الفصل الثاني عشر
ظهَرَت «أوكواتا» عند الفجر مرتبكة وخجولة، كانت ترتدي ستار عورتها غير المألوف، لكن خجلها كان ممتزجًا بالكبرياء، ودون استحياءٍ تقدَّمَت لتحية والد زوجها، الذي كان يقوم — في نفس اللحظة — بإعداد الماعز وبعض الهدايا الأخرى لإرسالها إلى أمها في «أوميوزيني»؛ لأنها أهدَتْه عروسًا عذراء .. شعَرَت «أوكواتا» بارتياحٍ شديد؛ لأن الخوف كثيرًا ما سيطر عليها منذ أن كانت تلعب مع «أوبيورا».
ظلَّت «أوكواتا» لسنواتٍ عديدة خائفة؛ لأن كل البنات تعرف حكاية «أوجبانج أومينيني»، التي أخطأَت عند الشُّجيرة في الطريق العام، وأرسل زوجها طالبًا المنجل من والدها لقطع تلك الشُّجيرة.
في الصباح كانت الزوجة الجديدة في طريقها إلى الجدول، فأراد كل الأطفال في بيت «إيزولو» أن يذهبوا إلى هناك من أجل الماء، وكذلك «أوبياجيلي» الصغيرة، التي أسرَعَت بإظهار إناء الماء الخاص بها رغم كراهيتها للجدول؛ لأن الطريق المؤدي إليه مليءٌ بالأحجار الحادَّة، لكنها لم تستطع أن تتوقف عن البكاء عندما أخبرَتْها أمها أن تبقى للاعتناء بطفل «آموج».
كانت «أوجيوجو» أخت «أوبيكا» الصغرى تروح وتجيء في لياقة وحشمة كمن له الحق الخاص في العروس؛ ذلك أن أصغر الأطفال في أرض الرجل يعرف كوخ الأم من بقية الأكواخ الأخرى، وكذلك كانت «ماتيفي» أم «أوجيوجو» تتصرف بنفس اللياقة، ولكن بتأنٍّ شديد وتحت قيودٍ مدروسة، ولم تكن في حاجة لأن تقول لزوجة زوجها الصغيرة بأنها كانت تريد زوجةً لابنها، أو أن تُثبِت لها أن زوجةً للابن لأكثرُ شَرفًا من امتلاك العاج وتجويع الأطفال.
بصقَت على الأرض وقالت لابنتها وزوجة ابنها: عليكما بسرعة العودة قبل أن يجفَّ هذا البصاق من فوق الأرض.
قال «وافو»: سنتأخر فقط من أجل الاستحمام، وقد نستخرج بعض الماء ونستحم في وقتٍ آخر.
قالت أمه التي تظاهرت بتجاهل زوجة زوجها الصغيرة: أنت مجنون، وإذا شئتَ أن تعرف بأنني أكثر جنونًا منك فلتعُد من الجدول بجسَدك كما فعلتَ بالأمس.
قالت ذلك بحدَّة وغضب يوحيان بأن ما قاله «وافو» كان سبب غضبها، لكن عدم مشاركته في الاضطراب المثير الذي حدث في الكوخ الآخر كان هو السبب الحقيقي وراء غضبها.
قالت لابنتها: ماذا يعني زحفُكِ كالدودة؟ هل لا بد أن تذهبي للجدول.
ارتدى «أودوش» ستار عورته المخطَّط والصديري الأبيض الذي يرتديه عادةً عند ذهابه للكنيسة أو المدرسة، فشعَرَت أمه بمزيد من الغضب، لكنها نجحت في الاحتفاظ بهدوئها.
عادت «أوبياجيلي» مسرعةً إلى كوخ «إيزولو» بعد الانتهاء من حفلة الماء عند الجدول، وكانت تحمل طفلَ «آموج» فوق ظهرها، وكان واضحًا أنها أصغر من أن تحمله؛ لأن إحدى قدمَيه كانت تُلامِس الأرض.
قال «إيزولو»: مجانينُ هؤلاء الناس، من الذي ترك الطفل المريض معكِ؟ عودي به في الحال إلى أمه.
قالت «أوبياجيلي»: لكنني أقَدِر على حمله.
– من منكم يحمل الآخر؟ .. اذهبي به إلى أمه.
أجابت «أوبياجيلي» وهي تنط بأصابع قدمَيها محاولةً الحفاظ على عدم سقوط الطفل من فوق ظهرها: لقد ذهبتُ إلى الجدول وها أنا ذا أستطيع أن أحملَه كما ترى.
قال «إيزولو»: أعرف أنك تستطيعين ولكنه مريض، ولا ينبغي أن يهتَز كثيرًا، خُذيه إذن إلى أمك.
أومأَت «أوبياجيلي» برأسها، ودلفَت إلى الداخل، وكان «إيزولو» متأكدًا أنها ما زالت تحمل الطفل الذي بدأ في الصراخ.
اجتهدَت «أوبياجيلي» كثيرًا، وحاولَت باستخدام صوتها الرقيق أن تُوقِف الطفل عن البكاء، وراحت تُغنِّي له كي ينام:
صاح «إيزولو»: «وافو» .. «وافو»!
أجابت أمه من داخل كُوخها: ذهَب «وافو» للجدول!
هتف «إيزولو»: ماذا عن «وافو»؟
اضطُرَّت «أوجوي» أن تدخل الكوخ بنفسها، وقالت: لقد ذهب إلى الجدول بمحض اختياره، ولم يطلب منه أحدٌ الذهاب.
أجاب «إيزولو» بسخرية مقلدًا صوتَ الأطفال: إنَّ أحدًا لم يطلب منه الذهاب. ألا تعرفين أنه يكنس كوخي كل صباح؟ أم أنكِ تتوقَّعين أن أكسر جَوزة الكولا وأستقبل الناس في كوخٍ قذِر؟ هل يكسر والدك جَوزة الكولا الصباحية فوق رماد خشب الأمس؟ كل القلاقل التي تثيرونها أيها الناس في هذا المنزل سوف تقع فوق رءوسكم .. إذا كان «وافو» قد أصبح أكبر من أن يستمع إليك، فلماذا لم تطلبي من «أودوش» أن يأتي وينظِّف كوخي؟
– ذهب «أودوش» مع بقيَّتهم.
لم يجد «إيزولو» مزيدًا من الكلام للقول، لكن زوجته سارعَت بالخروج وعادت مسرعةً وهي تحمل مكنستَين، نظَّفَت الكوخ بتلك المصنوعة من أوراق النخيل، وواجهة الكوخ بالأخرى المصنوعة من حزمة أوراق الأوكباكبا الأكثر طولًا ومتانة. وكان «أوبيكا» في تلك الأثناء قادمًا من كوخه وهي تكنس في الخارج فقال: هل تكنسين هذه الأيام؟ أين «وافو»؟
أجابت بعبوس ونغماتُ صوتها تزداد شيئًا فشيئًا: لا أحد يُولَد بمكنسة في يده.
