الطابق الثاني، فكَّرت ثانية في أمرِ يويكو. فكَّرت أنها غابت خصوصًا في هذه الساعة نوعًا ما، غابت عن العالم في هذه الساعة. ما دامت غائبة عن هذا المكان الآن، فلا شك أنك إذا بحثت عن يويكو في أي مكان فلن تجدها. يبدو أنها خرجت للاستحمام في حمَّامٍ ما أو مكانٍ ما خارج إطار عالَمنا هذا.

أظن أنا أن يويكو حتى قبل ميلادها تدخل وتخرج بحريةٍ كبيرة ذلك العالَم المزدوج. وحتى في وقت تلك الحادثة المأسوية، اعتقدتُ أنها سترفض هذا العالَم، إلا أنها قبِلته في المرة التالية. ربما كان الموت أيضًا عبارة عن حادث مؤقَّت بالنسبة ليويكو. ربما لا يزيد الدم الذي تركته على جسر معبد كونغوين، عن مجرد أنه مثل دقيق فراشة تتركه على إطار النافذة عندما ترحل طائرة في نفس وقت فتح النافذة في الصباح.

في منتصف الطابق الثاني، مكانٌ يحوم حول درابزين شفاف منحوت قديم للجزء المكشوف المُطل على الحديقة الداخلية، وثمَّة عود نشر غسيل معلَّق عليه قميصٌ داخلي حريمي أحمر وسروال داخلي، ومنامات معلَّقة بين إفريز هذا المبنى وإفريز المبنى المجاور. كان المكان مظلمًا في أغلبه، وبدا لي شكل المنامة ضبابيًّا كأنه إنسان.

تغنِّي فتاةٌ في إحدى الغرف. استمرَّت أغنية الفتاة في انسياب سلس، وأحيانًا يرافقها صوتُ غناء ذكوري في حالة نشاز عن اللحن. انقطعت الأغنية، وبعد فترة صمت، ضحِكت الفتاة ضحكةً مدوية وكأنها قرقعة صوت انقطاع خيط.

«إنها فلانة.»

قالت فتاتي العاهرة ذلك للقوادة.

«دائمًا، هي دائمًا على هذا الحال.»

قالت القوادة ذلك وهي تولِّي بعناد ظهرَها المربَّع ناحيةَ مصدر صوت الضحك. كانت الغرفة الصغيرة التي أُرشدتُ إليها، عبارة عن غرفة كئيبة بمساحة خمسة أمتار مربَّعة، وثمَّة حوضٌ للغسل بديلًا عن مكان الزينة، وتمثال للإله هوتيه وللقط الداعي بعشوائية. ومُلصَقٌ على الحائط قِطَعٌ ورقية رفيعة بها بعضُ المذكرات ومعلَّق بها تقويم. ويتدلَّى من السقف مصباح مظلم بقدرة ثلاثين أو أربعين شمعة. ويتردَّد من النافذة المفتوحة على مصراعيها، من حين لآخر صدى أصوات أقدام زبائن حي الدعارة.

سألتني القوادة هل سأقضي ساعة فقط أم سأبيت. كانت الساعة سعرها أربعمائة ين. ثم بعد ذلك طلبت ساكي ومَزَّة.

نزلت القوادة إلى الطابق السفلي لكي تُحضِر تلك الطلبات، ولكن لم تأتِ الفتاة بالقرب مني. اقتربت بعد أن حثَّتها على ذلك القوادةُ التي عادت حاملةً الساكي. عندما نظرتُ إليها من قرب، كانت الفتاة مصابةً أسفل أنفها بخدوش، ولونها أحمر إلى حدٍّ ما. ويبدو أن تلك الفتاة لديها عادةٌ مزمنة في حكِّ وخدش جسدها هنا وهناك، وليس ساقيها فحسب للتخلُّص من الملل. ولكن ربما كان ذلك الاحمرار الخفيف الذي أسفل الأنف، سببُه أن أحمر الشفاه قد انحرف قليلًا لأعلى.

لا يجب الشك في إجراء كل هذه المشاهدات والفحوصات في تفاصيل المكان؛ فهذه هي المرة الأولى منذ ميلادي التي آتي فيها إلى ماخور. فقد كنت أحاول البحث عن دليل الإمتاع فيما تستطيع عيني رؤيته من أشياء. أتأمَّل كلَّ شيء بدقة وبكلِّ ما يمكن من نقاء مثل تأمُّلي اللوحات المحفورة على النحاس، بل وكأنها ملصوقة على مسافة ثابتة أمام عينيَّ.

