الفصل الثامن عشر
فكَّر «إيزولو» كثيرًا، ثم أعلن عن عزمه على مواجهة «أوموارو» بشأن عيد اليام الجديد، الذي يُعَد نهايةً للعام القديم وبدايةً للعام الجديد، ويُمكِن فيه للمرء أن يقدِّم قليلًا من اليام إلى بيته ليدفع الجوع عن عائلته، لكنَّ أحدًا لا يحصد المزارع الكبيرة، ولا أحد من الكبار يأكل اليام الجديدة مهما كان مصدرها قبل الاحتفال بالعيد الجديد، الذي تتذكَّر فيه القرى الست مدى تضامنها في الأيام القديمة، وكم هم مدينون دائمًا ﻟ «أولو» الذي أنقذهم من خراب «آبام»!
في كل أعياد اليام الجديدة يتم الإعلان عن حضور القرى الست معًا، ويقدِّم كل شاب في «أوموارو» كميةً مناسبة من بذور اليام إلى مزار «أولو»، وذلك بوضعها في كَومة، بالنيابة عن قريته، بعد أن يلُفَّها في دائرة حول رأسه، ثم يتناول بعض الطباشير بجانب الكَومة ويرسم به على وجهه. يعرف الكبار من تلك الكومات عدَد الرجال في كل قرية، فإذا زاد العدد عن العام الماضي فإنهم يقدِّمون قربانًا ﻟ «أولو» عرفانًا بالجميل. وإذا كان العدد ناقصًا يبحثون عن السبب عند العرَّافين .. اختار «إيزولو» ثلاث عشرة من تلك اليامات لحساب العام الجديد.
كان عيد اليام الجديد أكثر الاحتفالات أهميةً في «أوموارو»، كما كان يومًا لكل الآلهة الصغيرة في القرى الست، والتي ليست لها أعيادٌ خاصة. كانت كل تلك الآلهة الصغيرة تأتي بصحبة حُراسها وتقف في خطٍّ خارج مزار «أولو»، ليتمكن أي رجل أو امرأة من تقديم شيءٍ لها. وكان ذاك هو اليوم الوحيد الذي تظهر فيه تلك الآلهة الصغيرة. وكان الحرسُ الخاصُّ بها يطوف بهم في السوق حاملًا إيَّاهم فوق الرءوس أو الأكتاف وهم يرقصون، ثم يقفون جنبًا إلى جنب عند مدخل مزارة «أولو». كانت وجوه الآلهة القديمة جدًّا تحمل نفس سمات الرجال الذين صنعوها. ومنذ وقتٍ مضى منَع جَد «إيزولو» تلك العادة. كان المهرجان حافلًا بالآلهة الصغيرة والرجال؛ فهو التجمع الوحيد في «أوموارو» الذي يجد المرء فيه جاره على يمينه، وإذا ما تطلع عن يساره فسوف يرى إلهًا صغيرًا قد يكون «آجو» إله الجنون أو «جين» إله النهر.
جاء مساعدو «إيزولو» الستة لرؤيته، فأخبرَتْهم «ماتيفي» بأنه ذهب لزيارة «أكيوبو»، قرَّروا انتظاره في كوخه، وكان الوقت قريبًا من المساء عندما عاد «إيزولو»، الذي تظاهر بالدهشة رغم معرفته بسبب مجيئهم.
قدَّم التحية وقال: هل كل شيءٍ على ما يُرام؟
– على ما يُرام.
ساد صمتٌ مشوب بالقلق، ثم تحدَّث «وزيسي» نائب قرية «أوموجوجو» المعروف بصراحته، وقال: سألتَنا عما إذا كان كل شيءٍ على ما يُرام، فأجبناك بأنه كذلك، لكن الضفدعة لا تجري في النهار إلا إذا تعقَّبها شيءٌ ما، وها نحن قد جئنا إليك من أجل حدَثٍ بسيط. إنه اليوم الرابع منذ أن ظهر القمر الجديد في السماء، وها هو قد كبر بما يكفي! لكنك لم ترسل في طلبنا كي تُخبرنا بيوم عيد اليام الجديد.
نهَض «أوبيسيلي» وقال: وحسب تقديرنا فإن القمر الحالي هو الثاني عشر منذ آخر عيد.
كان «أوبيسيلي» دائمًا متحدثًا عديم الكياسة، فساد صمت ثم تنحنح «إيزولو»، ورحَّب بضيوفه مرةً أخرى، مؤكدًا أن أحدًا لم يضايقه، ثم قال: لقد فعَلتَ ما كان يجب أن تفعلَه ولا يستطيع أي شخص الادعاء بأنك فَشِلتَ في أداء واجبك؛ لأن الرجل الذي يسأل لا يضل طريقه، ذلك ما تعلَّمناه من آبائنا، وإذن فالصواب هو ما فعلتَ عندما جئتَ لتسألني عن هذا الأمر الذي يقلقك، لكنَّ شيئًا ما لا أقدر تمامًا على إدراكه، وهو قولك بأنه حسب تقديركم كان يجب أن أعلن عن عيد اليام الجديد فور ظهور آخر قمرٍ جديد!
