الفصل الخامس عشر
انتهى اليوم الأول والثاني والثالث دون خبرٍ يفيد بوفاة الكابتن «وينتربوتوم»، وتضارَبَت الأقوال في الإدارة الحكومية عن سمعة «إيزولو»، كما أن رفضه لقَبول عرض الرجل الأبيض أن يكون رئيسًا لديه قد تسبَّب في كثيرٍ من الكلام والتأويلات؛ لأن مثل هذا الفعل لم يحدث أبدًا في أي مكانٍ من أرض «الإيبو».
ربما كانت حماقةً من الرجل أن يرفض لقمة الحظ التي وُضعَت في فمه، إن لم تكن هذه اللقمة مرتبطةً بأن يكون الرجل مُضطرًّا إلى إظهار الاحترام.
كان «إيزولو» راضيًا عن الطريقة التي سارت بها الأمور، والتمس لنفسه هدنة مع الرجل الأبيض، واستطاع أن ينساه في ذلك الوقت، راح يستعيد أحداث الأيام القليلة الماضية؛ فلم يكن من اليسير نسيانها تمامًا، وتذكَّر بأن الرجل الأبيض «وينتابوتا» هو الذي أعلن منذ سنواتٍ قليلة أنه رجل الحقيقة في كلٍّ من «أوكبيري» و«أوموارو»، وهو أيضًا الذي نصحه بإرسال أحد أبنائه ليتعلم حكمة بني جنسه، وكل ذلك يفيد بأن الرجل الأبيض يُضمِر ارتياحًا خاصًّا وشعورًا طيبًا ﻟ «إيزولو»، ولكن ما قيمة هذا الارتياح والشعور الطيب الذي يقوده إلى هذا العار وتلك الإهانة؟ إن الزوجة التي تشعُر بفراغ الحياة تصرخ قائلة: أترُكُ زوجي يكرهني ما دام يُزوِّدني باليام كل مساء.
قال «إيزولو» لنفسه: ينبغي أن يُجيب «وينتابوتا» على أفعال مبعوثيه. قد يجد الرجل طريقه بمهارة في زحام السوق، لكن ملابسه قد تُوقِعه وتحطِّم البضائع الأخرى، وفي مثل هذه الحالة فإن الرجل — وليس ملابسه — يعمل على علاج ما أصابه.
ورغم كل شيءٍ فإن شعور «إيزولو» السائد الآن هو تضامنه مع الرجل الأبيض، وحتى هذه اللحظة لم يقل له كلمته الأخيرة. إن صراعه الحقيقي الآن مع شعبه، أما الرجل الأبيض فهو صديقُه وحليفُه.
شعَر بضيق ورغبة في القتال طوال فترة بقائه محتجزًا في «أوكبيري».
قليلٌ من الناس في «أوموارو» الذين صدَّقوا قصة رفض «إيزولو» لعرض الرجل الأبيض في أن يصبح الرئيس المفوض بينما سأل أعداؤه: كيف له أن يرفض ذلك الشيء الكبير الذي طالما خطَّط له طوالَ هذه السنوات؟
انتشَرَت القصة في كل أرجاء «أوموارو» عن طريق «أكيوبو» وآخرين، وسرعان ما انتشَرَت في كل القرى المجاورة.
تحدَّث «واكا» من «أومونيورا» عن القصة بازدراء، ولمَّا لم يعُد بمقدوره احتمالُ عدم تصديقها توقَّف عن تفسيرها، وقال: إن الرجل فخور إلى حد الجنون، وهذا يؤكد ما قلتُه مرارًا أنه ورث جنون أمه.
كان كل ما يقوله «واكا» عن «إيزولو» نابعًا من الحقد، إلا أن واقعة الجنون هذه تحوي قدْرًا من الحقيقة؛ فقد كانت «وانيك» أم «إيزولو» تعاني بالفعل من هجماتٍ تشنُّجيةٍ حادة، وكانت تَهْذي باستمرار.
رغم «واكا» والأعداء الآخرين الذين يُكِنُّون حقدًا ﻟ «إيزولو»، فإن كثيرًا من الناس كانوا يعرفون «إيزولو»، وأقدَم على زيارته في «أوكبيري» كثيرٌ من الناس كانوا في يومٍ واحد تسعة أشخاص، أحضر بعضٌ منهم ﻟ «إيزولو» اليامَ وبعضَ الهدايا الأخرى.
تم شفاء الكابتن «وينتربوتوم» بعد قضائه أسبوعَين في مستشفى «كيزا»، وسمحوا ﻟ «توني كلارك» برؤيته لمدة خمس دقائق، كانت الطبيبة «سافاج» واقفةً عند الباب ممسكةً بساعة جيب، وبدا الكابتن رغم ابتسامته كالجثة، وكان لون بشرته شديد البياض حين سأل قائلًا: كيف تسير الأمور؟
بصعوبة توقَّف «كلارك» عن الإجابة، ثم اندفع شارحًا قصة رفض «إيزولو» لمنصب الرئيس، وكأنه أراد تلخيص الإجابة قبل أن ينغلق فم «وينتربوتوم» للأبد.