«لقد رأيتك يا سيدي من قبلُ.»

قالت الفتاة ذلك بعد أن ذكرت أن اسمها ماريكو.

«إنها أول مرة لي.»

«حقًّا؟ هل هذه أول مرة لك في مكانٍ كهذا؟»

«نعم إنها أول مرة لي.»

«يبدو أنه كذلك فعلًا. فيَدُكِ ترتعش.»

بعد أن قالت الفتاة ذلك انتبهتُ أنا إلى أن يدي التي تمسك بكأس الساكي ترتعش.

قالت القوادة:

«إذا كان الأمر كذلك، فسيكون اليومُ يومَ سعدٍ لِفَرْجك يا ماريكو.»

أجابت ماريكو بوقاحة:

«سنعرف فورًا إن كان هذا صدقًا أم كذبًا.»

ولكن تلك الكلمات لم يكن لها تأثيرٌ حسي، وبدا لي أن قلب ماريكو يلعب في مكانٍ ما لا علاقة له لا بجسدي ولا بجسدها، مثل طفلٍ اندمج في اللعب بمفرده وانفصل عن باقي أصحابه. كانت ماريكو ترتدي قميصًا بلون أخضر فاتح وتنورة صفراء. كانت أظافر أصبع الإبهام فقط من كل يدٍ مصبوغة بلون أحمر، وكأنها صبغتهما بعد أن استعارت الصبغةَ من إحدى زميلاتها واستخدمتها وهي تلهو.

وأخيرًا عندما دخلنا غرفة النوم ذات الخمسة عشر مترًا مربعة، وضعت ماريكو إحدى قدميها على الفراش، وسحبت الحبلَ الطويل المتدلي من المصباح الكهربائي. وبرز الفراش الحريري المزخرف لأعلى تحت أنوار المصباح. كانت غرفة بها ركن عظيم الزينة ومزيَّن به تمثال فرنسي.

خلعتُ أنا ملابسي بطريقة خرقاء. ووضعت ماريكو على كتفها زيَّ يوكاتا ورديَّ اللون مصنوعًا من قماش المناشف، وبمهارة عالية خلعت ملابسها الداخلية الغربية الطراز. بلعتُ لُعابي مع الماء الموضوع بجوار الوسادة. فقالت الفتاة التي سمعت صوت الماء هذا:

«أنت ممن يشربون الماء!»

ثم ولَّت ظهرها إياي وضحِكت. ثم دخلنا الفراش، وحتى وبعد أن جعلنا وجهَينا أحدهما تجاه الآخر نقرت بأصبعها على أرنبة أنفي بخفة وقالت:

«هل حقًّا هذه هي المرة الأولى؟»

ثم ضحِكتْ. حتى في وسط إضاءة المصباح المظلم الذي بجوار الوسادة، لم أنسَ النظر والفحص بعيني؛ لأن النظر هو البرهان على أنني أعيش. ورغم ذلك، فقد كانت تلك هي المرة الأولى لي في رؤية عينَي شخص آخر من هذه المسافة القريبة. لقد انهار المنظور الذي كنت أرى به العالم. فقد اقتحم شخصٌ غريب وجودي بلا خوف، وغرقتُ في طوفان من حرارة جسدها ورائحة عطرها الرخيص بعد أن ارتفع تدريجيًّا سطحهما. كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها ذوباني في عالَم شخص آخر بهذه الكيفية.

عاملتني الفتاة معاملةَ رجل كامل، كوحدة شاملة مطلقة. لم أتخيَّل قط أن يعاملني أحدٌ بتلك الكيفية. خلعتْ عني رداءَ التلعثم، وخلعتْ عني رداءَ القبح ورداءَ الفقر، حتى بعد خلع ملابسي تكررتْ بهذه الطريقة، عملية الخلع عددًا لا حصرَ له. كنتُ بلا شك قد وصلتُ إلى غاية المتعة، ولكن لم أصدِّق أنني أنا الذي أستمتع بتلك المتعة. استيقظتِ المشاعر التي كانت منفية في مكانٍ بعيد وفارتْ، وأخيرًا انهارت … على الفور فصلتُ جسدي عنها، ثم ضربتُ على جزءٍ من رأسي الذي أصابه الخَدر وقد وضعتُ جبهتي على الوسادة، ضرباتٍ خفيفة بقبضة يدي. ثم بعد ذلك هجم عليَّ شعور وكأن كل الأشياء تخلَّت عني وتركتني وحيدًا، ولكن ليس لدرجةِ أن تسيل مني الدموع لذلك.