– نعم، قلتُ ذلك.
– لم أصدِّق أذني، وتصوَّرتُ أنني لم أسمعك جيدًا، منذ متى بدأتَ تقدِّر وتحسب العام الجديد ﻟ «أوموارو»؟
لم يكن «أوبيسيلي» يجيد استخدام ألفاظه، فقال «شكولوب»: نحن لا نحسب عيد «أوموارو»؛ فليس من بيننا من يمثِّل كبير الكهنة، ولكننا اعتقدنا في احتمال أن يكون قد خانك الحساب بسبب غيابك في الأيام القليلة الماضية.
صاح «إيزولو» قائلًا: ماذا؟! هل أصابك خلَلٌ ما أيها الشاب؟ كل شيء يمكن سماعه هذه الأيام! خانني الحساب! خانني الحساب! هل أخبرك أبوك أن كبير كهنة «أولو» يَعجِز عن حساب القمر؟ لا يا بُني.
استطرد «إيزولو» بنبرةٍ هادئة ومدهشة: لا، إن «إيزولو» لا يعجِز عن حساب القمر، وأنت لا ريب هو الذي يخطئ؛ لأنك تعُد على أصابعك ثم تنسى أي الأصابع حسبتَ عليه آخر قمر، وعلى أية حال فإنني كما قلتُ في البداية إنكم فعلتم الصواب عندما جئتم لتسألوا، والآن عودوا إلى قراكم وانتظروا رسالتي؛ فلن أكون قَط في حاجةٍ لأن يُخبرني أحدٌ بواجبات الكهنوتية.
غادر الرجال، وكان حضور أي شخص إلى كوخ «إيزولو» يُصيب صاحبه بالدهشة؛ فقد كان وجه الكاهن متوهجًا بالسعادة، كما بدت عليه سمات الشباب والوسامة، تحرَّكَت شفتاه بهمساتٍ خافتة، وسرعان ما اقتحمَت أذناه بعضُ الأصوات، فتوقف عن الهمس، وراح يستمع باهتمام، كان «وافو» و«أوبياجيلي» يتلُوَان شيئًا خارج كوخه.
كانا يقولان مرةً إثْر أخرى: «إيك كوي أوني أوكا».
وظل «إيزولو» يستمع بمزيد من الاهتمام، لم يكن مخطئًا فيما سمع.
«إيك كوي أوني أوكا» .. «إيك كوي أوني أوكا» .. «إيك كوي أوني أوكا».
صَرخَت «أوبياجيلي»: انظر .. إنه يجري بعيدًا.
وراح الاثنان يضحكان بقوة.
«إيك كوي أوني أوكا» .. «إيك كوي أوني أوكا» .. «إيك كوي أوني أوكا».
صاح «إيزولو»: «وافو»!
أجاب «وافو» بفزع: نا.
– تعالَ هنا.
دخل «وافو» بخطواتٍ بطيئة متحسسًا الأرض بينما العرق يتصبَّب من رأسه ووجهه، بينما اختفت «أوبياجيلي» لحظةَ سماعِها نداءَ «إيزولو».
– ماذا كنتم تقولون؟
لم يُجب «وافو» بشيء وراحت جفونه ترتعش.
هل أنت أخرس؟ ماذا كنتم تقولون؟
– كانوا يقولون عن تخويف الثعبان وهروبه بعيدًا.
– لم أسأَلك عما كانوا يقولون، وإنما عما كنتما تقولان أم أنك تريدني أن أنهض من هنا قبل أن تُجيب.
– كنا نقول أيها الثعبان، اجرِ! يُوجَد مسيحي هنا.
– وماذا يعني هذا الكلام؟
– قال لنا «أكوبا» بأن الثعبان يجري بعيدًا فور سماعه هذه الكلمات.
ضحك «إيزولو» ضحكاتٍ طويلة وصاخبة، فأشرق وجه «وافو».
– وهل جرى الثعبان عندما قلتم ذلك؟
– جرى بعيدًا مثل ثعبانٍ عادي.
انتشَرَت في أرجاء «أوموارو» أنباءُ رفض «إيزولو» الإعلانَ عن عيد اليام الجديد بسرعةٍ هائلة، وكأنهم أعلَنوا عن رفضه بدقَّات الطبول، فتسلَّلَت الدهشة إلى الناس، ثم بدءوا في إدراك المغزى ببطء؛ لأن مثل ذلك لم يحدُث من قبلُ أبدًا.