أجادت استخدام المكنسة والإمساك بها وكأنها كانت تتعامل مع مجدافٍ قصير.
ابتسم «إيزولو» وقد جمعَت القاذورات في كومةٍ واحدة، وحملَته إلى جانب من الأرض على اليمين؛ حيث ستقوم بزراعة الكوكويام في ذلك الموسم.
كان «أكيوبو» في نفس اللحظة يُعِد نفسه لزيارة «إيزولو» بعد الإفطار، لتهنئته على زوجة ولده الجديدة، غير أن ثمَّة أشياءَ أخرى مهمَّة كانت السبب في قيامه بالزيارة مبكرًا. كان راغبًا في التحدث إلى «إيزولو» قبل أن ينهال عليه الزوار الآخرون ويملئوا المكان طلبًا للنبيذ. لم تكن تلك الأشياء التي يريد «أكيوبو» التحدُّث عنها جديدة؛ فلقد تحدَّثا فيها كثيرًا من قبلُ، لكن «أكيوبو» قد أصيب بقلقٍ كبير في الأيام القليلة الماضية، لما سَمعَه عن «أودوش» الذي ذهَب ليتعلم أسرار سحر الرجل الأبيض.
كان «أكيوبو» مدركًا لخطأ «إيزولو» منذ البداية، لكن «إيزولو» كثيرًا ما أقنعه، وكان أعداء «إيزولو» يعملون في تلك الأيام على تلطيخ اسمه، ويقولون: إن رئيس كهنة «أولو» أرسل ابنه إلى أولئك الناس الذين يقتلون الثعبان المقدَّس ويأكلونه ويرتكبون الشرور، فماذا يُتوقَّع من الرجال والنساء العاديين أن يفعلوا؟ هل تتوقع السحلية التي تنشُر الفوضى في شعائر جنازة أمها أن يحمل الآخرون عبء موتها؟
شاركهم ابن «إيزولو» الأول في خصومة والده حين ذهب إلى «أكيوبو» في اليوم السابق، وطلب منه كصديقٍ حميم ﻟ «إيزولو» أن يتوجَّه إليه ويتحدَّث معه.
قال «أكيوبو»: ماذا حدث؟
أجاب «إيدوجو»: يجب على المرء أن يتمسَّك بأرضه ويحافظ عليها، وألا يكون سببًا في الفتنة والخصام بين أبنائه.
كان «إيدوجو» يشعُر بخطورة ما يقول، وكان يتلعثم كثيرًا في حديثه، فقاطعه «أكيوبو»: إنني أُصغي.
– إن «إيزولو» قد أرسل «أودوش» إلى أولئك الناس والالتحاق بدينهم الجديد ليُمهِّد له الطريق حتى يصبح رئيسًا للكهنة.
– من قال هذا؟
قبل أن يجيب «إيدوجو» أضاف «أكيوبو»: أنت تتحدث عن «وافو» و«أودوش»، فماذا عنكَ وعن «أوبيكا»؟
– إن «أوبيكا» لا يفكِّر في مثل هذه الأشياء، وكذلك أنا.
– لكن «أولو» لا يسأل عما يفكِّر فيه الإنسان؛ لأنه لو شاء أن تكون أنت رئيسًا للكهنة فسوف تكون، وإذا أراد شخصٌ الالتحاق بالدين الجديد فلن يمنعه بشيء.
قال «إيدوجو»: هذا حقيقي، لكن ما يقلقني أن أبي جعل «وافو» يعتقد أن الاختيار سيكون له. وإذا ما اختار «أولو» شخصًا آخر كما تقول فثمَّة نزاعٌ لا بد أن يحدُث في العائلة حين لا يكون أبي موجودًا، وعندئذٍ سأكون أنا المسئول، وسوف تتدمَّر رأسي.
– ما تقولُه صواب، ولا ألومك؛ لأنك تريد أن تنزح ذلك الماء قبل أن يرتفع إلى ركبتَيك.
فكَّر «أكيوبو» قليلًا، ثم أضاف: ولكنني لا أعتقد أن نزاعًا سيحدث في العائلة: إن «وافو» و«أودوش» من امرأةٍ واحدة؛ أي إنهما شقيقان، ومن حسن الحظ أنكَ أنتَ و«أوبيكا» لم تُفكِّرا في ذلك.
قال «إيدوجو»: لكنك تعرف أن «أوبيكا» .. ربما يستيقظ غدًا صباحًا ويُغيِّر رأيه.
تحدَّث الرجل العجوز مع ابن صديقه مدةً طويلة، كان «إيدوجو» قد أعلن خلالها عزمه على الانصراف ثلاث مرات أو أربعًا، وعندما نهَض في المرة الأخيرة وعدَه «أكيوبو» بالتحدث إلى «إيزولو» وقد شعَر بالشفقة وقليلٍ من الازدراء حيال الشاب .. لماذا لا يجرؤ على القول بأنه كان يريد أن يصبح كاهنًا بدلًا من التخفي وراء «أودوش» و«أوبيكا»؟ ألهذا لم يفكِّر به «إيزولو» وتمنَّى فقط أن يدعُوه الوحيُ في يومٍ ما.
فكَّر «أكيوبو» وقال: لم يكن يتطلَّب وحيًا لكي يعرف أنه ليس بالرجل الذي يصلُح رئيسًا للكهنة .. إن الذُّرَة الناضجة يُمكِن التعرُّف عليها بمجرد النظر.
هكذا كان «أكيوبو» يشعُر بالأسف تجاه «إيدوجو»، وكان يعرف أن الابن الأول للرجل يسير للوراء، ويأتي الابن الأصغر في المقدمة لينال الشرف.
كان الصباح، وكانوا في طريقهم إلى الجدول .. لم تكن العروس قد شاهدَت كثيرًا ذلك الصديري الأبيض الذي يرتديه «أودوش»، فراحت تُراقِبه في اهتمام، وتفكِّر في ذلك الدين الجديد الذي يُمِده بمثل تلك المعجزات، حين لاحظَت «أوجوجو» اهتمامها همسَت في أذنها قائلة: إن المتحمِّس لذلك الدين قتل الثعبان الكبير وأكلَه.
كانت العروسُ مثل كل الناس في «أوموارو» قد سمعَت عن مغامرة «أودوش» مع الثعبان، ثم سألت بقلَق: هل قتلَه؟ .. قالوا لنا بأنه فقط وضَعَه في الصندوق!