بعد الانتهاء وكحكايات قبل النوم، حدَّثتني الفتاة عن ماضيها وأنها جاءت من مدينة ناغويا. أثناء استماعي لذلك شاردًا كنتُ لا أفكِّر إلا في المعبد الذهبي. كان ذلك عبارة عن أفكار تجريدية، ولم تكن كما كانت دائمًا أفكارًا معكرة بثقل الشَّبق الجسدي.

«تعالَ مرةً ثانية.»

بتلك الكلمة التي قالتها، أحسستُ أن ماريكو تكبُرني بعام أو عامين. لا شكَّ أنها في الواقع كذلك. كان ثدياها أمام عينيَّ مباشرةً ويملؤهما العَرق. مجرد لحم يستحيل أن يغيِّر هيئته إلى شكل المعبد الذهبي. لمستهما بأصابعي في تخوُّف وقلق.

«هل هذا شيء نادر؟»

قالت ماريكو ذلك وهي تلوي جسدها، وأخذت تهزُّ ثديَيها بخفةٍ وهي تنظر إليهما بثبات، وكأنها تلاعب حيوانًا صغيرًا. جعلني اهتزاز ذلك اللحم أتذكَّر شمس الغروب على خليج مايزورو. أعتقد أن سهولة تحرُّك شمس الغروب وسهولة تحرُّك اللحم، اختلطتا داخل قلبي وذابتا معًا. ثم تخيُّلي أن ذلك اللحم الذي أمام عيني ومثل شمس الغروب تمامًا التي تُلفُّ بعدة طبقات من غيوم الغروب، سيرقد لينام في عمق حفرة قبر الليل، أعطاني راحةً وطمأنينة.

•••

في اليوم التالي ذهبتُ لزيارة نفس الماخور للقاء نفس الفتاة. لم يكن السبب هو بقاء كمية تكفي وتزيد من المال. فلقد كان الفعل في المرة الأولى فقيرًا في متعته وفرحته مقارنةً بما كنت أتخيَّله في ذهني؛ لذا ثمَّة ضرورة لتجربة ذلك مرةً ثانية والاقتراب بقدرِ الإمكان من المتعة والفرحة التي تخيَّلتهما. كان عندي ميلٌ دائمًا أن ينتهيَ الفعل في الحياة اليومية على أرض الواقع، كنموذج مخلص لما أتخيَّله، بخلاف الآخرين. إن التخيُّل ليس عشوائيًّا. بل على العكس يجب القول إنه منبعُ ذاكرتي. لا يمكنني إزالة الإحساس بأنني سبق أن تذوَّقتُ بالفعل طَعم الخبرات المتنوِّعة التي من المقرَّر أن تمرَّ في حياتي فيما بعدُ، تذوُّقًا أكثرَ تألقًا ولمعانًا. حتى بالنسبة لهذا الفعل الجسدي، فلديَّ إحساس أنني استمتعت بالفعل فيما مضى، في مكان وزمان لا يمكنني تذكُّرهما (ربما مع يويكو) بمتعة جسدية أكثرَ عنفًا وأكثر تخديرًا للجسد. كان ذلك هو منبع مُتَع متنوعة، ولم تكن المتعة في الواقع الحقيقي، إلا مجرد غَرفة باليد تعطي مقدارَها من ماء ذلك النبع.

في الواقع أشعر وكأنني رأيتُ في ماضٍ سحيق وفي مكانٍ ما، شفقَ غروب في جَمال رهيب لا يُقارن. هل ذنبي أنا أن الشفق الذي أراه بعد ذلك، يبدو لي بدرجةٍ ما باهتَ اللون؟

ولأن فتاة الأمس عاملتني كإنسان عاديٍّ بهذه الدرجة، ذهبتُ إلى هناك وأنا أضع في جيبي طبعةً شعبية من كتاب قديم كنتُ قد اشتريته من مكتبة للكتب القديمة منذ عدة أيام. وهو كتاب «الجرائم والعقوبات» لمؤلِّفه سيزاري بِكَّاريا. كان هذا الكتاب لذلك العالِم القانوني الإيطالي في القرن الثامن عشر، عبارة عن وجبة كاملة ثابتة وتقليدية من التنوير والعقلانية، وكنت قد ألقيتُه بعيدًا على الفور بعد قراءة صفحاتٍ قليلة منه ولكني فكَّرت أنه ربما تبدي الفتاة اهتمامًا بعنوان الكتاب.

