الفصل الحادي عشر
بعد الاحتفال بأوراق القرعة غادر «إيزولو» أرضه للمرة الأولى في زيارة لصديقه «أكيوبو»، الذي كان جالسًا في كوخه على الأرض، مشغولًا بإعداد بذور اليام التي استأجر عمالًا لزراعتها. في الصباح التالي، كان «أكيوبو» جالسًا بين كَومتَين من اليام ممسكًا بسكينٍ خشبية حادة. كانت الكَومة الكبيرة فوق الأرض المنبسطة على يمينه والكَومة الصغيرة داخل سلةٍ طويلة، تناول من السلة واحدةً من اليام، ونظر فيها بإمعان، ثم قام بتقشيرها بالسكين، ووضعها إلى يمينه فوق الكَومة الكبيرة، فتناثَرَت فضلاتُ القشور أمامه، وسط قشورٍ أخرى كثيرة من اليام ذاتِ لونٍ بني.
تصافَح الرجلان، وتناوَل «إيزولو» جلد الماعز الملفوف تحت ذراعه، ثم بسطَه على الأرض وجلس .. سأله «أكيوبو» عن عائلته، ثم راح يواصل العمل في تقشير اليام.
أجاب «إيزولو»: إنهم بخير، وماذا عن أهلك؟
– بخير أيضًا.
– إن بذور اليام هذه كبيرة وطازجة، هل جئتَ بها من الشونة التي تمتلكها أم من السوق؟
– ألا تعرف أن لي نصيبًا في أرض «أنيتيتي»؟ نعم، إنها من حصاد تلك الأرض.
هزَّ «إيزولو» رأسه قليلًا: هي أرضٌ عظيمة، ومثل تلك الأرض تجعل من الكسالى فلاحين مهَرة.
قال «أكيوبو» مبتسمًا: تودُّ لو تستفزُّني، لكنك لن تستطيع.
ألقى «أكيوبو» بالسكين فوق الأرض، وصاح مناديًا ابنه «أوبيلو» الذي سارع بالمجيء، كان وجهه مليئًا بالعرق، وقال مُرحِّبًا: «إيزولو».
– ولدي.
ثم توجَّه «أوبيلو» إلى والده لتلقي رسالته، فقال له أبوه: أخبِر والدتكَ أن «إيزولو» يبعث إليها بتحياته، وإذا كان لديها جَوزة الكولا فعليها بإحضارها.
عاد «أوبيلو» من حيث جاء.
قال «أكيوبو» وكأنه يتحدث إلى نفسه: رغم أنني لم أتناول جَوزة الكولا في آخر مرة ذهبتُ فيها إلى بيت صديقي.
ضحك «إيزولو» قائلًا: ماذا نقول في الرجل الذي يأكل ويُنكِر؟
– وكيف أعرف؟
– إنها تجعل مؤخِّرته تجِف، ألم تُخبِرك أمك بذلك؟
كان «أكيوبو» يعاني ألمًا في خصره، فنهض ببطءٍ شديد، ثم قال: يُعتبَر التقدُّم في السن نوعًا من أنواع المرض.
بذَل مجهودًا كبيرًا كي لا ينحني بيدٍ واحدة فوق فخذه، وعندما انتصَب إلى ثلاثة أرباع قامته اعترف بعجزه وقال: كلما جلستُ بعض الوقت يصبح لزامًا عليَّ الوقوف مرةً ثانية لممارسة المشي وكأنني طفلٌ صغير.
ابتسم وهو يدلُف كالأطفال عابرًا المدخل المنخفض من كوخه .. تناوَل طاسةً خشبية وكومةً من الطباشير بداخلها ثم قدَّمها إلى ضيفه.
التقَط «إيزولو» الطباشير، ورسم خمسةَ خطوطٍ على الأرض، ثلاثة خطوط رأسية وخط أفقي من أعلى وآخر من أسفل، ثم رسم أحد أصابع قدمَيه الكبيرة، وخطًّا أبيض حول عينه اليسرى.
