الفصل السادس عشر
قرَّر «إيزولو» العودة إلى بلده بمفرده، فتوسل إلى «جون وديكا» أن يبقى ولكن دون جدوى .. كان موسم المطر حين رحل مع رفيقه، وكان الصباح جافًّا وموحيًا بالأمل.
قال «جون وديكا»: إنها رحلةٌ طويلة لا يستطيع رجلٌ مثلك القيام بها بمفرده، وإذا كنتَ مُصرًّا على العودة اليوم فيجب أن أذهب معك، وإلا فعليك أن تنتظر موعد زيارة «أوبيكا» غدًا.
أجاب «إيزولو»: لا أستطيع الانتظار ليومٍ آخر؛ فأنا كالسلحفاة التي تم اصطيادها في حفرة من الروث طوال سوقَين كاملَين، وعندما جاء أحدٌ لشدِّها في اليوم الثامن قالت له أن يسرع؛ لأنها لم تعُد قادرةً على الوقوف وسط تلك الرائحة الكريهة.
رحل «إيزولو» مرتديًا المئزر، ومن فوقه رداء التوجا الأبيض، الذي يمُر عَبْر الإبط الأيمن، ونهايتُه ملقاة فوق الكتف الأيسر، الذي يحمل فوقه حقيبته المربوطة بالقشاط، كان ممسكًا بعصاه الطويلة في يده اليمنى ورمحٍ ذي نهايةٍ مدبَّبة يحمله كل الرجال ذوي الشأن في المناسبات المهمة، وفوق رأسه كان يرتدي كاب الأوزو الأحمر المربوط بعقدٍ من الجلد، يتدلَّى منه إلى الوراء ريش النسر، بينما كان «وديكا» يرتدي قميصًا بنيًّا فوق بنطلونه الكاكي.
ظل الطقس جميلًا حتى منتصف الطريق بين «أوكبيري» و«أوموارو»، ثم بدأ المطر يتساقط بشدة، وكأنه يشير لهما بانتهاء الوقت الذي يمكنهما فيه العثورُ على مأوًى.
قال «جون وديكا»: لنَحتمِ بعضَ الوقتِ تحت الشجرة حتى تنتهي تلك العواصفُ والأمطار.
– من الخطر الوقوف تحت الشجرة أثناء العاصفة، دعنا نواصل السير فنحن لسنا ملحًا ولا نحمل شرًّا في أجسادنا، أنا على الأقل لن أقف.
التصقَت الملابس بجسدَيهما، وامتلأت حقيبة «إيزولو» بالماء، وفسد النشوق بداخلها، وكذا الكاب الأحمر فوق رأسه، وانتاب «إيزولو» ذلك الشعور بالزَّهو الذي يُحِسه مع الأمطار الغزيرة، والذي يُحِسه الأطفال فيخرجون مع المطر ويغنُّون.
كان زهو «إيزولو» ممتزجًا ببعض المرارة؛ فمثل تلك الأمطار هي جزء من المعاناة التي تعرَّض لها، وكان يفكِّر في متعة الانتقام وبعض المضايقات الأخرى ليَصُبها على الآخرين.
مرَّر إصبع يده اليسرى عَبْر حاجبَيه وعينَيه ليمسح الماء الذي يعوق الرؤية، كان الطريق فسيحًا مثل المستنقع الأحمر المتحرك، ولم تعُد عصا «إيزولو» تضرب الأرض ضرباتٍ قوية، توقَّفَت الأمطار فجأةً وساد السكون، فأصبح من اليسير رؤية الأشجار العملاقة، غير أن ذلك السكون لم يدم طويلًا؛ إذ سرعان ما اكتسحَت الأُفقَ أمواجٌ جديدة من الأمطار الغزيرة، كانت الأمطار غزيرة بلا حدود، وكان سقوطها المستمر يجعل الجسد يشعر بالبرودة، مما جعل أصابع «إيزولو» تُمسِك بالعصا كالمخالب الحديدية.
تنحنَح «جون وديكا» وقال بصوتٍ غليظ: إنني قلقٌ عليك!
– أنا! لماذا يقلق أي شخص على رجلٍ عجوز؟ .. لا يا ابني، إنها رحلةٌ صغيرة جدًّا إذا ما قُورنَت بما أفكِّر فيه بعد نهايتها؛ فحيثما يذهب اللهب فسأضع الشعلة بعيدًا.