استقبلتني ماريكو بنفس ابتسامة الأمس، كانت نفس الابتسامة، ولكن لم يكن يتبقى أيُّ أثر في أي مكان ﻟ «الأمس». لأن الألفة التي قابلتني بها، كانت ألفةً تجاه إنسان قابلته سريعًا في ركن من أركان الطريق، ولأن جسدها أيضًا كان يشبه شيئًا ملقًى على قارعة الطريق.

ولم يكن الحوار في الغرفة الصغيرة أثناء شرب الساكي يدور بتلك السلاسة والألفة.

قالت القوادة:

«تأتي مرةً ثانية للحبيبة الأولى! يا لك من صاحب مشاعرَ ناضجةٍ رغم أنك ما زلتَ شابًّا صغيرًا!»

قالت ماريكو:

«ولكن ألا يغضب عليك الراهب الكبير إذا أتيتَ هكذا كلَّ يوم؟»

ثم أضافت عندما رأتْ دهشتي الكبرى لأنها عرفت مهنتي:

«هذا أمرٌ في غاية الوضوح. فالموضة الآن هي قَصة الشَّعر العالية، وإذا كنت تحلق شَعرك كلَّه فأكيد أنت من أهل المعابد. ويقال إن راهبًا أصبح الآن ذا منصب عظيم كان يأتي إلى بيتنا هذا في شبابه كثيرًا … حسنًا، لا عليك، دعنا نغنِّي معًا.»

بدأت ماريكو فجأةً في غناء أغنية منتشرة حاليًّا تتحدَّث عن امرأة الميناء التي فعلت لا أعلم ماذا.

كان الفعل للمرة الثانية، وفي بيئةٍ تعودتُ عليها بالفعل، وقمتُ به بسهولة ودون أي تباطؤ. هذه المرة من المعتَقد أنني نظرت إلى المتعة من وجهةِ نظر مختلفة، ولكنها لم تكن المتعة التي تخيَّلتها، لم تكن إلا مجرد اكتفاء منحط شعرتُ به وأنا أتكيف مع ذلك الأمر.

بعد الفعل أعطتني الفتاة درسًا جارحًا للمشاعر بما يناسب أنها أكبرُ مني سنًّا، فأفسدت حتى المشاعر التي تولَّدت للحظة.

فقد قالت لي ماريكو:

«أعتقد أنه من الأفضل لكَ ألا تتردَّد على مكانٍ مثل هذا كثيرًا. فأنت إنسان جادٌّ. أنا أعتقد ذلك. يجب ألا تغوص أعمقَ من ذلك. أعتقد أنه من الأفضل لك أن تبذل جهدك في العمل بجِد. أنا بالطبع أرغب في أن تأتيَ إليَّ، ولكن أنت تفهم شعوري هذا، أليس كذلك؟ فأنا أشعر أنك بمثابةِ أخ أصغر لي.»

على الأرجح أن ماريكو تعلَّمت هذا الكلام من حوار في رواية من الروايات الرخيصة، أو شيء من هذا القبيل. لم تكن تقول تلك الكلمات بمشاعرَ قويةٍ أو عميقة، ولكنها دبَّجت حكايةً صغيرة أكون أنا شريكها فيها، وتوقعتْ ماريكو مني أن أشاركها تلك العواطفَ التي صنعتَها. كان الوضع سيصير أفضلَ وأفضل، إذا بكيتُ أنا تجاوبًا مع ذلك الكلام.

ولكني لم أفعل، فجأةً أخرجتُ كتاب الجرائم والعقوبات من جوار الوسادة ووضعته أسفل أنفها.

تصفَّحت ماريكو كتاب النسخة الشعبية بتلقائية. ثم ألقَت به في مكانه السابق دون أن تنطِق بكلمة واحدة. وبالفعل غادر الكتابُ ذاكرتها في الحال.