واحدةٌ فقط من زوجتَي «أكيوبو» الاثنتَين كانت بالمنزل، أسرعَت في الدخول إلى الكوخ لتحية «إيزولو»، وأخبرَتْه أن الزوجة الأولى قد ذهبَت لرؤية شجرة النخيل وجَنْي الفاكهة الطازجة.
عاد «أوبيلو» حاملًا جَوْزة الكولا، ثم تناوَل الطاسة الخشبية من أبيه، ونفخ فيها لإزالة ما عَلقَ بها من رمال، ثم وضع جَوزة الكولا بداخلها، وقدَّمها ﻟ «إيزولو».
قال «إيزولو»: شكرًا لك، ولتُناوِلها لأبيك كي يكسِرها.
– لا، أدعوك أنت لكسرها.
– مستحيل؛ فنحن لا نتجاوز رجلًا في بيته.
قال «أكيوبو»: أعرف ذلك، لكنك ترى أنني مشغول، وأطلب منك القيام بهذه الخدمة من أجلي.
– لا يمكن للرجل أن يكون مشغولًا بما يكفي بما يمنعه عن كسر أول جَوزة للكولا في بيته، ضع اليام على الأرض فلن تهرُب منك.
– ليست أوَّل جَوزة للكولا هذا اليوم، لقد كسرتُ الكثير.
– قد يكون ذلك، لكنك لم تكسر أيًّا منها في وجودي. إن وقت الصباح عند الإنسان هو الوقت الذي يستيقظ فيه.
أجاب «أكيوبو»: نعم، سأكسِرها ما دمتَ ترى ذلك.
– أرى ذلك حقيقة. إن العين ترى فقط ولا تسمع.
تناول «أكيوبو» جَوزة الكولا بين يدَيه، وقال قبل القيام بتكسيرها: كلانا سوف يعيش.
كانت البندقية قد دوَّت بطلقتَين فور وصول «إيزولو»، وها هي الطلقة الثالثة تُدوِّي في الأفق.
تساءل «إيزولو»: ماذا يحدث هناك؟ هل ترك الرجال الغابة وجاءوا للصيد هنا؟
– أوه، ألم تسمع بأن «أوجبوفي أمالو» مريضٌ جدًّا؟
– حقًّا! وإلى حد إطلاق النار؟!
انخفض صوت «أكيوبو» وقال: نعم .. ماذا كان يوم الأمس؟
أجاب «إيزولو»: «إيك».
– نعم .. لقد كان يوم «إيك» حين كان عائدًا إلى بيته من المزرعة، وكم كان يرتعد من البرد رغم حرارة الظهيرة! كما أنه لم يكن قادرًا على حَمْل منجله، وكانت أصابعه ملتوية.
– وماذا قالوا؟
– أرجوك لا تنطق بها مرةً ثانية.
– ولكنني لم أقُل لك بأن أحدًا أخبرني، لقد رأيتُ بعيني.
بدأ «إيزولو» يصرُّ أسنانه، ثم استطرد «أكيوبو» قائلًا: ذهبتُ لرؤيته هذا الصباح وكان يتنفس بصعوبة.
سأل «إيزولو»: ومن الذي جاء لعلاجه؟
– رجلٌ يُدعى «وديكا» من «أموفيا»، وكنتُ قد أخبرتُهم هذا الصباح بالذهاب مباشرةً إلى «أنينتا»؛ حيث يُوجَد طبيبٌ يستطيع أن يمصَّ المرض من بين إبهام يده وأصابعه.
قال «أكيوبو»: هو كذلك، ولكننا لا نستطيع أن نضع أيدينا فوق أفخاذنا دون عمل شيءٍ سوى مراقبة الرجل الأبيض لاثنَي عشر يومًا. كان من الواجب أن نفعل شيئًا، وهكذا أشرتُ إلى ذلك الطبيب في «أنينتا».
– أعتقد أنك تتحدث عن «أجاديك» الذي يدعونه «أنيانافومو».
– أنتَ تعرفه إذن، إنه هو.