– اترُكْه في غرفة الحراسة حتى يتعلم التعاوُن مع الإدارة.
اندسَّت «سافاج» بينهما بسرعة، وقالت بابتسامةٍ مزيفة: لا تتكلم كثيرًا.
أغلَق الكابتن «وينتربوتوم» عينَيه، وكان يبدو في حالةٍ سيئة، فشعَر «توني كلارك» بالذنب، وخرج بسرعة وهو يفكِّر .. في طريق عودته لمقر الإدارة تذكَّر بإعجابٍ السهولة التي استطاع بها «وينتربوتوم» العثور على الكلمات الصحيحة حتى في لحظاتِ مرضه (رفض التعاون مع الإدارة).
حاول «كلارك» مرةً أخرى عن طريق رئيس الكتَبة إغراء «إيزولو» بالموافقة، لكنه فشل، وهكذا أصبح الموقف غير مُحتمَل تمامًا .. هل يتحفَّظ عليه داخل السجن أم يُطلِق سراحه؟ إذا أطلق سراحه فإن سمعة الإدارة سوف تنحدر إلى الأرض خاصةً في «أوموارو»، حيث العداء القديم للإدارة والمسيحية. وطبقًا لما سمع «كلارك» فإن «أوموارو» قد هيَّأَت نفسها أكثر من أي قبيلةٍ أخرى في المقاطعة لمزيد من المقاومة السرية من أجل التغيير، فكيف سيكون التأثير على مثل هذه البلدة في حالة عودة ذلك العرَّاف الذي تحدَّى الإدارة.
ليس «كلارك» بالإنسان الذي يسجن رجلًا بدون تهمةٍ محدَّدة، خاصةً وأنه يبدو بأنهم يمارسون العدالة رغم أنهم ليسوا كذلك .. عَرف «كلارك» الآن أن شكوكه حقيقية، بعد أن كانت تبدو واهنة وغير مؤكَّدة، وأصبح قلقًا بشأن الاحتفاظ بالرجل في السجن؛ لأن ذلك يُعَد إهانة له في حال عدم توفُّر أسبابٍ لائقة .. كانت كل الأسباب واهيةً لا يمكن الاستناد عليها، وها هو «وينتربوتوم» الآن يقدِّم له سببًا لائقًا، ألا وهو رفض التعاون مع الإدارة .. إن الأكبر دائمًا يكون أكثر حكمةً ممن يصغره، وإن لم يكن كذلك فهو على الأقل يملك الدهاء، وهذا ما لا يمكن تجاوُزه.
ساءت حالة الكابتن «وينتربوتوم» بعد أن تماثل للشفاء، ولم يعُد مسموحًا لأحد برؤيته لمدة أسبوعَين آخرَين، وانتَشَر الخبر في أرجاء الإدارة بين الخدم والموظَّفين الأفارقة .. قيل إن الجنون قد لحق به، ثم تحدَّثوا عن إصابته بالشلل، ومع تلك الشائعات ارتفع صيتُ «إيزولو»، الذي أصبح السبب في سجنه معروفًا لدى الجميع، وأصبح مستحيلًا عدمُ التعاطف معه.
قال «جون وديكا»: إن «إيزولو» مثل الأفعى النافخة التي لا تلدغ أبدًا قبل أن تكشف أولًا عن مخالبها السبعة المميتة واحدًا بعد الآخر، والتي تلوم نفسها فقَط إن لم تجد الوقت المناسب الذي تَجري فيه من أجل حياتها.
حذَّر «إيزولو» الرجل الأبيض كثيرًا طوال فترة بقائه في السجن أربعة أسواقٍ متتالية، فلم يستطع أن يلومه أحد، وها هو اليوم الثاني والثلاثون منذ القبض عليه .. أرسل الرجل الأبيض بالمبعوثين ليتوسَّلوا إليه أن يغيِّر رأيه دون جدوى، حتى لم يعُد بمقدورهم مواجهتُه وجهًا لوجه. وانتشَرَت القصة في «أوكبيري»، وذات صباح كان سوق «إيك الثامن» منذ القبض على «إيزولو» جاء خبر بإطلاق سراحه، مما أصاب المبعوث الرئيسي ورئيس الكتَبة بالدهشة.
انفجَر «إيزولو» ضاحكًا، وقال: إذن فالرجل الأبيض قد أصابه الملَل؟
ابتسَم الرجلان وأعلنا موافقتَهما.
– كنتُ أعتقد أن بداخله الكثير.
قال رئيس الكتَبة: هكذا هو الرجل الأبيض.
– لكنني أفضِّل التعامل مع رجل يُعرِّض رأسه لسقوط الحجر الذي ألقى به عاليًا، وليس مع ذلك الذي يصيح من أجل القتال، ثم يرتعش ويتبرَّز على نفسه عندما يأتي القتال.