كنت فقط أرغب أن تشعر ماريكو بواجسٍ ما، من أنَّ القدَر جعلها تلتقي بي. كنتُ أرغب أن تقترب قليلًا من الوعي بأنها تساعد في سقوط العالَم وانهياره. وفكرتُ أن هذا الأمر من المحال ألا يكونَ مهمًّا حتى لتلك الفتاة. وبعد فراغ صبري هكذا، أخيرًا قلت ما لا يجب عليَّ قوله:

«في خلال شهر … نعم في خلال شهر من الآن، ستتكلم الجرائد والمجلات كثيرًا، وأرجو أن تتذكريني عندما يحدُث ذلك.»

عندما انتهيتُ من كلامي هذا كان قلبي يدقُّ بعنف. على أي حال، أصابت ماريكو نوبةٌ من الضحك. ضحِكتْ وهي تهزُّ ثدييها وتنظر إليَّ مرةً بعد مرة، ثم تحاول أن تمنع نفسها من الضحك خلال عضِّ كُم الرداء، ولكن الضحكات الجديدة هذه المرة جعلتها تختلج ويهتز جسمها كلُّه. من المؤكد أن ماريكو نفسَها لم تكن تستطيع شرحَ هذا الأمر الغريب الذي يضحكها لهذه الدرجة! انتبهتِ الفتاة إلى ذلك فتوقَّفت عن الضحك.

«ماذا يُضحِك في الأمر؟»

سألتُ أنا هذا السؤال الأبله.

«لأنكَ يا هذا، كاذب. آه … أمرٌ مضحك. فأنت كاذب كبير.»

«أنا لا أكذب مطلقًا.»

«كفاكَ كذبًا. آه … يا له من أمرٍ مضحك. سأموت ضحكًا. تقول كل هذا الكذب بهذا الوجه الجاد.»

عادت ماريكو إلى الضحك ثانية. ربما كان السبب الخالص لهذا الضحك هو مجرَّد الكلمات التي سارعتُ وتعجَّلتُ في نطقها؛ كان تلعثمي بها غريبًا وساذجًا. على أي حال لم تصدِّق ماريكو أيَّ شيء مطلقًا.

ماريكو لم تصدِّق. لو حدث زلزال أمام عينيها أكيد أنها لن تصدِّق أيضًا. ربما لو انهار العالم، لن ينجوَ من الانهيار إلا هذه الفتاة فقط. والسبب أن ماريكو لا تؤمن إلا بما يحدث متوافقًا ويتناسب مع ما تفكِّر فيه، وانهيار العالم ليس من ضمن ما تفكِّر ماريكو فيه، ولأنها لم يكن لديها أيُّ فرصة على الإطلاق لأن تفكِّر في شيء كهذا. وتتشابه ماريكو في هذه النقطة مع كاشيواغي. كانت ماريكو هي كاشيواغي في هيئة فتاة لا تفكِّر.

انقطع الحديث، فبدأت ماريكو تنغِّم بأنفها أغنيةً وهي كما هي عارية الصدر. فحدث أن اختلطت أغنية الأنف تلك مع صوت طنين ذبابة. كانت الذبابة تطير حولها، ثم وقفت صدفةً على ثديها، فقالت لها ماريكو: «أنتِ تدغدغيني!» فقط، ولم تحاول أن تدفعها بعيدًا. عندما توقَّفت الذبابة على الثدي كانت لصيقة بالثدي بدرجة كبيرة. والذي أصابني بالدهشة، أن تلك المداعبة لم تزعج ماريكو.

كانت أصوات المطر تُسمع فوق إفريز السقف. وكانت أصوات المطر تلك توحي بأن المطر لا يهطل إلا في تلك البقعة فقط. وكأن المطر قد فقد انتشاره، فوقف شاردًا تائهًا في هذا الركن من أركان هذا الحي. كان ذلك الصوت، مثل مكاني هذا الذي أنا فيه، كأنه صوتُ مطر لعالم محدود ومحصور قد انفصل من ليلٍ بالغ الاتساع، فقط تحت ضوءٍ خافت لمصباح السرير.