كان لسوء الحظ أن «أوجوجو» واحدةٌ من القوم الذين لا يستطيعون أبدًا أن يهمسوا بصوتٍ خفيض، فتناهى إلى أسماع «أودوش» كل ما قالَته، ثم اندفع بسرعة إلى «أوجوجو»، وكما قال «وافو» إنه صفعها فوق وجهها، لكن «أوجوجو» ألقت بإنائها على الأرض، وهاجمت «أودوش» بالخلخال المعدني الذي ترتديه في رسغها لتقوية ضرباتها، فبادَلَها «أودوش» بصفعاتٍ قوية، وضربها في بطنها ضربةً قاسية بركبته، وكانت تلك الضربة الأخيرة بمثابة اتهام ﻟ «أودوش» من قِبل الناس الذين تجمَّعوا للمساعدة في فَض النزاع، لكن «أوجوجو» صاحت في وجه أخيها غير الشقيق قائلة: اقتلني، يجب أن تقتُلني، هل تسمعني يا من كنت تأكل الثعابين؟ يجب أن تقتُلني.
حاول الناسُ الإمساك بها فضربَت أحدَهم وخدشَت آخر، فقالت إحدى النساء في سخط: اتركها وشأنها، إذا أرادت أن تموت فدَعْها تموت.
وقالت امرأةٌ أخرى: لا تتكلمي هكذا، ألم تَرَ كيف ركلَها بقوة في بطنها حتى كاد يقتُلها؟
وقالت امرأةٌ ثالثة: ألم تَضرِبه هي؟
أجابت المرأة الثانية: لا، لم تفعل. إنه أحد أولئك الذين يصبحون شجعانًا عند رؤيتهم امرأة.
أيَّد بعضهم «أوجوجو»، واعتقد آخرون بأنها انتقمَت لنفسها، وطلب أولئك الآخرون من «أودوش» أن يمضي بعيدًا نحو الجدول، وألا يستمع إلى إساءات «أوجوجو»، أو حتى محاولة الرد عليها.
قالت «أويليدي» التي ضربَتْها «أوجوجو»: إن نسل الصقر لا يفشل في التهام فرخ الدجاج .. إنها تُشبِه أمها في عنادها.
كانت «أوجينيكا» ذات وجهٍ عبوس، وعلى خلافٍ قديم مع «أويليدي»، فأجابت قائلة: أكان يجب أن تُشبِه أمك؟
وقال الناس إن «أوجينيكا» برغم مظهرها القاسي، فإن قوَّتها تتمثَّل فقط في فمها، وإن طفلًا يبلغ من العمر سنتَين لقادر على إسقاطها ميتةً على الأرض.
قالت «أويليدي»: لا تفتحي فمكِ القذِر أمامي، هل تسمعينني؟ وإلا فسوف أضرب بذور الأوكرو خارج فمك، أم أنك لا تتذكَّرين؟
صاحت «أوجينيكا»: اذهبي وتناوَلي الخِراء.
وقفَت كلتاهما على أصابع قدمَيها، كل واحدة في مواجهة الأخرى، وقد وجَّهَت كل واحدةٍ منهما صدرَها للأمام.
سألت امرأةٌ أخرى: ماذا حدث مع هاتَين المرأتَين؟ ابتعدا عن الطريق واتركاني أَمُر.
عادت «أوجوجو» إلى المنزل وكانت تبكي ما تزال، وكان «وافو» و«أودوش» قد رجعا مبكِّرَين عن العادة، لكن أم «أوجوجو» لم تسألهما عن الآخرين، وعند رؤيتها «أوجوجو» تساءلَت قائلة: ماذا حدث؟
تزايَد مخاط «أوجوجو»، وساعدَتْها أمها في تنزيل إناء الماء وهي تسأل مرةً ثانية: ماذا حدَث؟
دخلَت «أوجوجو» الكُوخ، ثم جلسَت على الأرض، ومسحَت دموعها، وراحت تقص حكايتها. تطلَّعَت «ماتيفي» إلى وجه ابنتها، ورأت بصماتِ أصابع «أودوش» الخمسة، فارتفع صوتُها احتجاجًا وهي تنتحب بصوتٍ عالٍ.
كان «إيزولو» في طريقه لدخول البيت وهو يمشي على مهلٍ قَدْر استطاعته، سأل عن كل تلك الجلبة، فارتفع نحيب «ماتيفي»، ثم قال لها بصيغة الأمر: أغلقي فمك.
زعقَت «ماتيفي» وقالت: تقول لي بأن أغلق فمي وقد ضرب «أودوش» ابنتي عند الجدول حتى الموت، كيف أغلق فمي عندما تعود ابنتي جثة؟ اذهب وانظر إلى وجهها.
– قلتُ لكِ بأن تغلقي فمك، هل أنت مجنونة؟
توقَّفَت «ماتيفي» عن الصراخ، ثم تأوَّهَت وقالت: لقد أغلقتُ فمي ولكن لماذا أغلق فمي؟ هل لأن «أودوش» هو ابن «أوجوي»؟ نعم .. فلتخرس «ماتيفي» إذن.
كانت الزوجة الأخرى جالسةً في كُوخها لا تُبالي، فهُرعَت من كُوخها وصاحت قائلة: لا تجعل أحدًا يذكُر اسمي.
ثم أضافَت مؤكدةً ما قالَتْه: قلتُ بألا يذكر اسمي أحدٌ على الإطلاق.
قال لها «إيزولو»: أنتِ .. أغلقي فمك؛ فلم يذكر اسمكِ أحد.
– ألم تسمعها وهي تذكُر اسمي؟
– حتى لو فعلَت، اذهبي واقفزي على ظهرها إذا استطعتِ.
تذمَّرَت «أوجوي»، وتأوَّهَت، ثم عادت إلى كوخها.
– «أودوش»!
– أ … ي … ﻫ.
– تعالَ هنا.
خرج «أودوش» من كُوخ أمه، فسأله «إيزولو»: لماذا كل هذا الصخب؟
– اسأل «أوجوجو» وأمها.
– إنني أسألك أنتَ ولا تعلِّمني إلى من أتوجه بسؤالي، وإلا فإن الكلب سيلعق عينَيكَ هذا الصباح .. متى تعلَّمتُم أيها الناس أن تقذفوا بالكلام في وجهي؟
ثم تغيَّرَت طريقة «إيزولو» في الكلام، وأصبح كالنمر الجاثم حين قال: إذا فتح أحدكم فمه مرةً ثانية فسوف أعلِّمه ألا يتحدث عندما تتحدَّث الأرواح ذات الأقنعة.
تطلَّع حوله مرةً أخرى لئلا يتجرأ أحد على فتح فمه، لكنَّ أحدًا لم يتفوَّه بأي كلمة، وساد الصمت، فاستدار «إيزولو» عائدًا إلى كوخه، وكان الغضب الذي انتابه قد أفقده اهتمامه بما حدَث.