هبَّت رياحٌ أخرى محمَّلة بالمطر، فتوقَّف «جون وديكا» عن الإجابة.
دخل «إيزولو» مرتعشًا فأصيب أهله بقلقٍ كبير، ثم سارعوا بإشعال النار، وبادرَت زوجتُه «أوجوي» بإحضار المرهم، لكنه كان أولًا في حاجة لبعض الماء ليغسل قدمَيه المليئتين بالطين الأحمر حتى نهاية جوربه القصير، تناوَل المعجون من رفِّ جَوزة الهند، وظل يَدعكُ صدره بينما كان «إيدوجو» يَدعكُ ظهره، بدأَت «ماتيفي» في إعداد حَسَاء الأوتازي، فتناوَله «إيزولو» ساخنًا، وبدأ تدريجيًّا يُحِس بجسده.
توقَّفَت الأمطار تمامًا فَور دخوله بيته، وبعد أن شرب حَساء الأوتازي أرسل «وافو» لكي يُخبر «أكيوبو» بعودته .. كان «أكيوبو» يطحن النشوق، ولم ينتظر حتى الانتهاء من عمله، فأمسك بشفرة سكينٍ رفيعة، ونقل بها النشوق إلى زجاجةٍ صغيرة، ثم كنس الذرَّات الناعمة بالريش إلى منتصف حجر الجلخ، ونقلها إلى الزجاجة، وهكذا حتى انتقلَت البودرة كلها إلى الزجاجة، ثم وضع الحجرَين بعيدًا، واستدعى إحدى زوجاته، ألقى بملابسه فوق كتفه، وقال لها: أنا ذاهب إلى «إيزولو»، وإذا جاء «أوزينج» لاستعارة الحجارة فقولي له بأنني لم أنتهِ بعدُ.
توجَّه بعد ذلك إلى كوخ «إيزولو»، فوجد كثيرًا من الناس والجيران الذين جاءوا لتحيته .. لم يتحدث «إيزولو» كثيرًا، وكان يبادلهم التحية بعينه أو بإيماءة من رأسه؛ حيث إن وقت الكلام لم يأتِ بعدُ .. يجب أن يعاني أولًا بما فيه الكفاية من كل المضايقات تاركًا أعداءه يدوسون فوق جسده، يجب أن ينتظر قبل أن يكشف عن مخالبه السبعة واحدًا تلو الآخر، وعندئذٍ يستطيع أن يقول لهم: ها أنا ذا!
فشِلَت كل محاولاتهم في استدراج «إيزولو» للحديث إلا في حدودٍ ضيقة، وعندما تحدَّثوا عن رفضه أن يكون رئيسًا عند الرجل الأبيض ابتسم فقط، ليس لكراهيته الناس من حوله أو لما كانوا يتحدَّثون بشأنه، وإنما لأنه كان مستمتعًا بكل شيء، كان راغبًا في بقاء ابن «وديكا» ليحكي لهم عن كل شيء، لكنه سيعود إلى قريته لقضاء الليلة، قبل عودته إلى «أوكبيري» في الصباح.
رفض ابن «وديكا» أن يغسل قدمَيه من الطين، وقال: إنني خارج إلى المطر مرةً أخرى؛ فلا جدوى من غسل قدمي، وإلا كان ذلك بمثابة غسل المؤخرة قبل التبرُّز.
قال أحد الزائرين وكأنه يعرف كيف يفكِّر «إيزولو»: لقد قابل الرجل الأبيض ندًّا له، لكنَّ شيئًا واحدًا لا أستطيع أن أفهمه في تلك القصة، ألا وهو الدور الذي لعبه ابن «وديكا» في «أومونيورا».
قال «أنوسي»: أوافقك.
وقال «أكيوبو» وكأنه يتحدث بلسان «إيزولو»: لقد فسَّر ابن «وديكا» الأمر، لقد كان يساعد «إيزولو».
ضحك الرجل الآخر: هكذا! يا له من رجلٍ بريء! لقد وضع طاسته المليئة بالفومو في خياشيمه، من الأفضل أن تُخبرني بقصةٍ أخرى.
وأضاف «أنوسي» جار «إيزولو»: لا تثق في رجلٍ من «أومونيورا»، لو أخبرني أحدهم أن أتوقف فسوف أجري، وإذا قال لي اجْرِ فسوف أقف حيث أكون.