مضى يومان ثم جاء عشرة رجالٍ من الكبار وذوي الألقاب لرؤية «إيزولو»، كان أقلهم شأنًا يحمل ثلاثة ألقاب، وكان أحدهم «إيزيكويسيلي أزوكانما» يحمل اللقب الرابع، الذي يُعَد أعلى الألقاب، والذي لا يحمله سوى اثنَين آخرَين في كل أرجاء «أوموارو»؛ أحدهم عجوز جدًّا لا يستطيع الحضور، والآخر هو «واكا» من «أومونيورا» الذي يُعَد غيابه عن هذا الجمع عقبةً في تهدئة «إيزولو» وإقناعه.
دخلوا معًا، وألقى كلٌّ منهم بعصاه الحديدية خارج الكوخ وهو يخلع كابه الأحمر.
أراد «أنوسي» أن يتحدَّث إلى «إيزولو» عن الأزمة التي ألمَّت به، فحمل معه النشوق في يده اليسرى، لكنه توجَّه إلى جارٍ آخر عندما رأى الكابات الحمراء والعِصِي الحديدية، ولم يكن ثمَّة أحدٌ بالقرب من الكوخ.
قدَّم «إيزولو» كَومةً من الطباشير إلى زائريه، ورسم كلٌّ منهم على الأرض شعاره الخاص في خطوط رأسية وأفقية، كما رسم بعضهم إصبع قدمه الكبيرة، وقام آخرون بالرسم على وجوههم، ثم جاءهم «إيزولو» بثلاث قِطعٍ من جَوزة الكولا في طاسةٍ خشبية، ولفترةٍ قصيرة بدءوا في محادثةٍ رسمية سرعان ما انتهَت، تناوَل «إيزولو» واحدةً من جَوزة الكولا، وأمسك «إزيكويسيلي» بالثانية والتقط «أوينتي نانيلوجو» الثالثة، وراح يتنقَّل بينهم بالطاسة بالتناوب، وفي البداية كانوا يقدِّمون كل الفصوص، وكانوا يُصلُّون صلاةً قصيرة كسَر بعدها كلٌّ منهم جَوزتَه، كان «وافو» يتنقَّل بالطاسة قبل أن يختار واحدةً من جَوزة الكولا.
قال «إزيكويسيلي» بعد أن مضَغوا وابتلَعوا جَوزاتهم: «إيزولو»، إن زعماء «أوموارو» المجتمعين هنا طلَبوا مني أن أُبلغَك امتنانهم لتقديم جَوزة الكولا، نشكُرك كثيرًا، ولعل مخزونكَ قد سدَّ النقص.
شاركَه الآخرون في القول: شكرًا، لعل مخزونكَ قد سدَّ النقص.
– قد تستطيع أن تعرف سبب مجيئنا، جئنا من أجل أشياءَ معيَّنة سمعناها، وفكَّرنا أنه من الأفضل أن نعرف الحقيقة من الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يُخبرنا؛ فلقد سمعنا بعدم اتفاقٍ بشأن الاحتفال بعيد اليام الجديد، وكما قلنا نحن لا نعرف إذا كان ذلك حقيقيًّا أم لا، لكننا نعرف تمامًا أن ثمَّة فزعًا وقلقًا في «أوموارو»، وإذا ما ساد ذلك القلق فسوف يتسبَّب في الفساد، ولا يمكننا الانتظار حتى يحدُث ذلك؛ فالشاب المراهق لا يقدر على الجلوس أمام الماعز وهي مربوطة إلى عمودٍ تعاني آلام المخاض، يا كبار «أوموارو»، هل حديثي هذا هو ما ترغبون؟
– نعم .. هو كذلك.
توجَّه «إيزولو» بالنداء إلى «إزيكويسيلي»، فأجاب الرجل ولم يكن قد توقَّف عن الحديث: أي.
فقال «إيزولو»: أرحِّب بكم، ولقد سمعتُك جيدًا، «أجونوان».
– أي.
– «نانيلوجو».
– أي.
ثم قدَّم «إيزولو» التحية إلى كل واحدٍ باسمه، وقال مستطردًا: أرحِّب بكم جميعًا، إن مهمتكم نبيلة، وأشكركم، لكنني لم أسمع بعدم اتفاقٍ بشأن عيد اليام الجديد؛ فقد قال لي المساعدون منذ يومَين إن الوقت ملائم للإعلان عن يوم الاحتفال القادم، وأخبرتُهم بعدم جدوى أن يذكِّرني أحد.
انحنَت رأس «إزيكويسيلي» برفق، وراح يدعك صلعتَه بينما تناوَل «أوفوكا» زجاجة نشوقه من حقيبته البيضاء المصنوعة من جلد الماعز، وأفرغَ منها فوق كفه الأيسر، وكان «نانيلوجو» الجالس بالقرب منه يَدعَكُ كفَّيه معًا لتنظيفهما، كي يقدِّم الكف اليسرى ﻟ «أوفوكا» دون أن يتكلم، ألقى «أوفوكا» ببعض النشوق من يده إلى يد «نانيلوجو» وأفرغ لنفسه المزيد.