كان الموسم قفرًا، وكثيرٌ من الأجران كانت فارغة إلا من بذور اليام، فانتهز الجميع الفرصة للفوز بلقمة أو كسرة أو شراب قرعة في منزل «إيزولو» .. كان «أكيوبو» يعرف بأن كثيرًا من الناس سيأتون، فحاول الانتهاء من موضوع «أودوش» في وقتٍ قصير، مما تسبب في عدم إصدار حكمٍ سليم، وكان من الأفضل له أن ينتظر يومًا آخر يتبادل فيه الحديث مع «إيزولو».
استمَع إليه «إيزولو» في هدوء وهو يفركُ كلتا يدَيه من الانفعال، ثم قال ﻟ «أكيوبو» عندما توقَّف عن الحديث: هل انتهيتَ؟
– نعم .. لقد انتهيتُ.
لم يكن «إيزولو» ينظر إلى ضيفه، وإنما كان يتطلع بغموضٍ ناحية العتبة حين قال: إنني أحيِّيك، ولا أستطيع إلقاء اللوم عليك لأنك لم تقل شيئًا، وكان بإمكاني أن ألومكَ لو أنك قلتَ شيئًا، إنني لستُ أعمى ولا أخرس، وأعرف أن «أوموارو» منقسمة وتعاني اضطرابًا شديدًا، وأنها في حالة من عدم الاستقرار، كما أعرف أن بعض الناس يعقدون اجتماعاتٍ سرية للقول بأنني أنا السبب فيما يحدث من متاعب، ولكن لماذا أجد نفسي غير قادر على النوم؟ مثل تلك الأشياء ليست جديدةً بل هي موجودةٌ حيث يُوجَد الناس .. عند سقوط الأمطار القادم ستكون قد مضت خمسة أعوام على ذلك الاجتماع السري الذي عقَده الرجل في بيته، وقال فيه إن «أولو» قد فشل في حربهم المخجلة، وإنهم كانوا سيُسقِطونه عن عرشه، وها نحن ما نزال ننتظر .. «أولو»، وإنَّا ما زلنا ننتظر أن يأتي هذا الرجل ويُسقِطنا. وما يُقلِقني أن ذلك البدين المنتفخ ذا الخصية المتدلية الفارغة قد نَسِي نفسه عندما امتلك ثروةً دخلَت بيته بطريق الخطأ .. لا، إن ما يقلقني هو ذلك الإله الجبان ﻟ «إيديميلي»، الذي يختفي خلفه ويساعده على المضي.
قال «أكيوبو»: إنها الغَيْرة!
– الغَيْرة! من أي شيء؟ إنني لستُ أول «إيزولو» في «أوموارو»، وهو ليس أول «إيزيديميلي»، لم يكن والده أو جده وكل الآخرين غيورين من آبائي فلماذا هو كذلك؟ لا، إنها ليست غيرة ولكنها حماقة؛ فهو من النوع الذي يضع رأسه داخل الإناء. وإذا كانت هي الغَيرة فدعه يمضي في طريقه؛ فالذبابة التي تحُطُّ فوق رابية من الروث تستطيع أن تتبختر حول الرابية كما تشاء، ولكنها لا تستطيع أن تحرِّك الرابية.
قال «أكيوبو»: الجميع يعرفون هذا، ونعرف بأنهم إذا عرفوا الطريق إلى «أني مو» لتَشَاجروا مع أجدادنا من أجل إعطاء منصب كاهن «أولو» إلى «أوموشالا» وعدم إعطائه لقريتهم الخاصة .. لا، ليس هذا ما أعنيه، لكن ما تقوله العشيرة هو ما يقلقني.
– ومن قال للعشيرة ما يقولون؟ ماذا تعرف العشيرة؟ أنت يا «أكيوبو» تجعلني أضحك، لقد كنتَ أنت هنا أو إنك لم تكن قد وُلِدتَ بعدُ، عندما خاضت العشيرة حربًا ضد «أوكبيري» من أجل قطعة من الأرض هي ليست ملكًا لنا، ألم أقف حينئذٍ لأقول ﻟ «أوموارو» ما حدث؟ ومن كان على صوابٍ في النهاية؟ وهل حدَث ما قلتُه أم لم يحدث؟
لم يُجب «أكيوبو» بشيءٍ، فاستطرد «إيزولو» قائلًا: كل ما قُلتَه قد حدث.
قال «أكيوبو»: أنا لا أشك في ذلك.
وفي نوبة من المَلَل المفاجئ أضاف: لكنك نسيتَ شيئًا واحدًا، لا يوجد رجلٌ مهما كانت مكانتُه يستطيع أن يكسب العدالة ضد العشيرة، أنت تعتقد أنك فعلتَ ما فعلت بشأن الأرض المتنازَع عليها، ولكنكَ على خطأ. إن «أوموارو» دائمًا ستُردِّد بأنكَ كنتَ خائنًا لهم أمام الرجل الأبيض، وسيقولون بأنك تخونهم اليوم مرةً ثانية؛ لأنك أرسلتَ ابنكَ للمشاركة في تدنيس الأرض.
لم يكن «أكيوبو» متأكدًا من إجابة «إيزولو»، ولكنه لم يتوقع أبدًا تلك النوبة من الضحك التي انتابَتْه، فأصبح خائفًا وقلقًا، كمن يواجه رجلًا مجنونًا يضحك في طريقٍ منفرد .. كان شعورًا غريبًا من الخوف ذلك الذي تملَّك «إيزولو» ولم يتمكَّن من معرفته؛ فالكاهن لا سبيل إلى معرفته، وحتى أبناؤه لا يعرفونه.
قال «إيزولو» مرةً أخرى: لا تجعلني أضحك، هكذا قد خُنتَ «أوموارو» لصالح الرجل الأبيض؟ دعني أسألك سؤالًا واحدًا .. من الذي جاء بالرجل الأبيض إلى هنا؟ هل كان «إيزولو»؟ لقد حاربنا إخوتنا في الدم من «أوكبيري» لأجل قطعة من الأرض ليست ملكًا لنا، وأنت تلوم الرجل الأبيض لدخوله هذه الأرض، ألم تسمع بأن أخوَين قاتلا رجلًا غريبًا كان يجني حصادَه؟ كم عدد الرجال البيض الذين اشتركوا في تدمير «آبام» هل تعرف؟ خمسة، ستة …
رفع يده اليمنى إلى أعلى مشيرًا بأصابعه الخمسة ثم استطرد: خمسة. وهل تعتقد الآن بأن خمسةً من الرجال — حتى لو أن رءوسهم تصل إلى السماء — يستطيعون اكتساح قبيلةٍ بأكملها؟ مستحيل، حتى لو استخدم الرجال البيض كل قوَّتهم وسِحرِهم، فلا يستطيعون أن يقهروا كل «أولو» و«إيبو»، إلا لو حدث ذلك بمساعدتنا نحن .. كيف عرفوا الطريق إلى «آبام»؟ إنهم لم يُولَدوا هناك فكيف إذن عرفوا الطريق؟ نحن قد ساعدناهم في معرفة الطريق وما زلنا نساعدهم، وهكذا يا صديقي لا يجب على أي شخصٍ أن يأتي لي كي يشكو من أن الرجل فعل هذا أو فعل ذلك .. إن الرجل الذي يدخل كُوخه بحزمةٍ من الحطب مليئةٍ بالنمل لا يجب أن يتذمَّر عندما تزوره السحالي!