قال «أكيوبو»: إنه مختلف، ولقد تغيَّر من كثرة السفر والترحال.
ضحك «إيفيم»: ﻫﻳ .. ﻫﻳ .. ﻫﻳ .. لقد أضاف فقط خدعًا أجنبية إلى تلك التي تعلِّمها من أمه، أنت تتحدى كصبيٍّ صغير يا «أكيوبو».
وقال «أنوسي»: هل تدري لماذا ظل المطر اليوم طوالَ بعدِ الظهر؟ لأن ابنة «أودينو» تُواصِل التبوُّل، إنهم لا يكرهون الآخرين فقط وإنما يمقتون أنفسهم أكثر، إن السوء الذي يُضْمِرونه يرتدي قبَّعة.
– حقًّا، إنها حامل، وتُرضِع الأطفال في نفس الوقت.
– نعم، إنهم قوم أمي، وكل ما أفعله هو اختلاس نظرةٍ خائفة إليهم.
نهَض «إيفيم» استعدادًا للانصراف، وكان قصيرًا، وقوي البنية، ويتحدث دائمًا بأعلى صوته، كما لو أنه في شجارٍ دائم، صاح بأعلى صوته فسمعَتْه كل الأكواخ: يجب أن أذهب يا «إيزولو»، ونحن نشكر الإله الكبير، ونشكر «أولو» لعدم إصابتك بأي سوء في رحلتك، لا شك أنك فكَّرتَ في عدم زيارتي لك هناك. لقد فكَّرتُ كثيرًا في زيارتك، خاصةً وأنه لا يوجد خلاف بين «إيزولو» و«إيفيم»، وكنتُ أقول لنفسي بأنني سأذهب غدًا، لكنَّ شيئًا ما كان يحدُث كل يومٍ فيؤجِّل زيارتي.
قال «أنوسي»: نفس الشيء حدَث معي، وكنتُ أقول بأنني سأذهب غدًا، سأذهب غدًا.
كان «إيزولو» مستندًا بظهره على الحائط حين تحرَّك وأبدى اهتمامًا كبيرًا بحفيده «أميشي»، الذي كان يجاهد لفتح قبضة الرجل العجوز المُطبَقة. لم يتوقَّف «إيزولو» عن متابعة الحديث من حوله، ولم يتحدث إلا قليلًا عندما كن مُضطرًّا للكلام، تطلَّع حوله لحظة، ثم قدَّم الشكر إلى «إيفيم» لزيارته.
ازداد قلق «أميشي»، وعاوده البكاء من جديد، حتى بعد أن فتح «إيزولو» قبضته.
– تعالَ يا «وافو» وخُذه إلى أمه، لقد حان وقت نومه.
انحنى «وافو» على ركبتَيه، وقدم ظهره ﻟ «أميشي»، الذي توقَّف عن البكاء دون أن يتسلق ظهر «وافو»، ثم أطبَق قبضته الصغيرة، وفجأةً ارتقى ظهر «وافو»، فأثار ضحك الجميع، وراح يتطلع إلى الجالسين باكيًا.
– إذن .. ابتعِد أنت يا «وافو»؛ فهو لا يُحبك، ويريد «أوبياجيلي».
تسلَّق «أميشي» ظهر «أوبياجيلي» بدون متاعب.
نهضَت «أوبياجيلي» بصعوبة، وانحنَت بخفة، واهتزَّت فجأة بخصرها، فأصبح الطفل في الوضع المناسب فوق ظهرها، ثم مضت فقال اثنان أو ثلاثة معًا: هل رأيتَ!
قال «إيزولو»: تمهَّلي.
أجاب «أنوسي»: لا تُقلِق نفسك؛ فهي تعرف ما تفعل.
خرجَت «أوبياجيلي» في اتجاه أرض «إيدوجو» وهي تغني:
طوالَ فترة المنفى كان من اليسير أن يفكِّر «إيزولو» في «أوموارو» بشكلٍ عدائي، وذلك ما لم يعُد بمقدوره أن يراه هنا .. إنهم حيثما يسيروا يُرحِّبوا به، وإذن فهم ليسوا أعداء، لكنَّ بعضًا منهم، مثل «أنوسي»، بلا أهمية أو تأثير، لكنه مُغرَم فقط بالثرثرة وأحيانًا بالحقد .. إنهم مختلفون عن الأعداء الذين شاهدَهم وهو يحلُم في «أوكبيري».