لاحت لي أسئلة لم أكن أعرف إجاباتٍ لها: لو كان الذباب يحب العفن فقط، فهل يختلط العفن بماريكو؟ هل عدم الإيمان بأي شيء هو العفن؟ هل تسكن ماريكو في عالَمها الخاص المطلَق فقط، وقد حطَّت عليها الذبابة؟

ولكن فجأة، سقطت الفتاة في غفوةٍ تشبه الموت، فوق ضوء الثدي المدوَّر الذي انعكس عليه المصباح القريب من الوسادة، ولم تتحرَّك الذبابة كذلك، وظلَّت ثابتة وكأنها كذلك سقطت في نوبة نوم مفاجئ.

•••

لم أذهب إلى ماخور أوتاكي مرةً ثانية. لقد أنهيت تنفيذَ ما كان يجب عليَّ عمله. كلُّ ما تبقى الآن هو أن يدرك كبير الرهبان كيف صرفت تكاليف الدراسة الجامعية، فيطردني من المعبد.

ولكن رغم ذلك لن أعطيَ كبيرَ الرهبان من نفسي أيَّ إشارة أو تلميح عن كيفية استهلاكي للنقود. لم يكن ضروريًّا لي الاعتراف، بل يجب على كبير الرهبان أن يخمِّن ذلك دون اعترافي.

كان من الصعب عليَّ أن أفسِّر لماذا كنت أحاول بمعنًى من المعاني الاعتمادَ على قوة كبير الرهبان إلى هذا الحد. ولم أفهم لماذا كنتُ أحاول أن أجعل قراري النهائي يعتمد على طرد كبير الرهبان لي من المعبد؟ وكما ذكرتُ بالفعل، كنتُ قد تأكَّدتُ منذ زمن بعيد أن كبير الرهبان إنسانٌ ضعيف.

بعد عدة أيام من ذهابي الثاني إلى الماخور، كانت لديَّ فرصة لكي أرى كبير الرهبان في الوضع التالي.

ذهب كبير الرهبان في الصباح المبكِّر لذلك اليوم قبل أن يُفتح المعبد للزوار، للتنزُّه حول المعبد الذهبي، وكان ذلك منه أمرًا نادر الحدوث. جاء إليَّ وإلى باقي الرهبان الشباب الذين كانوا ينظِّفون أرضيةَ المعبد، وشكرَنا مشجِّعًا إيانا. ومشى بعدها صاعدًا الدرجاتِ الحجرية التي تؤدي إلى مبنى سِيكَّاتيه وهو يرتدي رداءً أبيضَ خفيفًا. ويبدو أنه ذاهب إلى هناك ليجلس بمفرده ويقوم بإعداد كوب من الشاي الأخضر، ليصفيَ ذهنه.

كانت السماء صباحَ ذلك اليوم بها بقايا توهُّج شمس الصباح العنيف. وتتحرَّك الغيوم التي تعكس الوهج الأحمر هنا وهناك خلال خلفية السماء الزرقاء. وكانت الغيوم كأنها لم تفلح بعدُ في الاستيقاظ من خجلها بدرجةٍ كاملة.

عندما انتهينا من كنس الأرضية، عاد باقي أعضاء مجموعتي إلى المبنى الرئيس. أنا فقط أخذت نفس المسار الذي يقود إلى حديقة سِكَّاتيه لأذهب إلى المكتبة الكبرى. وذلك لأن الطريق الخلفية المؤدية إلى المكتبة الكبرى لم تُكنس بعدُ.

أمسكتُ بالمكنسة وخرجت بجوار مبنى سِكَّاتيه بعد أن صعدتُ درجات السلالم الحجرية المحاطة بسور المعبد الذهبي، وكان الخيزران مبلولًا نتيجة أمطار الأمس. انعكست بقايا أشعة شمس الصباح على الندى الكثير على أطراف أوراق الشجيرات، وكأنها هي ثمار تلك الشجيرات نضجت في غير أوانها بلون أحمر فاتح. ويرتعش بيت العنكبوت الذي توثَّق مع الندى كذلك مع لمعان اللون الأحمر.

تأملتُ ذلك متأثرًا أن يحويَ الجمادُ على هذه الأرض ألوانَ السموات العُلى إلى هذه الدرجة. كانت رطوبة المطر داخل خضرة المعبد كلها تأتي من أعالي السموات. وكان كل ذلك يقطر من البلل وكأنه يتقبل البَركة والنِّعم، وتفوح منها رائحة الفطر مع رائحة رطوبة منعشة؛ لأنها لا تدري الوسيلةَ التي ترفض بها استقبالَ كل ذلك.