استطرد «إيزولو»: أنا لستُ في حاجةٍ لأن أتحدَّث معكم بالألغاز؛ فأنتم جميعًا تعرفون عاداتنا، أنا لا أدعو للاحتفال الجديد إلا عند توفُّر أحد اليامات من الاحتفال الأخير، واليوم يُوجد ثلاثُ يامات، وهكذا فإن الوقت لم يأتِ بعدُ.
حاول ثلاثة أو أربعة من الزائرين أن يتحدَّثوا، لكن بقيَّتهم أتاحوا الفرصة ﻟ «أونيني نانيلوجو»، الذي قدَّم التحية إلى كل شخص باسمه، ثم قال: أعتقد بأن «إيزولو» تكلم كما يجب، ولقد سمعتُ جيدًا كل ما قاله، نحن جميعًا نعرف العادات، ولا أحد يستطيع القول إن «إيزولو» أساء إلى عاداتنا، لكن الحصاد ناضجٌ في التربة، ويجب جمعه الآن قبل أن تأكله الشمس وينخره السوس، أخبرنا «إيزولو» في نفس الوقت أنه ما زال يملك ثلاث ياماتٍ مقدَّسة من العام الماضي، وإذن فماذا سنفعل؟ كيف تحمل رجلًا بخصرٍ مكسور؟ نحن نعرف لماذا لم تنته اليامات المقدَّسة، إنه الرجل الأبيض، وهو ليس هنا الآن ليتنفَّس معنا الهواء الذي لوَّثه، نحن لا نستطيع الذهاب إلى «أوكبيري» لنسأله المجيء لتناول اليامات التي تقف حائلًا بيننا وبين الحصاد، فهل سنجلس حتى نرى حصادنا يفسَد وأطفالنا وزوجاتنا يموتون جوعًا؟ لا، أنا لست كاهنَ «أولو»، لكنني أستطيع القول بأن الإله لا يريد الهلاك ﻟ «أوموارو»؛ فنحن ندعوه المنقذ، وإذن فعليك يا «إيزولو» أن تجد حلًّا حتى لو أمكنني الذهاب الآن لتناول اليامات المتبقِّية، لكن لستُ كاهن «أولو»، إنه شأنُك يا «إيزولو» لإنقاذ حصادنا.
تمتَم الآخرون استحسانًا.
– «نانيلوجو».
– أي.
– خيرًا ما قلتَ، لكن ما تريدني أن أعمله لا يمكن عمله؛ لأن هذه اليامات ليست طعامًا، والرجل لا يأكلها لكونه جوعان، كأنك تسألُني أن أتناول الموت.
قال «أنيتسيبي أودوزو»: نعرف أن مثل هذا الشيء لم يحدُث من قبلُ، كما لم يحدُث قَط أن استدعى الرجلُ الأبيض كبيرَ الكهنة خارج أرضه، فلتنظر حول هذه الغرفة، ماذا ترى؟ هل تعتقد بوجود «أوموارو» أخرى خارج هذا الكوخ؟
قال «إيزولو»: لا، أنتم «أوموارو».
– نعم .. نحن «أوموارو»، فاستمع إذن لما سأقول، إن «أوموارو» تطلب منك اليوم أن تتناوَل تلك اليامات المتبقية، ثم عليك بتحديد موعد الحصاد القادم، هل تسمعني جيدًا؟! قلتُ بأن تتناول اليامات اليومَ وليس غدًا، وإذا غضب «أولو» لارتكابنا شيئًا بغيضًا فعليه برءوسنا نحن العشرة، لن تكون مسئولًا لأننا طلبنا منك ذلك؛ فالشخص الذي يشير إلى الطفل بإمساك الفأر يجب أن يجد له الماء الذي سيغسل به يده من الرائحة التي التصقَت به، ونحن سوف نجد لك الماء، «أوموارو» هل أقول الصواب؟
– لقد قلتَ كل شيء، سوف نتحمَّل العقاب.
– يا رجال «أوموارو» الكبار، أنا لا أستهين بما تقولون، ولا أرغب في ذلك، ولكنكم لم تستطيعوا القول بأن أفعل ما لا ينبغي عمله وأنكم ستتحمَّلون اللوم، إنني كبير كهنة «أولو»، وما قلتُه لكم هو إرادتُه وليست رغبتي، ولا تنسَوا بأنني أيضًا أملك حقولًا لليام، وكذلك أبنائي وأقربائي وأصدقائي الذين أنتم منهم. إنها ليست رغبتي في مضايقة كل أولئك الناس، ليست رغبتي أن أتسبَّب في معاناة أصغر رجلٍ في «أوموارو»، إن الآلهة الصغيرة تستخدمنا أحيانًا كسياط.