قال «أكيوبو»: لا أستطيع مجادلتَك فيما تقول، لقد أخطأنا كثيرًا في الماضي، ولا ينبغي أن نستمر في ممارسة الأخطاء .. نعرف الآن أخطاءنا ونستطيع إصلاحها، كما نعرف من أين بدأَت تتساقط علينا الأمطار.
قال «إيزولو»: لستُ متأكدًا تمامًا، ولكن يجب ألا تنسى أبدًا أننا بأنفسنا قد ساعدنا الرجل الأبيض في معرفة الطريق إلى بيتنا، ثم قدَّمنا له مقعدًا ليجلس عليه، وإذا أردنا له اليوم أن يرحل بعيدًا، فعلينا أن ننتظر حتى يتعب من زيارته، أو يجب علينا أن نعمل على طرده، فهل تعتقد أنك قادرٌ على طرده بإلقاء اللوم على «إيزولو»؟ عليكَ بالمحاولة، وحين أسمعُ في يومٍ ما أنك نجحتَ فسوف أقدِّم لك التحية، وسأضع يدي في يدك، أما أنا فلديَّ طريقتي الخاصة التي أتبعها .. أنا أستطيع رؤية الأشياء في نفس اللحظة التي يُصاب فيها الآخرون بالعمى؛ ولذلك فإنني معروف، أو فوق معرفة البشر؛ حيث لا سبيل إلى معرفتي. أنت يا «أكيوبو» صديقي الذي يعرف إن كنتُ أنا لصًّا أو مجرمًا أم أنني رجلٌ شريف، لكنك لا تستطيع معرفةَ نوعِ قرعات الطبول التي يرقص عليها «إيزولو»، إنني أستطيع رؤية الغد. وهكذا يُمكِنُني أن أشير إلى أهل «أوموارو» بأن يفعلوا الأشياء التي تعُود عليهم بالفائدة. لقد كنتَ تعرف والدي الذي كان كاهنًا من قبلي، وتعرف أيضًا جدي حتى لو كانت معرفةً قليلة.
هزَّ «أكيوبو» رأسه بالموافقة، فأضاف «إيزولو»: ألم يضع جدي نقطةً فاصلة في «أوموارو» حين نهض بكل هيبته، وأعلن بأننا لن نحتاج إلى مزيد من تقسيم الوجوه؟!
قال «أكيوبو»: لقد فعل ذلك.
– وبماذا أجابت «أوموارو»؟ .. لقد لعنوه وقالوا بأن رجالهم يشبهون النساء، وتساءلوا عن كيفية أن يضع الرجل قوة احتماله تحت الاختبار، واليوم من يسأل نفس هذه الأسئلة؟
وافق «أكيوبو» موافقةً كاملة على كل ما قاله «إيزولو»، مما جعله لا يخاف من معارضته، فقال: لا شك فيما تقول، ولكن إذا كان حقيقةً هو ما تقول فإن جدَّك لم يكن وحيدًا في ذلك الصراع؛ فلقد قيل إن عدد الذين كانوا في «أوموارو» ضد تلك النقطة الفاصلة كانوا أكثر.
– هل أخبرك والدك بالقصة هكذا؟! .. لقد سمعتُ عكس ذلك. وعلى أية حالٍ فإن الشيء المهم هو أن رئيس الكهنة كان يقودهم وكانوا هم يتبعونه، وإذا كانوا قد قالوا الكثير في ذلك الشأن فماذا عن الأحداث التي وقعَت في عهد أبي؟ .. أنتَ مثلًا لم تكن طفلًا عندما قضى أبي على تلك العادة، التي كانت تجعل من أي طفلٍ يُولَد من أرملةٍ عبدًا إلا إذا …
– لستُ أنا بالرجل الذي يجادلك في أيٍّ من تلك الأمور التي تتحدث فيها يا «إيزولو». إنني صديقك ويحق لي أن أتحدَّث معك كما أحب .. يجب أن أتذكَّر دومًا أن نصفك إنسان والنصف الآخر روح، وما تقوله عن جدك وأبيك حقيقي تمامًا، لكن ما حدث في عصرهما وما يحدث اليوم هما ليسا نفس الشيء وليس بينهما تشابه من أي نوع. إنَّ جدَّك وأباك لم يفعلا ما فعلاه من أجل راحة الرجل الأبيض.
شعَر «إيزولو» بغضبٍ حاد، لكنه ظل متماسكًا وهو يقول: لا تجعلني أضحك مرةً أخرى، ما قولك في شخصٍ جاء إليكَ وأخبركَ أن «إيزولو» أرسل ابنه للالتحاق بدينٍ غريب من أجل راحة رجلٍ آخر؟ قلتُ لك ألا تضحكني وهل لا بد أن أخبِرك عن سبب التحاق ابني بدينهم؟ فلتستمع إذن.
إن المرض الذي لا يعرفه أحدٌ من قبلُ لا يمكن معالجته بالأعشاب التي نستخدمها كل يوم، عندما نريد عمل حجاب فإننا نبحث عن حيوان يكون دمه مساويًا لقوته، فإن لم تكن الدجاجة فإننا نبحث عن الماعز أو كبش الضأن، وإن لم يكن ذلك كافيًا فإننا نرسل في طلب ثور، ولكن أحيانًا يكون الثور أيضًا غير كافٍ فنبحثُ عندئذٍ عن إنسان، هل تعتقد أن ما نريد سماعه هو صوت صرخات الموت وهو يُكركِر داخل الدم؟ لا يا صديقي، إننا نفعل ذلك لأننا قد وصلنا إلى النهاية الأكيدة للأشياء، كما نعرف أنه ليس الطعام ولا الماعز ولا حتى الثور. لقد أخبرنا آباؤنا بأنه قد يحدُث لجيلٍ ما أن يندفعوا فيما وراء نهاية الأشياء فتتكسَّر ظهورهم ويعلقوا فوق النار، وإذا ما حدث ذلك فربما يُضحُّون بدمائهم، ذلك ما كان حكماؤنا يعنونه عندما قالوا بأن الرجل الذي لا يملك مكانًا يضع فيه يده مؤيدًا فإنه يضعها فوق ركبته، هكذا عندما كان يندفع أجدادنا فيما وراء نهاية الأشياء لم يكونوا يُضحُّون بالغريب، بل بأنفسهم، وكانوا يصنعون علاجًا عظيمًا يَدْعونه «أولو».