– أنا أعرف الكثير من الناس في «أولو» و«إيبو». «أجاديك» طبيب وعرَّاف عظيم، لكنه لا يستطيع مجرَّد خوض معركةٍ في بيت الإله الأكبر.
– لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك.
دوَّت في الأفق طلقاتُ الرصاص مرةً أخرى.
قال «إيزولو»: إن طلقات البنادق هذه لا تتعدَّى كونها بعض الملامسات الحمقاء، كيف نستطيع بدَوِي البندقية أن نُخيف الأرواح ونطردها بعيدًا؟ إذا كان الأمر كذلك فإن أي رجلٍ يملك نقودًا كافية لشراء برميلٍ صغير من البارود يستطيع أن يعيش ويعيش حتى ينبُت الفطر في رأسه .. إذا كنتُ مريضًا وجاءوا لي بالرجل المعالج، الذي يعرف عن الصيد أكثر من معرفته عن العشب والنبات، فسوف أطردُه وأبحثُ عن آخر.
ساد الصمت لحظةً قصيرة بين الرجلَين، ثم قال «أكيوبو»: من خلال ما شاهدتُه هذا الصباح أستطيع القول بأننا سنسمع شيئًا قبل حلول الفجر الآتي.
هَزَّ «إيزولو» رأسه إلى أعلى وأسفل عدة مرات، وقال: إنها قصةٌ مؤسفة، ونحن لا نستطيع أن نُشعِل حريقًا في العالم.
عاود «أكيوبو» عمله في تقشير اليام، فاستطرد «إيزولو»: هكذا يقول الناس عندنا، كما يقولون أيضًا بأن زيارة رجلٍ في مكان عمله تُسبِّب له الاكتئاب.
دوَّت في الفضاء طلقاتُ الرصاص مرةً أخرى، فأثارت انفعال «إيزولو» الذي أضاف: سأذهب وأقول للرجل أن يقدِّم علاجًا للمريض، وإذا لم يكن لديه ذلك العلاج فعليه أن يوفِّر البارود لاستخدامه في جنازته.
قال «أكيوبو»: ربما يعتقد أن البارود رخيص مثل رماد الخشب، لكن ما هو أكثر أهميةً من ذلك هو ألا تقول شيئًا إذا ذهبتَ إلى هناك؛ فقد يظنون أنك تبغي شرًّا بقريبهم، وقد يتساءلون بعد عودتك عن قيمة البارود بالنسبة لحياة رجل؟
لم يكن «إيزولو» في حاجة لرؤية المريض مرتَين حتى يعرف أنه لن يتجاوز الاثنَي عشر يومًا التي تهَبُه إياها الأرواحُ في صراعه مع المرض .. كان الرجل راقدًا فوق سرير البامبو وقد لفُّوا جسده بقطعة من القماش المدهون بالمرهم، وأشعلوا قرمةً من الخشب بجانب السرير، فامتلأ الهواء بالدخان، وكان صوتُه وهو يلتقط أنفاسه كصوت الخشب السميك لحظة انغلاقه.
قدَّم «إيزولو» التحية بعينَيه فور دخوله الحجرة، لكن المريض لم يستطع التعرُّف على «إيزولو»، الذي سارع بالنظر إلى جانب السرير، وأطال النظر إليه في هدوء، ثم تقدَّم وشارك الأقرباء الجلوس.
كانوا يتحدثون بأصواتٍ خفيضة جدًّا تشبه الهمس حين تساءل «إيزولو» قائلًا: ماذا فعل الرجل كي يحدُث له ذلك؟
أجاب أحد الرجال: نحن جميعًا نسأل أنفسنا نفس السؤال، ولم نتوقع أبدًا ما حدث. لقد استيقظنا ذات صباح فرأينا عظام الساق مشوَّهة.