– ألم يُخبِرك «أولو» عن سبب إزعاجه؟ وألا يُوجد قربانٌ لإرضائه؟
– لن أخفي شيئًا عنكم، قال «أولو» بأن قمرَين جديدَين مضَيا دون أن يكسِر أحدٌ جَوزة الكولا من أجله، والتزمَت «أوموارو» الصمتَ دون أن تفعل شيئًا.
سأل «أوفوكا» المتحمس قليلًا: وأي شيء كان يتوقَّع أن نقول؟
– لا أعرف يا «أوفوكا»، لقد سألني «نانيلوجو» سؤالًا فأجَبتُ.
– لكن إذا «أولو» …
– «أوفوكا»، لا داعي لأن نتشاجر من أجل ذلك، لقد سأَلْنا «إيزولو» عن سبب غضب «أولو» فأجابنا، ومهمتنا الآن هي كيفية إرضائه، فلنستأذن «إيزولو» أن نعود لنخبر الإله بأننا سمعنا عن غضبه، وأننا نُعِد أنفسنا الآن للإصلاح؛ فإن لكل خطأٍ أو إساءةٍ قربانًا خاصًّا من العملات القليلة، دعنا ننتظر الإجابة.
– إذا سألتموني العودة إلى «أولو» فسوف أفعل، ولكن يجب أن أحذِّركم بأن الإله الذي يطلب فرخ الدجاج كقربان، قد يرفع القربان إلى الماعز إذا توجَّهتم بالسؤال مرةً ثانية.
قال «أوفوكا»: لا تقل بأنني مغرم بالأسئلة، ولكنني شغوف لمعرفة الجانب الذي تقف فيه يا «إيزولو»، وأنا أتذكَّر قولك بأنك ستُصبِح السَّوط الذي سيجلد به «أولو» «أوموارو».
قال «إزيكويسيلي»: فلتَستمِع لي يا «أوفوكا» دون أن نتشاجر، لقد أوشكنا على إنهاء مهمتنا، وعلينا الآن انتظار كلمة «إيزولو» الموجَّهة إليه من «أولو»، لقد زرعنا اليام في مزرعة أناباتي.
وافَق الآخرون، وبمهارةٍ تحدَّث «نانيلوجو» في أشياءَ أخرى، وأشار إلى أمثلةٍ عديدة من العادات التي تغيَّرَت في الماضي، ثم تحدَّثوا جميعًا عن تلك العادات التي انتهت في ظل ازدهارها، وأحيانًا قبل أن تبدأ، أشار لهم «نانيلوجو» إلى التغيير الذي طرأ في الحصول على الألقاب، مُذكِّرًا إياهم باللقب الخامس، الذي كان يُوجَد في «أوموارو»، وكان اسمه لقب الملك، وكيف كان شروط الحصول عليه قاسية جدًّا لدرجة أن أحدًا لم يحصل عليه؛ فقد كان أحد تلك الشروط أن يدفع الرجل ديونَ كل رجل وامرأة في «أوموارو».
ظل «إيزولو» طوال ذلك الحديث صامتًا ولم يقُل شيئًا.
عاد «إيزولو» في الصباح إلى مزار «أولو»، كما وعد كبار «أوموارو»، ودخل الحجرة المكشوفة، ونظر حواليه دون أن تظهر على وجهه أيُّ تعبيرات، ثم أسند ظهره على باب الحجرة الداخلية، والتي لا يجرؤ مساعدوه على دخولها. فتح الباب وهو يضغط بجسَده، كان يرشد نفسه بأن يتلمَّس بيده اليسرى فوق جانب أحد الحوائط. وعند وصوله إلى نهاية الحائط كان يتحرك خطواتٍ قليلة إلى اليمين، ثم وقف مباشرةً في مواجهة الرابية التي تمثِّل «أولو». كانت الشجرة محاطةً من كل الجوانب بعوارضَ تحمل كل جماجم كبيري الكهنة السابقين. وكان البرد يتسلَّل إلى المزار حتى في أشد الأيام حرارة، لوجود تلك الأشجار العملاقة بالخارج، التي تتلاقى رءوسها معًا فتحجُب الشمس، وكذلك بسبب ذلك النهر الذي يتدفق تحت أرض المزار. وهكذا كانت كل الأماكن القريبة من المزار باردةً طَوال العام، وكانت ثمَّة قطراتٌ تتساقط من قمة الأشجار العتيقة.
كان جرس الكنيسة يدق لمَّا كان «إيزولو» يُلقي بحبل الأصداف، فانتابَتْه الحَيرة لحظةً قصيرة لتلك النغمة الحزينة، التي تبدو أكثر قربًا من الأذن بالمقارنة بسماعها في أرضه.