طرقع «أكيوبو» أصابعه، وحرَّك رأسه إلى أعلى وأسفل وهو يتمتم مع نفسه: هكذا تكون التضحية! وهكذا كان «إيدوجو» على حقٍّ رغم أنه كان يبدو أحمقَ في وقتها.
توقَّف لحظة، ثم استطرد بصوتٍ مسموع: وماذا يحدث لو أن هذا الولد الذي تُضحِّي به أصبح مختارًا من «أولو»؟
– دع هذا للإله؛ فعندما يحين ذلك الوقت فإن «أولو» لن يكون في حاجة إلى نصيحتك أو مساعدتك. وإذن فلا تقلَق كثيرًا طوال الليل من أجل ذلك.
– أنا لا أقلق، ولماذا أقلق؟ إن أرضي غارقة في مشاكلها الخاصة، فلماذا أحمل معي مشاكلك التي لن أجد لها مكانًا أو وقتًا لأفكر فيها؟ ولكن يجب أن أكرِّر ما قلتُه من قبلُ، وإذا لم تكن راغبًا في الاستماع فعليكَ بإغلاق أذنَيك. عندما تحدَّثتَ عن رفضك الحرب ضد «أوكبيري» لم تكن بمفردك؛ فأنا أيضًا كنتُ رافضًا لتلك الحرب، وكذلك كان آخرون، ولكنك عندما ترسل ابنكَ للغُرباء كي يشترك في تدنيس الأرض فإنك ستكون بمفردك. ضع علامةً على هذا الحائط من أجل أن تتذكَّر أنني قلتُ لك هذا الكلام.
كان «إيزولو» متعجرفًا وهو يقول: من الذي يتحدث عن تدنيس أرض «أوموارو»، أنت أم أنا؟ وفيما يتعلق بأنني سأكون بمفردي أفلا تعتقد بأنه شيءٌ مألوف بالنسبة لي مثل الأجساد الميتة بالنسبة للأرض؟ صديقي، لا تُضحِكني!
عندما دخل «وافو» كوخ والده كان «أكيوبو» يقول إن «إيزولو» نصف رجل ونصف روح، فلم يفهم «وافو» عندئذٍ الخلاف القائم بين الرجلَين، غير أنه أبصر تلك النظرات الخطيرة المتبادلة بينهما. كانت نظراتٍ متبادَلة ومتساوية لم تُسفِر عن شيء. وهكذا أصابته الدهشة لما طلب منه «إيزولو» أن يأتي بزيت النخيل من عند أمه .. وضع «إيزولو» سلته المستديرة أمامه، وشيءٌ ما كان يتدلى من غطاء السلة الموضوعة فوق قرمة من الخشب المحترق. وكان قميص «إيزولو» الرسمي المصنوع من قماش الرافيا وإناءان وقليلٌ من أعواد الذرة ذات النوع الجيد قد أصبحَت جميعُها سوداء من الدخان.
فتَح «إيزولو» السلة المستديرة، وتناول أرجل الماعز المغلية، وقدَّم ﻟ «أكيوبو» قطعةً كبيرة وأخرى صغيرة جدًّا لنفسه.
قال «أكيوبو»: أعتقد أنني سأحتاج لشيءٍ ما أطوي فيه هذه القطعة الكبيرة.
أرسل «إيزولو» ابنه «وافو» لإحضار قطعة من أوراق الموز ووضْعِها فوق الخشب المحترق بلا لهب حتى ذابت وفقدَت طراوتَها، ثم مرَّرها إلى «أكيوبو» الذي قسَّم اللحم إلى نصفَين، وطوى النصف الأكبر في ورق الموز ووضَعَه جانبًا في حقيبته، ثم شرع في تناوُل النصف الآخر غامسًا إيَّاه في زيت النخيل المتبَّل بالفلفل.
قدَّم «إيزولو» قطعةً صغيرة من نصيبه إلى «وافو»، وألقى ببقيتها في فمه. ظلا يأكلان فترةً طويلة في صمت. وعندما بدآ يتحدثان من جديد كان الحديث عن أشياءَ أقلَّ شأنًا وأخفَّ وطأة.
اقتلَع «إيزولو» عودًا من المكنسة المجاورة له على الأرض، ثم أعادها مائلةً إلى الحائط، وكان من اليسير عليه في مكانه هذا رؤية كل من يقترب من أرضه وأرض ولدَيه. وهكذا كان أول من لاحظ وصول رسول البلاط وحُراسه.
اقترب الغريبان من عتبة «إيزولو»، فصفَّق الحارس بيدَيه قائلًا: هل أصحاب البيت موجودون؟
ساد صمتٌ قصير قبل أن يجيب «إيزولو»: ادخل وسوف ترى.
انحنى الحارس وهو يعبُر رفرف السطح المنخفض ودخل ثم تَبِعه الآخر. رحَّب بهما «إيزولو»، وطلب منهما الجلوس، جلس رسول البلاط فوق السرير الطيني، وظل حارسه واقفًا ثم قدَّم تحياته ﻟ «إيزولو»، وأخبره أنه ابن «وديكا» في «أوميونيورا».
قال «أكيوبو»: وهكذا بدا لي فَور دخولك أنني رأيتُ وجه والدك.
وقال «إيزولو»: تمامًا، إن أي شخصٍ يملك عينَين يعرف على الفَور بأنه يرى «وديكا»، لكن صديقك يبدو قادمًا من بعيد.
– نعم، نحن قادمان من «أوكبيري».
سأل «إيزولو»: هل تعيش إذن في «أوكبيري»؟
أجاب «أكيوبو»: نعم، ألم تسمع عن بعض شبابنا الذين يعيشون مع الرجل الأبيض في «أوكبيري»؟
كان «إيزولو» قد سمع بذلك، لكنه تظاهر بعدم معرفته، ثم تساءل: حقًّا؟ أنا لا أسمع عن أشياءَ كثيرةٍ هذه الأيام، أنت إذن جئتَ كل هذا الطريق من «أوكبيري» هذا الصباح، وها أنت هنا الآن؟ شيءٌ جميل أن تكون قويًّا وشابًّا، كيف حالُ أقرباء أمي؟ أنت تعرف أن أمي من «أوكبيري».
– عندما رحلنا كان كل شيءٍ على ما يُرام، السعادة والضحك وما حدث لا أستطيع قوله.
– ومن يكون رفيقك؟
– إنه المبعوث الرئيس للرجل الأبيض الكبير، مُحطِّم البنادق.