كان الطبيب المعالج بالأعشاب جالسًا بالقرب من الجماعة، ولم يقل شيئًا .. تفحَّص «إيزولو» الحجرة بعينَيه، وعرف كيف أن الرجل قام بتحصينها لمنع دخول الأرواح، كانت تتدلى من السقف ثلاث قرعاتٍ طويلة مغلَّفة بأوراق الموز الجافة، وقرعةٌ رابعة مُنتفِخة تُستخدَم عادةً لحمل النبيذ معلَّقة فوق الرجل المريض مباشرة، وحول عُنق القرعة حبلٌ من الأصداف وعنقودٌ من ريش البَبَّغاء بداخلها، بدا وكأن شيئًا يغلي حول أقدامهم كان يُجبِرهم على الدوران حول فم القرعة، وكان اثنان من رءوس فرخ الدجاج يتدلَّيان إلى أسفل كقربان.
كان المريض هادئًا إلا من أنفاسه المتقطعة، وفجأةً راح يُصدِر صوتًا كالزئير، ثم توقَّفوا جميعًا عن الكلام.
كان الطبيب قد رسم بالطباشير الأبيض حول إحدى عينَي المريض وأحد الجلود الكبيرة كانت تُغطِّي الحجاب في خصره الأيسر، نهَض الطبيب وسارع بالخروج، وكانت قاعدة البندقية عند العتبة على الأرض وماسورة البندقية تشير إلى الكوخ، فالتقطها، واتجه إلى الخلف، ثم قام بإطلاق النيران .. فزع الدجاج كما يفزع حين رؤيته حيوانًا متوحشًا.
كان المريض يتحدَّث بأشياءَ لا معنى لها حين عاد الطبيب إلى الكوخ وقال: أَحضِر لي الأوفو الخاص به.
تناوَل أحد إخوة المريض عصاه الخشبية القصيرة من شونة البيت، والتي كانت معلَّقة ومربوطة بالحبال في العارضة الخشبية، ثم التقطَها منه الطبيب الجالس القرفصاء بجوار السرير، وفتح يد المريض اليمنى وقال له: امسكها، اضغط بأصابعك حول العصا، واقبض عليها وقل لهم لا، هل تسمعني؟ قل لا.
شيئًا فشيئًا بدأَت الأصابع تقبض على العصا ببطءٍ مثل المخلب.
قال الطبيب وهو يبتعد بيدَيه تاركًا ورق الأوفو في قبضة «أمالو»: صوابٌ ما تفعل، قل لهم لا.
وفَوْر أن ابتعد بيدَيه تمامًا اهتزَّت أصابع «أمالو»، وفتح يده، فتساقط الأوفو على الأرض.
تبادلوا جميعًا نظراتٍ ذات معنًى ولم يقل أحدهم شيئًا.
نهض «إيزولو» ثم قال: اعتَنوا به جيدًا.
أجاب الآخرون: تصحبك السلامة.
أصابت «أوبيكا» دهشةٌ عظيمة لمَّا جاءت العروس مع أهلها، وتساءل بدهشة عن قدرته في عدم الاقتراب منها أثناء زيارتها الأخيرة .. كان يعرف أن قليلًا من أقرانه الشباب هم الذين استطاعوا السيطرةَ على مشاعرهم، والالتزامَ بذلك القيد الذي تتطلبه العادات القديمة، غير أن ما كان صوابًا يظل صوابًا .. انتابه الإعجاب بنفسه؛ فقد أصبح مؤيدًا للعادات، ومثل السحلية التي تسقط من شجرة الإيريكو العالية شعر بالثناء على نفسه.
كانت العروس بصحبة أمها التي شُفيَت من المرض مؤخرًا وعدد من قريناتها البنات وبعض صديقات أمها، كثيرٌ من النساء كن يحملن أشياء العروس فوق رءوسهن؛ أواني للطهي، طاسات خشبية، مكانس، هاونًا، يد الهاون، سلالًا، حصائر، مغارف، زجاجات زيت النخيل، سلالًا من جَوزة اليام، سمكًا، منيهوتَ خمر، فول الصويا، ملحًا وفلفلًا، أقمشةً ملفوفة، طبقَين وإناءً حديديًّا من منتجات الرجل الأبيض قاموا بشرائها من المركز التجاري الجديد في «أوكبيري».