أعلن «إيزولو» أن مباحثاته مع الإله لم تُثمِر شيئًا، وأن على القرى الست أن تتحمل مدة قمرَين آخرَين، فأثار ذلك الإعلان قَدْرًا كبيرًا من الخوف لم يعرفه أحدٌ من قبلُ في «أوموارو».
لم يكن الاختلاف جديدًا على «أوموارو»؛ فقواعد وأحكام العشيرة غالبًا ما تؤدي إلى الشجار والنزاع المتكافئ الذي يتلاشى في النهاية، ودائمًا ما كانت تُوجد خلافاتٌ أخرى أقل أو أكثر قليلًا، لكن لا شيء من تلك الخلافات يعادل الأزمة التي هي ليست بالنزاع الغريب، الذي يمكن التغلب عليه بطريقة أو بأخرى دون أن يترك آثاره. لقد شعر الأطفال في بطون أمهاتهم بهذه المشكلة.
كان «وافو» بالأمس يتصارع مع صديقه «أوبيلو»، عندما ذهب كلاهما لرؤية الفخ الذي يصطاد به الطيور فوق قمة شجرة الإيشيكو، اصطاد فرخ «أوبيلو» طائرًا صغيرًا جدًّا بينما كان فخ «وافو» فارغًا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى، مما جعل «أوبيلو» يعتز بمهارته، فقال «وافو» بسخط: «ليس ثمَّة جفافٌ في الأنف».
لكن «أوبيلو» لم يهتَم بتلك التسمية؛ لأن أنفه مستقيم ونطاق فتحة أنفه أحمر، وكان يدعو «وافو» بصاحب الأنف الغريب، لكنه لم يستطع أن يحوِّلها إلى أغنية كما يفعل الآخرون، فوضع اسم «إيزولو» في الأغنية التي يغنِّيها الأطفال عند رؤيتهم كبش الضأن الخاص بالإله «أودو»، كانت الأغنية المصاحبة للتصفيق تتوسَّل إلى كبش الضأن أن يُزيل الكومات القبيحة، فيجيب المغنون نيابةً عن كبش الضأن مردِّدين: كيف لأحدٍ أن يُزيل درنات اليام؟
كان الطلب والإجابة عنه على شكل أغنية يتمَّان في وقتٍ واحد مع التلويح بالدرنات، وكان «أوبيلو» يُغَني «إيزولو»، فلم يستطع «وافو» إيقاف ذلك، فتوجَّه إلى صديقه بضربة في فمه، سال على إِثْرها الدم من أسنانه الأمامية.
كان العَداء تجاه «إيزولو» واضحًا في عيون الجميع طوال الليل، وواجه أولادُه صعوبةً في طريقهم إلى الجدول، كما عانت زوجاتُه من نفس العداء في السوق، وفي اليوم التالي لسوق «كوا» ذهبَت «ماتيفي» لشراء سلةٍ صغيرة من «أوجنيكا»، زوجة «دولو»، كي تضع فيها الكسافا الجاهزة، كانتا تعرفان بعضهما تمامًا، وكثيرًا ما اشترت منها «ماتيفي» وباعت لها، لكن «أوجنيكا» تحدَّثَت معها هذه المرة وكأنها غريبة من قبيلةٍ أخرى.
ثم التقطَت السلة لتُبيِّن أنها صغيرة، بينما بدت «أوجنيكا» وكأنها نسيَت وجود «ماتيفي»، وراحت تنظِّم أشياءها فوق الحصيرة.
– ماذا تقولين؟
– ضعي السلة على الأرض حالًا.
ثم غيَّرَت «أوجنيكا» نبرات صوتها وقالت باستهزاء: أتريدين أخذها بدول مقابل، انتظري حتى تفسَد اليامات وتعالَي لشراء سلة الكسافا بثماني عشرة صدفة.
لم تكن «ماتيفي» من النوع الذي يقبل توبيخًا من امرأةٍ أخرى، فأعطت «أوجنيكا» أكثر مما قالت. وعندما وصلَت المنزل بدأَت تفكِّر في ذلك العَداء الواضح، ثم قالت لابنتها «أوجوجو»: اذهبي وأحضِري معك «أوبيكا».
كانت تُجهِّز بعضًا من جَوْزة اليام لوضعها في الشوربة عندما جاء «أوبيكا»، وجلس فوق الأرضية المكشوفة، واستند بظهره على العمود الخشبي عند منتصف المدخل. كان يرتدي شقةً رفيعة من الملابس تتدلى بين القدمَين والأرداف ومفتوحة عند الخصر. جلس متثاقلًا كمن يشعُر بالتعَب، وكانت أمه تُواصِل تجهيز جَوزة اليام.
– قالت «أوجوجو» بأنكِ تريدينني!