طرقَع «إيزولو» أصابعه، وأومأ برأسه قائلًا: إذن فهو مبعوث «وينتابوتا» .. هل هو رجل «أوكبيري»؟
قال الحارس: لا، لكن «أوموارو» هي قبيلته.
– هل كان «وينتابوتا» بخير عندما رحلتَ؟ لم نعُد نراه في هذه الأنحاء منذ وقتٍ طويل.
– إن هذا الرجل المبعوث هو عينُه التي يرى بها هنا.
لم يكن المبعوث الرئيس بينه وبين نفسه سعيدًا ببداية الحوار، وكان غاضبًا من هذا الرجل الذي يتظاهر بالكبرياء والألفة مع ضابط المقاطعة، وقد بذل مجهوداتٍ يائسة لإثبات أهميته.
قال «إيزولو»: أيها الغريب، مرحبًا بك، ما اسمك؟
أجاب الحارس: إنه «جيكوبو»، وكما قلت فإن أحدًا لا يستطيع رؤية محطِّم البنادق دون موافقته، لا أحد في «أوكبيري» يجهل اسم «جيكوبو». ولقد سألَني محطِّم البنادق أن أصحبه في هذه الرحلة؛ لأنه غريبٌ على هذه المنطقة.
حدَّق «إيزولو» تحديقًا ذا معنًى في اتجاه «أكيوبو»، ثم قال: نعم، هذا ما كان يجب أن يكون. إن الرجل الأبيض يرسل رجلًا من «أوموارو» بصحبة رجلٍ من «أوموارو» كي يُبيِّن الطريق للرجل الذي هو من «أوموارو».
ضحك «إيزولو» مستطردًا: ماذا قلتُ لكَ يا «أكيوبو»؟ حكماؤنا كانوا على حق عندما قالوا بأن الكيفية التي دبَّرَت بها الأرواحُ موتَ الرجل لا تهم.
تبادَل الرجلان النظرات في حَيْرة، ثم قال ابن «وديكا»: هو كذلك، لكننا لم نأتِ في مهمة موت.
–لا، أنا لم أقل ذلك، لكنها فقط طريقة في الحديث، كنا نقول إن الحية لا تكون أبدًا أطول من العصا التي نقيسها بها، وأنا أعرف أن «وينتابوتا» لا يرسل إلى «إيزولو» مهمة موت؛ فنحن أصدقاء، وإنما ما قلتُه هو ذلك الغريبُ الذي لم يستطع أن يأتي إلى «أوموارو» بدون أن يُبيِّن له الطريقَ أحدُ أبناء هذه الأرض.
قال الحرس: هذا حقيقي وها نحن قد جئنا …
قاطعه المبعوث الرئيس: صديقي، لقد قمتَ الآن بواجبك الذي أرسلوك من أجله، أما البقية فهي لي، فضَع لسانك داخل الجراب إذن.
– سامحني، ها أنا ذا خارج الموضوع.
أرسل «إيزولو» «وافو» لإحضار الكولا من عند «ماتيفي» في نفس اللحظة التي دخل فيها كلٌّ من «أوبيكا» و«إيدوجو». كانا قد سمعا بذلك الرسول القادم من عند الرجل الأبيض، وعرفا بأنه موجودٌ في كوخ أبيهم.
أحضَر «وافو» جَوزة الكولا، وتم توزيعها على الحاضرين، الذين قاموا بتكسيرها، فقال «إيزولو»: هل عاد أولئك الذين أرسلتهم إلى السوق من أجل النبيذ؟
أجاب «أوبيكا»: لا.
– كنتُ أعرف أنهم لم يعودوا. إن الرجل الذي يريد شراء النبيذ لا يظل في البيت حتى يُباع كل النبيذ في السوق.
كان «إيزولو» ما يزال مائلًا بظهره على الحائط، وممسكًا بقدمٍ واحدة بعيدًا عن الأرض قليلًا، ويداه متشابكتان فوق ذقنه.
خلع مبعوثُ البلاط طربوشه، وألقى به فوق ركبته، فتلألأ رأسه الحليق من العرق، وخلَّفت حافة الطربوش دائرة حول الرأس، ثم تنحنح وتكلَّم لأول مرة: أحيِّيكم جميعًا.
ثم تناوَل من جيبه كتابًا صغيرًا جدًّا، وفتحه بطريقة الرجل الأبيض، وقال: من منكم يُدعى «إيزولو»؟
كان متطلعًا في الكتاب ما يزال، ثم رفع عينَيه متطلعًا حول الكوخ غير أن أحدًا لم يتحدَّث. كانت الدهشة قد أصابت الجميع، وكان «أكيوبو» أوَّل من أفاق من دهشته حين قال: انظر حوالَيكَ، وعليك أن تُحصيَ أسنانكَ بلسانك. اجلس يا «أوبيكا» ويجب أن تتوقع بأن الغرباء يتحدَّثون من أنوفهم.
سأله «إيزولو»: قلتَ بأنك رجلٌ من «أوموارو»؟ هل لديكم كاهن ورجالٌ كبار هناك؟
– لا بد أنك فهمتَ السؤال بطريقةٍ خطأ، إن الرجل الأبيض له طريقتُه الخاصة في عمل الأشياء؛ فهو قبل كل شيء يسألك عن اسمك.
قال «أوبيكا» بقليلٍ من الإحساس: كان يجب أن تعرف بأنكَ لستَ في بيت الرجل الأبيض، ولكنكَ في «أوموارو»، وفي بيت كبير كهنة «أولو».
– كفى يا «أوبيكا»، لقد سمعت «أكيوبو» يقول الآن إن الغرباء يتحدَّثون من أنوفهم. هل تعرف أنهم كان لديهم رئيس للكهنة في أرضهم، أو في أرض الرجل الأبيض؟
– أخبِروا هذا الشاب أن يحذَر وهو يتحدَّث معي. إذا لم يستمع لي فعليه أن يسأل هؤلاء الذين يستمعون.
– اذهَب وتناوَل الخِراء.
قال «إيزولو» بصوتٍ كالزئير: كفى، اصمت، لقد جاء هذا الرجل كل هذا الطريق من أرض أمي إلى بيتي، وأرفض أن يسيء إليه أحد، بالإضافة إلى أنه مجرَّد مبعوث، وإذا لم تُعجِبنا رسالته، أو لم نقبل ما جاء بها، فإن صراعنا لن يكون معه، ولكن مع الرجل الذي أرسلَه.
قال «أكيوبو»: تمامًا.
وقال الحارس: ولا شيء أكثر من هذا.