امتلأ بيتُ «إيزولو» وبيوتُ أبنائه بالأقارب والأصدقاء انتظارًا لقدوم العروس، التي جاءت وبرفقتها عشرون من الفتيات العذراوات المتزينات. وكانت العروس واقفة بينهن ولم تكن أطول منهن فقط وإنما أكثرهن لفتًا للأنظار في هيئتها وزينتها. كانت قد سوَّت شعَرها بطريقةٍ تُناسِب انتقالها الوشيك إلى عالم النساء.
غنَّت البناتُ أغنية الأفيوما، وقلن: لقد جاء شيءٌ جميل، فليأتِ كل شخصٍ بكل ما يملك من أشياءَ جميلة ويقدِّمها للعروس.
تجمَّعوا حولها في دائرة، وراحت ترقُص على نغمات الأغنية، وكذا فعَل زوجُها بينما اقتحم أعضاء عائلة «إيزولو» الدائرة، وراحوا يلصقون النقود فوق جبهتها.
كانت العروس تبتسم تاركة الهدايا تسقط إلى قدميها، بينما كانت إحدى البنات تلتقطها، وتضعُها في طاسة.
كان اسم العروس «أوكواتا»، وكانت طويلة مثل أبيها المُنحدِر من جنس العمالقة، وذات وجهٍ متَّسق منمَّق ذي تقاطيعَ مليحة، حتى إن بعض الناس كان يدعوها «أويليدي»؛ لأنها تشبه زوجها في الحسن والبهاء، كان ثديها منتصبًا إلى أعلى في رقة وشعرها مُصفَّفًا على طريقة «أوتيميلي» الجديدة، وثمانية من الأخاديد الصوفية كانت تتخلَّل القفا إلى مقدمة الرأس، تنتهي بعنقود مثل إكليل الزهور. وكانت ترتدي أكثر من خمسة عشر حبلًا من اﻟ «جيجيدا» حول خصرها، كثيرٌ منها بلون الدم فيما عدا اثنَين أو ثلاثة بلونٍ أسود. وكانت بعض الحبال ذات اللون الأحمر القاني بلون الدم تتزين بالدوائر والأقراص .. في الغد سوف تربط خصرها كالمرأة الناضجة، وعندئذٍ سيكون جسَدُها في مأمنٍ من تحديق العامة.
كانت حبال اﻟ «جيجيدا» تُصدِر أصواتًا كالخشخشة أثناء قيامها بالرقص، وتعمل على إخفاء خصرها والجزء السفلي من أردافها. ومن الأمام كان أحد الحبال معقودًا بحبلٍ آخر من تحت سُرة بطنها إلى رحمها، مغطيًا الجزء الأكبر، ومُتجنبًا الظل المظلم لوقتٍ قصير.
البنات الأخريات كن يرتدين نفس الزي، فيما عدا أن معظمهن كن يتحلَّينَ بحبالٍ أقل قيمةً من اﻟ «جيجيدا».
واصَلوا احتفالهم حتى غروب الشمس .. كانت أواني اليام والفوفو كثيرة وكذا شوربة الأوراق المُرَّة، واثنان من أرجل الماعز المغلية، وطاستان من سمك الآسا المطهي، وبراميلُ صغيرة من النبيذ الحلو.
ما إن أبصَرَت النساء ذلك الطعام الشهي حتى ارتفع صوت المغنية مُردِّدًا تلك الأغنيةَ القديمة عن الشكر والثناء:
رحلَت أم «أوكواتا»، ورحل معها كل من جاء برفقتها من القرية. لقد عادوا إلى بيوتهم تاركين إيَّاها.
شعَرَت «أوكواتا» باليُتْم، واغرورَقَت عيناها بالدموع، ثم اصطحَبَتْها حماتُها إلى الكُوخ لتبقى حتى الانتهاء من تقديم القرابين عند مفترق الطرق.
استأجروا عرَّافًا لممارسة الطقوس، التي بدأَت في وجود الأخ الأكبر غير الشقيق وأمه والعروس دون «إيزولو»، الذي نادرًا ما يغادر كُوخه بعد الظلام .. رفض «أودوش» اللحاق بهم كي لا يُسبِّب حرجًا للواعظ.