في اليوم الثاني أصبح عدد الزائرين سبعة وخمسين، بالإضافة إلى النساء .. كان ستةٌ منهم يحملون النبيذ، وأحضر نسيبه «إيب» والقادمون معه إناءَين كبيرَين من أجود أنواع النبيذ وديكًا، وكان ذلك اليوم بمثابة مهرجان في كوخ «إيزولو»، حضره أيضًا اثنان أو ثلاثة من قرية العدُو (أومونيورا).
كان «أوجبوفي أوفاكا» هو آخر زائرٍ في اليوم الثالث، وهو أحد أفضل الرجال في «أومونيورا»، ولم يكن من قبلُ دائمَ الزيارة ﻟ «إيزولو»، كان معروفًا بحكمته ولم يكن أحدَ أولئك الذين يمتدحون رجلًا لمجرد أن يقدِّم لهم النبيذ، ألقى بقدَحه في حقيبته، ووضعها فوق ظهره، ثم قال: جئتُ لأقول لكم لا، ولأقدِّم شكري وامتناني ﻟ «أولو» و«شوكو» لعودتكم سالمين، أريد أن أقول لك إن «أوموارو» كلها تنهَّدَت عندما وضعتَ قدمكَ في كوخك مرةً ثانية، لم يُرسلني أحد لقول ذلك، فلماذا أقوله إذن؟ لأنني أعرف كيف تفكِّرون.
توقَّف لحظة، ثم مدَّ رقبته ناحية «إيزولو» بنوع من التحدي، وأضاف: لقد كنت مع «واكا» عندما تحدَّث عن ضرورة ذهابك لمواجهة الرجل الأبيض، وإذا أردتَ ألا أضع قدمي في منزلك مرةً ثانية فيجب أن تخبرني بما حدث فور الانتهاء من حديثي، أريدك أن تعرف — إذا لم تكن تعرف بالفعل — أن كبار «أوموارو» لا يقفون بجانب «واكا» ضدك؛ فنحن جميعًا نعرفه، ونعرف الرجل الذي يقف خلفه، ولا أحد يستطيع أن يخدعنا، فلماذا إذن نقف معه ونوافقه؟ هل لأننا مضطربون؟ هل تسمعني؟ إن كبار «أوموارو» مضطربون، ويمكنك القول إنني أخبرتُك بذلك، نحن مضطربون، ونحن كما يقول المثل كالكلب الصغير الذي حاول أن يلبي نداءَين في وقتٍ واحد فكسر فكه، أنت يا «إيزولو» الذي قال لنا منذ خمس سنواتٍ مضت بأنه لمن الحماقة أن نتحدى الرجل الأبيض، ولم نستمع لك وخرجنا نتحدَّاه، فأخذ بنادقنا وحطَّمها فوق ركبته، وهكذا نعرف بأنكَ كنتَ على صواب، وما كدنا نتعلم هذا الدرس حتى غيَّرتَ رأيَك، وها أنت تُطالِب بالذهاب لتحدي نفس الرجل الأبيض، فماذا كنتَ تتوقع أن نفعل؟
توقَّف عن الحديث ليمنح «إيزولو» الفرصة كي يجيب، لكنه لم يفعل، فاستطرد «أوفوكا»: يجب ألا أرفض الاستماع إلى أعدائي إذا تحدثوا بالحقيقة لمجرد أنهم أعدائي، وما قاله «واكا» كان حقيقة؛ فهو الذي طالب بأهمية الذهاب إلى الرجل الأبيض لأنه يعرفك .. ألم تكن تلك حقيقة؟ .. نعم لقد تحدَّث بحقد لكنه قال الحقيقة؛ فلا أحد من بيننا استطاع أن يواجه الرجل الأبيض كما فعلتَ أنت؟ .. مرةً أخرى، لا، إذا لم يرُقْك كلامي فأبلغني بعدم الحضور إلى منزلك مرةً ثانية، إنني ذاهب.
حسَم «أوفوكا» كل الأفكار التي كانت تدور برأس «إيزولو» في الأيام الثلاثة الماضية، وربما لو تحدَّث «أكيوبو» بنفس الكلمات لما اتسمَت بمثل هذه القوة، ولكنها وقد صدَرَت من رجل ليس هو بالصديق أو العدو جعلَت «إيزولو» يصل إلى ما يريد.