استطرد «إيزولو» موجهًا حديثه إلى المبعوث: لقد سألتَ سؤالًا وسوف أجيبك الآن. إنني أنا «إيزولو» .. هل أنت راضٍ الآن؟
– شكرًا، الكل هنا رجال، لكننا لا نعرف الرجال من الأولاد إلا حين نفتح أفواهنا. لقد تحدثنا كثيرًا بفائدة وبغير فائدة، وكانت بعض الكلمات توحي بسلامة العقل وبعضها الآخر كان يوحي بحالة من السكر الشديد، ولقد آن الأوان للحديث عن سبب مجيئي. إن الضفدعة لا تمشي بالنهار إلا إذا كان ثمَّة شيءٌ وراءها، وأنا لم أقطع كل هذا الطريق من «أوكبيري» من أجل أن أمدِّد قدمي. إن الحارس قريبكم أخبركم بأن الكابتن «وينتابوتا» قد كلَّفني بكثيرٍ من شئونه، وهو كما تعرفون رئيسٌ لكل الرجال البيض في كل هذه الأجزاء، وأنا أعرفه منذ أكثر من عشر سنوات، وكل الرجال البيض يرتعشون أمامه.
ابتسم في سخرية وهو يستطرد: عندما أرسلَني إلى هنا لم يُخبرني أن له صديقًا في «أوموارو»، ولكن إذا كان ما تقولُه صوابًا فسوف نرى غدًا عندما تصحبُني لرؤيته.
قال «أكيوبو» مُحذِّرًا: عن أي شيءٍ تتحدث؟
كان مبعوث البلاط مبتسمًا ما يزال، وكانت ابتسامته تُوحي بالتهديد حين قال: نعم، إن صديقك «وينتابوتا» (نطق الاسم بطريقةٍ غريبة) يأمُرك بالمثول أمامه غدًا صباحًا.
تساءل «إيدوجو»: أين؟
– في أي مكانٍ تعتقد سوى مكتبه في «أوكبيري»!
قال «أوبيكا»: إن التابع لرجلٌ مجنون.
– لا يا صديقي وإنما أنت هو المجنون، وعلى أية حالٍ فإن «إيزولو» يجب أن يُعِد نفسه في الحال، ومن حسن الحظ أن الطريق الجديد يجعل الكسيح مُتعطِّشًا للمشي. لقد رحلنا هذا الصباح عند الفجر، وبسرعة وصلنا إلى هنا.
– قلتُ إن هذا الرجل مجنون .. من …
قال «إيزولو»: إنه ليس مجنونًا، لكنه مجرد رسول، وعليه أن يقول رسالته كما هي، فلتَترُكْه حتى ينتهي.
قال الرسول: لقد انتهيتُ، ولكنني أسأل كل من يعرف هذا الشاب أن يقدِّم له النصيحة لصالحه.
– هل أنت متأكد بأنك انتهيتَ من رسالتك كاملة؟
– نعم، إن الرجل الأبيض لا يُطيل الكلام مثل الرجال السود.
قال «إيزولو»: أحيِّيك، وأرحِّب بك مرةً ثانية.
أضاف مبعوث البلاط. شيءٌ صغير نسيتُ أن أخبِرك به، إن كثيرًا من الناس ينتظرون لرؤية الرجل الأبيض فربما تُضطَر للانتظار في «أوكبيري» ثلاثة أو أربعة أيام قبل أن يأتي دورك، لكنني أعرف أن رجلًا مثلك لا يرغب في قضاء أيامٍ كثيرة خارج قريته، فإذا تعاملتَ معي بلباقة فسوف أسعى لمساعدتك كي تراه غدًا؛ فأنا أستطيع عمل كل شيء، فإذا قلتُ للرجل الأبيض أن يراك فسوف يراك، سيُخبِرك قريبك عن الطعام الذي أتناوَله.
ابتسم بعد الانتهاء من كلامه، ثم ارتدى طربوشه من جديد، وعندئذٍ قال «إيزولو»: ذلك شيء يسير، ولن يسبب خلافًا؛ فلستُ أعتقد أن ما سوف تضعه داخل هذا البطن الصغير سيكون أكثر من قُدرتي، وإذا كان كذلك فإن أقربائي هناك للمساعدة.
شعَر المبعوث بالغضب على إِثْر تلميح «إيزولو» بأنه صغير الحجم. توقَّف «إيزولو» عن الحديث وبدا كأنه مستمتع بغضب المبعوث، ثم استطرد: على أية حال يجب أولًا أن تعود وتُخبر الرجل الأبيض أن «إيزولو» لا يغادر كوخه، وإذا أراد أن يراني فعليه أن يأتي إلى هنا، إن ابن «وديكا» الذي جاء معك لتعرف الطريق يستطيع أيضًا أن يأتي معه.
قال المبعوث في دهشةٍ تُوحي بعدم التصديق: هل تعرف ما تقول يا صديقي؟
فسأله «إيزولو»: أأنت مبعوث أم لا؟ .. عُد من حيث جئتَ، وأخبر سيدَك برسالتي.
شعر «أكيوبو» بالخطر، فتدخل بسرعةٍ لإنقاذ الموقف: علينا بألا نتشاجر من أجل ذلك، ويجب أن نتناقش في هدوء.
قال «إيزولو» ساخطًا: عن أي شيءٍ نتناقش في هدوء؟ لقد أبلغتُ رسالتي، وهذا كل ما في الأمر.
استجاب المبعوث لما قاله «إيزولو»، وبادر بالخروج حين قال له «أكيوبو»: فقط، امنحنا بعض الوقت.
ثم قال للحارس: من الأجدَر أن تخرج معه.
لم يشترك «إيزولو» فيما عقب ذلك من مشاورات، وعندما عادوا إلى الكوخ كان «أكيوبو» هو الذي اقترح إرسال «إيدوجو»، وافق «إيزولو» على إرسال ابنه على أن يعود إليه بالرد؛ فليس من العادة في «أوموارو» أن يرفضوا النداء، وإنما قد يرفضون ما يطلبه النداء. إن «إيزولو» لا يريد أن يرفض نداء الرجل الأبيض، وها هو يُرسِل ابنه.
قال مبعوث البلاط: هل هذا هو ردُّك؟
أجاب «أكيوبو»: نعم، هو كذلك.
– لن أحمل هذا الرد.
فقال «أوبيكا»: إذن فعليك بالذهاب هناك إلى الدغل لتتناول الخِراء، هل ترى إلى أين يُشير إصبعي، هناك عند ذلك الدغل.
قال «أكيوبو»: لا أحد سيأكل الخِراء.
وأضاف قائلًا للمبعوث: لم أسمع قطُّ عن مبعوثٍ يختار نوع الرسالة التي يحملها، اذهب وأخبر الرجل الأبيض ما قاله «إيزولو»، أم أنك أنت الرجل الأبيض نفسه؟
تحرَّك «إيزولو» قليلًا، وابتعد عن الآخرين، وراح مرةً ثانية ينظف أسنانه بعُود المكنسة.