أجابت وهي تُواصِل عملها: نعم.
– هل تريدينني من أجل رؤيتك وأنت تعُدِّين جوزة اليام؟
ظلَّت تُواصِل عملها، فأضاف «أوبيكا»: ماذا حدث؟
– أريدُكَ أن تتحدَّث مع والدك.
– في أي شيء؟
– أي شيء؟! في … هل أنت غريب في «أوموارو»؟ .. ألا ترى المتاعب التي تنهال علينا؟
– وماذا تتوقَّعين أن يفعل؟ أيعصي أمر «أولو»؟
أجابت بكل أسفٍ وخيبة أمل: كنتُ أعرف أنك لن تسمعني.
– وكيف أستمع إليك وأنت تُشارِكين الناس بالخارج على أن يضع زوجك رأسه في إناء الطهي.
قال «أوجبوفي أوفوكا»: أوشِك أحيانًا على موافقة أولئك الذين يقولون بأن الرجل قد لحقه بعض الجنون من أمه، لكنني عندما قمتُ بزيارته، بعد عودته من «أوكبيري»، كان حديثُه معي حديثَ رجلٍ سليم العقل، وقد أخبَرتُه بمقولته الشهيرة، التي تقول بأن الرجل يجب أن يرقص الرقصة السائدة في عصره.
قال «أكيوبو» الذي كان في زيارة لقريبه: كانت لديَّ نفس الأفكار، وأنا أعرف «إيزولو» جيدًا، إنه رجلٌ فخور بنفسه، ومبعوثوه هم أعظم الأشخاص العنيدين الذين تعرفهم، لكنه لا يُخالِف قرار «أولو»، وإذا فعل فإن «أولو» لن يصفح عنه أو يستبقيه؛ ولذلك فإنني لا أعرف.
– لم أقل بأن «إيزولو» يكذب باسم «أولو» أو لا يكذب، وإنما أتساءل عن عدم تناوله اليامات بعد أن أخبرناه بأننا سنتحمَّل عاقبة ما يحدُث، لماذا؟ لأن القرى الست سمحَت للرجل الأبيض أن يأخذه بعيدًا، هذا هو السبب، وهو يحاول أن يرى قدرته على معاقبة «أوموارو»، وها قد واتَتْه الفرصة، إن البيت الذي يخطِّط له كي يدمِّر به أمسكَت فيه النيران، ووفَّر عليه عمال البناء.
– لا شك أن الأزمات كثيرًا ما ألمَّت به فتراتٍ طويلة، وحسب تقديري أنها لم تكن مثل هذه المرة، تذكَّر أن لديه حقولًا من اليام مثلنا.
– ذلك ما قاله لنا يا صديقي، لكنَّ رجلًا بمثل كبريائه عندما يريد أن يحارب فإنه لا يهتم إذا ما كان رأسه أيضًا داخل الصراع، كما أنه نَسِي أن يذكُر أننا سنُواصل تقديم اليام إلى «أولو»، سواء تم إفساد حصادنا أو لم يتم.
– لا أعرف.
– دعني أخبرك بشيء، إن كاهنًا مثل «إيزولو» يقود الإله إلى تدمير نفسه، حدث هذا من قبلُ.
– أوه، ربما إله مثل «أولو» هو الذي يقود الكاهن إلى تدمير نفسه.
كان «جون جاجا جود كنتري»، راعي كنيسة القديس ماركز ﺑ «أوموارو»، شاهدًا على تصاعُد الأزمة، وكان منزله في دلتا النيجر، التي هي على اتصال بأوروبا والعالم لمئات من السنين. أمضى «جود كنتري» عامًا واحدًا فقط في «أوموارو»، استطاع خلاله أن يُظهِر تقدمًا ملحوظًا في كنيسته ومدرسته، فكان كثير من المدرسين والقساوسة يتباهَون به .. ظلَّت حلقته الدراسية تنمو وتكبر حتى وصلَت إلى ما يقرب من الثلاثين من الشباب والأولاد، بعد أن كانت تضم أربعة عشر فقط، وكان ذلك غريبًا ومدهشًا في بلد «الإيبو».
واجه «جود كنتري» خلال أسابيع من إقامته في «أوموارو» حربًا صغيرة خاصة بالثعبان الملكي ضد «موسى أوناشوكو»، ذلك المسيحي المهم في «أوموارو»، ولم يتعمَّد معاداة «أوناشوكو» بقَدْر ما كان ينوي الوصول إلى هدفه، كان «جود كنتري» دعامةً قوية في الكنيسة، ولم يكن من اليسير تغييره، فراح «أوناشوكو» يتحداه على الملأ بأسئلة عن الثعبان الضخم، لكن السيد «جود كنتري» لم يكن يهتم كثيرًا بالأمر، ولم تكن لديه فكرةٌ عن الشخص الذي يتعامل معه.