نعم، إنه لمن الصواب أن يواجه كبير الكهنة الخطر قبل أن يصل إلى شعبه، إنها مسئولية الكهنوتية، كما حدَث يوم أن اجتمعت القرى الست وقالوا لجد «إيزولو»: سوف تتحمل الألوهية من أجلنا.
كان خائفًا في البداية؛ فأي قوة في جسده تلك التي يتحمل بها مثل ذلك الخطر الكبير؟ لكن أهله وشعبه وقفوا من خلفه مساندين إياه، وبدءوا يعزفون الفلوت.
استدعى «إيزولو» ابنه «أودوش» وسأله: ماذا تفعل؟
– إنني أنسُج السلَّة.
– اجلس.
جلس «أودوش» فوق السرير الطيني في مواجهة والده، وبعد وقفةٍ قصيرة بدأ «إيزولو» في الحديث مباشرةً مذكِّرًا «أودوش» بأهمية أن يعرف ما يعرفه الرجل الأبيض؛ حيث قال: أرسلتُك لكي تخبرني بكل ما يحدُث هناك، ألا تستمع لما يقوله الناس، الناس الذين لا يعرفون يمينهم من يسارهم، قلتُ لك من قبل إن الرجل لا يكذب على ابنه، وإذا سألك أي شخص عن سبب ذَهابك وتعلُّمك تلك الأشياء الجديدة، فأخبره بأن على الرجل أن يرقص الرقصة السائدة في عصره.
حكَّ رأسه، واستطرد بصوتٍ فيه استرخاء: عندما كنتُ في «أوكبيري» رأيتُ شابًّا أبيض من النوع القادر على الكتابة بيده اليسرى، واستطعتُ أن أعرف من خلال تصرُّفاته عدم خبرته وقلة إحساسه، لكنه كان قويًّا واستطاع أن يصيح في وجهي، إنه يستطيع أن يفعل ما يريد، لماذا؟ لأنه قادر على الكتابة بيده اليسرى، ولقد استدعيتُك لهذا السبب؛ فأنا أريدك أن تتعلم وتتفوَّق على ذلك الرجل تفوقًا ملحوظًا، كما يجب أن تتعلَّم حتى تكتب بيدك اليسرى، هذا كل ما أردتُ أن أقوله لك.
عادت الحياة إلى طبيعتها تدريجيًّا، بعد أن ساد القلق والحزن لغياب «إيزولو» لأكثر من قمرٍ كامل، وفرح الأطفال، وقالت «أوبياجيلي» لأمها «أوجوي»: أخبرينا بالقصة.
– هل أحكي لكِ القصةَ والأواني قذرة هكذا؟
سارع «وافو» و«أوبياجيلي» إلى العمل، وقاما بتحريك الجُرن الصغير المخصَّص لطحن الفلفل، ووضعوا الأواني الصغيرة فوق عارضة البامبو، ثم غيَّرت «أوجوي» بنفسها الشمعة الصغيرة بأخرى جديدة.
التهَم «إيزولو» كل العشاء الذي أعدَّتْه له «أوجوي»، وذلك ما يجعل أي امرأة تشعُر بسعادةٍ كبيرة، لكن هناك دائمًا ما يُفسِد سعادة المرء، إنها «ماتيفي» الزوجة الأولى التي تشعُر بالغَيرة من أي شيء تفعله «أوجوي»، فإذا كانت وجبة «أوجوي» متواضعة فإن «ماتيفي» تتهمها بتجويع أطفالها لشراءِ أساورَ من العاج، وعندما يكون الطعام جيدًا مثل هذه الليلة فلا بد أنها تتطلع إلى رضاء زوجها وطلب شيءٍ ما منه، لم تكن «ماتيفي» تقول أي شيء من ذلك مباشرةً إلى «أوجوي»، لكن كل ما كانت تُثرثِر به كان يوحي بذلك.
كان «أودوش» يتناول حَسَاء الدجاجة من فوق النار، فسال لعاب «ماتيفي».
تم إعداد الحجرة، وافتَرش «وافو» و«أوبياجيلي» الحصيرة بجوار مقعد أمهما المنخفض.
– أي قصة تريدين سماعها؟
قالت «أوبياجيلي»: أونويرو.