بدءوا السير في الطريق العام المؤدي إلى «أوميوزيني»؛ حيث جاءت العروس، وكان الظلام قاتمًا ولا شيء يوحي بظهور القمر، غير أن ضوءًا قليلًا كان ينبعثُ من المصباح الذي تحمله أم «أوبيكا»، كانت تُحيط بكفها فتيل المصباح لحماية اللهب من الرياح التي هبَّت مرتَين، اضطُرت خلالهما إلى الاختباء لإشعال المصباح داخل أرض «أنوسي» في المرة الأولى، ثم داخل كوخ أرملة «ميمبولو» في المرة الثانية.
كان «أنيبوكا» العرَّاف يسير بهدوء أمام المجموعة، وعندما كان يبدأ في الكلام كان يرفع صوتَه وكأنه يتحدث إلى أحد الجيران من خلال الحائط.
لم يكن «أنيبوكا» واحدًا من رجال الطب المعروفين في العشيرة، لكن اختياره كان من أجل صداقته مع أهل «إيزولو»، كما أن التضحيات والقرابين التي سيقوم بها لا تستدعي مهارةً خاصة. كان الأطفال يعرفونه ويُسارِعون بالهرب فور اقترابه؛ لأنه قال ذات يومٍ بأنه استطاع تحويل شخصٍ ما إلى كلبٍ بصفعة فوق أردافه. كانوا يضحكون منه في غيابه؛ لأن إحدى عينَيه تشبه صدفة البحر المتشقَّقة بعد أن أصابها الضرر حين كان صغيرًا، أثناء تلويحه في الهواء بإحدى النهايات الحادة من أفرع الموز ليعود من جديد لالتقاطها.
كانوا في طريقهم عَبْر الظلام يلتقون ببعض الناس الذين يتعرفون عليهم من أصواتهم عند القيام بردِّ التحية. وكان ضوء المصباح الخافت يجعل من السهل على الآخرين رؤيتَهم بأفضلَ مما هم يستطيعون.
كانت الحقيبة الجلدية الكبيرة التي يحملها «أنيبوكا» فوق كتفه تطقطق بأصواتٍ ناعمة وثابتة. وكانت العروس تحمل في إحدى يدَيها طاسةً من الطين المحروق ودجاجة في اليد الأخرى، ومرةً إثْر أخرى كانت الدجاجة تصرخ بصوتٍ حادٍّ كما تفعل الدجاجات عندما يهاجم الحظيرة مجهولٌ في الليل. في الوسط تمامًا كانت «أوكواتا» تسير بمزيد من السعادة والخوف. وكان كلٌّ من «أوبيكا» و«إيدوجو» يقودان الطريق حاملين المنجل دون التوقف عن الحديث، غير أن «أوبيكا» كان في غفلة عن الحديث، كان مشغولًا بمحاولة الإصغاء لصوت حبال اﻟ «جيجيدا» التي تطوِّق عروسه، حتى استطاع أن يُفرِّق بين خطواتها وخطوات الآخرين من خلفها، كان يعرفها من خطواتها. وكم كان قلقًا من اللحظة التي سيأخذ فيها زوجته إلى كوخه بعد الانتهاء من تقديم القرابين! تُرى هل سيجدها في البيت كما قالوا أم أنه سيعرف بأن أحدًا قد اقتحم البيت وانطلق بجائزته؟ لا، إن الجميع يعرف رجاحة عقلها وتصرُّفاتها الطيبة.
كانت هدية «أوبيكا» لحماته ماعزًا كبيرًا إذا تبيَّن أن زوجته عذراء. وقد ساوره القلق من عدم استطاعته تقديم هذه الهدية. وكان يحمل في يده اليسرى إناءً صغيرًا من الماء يتدلى من رقبته، بينما كان شقيقه من أمٍّ أخرى يُمسِك بعنقود من سعف النخيل المقطوع من قمة إحدى الأشجار.