كان الرجلان يبدوان وكأنهما وافقا على ذلك أيضًا.
ثم سأل «إيزولو»: هل تعرف بأي شيء يَدْعونني أعدائي في بلدنا؟
وعندئذٍ دخل «جون وديكا» ليُعبِّر عن سروره، فاستطرد «إيزولو» وقال: اسأله .. سوف يُخبرك، إنهم يَدْعونني صديق الرجل الأبيض، ويقولون بأن «إيزولو» هو الذي جاء بالرجل الأبيض إلى «أوموارو»، أليس كذلك يا ابن «وديكا»؟
أجاب: هذا حقيقي.
ثم بدَت عليه علامات الاضطراب لتأييده شيئًا لم يسمع بدايته.
حطَّت الذبابة فوق ذقن «إيزولو» فقتلَها، وسقطَت على الأرض، ثم نظر إلى ورقة النخيل التي ضربها بها، ودعكَها في الحصيرة لإزالة ما لحق بها، وظل ينظر إليها قائلًا: يقولون إنني أخونُهم لصالح الرجل الأبيض.
ثم بدا وكأنه يحدِّث نفسه: لماذا أقول هذه الأشياء للغرباء؟
التزم الصمت، وقال «جون وديكا»: لا يجب أن نفكِّر كثيرًا في ذلك، كم من أولئك الذين سخروا منك يستطيع أن يواجه الرجل الأبيض كما فعلتَ؟
ضحك «إيزولو»: هل تَدْعو ذلك مواجهة؟ لا يا قريبي؛ فنحن لم نتواجه، وإنما فقط كنا نتعرَّف على بعضنا، سوف أعود مرةً أخرى، وقبل عودتي أريد مواجهة شعبي الذي أعرفه ويعرفني، أنا ذاهب إلى بلدي لأتحدَّى كل أولئك الذين أقحموا أصابعَهم في وجهي.
قال «جون وديكا» بطفولية: إنه تحدِّي «إينينك تولوكبا» للإنسان والطيران والحيوان.
قال «إيزولو» بسعادة: هل تعرفه؟
بدأ «جون وديكا» يُغنِّي الأغنية التي تحدَّى بها الطائر «إينينك» ذات مرة كل العالم.
ضحك الغريبان: إنه تمامًا مثل «وديكا».
وقال «إيزولو» بعد الانتهاء من الأغنية: إن من يُوقِع الآخر على الأرض سوف يجرِّده من خلخاله.
كان إطلاق سراح «إيزولو» المفاجئ هو أول قرارٍ كبير يقوم به «كلارك» الذي ازداد ثقةً في نفسه، لكونه أصبح قادرًا على اتخاذ القرارات.
جاء البريد بخطابَين كان يبدو أحدهما مخيفًا ومختومًا بالشمع الأحمر، من ذلك النوع من الخطابات الذي يشير إليه ضباط السياسة بأنه «سري للغاية»، تفحَّصَه جيدًا فعرف بأنه ليس موجهًا إلى «وينتربوتوم»، فأحَسَّ بأهميته وقدرته على الخوض في أسرار المجتمع المهمة، ثم ألقى برُزمة الخطابات جانبًا لقراءة الخطاب الصغير أولًا، الذي لم يكن يحمل سوى برقيات وكالة رويتر، التي أرسلَها ضمن بقية الخطابات العادية من أقرب مكتب تِلِغْراف، على بعد خمسين ميلًا، والتي كانت تحمل أخبارًا تُفيد بثورة الفلاحين الروس ضد النظام الجديد الذي رفض تنمية المحاصيل .. قرَّر أن يذهب بالخبر في نهاية اليوم إلى لجنة الملاحظة، في المكان الذي يتجمع فيه الضباط لتناول الطعام، ثم نهَض وتناوَل الرزمة الأخرى.
كان التقرير من سكرتارية الشئون القومية للحكم غير المباشر في غرب «نيجيريا»، وذكَرَت الملاحَظة المصاحبة للتقرير من ملازم الحكومة بأن التقرير قد تمَّت مناقشته كاملًا في الاجتماع مع كبار الضباط في «أنوجو»، ومما يؤسَف له عدم حضور الكابتن «وينتربوتوم» بسبب مرضه.
لم يكن ثمَّة ما يشير إلى تغيير في السياسة، لكن التقرير كان يطلب من «وينتربوتوم» أن يتناول الأمر بحصافة؛ فالإدارة لا تُفسِد عقول الوطنيين، أو تخلُق انطباعًا من التردُّد والحَيْرة.
استطاع «كلارك» بعد أيام أن يُخبر «وينتربوتوم» عن ذلك التقرير، وعن خطاب مُلازم الحكومة الذي أظهر عدم الاهتمام.
كان الكابتن ما يزال متأثرًا من الحُمَّى فلم يقل شيئًا، ولكنه راح يتمتم قائلًا: اللعنة على مُلازم الحكومة.