أقنع «أوناشوكو» كاتبًا في «أوكبيري» بكتابة طلب إلى الأسقف في النيجر، نيابةً عن كاهن «إيديميلي»، كان الطلب مليئًا بالتهديد، وقد حذَّر فيه الأسقف بضرورة أن يترك أتباعه في «أوموارو» الثعبان الملكي وشأنه، وإلا فسوف يندمون على اليوم الذي وطئَت فيه أقدامهم أرض القبيلة.
كان الأسقف يعاني من موقفٍ خطير في جزءٍ آخر من الأبرشية بسبب ذلك الثعبان، حين قاد مشرِّعٌ شابٌّ نشيط شعبه لحرق المزار وقتل الثعبان. وما كان من القرويين بعد ذلك إلا أنهم تعقَّبوا كل المسيحيين وأحرقوا بيوتهم، لكن الإدارة لم تتدخل بفرقتها، فكتب الضابط الحكومي خطابًا شديد اللهجة إلى الأسقف بوقف تحرُّكات أولاد بلده، كما كتب الأسقف خطابًا شديد اللهجة أيضًا إلى «جود كنتري» مؤكدًا له أن راعي الأبرشية سوف لا يتدخل بشأن الثعبان، ولكنه في نفس الوقت يصلي من أجل أن يأتي ذلك اليوم قريبًا، الذي يتحول فيه الكاهن وشعبه من عبادة الثعابين والأصنام إلى اعتناق الدين الحقيقي.
كان ذلك الخطاب من القس الكبير الأبيض تعزيزًا لوجهة النظر، وقد برهن على أن الطريقة الصحيحة في التعامل مع الرجل الأبيض هو وجود قليلٍ من الناس مثل «موسى أوناشوكو»، ممن يعرفون ما يعرفه الرجل الأبيض، وهكذا بدأ كثيرٌ من الناس، وبعضهم من ذوي الشأن، في إرسال أولادهم إلى المدرسة، وحتى «واكا» أرسل ابنه الذي كان يبدو بين أولاده أنه سيصبح فلاحًا ماهرًا.
تطوَّرَت مدرسة وكنيسة السيد «جود كنتري»، وراح يبشر بالإنجيل، ويعلِّم تعاليم النصرانية، حتى أصبح نموذجًا طيبًا أمام سياسة الأسقف الاسترضائية، وكتب تقريرًا عن النجاح المدهش للإنجيل في «أوموارو»، في مجلة «كنيسة غرب أفريقيا».
رأى السيد «جود كنتري» أن الفرصة مناسبة للتدخل في الأزمة الحالية الخاصة بعيد اليام الجديد، فشارك في رأس المال لبناء مكانٍ للعبادة أكثر استحقاقًا للإله وﻟ «أوموارو»، يقدِّمون فيه الشكر إلى الله واهب كل الأشياء الجميلة، إنها ساعة الرب لإنقاذهم من الدمار الذي يهدِّدهم، وعندئذٍ يستطيعون أن يحصُدوا محاصيلَهم بدون خوف من «أولو».
سأل عضوٌ جديد في لجنة كنيسة «جود كنتري»: أنستطيع إذن أن نخبر إخواننا الوثنيين أن يأتوا بيامةٍ واحدة إلى الكنيسة بدلًا من تقديمها ﻟ «أولو»؟
– تمامًا، ولكن ليس يامة واحدة، دعهم يأتوا بأي عددٍ يرغبون فيه طبقًا لما سيعود عليهم من الله القدير، وليس اليام فقط، ولكنهم يستطيعون تقديم أي نوع من المحاصيل أو الدواجن أو المواشي أو النقود، أي شيء، أي شيء.
لم تتضح علامات الرضا على وجه الرجل الذي طرح السؤال، وظل يهرش رأسه.
– ألم تفهم بعدُ؟
– بل فهمت، ولكنني كنتُ أفكر في كيفية إخبارهم بأن يأتوا بأكثر من يامةٍ واحدة، خاصةً وأنهم — كما تقتضي العادة — لا يقدِّمون إلا يامةً واحدة ﻟ «أولو».
أجاب «موسى أوناشوكو»: إذا كان «أولو» ذلك الإله الزائف يستطيع أن يأكل يامةً واحدة، فإن الإله الحي الذي يملك كل هذا العالم يحقُّ له أن يأكل أكثر من واحدة.
انتشَرَت الأنباء، ولم يستطع أي شخصٍ أن ينتظر حتى يرى حصاده وقد فسد، فسارعوا بتقديم قربانهم لإله المسيحيين، الذي سيحميهم من غضب «أولو».
في أوقاتٍ أخرى كان لمثل هذه القصة أن تثير الضحك، لكن نفوس الناس قد فرغَت تمامًا من الضحك.