وكما تعلمون جميعًا، يلاصق مبنى سِكَّاتيه برج النجم الشمالي، وهو الذي يُذكر اسمه في المقولة الشهيرة «النجم الشمالي ثابتٌ في مكانه وجميع النجوم تدور حوله». ولكن برج النجم الشمالي الآن يختلف عما كان عليه وقت أن كان يوشيميتسو يتولى الحكم وهو الآمر والناهي؛ فقد أُعيد بناؤه منذ مائة وبضع عشرة سنة، فجعلوه قاعةً لحفلات الشاي الأخضر لمحبي الشكل الدائري. لم أرَ لكبير الرهبان أثرًا في مبنى سِكَّاتيه؛ ولذا يبدو أنه الآن في برج النجم الشمالي.

لم أكن أريد أن أقابل كبير الرهبان منفردًا. كان من المفترض ألا يراني من مكانه هناك، إذا مشيت خافضًا رأسي بمحاذاة سور الأشجار. فعلت ذلك ومشيت وأنا أمنع أقدامي من إصدار أي أصوات.

كان برج النجم الشمالي مفتوحًا على مصراعيه. ورأيت لوحة أوكيو ماروياما المعلَّقة في مكانها المعتاد من ركن الزينة. ورأيت أيضًا نموذج المعبد البوذي المصغَّر المحفور من خشب الصندل يزيِّن كوة الزينة وبه زخارف دقيقة من النسيج القطني البديع القادم من الهند، تحوَّل لونها مع مرور الزمن إلى اللون الأسود. وتظهر على الجهة اليسرى أرفف على الطراز الذي يحبه الراهب ريكيو مصنوعة من خشب شجر التوت. ورأيت بابًا ورقيًّا. كان منظر كبير الرهبان هو الذي لا يمكنني رؤيته، ولذا دون وعي أخرجتُ عنقي عن سور الأشجار وأدرتُ النظر برأسي يمينًا وشمالًا.

واستطعتُ أن أرى شيئًا ما كأنه ملفوف برداء أبيض كبير، في مكان مظلم خافت عند قاعة الأعمدة. وعندما دققتُ النظر كان ذلك هو كبير الرهبان. يلبَس رداءً أبيض اللون، وقد انحنى بجسده بأقصى ما يستطيع، ووضع عنقه بين ركبتيه، ويغطي وجهه بكُمَّي ردائه.

ظل كبير الرهبان بهذه الحالة لا يتحرك. لا يتحرك على الإطلاق. بل على العكس أنا الذي أنظر إليه، تروح وتأتي عليَّ مشاعرُ متنوِّعة ومختلفة.

اعتقدتُ أنا في البداية، أن كبير الرهبان أصابه فجأةً مرضٌ ما عنيفٌ، ويحاول أن يتحمَّل الأزمة. كان من المستحسن أن أقترب منه على الفور وأقوم بإسعافه.

ولكن كانت هناك قوة مختلفة تستوقفني. فأنا لا أحبُّ كبير الرهبان بأي معنًى من المعاني، وأي شكل من أشكال الحب، وربما غدًا على أقصى حدٍّ، سأحسم قراري بحرق المعبد عامدًا متعمِّدًا؛ فهذا الإسعاف هو نفاق، وكذلك إذا تسبَّب إسعافي له أن يغدِق عليَّ كبير الرهبان مشاعرَ الامتنان والمحبة، فهناك خطرٌ من أن يضعُف قلبي إزاء ذلك.

عند النظر في التفاصيل، لم أعتقد أن كبير الرهبان مريض. ولكن على كل الأحوال، هذا الوضع يفتقد إلى رهبة الكبرياء، وتجعلك دناءته تعتقد أنها هيئة نوم حيوان وحشي. أدركتُ أن طرَف كُم الرداء يهتز مرتعشًا ارتعاشًا طفيفًا، مما جعلني أعتقد أن ثمة شيئًا غيرَ مرئي ثقيلًا يجثم على ظهره.