وصلوا بعد عناء إلى مفترق الطريق العام المؤدي إلى قرية العروس؛ حيث ساروا مسافةً قصيرة ثم توقَّفوا. اختار العرَّاف مكانًا في الوسط، وسأل «أوبيكا» أن يحفِر حفرةً في ذلك المكان، ثم قال لأم «أوبيكا»: ضعي المصباح هنا.
فعلَت كما قال لها، وجلس «أوبيكا» القرفصاء بادئًا في الحفر.
قال العرَّاف: اجعَلْها أكثر اتساعًا، نعم هكذا.
كان الرجال الثلاثة في وضع القرفصاء، وكل واحدة من النساء راكعة على ركبتَيها وجسدها منتصب، وفي تلك اللحظة اشتد ضوء المصباح.
استطرد العرَّاف قائلًا: لا تحفِر المزيد، هي عميقةٌ الآن بما يكفي، تناوَلِ الرمال وألقِ بها خارج الحفرة.
راح العرَّاف يتناول القرابين من حقيبته بينما راح «أوبيكا» يجرف الأرض الحمراء بكلتا يدَيه. كانت القرابين تتكوَّن من أربعة قطعٍ من اليام الصغيرة وأربعِ قطعٍ أخرى من الطباشير الأبيض وزهرة الليل البرية.
نهض واقفًا على قدمَيه، وطلَب من «أوكواتا» الجلوس بجوار الحفرة في اتجاه قريتها، على أن تركع على كلتا ركبتَيها، ثم جلس في الوضع المضاد لها في الجانب الآخر من الحفرة والقرابين أمامه، بينما اصطفَّ الآخرون في الخلف.
تناول العرَّاف واحدة من اليام، وقدَّمها إلى «أوكواتا»، التي لوَّحَت بها حول رأسها، ثم ألقت بها في الحفرة، وحدَث نفس الشيء مع قطع اليام الثلاثة الأخرى، ثم قدَّم لها إحدى قطع الطباشير الأبيض، فسارعَت بوضعها في الحفرة، وكذا فعلت مع أوراق النخيل وزهرة الليل البرية. وكانت إحدى مجموعات الأصداف هي آخر ما قدَّمه لها، فأغلقَت عليها بكفها، ثم ألقت بها في الحفرة مع بقية الأشياء، وبعد ذلك مباشرةً أعلن العرَّاف المغفرة، وقال: «مهما كانت الشرور التي سوف تَرينَها بعينَيك، أو تقولينها بفمك، أو تسمعينها بأذنَيك، أو تطؤها قدمُك، حتى لو تسبَّب فيها والدك ووالدتك، فإنني قد دفنتُها كلَّها هنا.»
فور الانتهاء من آخر كلمةٍ تناول طاسة الصلصال المحروق، ووضعها فوق بقية الأشياء في الحفرة، ثم قام بإعادة التراب إلى الحفرة، وقال: أين الماء؟
ناولَته أم «أوبيكا» إناء الماء، وانحنَت العروس بخصرها، وبدأَت في غسل وجهها ويدَيها وذراعَيها وقدمَيها حتى ركبتها. وبعد أن فرغَت من ذلك قال لها العرَّاف: تذكَّري بأنك لن تمُرِّي في هذا الطريق حتى الصباح، حتى لو ضربكِ أبطال «آبام» هذه الليلة، أو هجرتِ حياتك.
قالت حماتُها: إن الإله الأعظم لن يتركها تهجر حياتها، لا اليوم ولا غدًا.
وقال «أنيبوكا»: نحن نعرف بأنها لن تفعل، ولكن يجب أن نستمر في فعل الأشياء كما هي.
ثم اتجه نحو «أوبيكا» وأضاف: لقد فعلتُ كما أردت، وسوف تلد لك زوجتك تسعة أبناء.
قال «أوبيكا» و«إيدوجو» معًا: شكرًا.
التقط العرَّاف حقيبته، ووضعَها فوق أحد كتفَيه وقال: هذه الدجاجة سترافقني إلى المنزل.