فقال «وافو»: لا، لقد سمعناها كثيرًا، فلتخبرينا إذن عن …
قاطعَتْه «أوبياجيلي»: حسنًا، احكي لنا عن «إينيك تولوكبا».
تفحَّصَت «أوجوي» ذاكرتَها وقالت: في سالف الزمان كان يُوجَد رجلٌ متزوج من امرأتَين، وكان لدى الزوجة الأولى كثير من الأطفال، بينما الزوجة الصغرى لم تُنجِب سوى ولدٍ واحد، وكانت الزوجة الأولى شريرة وحسودة، ذهب الرجل للعمل مع عائلته في المزرعة التي يمتلكونها، والواقعة على الحدود بين أرض الرجل وبين أرض الأرواح.
كانت «أوجوي» تجلس مع «أوبياجيلي» و«وافو» بالقرب من المطبخ ومن مدخل غرفة النوم، وكان «أودوش» ممسكًا بكتابه الجديد تحت ضوء الشمعة، فحرَّك شفتَيه بهدوء وكأنه كان يتدرب على الكلمات الأولى من الكتاب، وفي تلك الأثناء كان «إيزولو» يفكِّر في الصراع القادم وإمكانية التصالح، أو على الأقل في تضييق مساحة الصراع، وكان يعرف وهو يفكِّر أن الحرب لن تبدأ قبل وقت الحصاد؛ أي بعد ثلاثة أقمارٍ أخرى، وإذن فثمَّة فُسحةٌ من الوقت، ولا داعي للعَجلة.
صاح «أولو» في أذنه كما تفعل الروح في أذن طفلٍ وقح: من أخبَركَ أن هذه حربُك الخاصة؟
ارتعش «إيزولو» ولم يقل شيئًا، لكنه ظلَّ يحدِّق في الأرض.
– أقول بأن هذه ليست حربًا خاصة بك حتى تنظِّم الطريقة التي تناسبك، أنت تريد إنقاذ أصدقائك الذين أحضَروا لك النبيذ، احتَرِس فأنت لا تقف بيني وبين ضحيتي، وإلا فسوف تتلقى الضربات التي لا ذنب لك فيها، ألا تعرف ما يحدُث عندما يتشاجر فيلان؟ اذهَب للبيت ونَم واتركني أفكِّر في صراعي مع «إيديميلي»، الذي تؤدي غَيرتُه إلى التطلع لتدميري، والآن أخبِرني كيف لك أن تهتَم بذلك؟ أقول لك بأن تذهب للبيت وتنام؛ فأنا و«إيديميلي» سوف نتقاتل حتى النهاية، والذي يُلقي بالآخر على الأرض سوف يُجرِّده من خلخاله.
هكذا لم يعُد ثمَّة ما يُقال، فمن يكون «إيزولو» كي يقول لإلهه عن قتال الطائفة الغيورة؟ إنها حرب الآلهة، و«إيزولو» ليس أكثر من سهمٍ في قوس ربه، شعَر «إيزولو» بنشوةٍ كبيرة لذلك، كما لو أنه شرب أجود أنواع النبيذ.
لماذا سجَن «أودوش» الثعبان في صندوقه؟ إنه دين الرجل الأبيض، وتلك مسئوليته، هل ذلك هو السبب الحقيقي؟ وماذا لو أن الولد كان أيضًا سهمًا في يد «أولو»؟ وماذا أيضًا عن دين الرجل الأبيض وعن الرجل الأبيض نفسه؟ أوه، إن «إيزولو» الآن في حالةٍ تسمح له بالتفكير في كل تلك الأشياء، نعم، ماذا عن الرجل الأبيض؟ لقد كان ذاتَ مرة إلى جانب «إيزولو» ومرة أخرى، كان قريبًا منه عندما تم نفيه، وهكذا قدَّم له السلاح الذي يُحارِب به أعداءه.
لو أنَّ «أولو» اعتبَر الرجل الأبيض حليفًا منذ البداية لأصبح تفسير كثير من الأشياء يسيرًا، مثل قرار «إيزولو» بإرسال «أودوش» ليتعلم وسائل الرجل الأبيض، رغم أن «إيزولو» كان لديه تفسيراتٌ أخرى، إن نصفه كان رجلًا والنصف الآخر روح تتلون باللون الأبيض في اللحظات الدينية المهمة، أما الروح فقد كانت تقوم بعمل الأشياء التي لم يفعَلها قَط.