أخذتُ أفكر فيما هو يا تُرى ذلك الثقل غير المرئي؟ هل هو معاناة نفسية؟ أم هو شعور كبير الرهبان نفسه بالضَّعف لدرجةٍ لا تُحتمل؟

مع اعتياد أذني على السمع، استطعت سماع أن كبير الرهبان يرتِّل بضعة أبيات من كتاب السوترا المقدس هامسًا بصوتٍ خفيض للغاية، ولكني لم أعرف أي كتاب هو. فكبير الرهبان لديه حياةٌ معيشية مظلمة لا أعلم أنا عنها شيئًا، ومقارنةً بذلك، ومن أجل أن أجرح كبريائي بنفسي، فجأةً ظهرت لي فكرة أن ما حاولته أنا بكل جهد من صغائر الشرور والذنوب والكسل لا يرقى أبدًا إلى المقارنة معه.

حقًّا إنه كذلك. في ذلك الوقت كنت قد انتبهتُ إلى أن هيئة كبير الرهبان المنحنية تلك، كانت تشبه هيئةَ الراهب جامعِ التبرعات مشيًا على الأقدام الذي رُفض طلبه دخولَ القاعة الرئيسة لمعبد الزِّن، فظلَّ في هيئة «الانتظار في الحديقة» أمام المدخل طوال اليوم جالسًا فوق أمتعته متدليَ الرأس. إذا كان راهبًا من طبقة كبار الرهبان مثل كبير الرهبان، يقلِّد هذا النوع من التدريب الذي يفعله راهبٌ مبتدأ من الرهبان الرُّحَّل، فإن هذا التواضع، يدعو إلى الدهشة بالفعل. لم أفهم إلى ماذا يوجِّه كبير الرهبان هذا التواضع إلى هذه الدرجة. مثلما تتواضع الأعشاب السفلية للحديقة، وأطراف أوراق الأشجار، وقطرات الندى التي سكنت فوق خيوط العنكبوت، تجاه شفق الصباح تحت السموات العالية، هل كان تواضع كبير الرهبان هو تجاه الشرور والذنوب الجذرية التي ليست من طبيعته، لدرجةِ أنْ تعكس هيئتُه تلك صورةَ حيوان متوحش هكذا؟ فجأةً جاءتني فكرة: «إنه يفعل ذلك ليريني إياه!» إنه يعلم أنني سأمرُّ من هنا، ويفعل ذلك من أجل أن أراه. إن كبير الرهبان الذي يدرك بالفعل ضَعفه، اكتشف في النهاية هذه الطريقة الساخرة للوعظ، يمكن له بها شقُّ قلبي نصفين دون أن ينطِق بكلمة، وإيقاظ شعور الشفقة داخلي، وجعلني أخيرًا أركع على ركبتيَّ!

والحقيقة أنني مع وقوع قلبي في الحيرة نوعًا ما، كانت الشفقة على وشْك أن تهجم عليَّ أثناء رؤيتي لهيئة كبير الرهبان تلك. مع نفي ذلك بكلِّ ما لديَّ من قوة، إلا أنه لا شك أنني كنت على مشارف حدود محاولة بذل حب واحترام حقيقي لكبير الرهبان. ولكن بفضل تفكيري «إنه يفعل ذلك ليريني إياه!» انقلب كلُّ شيء إلى العكس، وحصلتُ على قوة عزيمة أكثرَ من ذي قبل.

كان ذلك هو الوقت الذي وصلت فيه إلى تفكيري أنه يجب ألا أعتمد في أخذ قرار حرق المعبد على طرد كبير الرهبان إياي. فأنا وكبير الرهبان، نسكن عالمَين مختلفين لا يؤثِّر أحدنا على الآخر. كنتُ أنا بلا قيود. ولا أتوقَّع خيرًا من أي قوة خارجية، كان يمكنني تنفيذُ ما أقرِّره بنفسي في الوقت الذي يَعنُّ لي.

زادت السُّحب في السماء مع شحوب لون شفق الفجر، وتراجعت أشعَّة الشمس الزاهية من حافة برج النجم الشمالي المبتلة. وكان كبير الرهبان منحنيًا كما هو. فأسرعت بمغادرة المكان بخطًى متعجلة.

•••

وفي يوم ٢٥ يونيو، اشتعلت الحرب في شبه الجزيرة الكورية. وصار توقُّعي أن هذا العالَم مقبل على الانهيار والدمار المؤكد، واقعًا حقيقيًّا. ووجب عليَّ الإسراع.

١  الراستسو هو عملية الإخصاء في الديانة البوذية من أجل السيطرة على الرغبة الجنسية. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