ربط قدَمَي الدجاجة بحبل من أوراق الموز، وأمسك بها، وكانت أعينهم تحدِّق في الدجاجة حين قال: سوف أتناولها بمفردي، ولا يجب أن يزورني أحد في الصباح؛ فلن أشارك أحدًا فيها.
ضحك بصوتٍ مدوٍّ مثل رجلٍ مخمور وهو يضيف: الآن ودائمًا ينبغي مكافأةُ العرَّافين.
استطرد ضاحكًا مرةً أخرى: إن عازف الفلوت يتوقف عن العزف أحيانًا لكي يمسح أنفه، أليس هذا ما قلناه؟
أجاب «إيدوجو»: نعم، ذلك ما قلناه.
ظل يتحدث بصوت عالٍ طوال طريق العودة وقد سيطر عليه إحساسٌ بالفخر بسبب اختياره من العشيرة، بينما كان الآخرون يُنصِتون بلا اهتمام، وقليلًا ما كانوا يتحدثون، لكن «أوكواتا» كانت الوحيدة التي لم تفتح فمها بكلمةٍ واحدة.
عندما وصلوا إلى «آلو آجبا سيوسو» غادرهم العرَّاف، واتجه يمينًا، وما إن أصبح بعيدًا عن مدى السمع حتى سارع «أوبيكا» بالقول متسائلًا: هل هي عادة العرَّافين أن يأخذوا الدجاج إلى منازلهم؟
قالت أمه: لقد سمعتُ أن بعضهم يفعل ذلك، لكنني لم أرَ مثل ذلك إلا اليوم. لقد دفنوا دجاجتي مع بقية القرابين.
وقال «إيدوجو»: لم أسمع قطُّ عن ذلك. ويبدو لي أن الرجل يخطف كل ما يقع تحت بصره.
أضافت أم «أوبيكا»: كان يجب أن نضحي بالدجاجة. وها قد فعلنا.
– وددتُ لو أسأله هو.
– لا يا ولدي، كان من الأفضل أنك لم تفعل؛ فليس هذا وقتًا للصراع والنزاع.
ذهب «أوبيكا» وزوجته «أوكواتا» لتحية «إيزولو» قبل أن يتوجها إلى منزلهم الخاص.
قال «أوبيكا»: أبي، هل يأخذ العرَّاف عادةً الدجاجة إلى منزله، الدجاجة التي كان ينبغي أن تُقدَّم مع القرابين؟
– لا يا ولدي، وهل هذا ما فعله «أنيبوكا»؟
– نعم، ولقد أردتُ أن أسأله عن هذا، غير أن أمي أشارت لي بألا أقول له شيئًا.
– هي ليست عادة، ولكن فلتعرف أن كثيرًا من الناس يتمتَّعون بنهمٍ وشراهة، ومُعظَمهم من العرَّافين.
ارتسمت علامات القلق فوق وجه «أوبيكا» فاستطرد «إيزولو»: خذ زوجتك إلى البيت، ولا تجعل مثل هذه الأشياء تضايقك؛ فإن العرَّاف إذا أراد أن يأكل أمعاء القرابين كالنسر فذلك شأنه الخاص، لقد قمتَ أنت بدَورك.
رحل «أوبيكا» مع زوجته، وأحَسَّ «إيزولو» بسرورٍ دافئ ملأ قلبه الذي لم يعرف السرور منذ أيامٍ عديدة، ثم تساءل بينه وبين نفسه قائلًا: هل تغيَّر «أوبيكا» وصار شخصًا آخر؟ لماذا جاء إلى والده ليسأله بمثل هذه الطريقة من الاهتمام؟ كثيرًا ما قال «أكيوبو» بأن «أوبيكا» سيتغير سلوكه يوم أن تُصبِح له امرأة، ربما كان في طريقه للتغيير.
تذكر «إيزولو» أن «أوبيكا» كان في الماضي يُراقب العرَّاف حتى يُجبره على دفن الدجاجة.
تذكَّر ذلك و… وابتسَم.