الفصل التاسع عشر
كانت عائلة «أجبوفي أمالو» — الذي مات في موسم المطر — أكثر الناس الذين عانَوا من تأجيل الحصاد، كان «أمالو» يملك ثروة، وفي الأوقات الطبيعية كانت طقوس الدفن ومراسم العزاء تستمر يومَين أو ثلاثة أيام بعد الموت، لكن «أمالو» كان يعرف أن موته سيحين في وقت المجاعة، فاستدعى ابنه الأكبر «أنيتو»، وأخبره بتوجيهات الدفن، قائلًا: عليك بعمل يومٍ أو يومَين بعد أن يتم دفني، وليس بمقدورك أن تنظِّم مراسم دفني بلُعابك، يجب إذن أن تنتظر حتى يتوفر اليام مرةً أخرى.
كان يتحدث بصعوبةٍ بالغة وهو يتنفس بالكاد، و«أنيتو» راكع بكلتا ركبتَيه إلى جوار سرير البامبو، محاولًا سمع همسات الرجل المتلاشية أمام ذلك التنفُّس القادم من تجويف صدر الرجل المريض الذي أضاف: ولكن لا تتأخر أربعة أقمار بعد وفاتي، ولا تنسَ أن تذبح ثورًا.
لم يكن «أجبوفي أمالو» مثل ذلك الرجل الذي طلب من ابنه أن يقدم الماعز قربانًا له، فذهب الابن إلى أحد العرَّافين، وقال: اسأل أبي إذا كان قد تَركَ أكثر من دجاجة! إن الجميع يعرفون أن «أمالو» كان يستحق أربعمائة ثور، ولم يطلب من ابنه أكثر مما يستحق من الوفاء.
اختار «أنيتو» وإخوته وأنسباؤه يوم ذكرى «أمالو» أثناء الانتظار باحتفال عيد اليام الجديد، ثم أعلنوا عن ذلك اليوم في كل «أوموارو» ولأقربائهم في القرى المجاورة، وكانوا في حَيْرة من أمرهم، هل يقومون بمراسم الدفن دون تقديم، مخاطرين بغضبهم، أم يُرجئوا ذلك فيغضب «أمالو»؟ كان الاختيار الثاني يبدو مناسبًا أكثر وأقل خطورة، ولكي يتأكدوا ذهب «أنيتو» إلى «آفا» ليترك الاختيار بين يدي والده، وعند وصوله إلى العرَّاف اكتشف أنه لم يكن سوى اختيارٍ واحد، ولم يجرؤ أن يسأل والده عن قبوله مراسمَ دفن رجلٍ فقير أم أن بمقدوره تأخير الطقوس إلى حين تتوفَّر اليام في «أوموارو».
أجاب «أمالو» بالنفي، فدعا «أنيتو» أقرباءه للاجتماع، وأخبرهم بما قاله والده، ولم يُبدِ أحدٌ علامات الدهشة، وتساءلوا: من يلوم «أمالو»؟ إن الخطأ عند «إيزولو»، لقد تصوَّر أن أقرباء «أمالو» سيُبدِّدون ثروتهم في شراء اليام من القبائل المجاورة عندما تجف محاصيلهم، تلك القبائل التي أصبح أهلها أثرياءَ عن طريق إحضار اليامات الجديدة إلى «أوموارو»، وبيعها في سوق «كوا» وكأنها خلاخيلُ من العاج، كانت النسوة وكذا الأطفال والبسطاء من الرجال يأكلون تلك اليامات الأجنبية، وحين اشتدَّت المجاعة اضطُر أيضًا ذوو الألقاب وكبار «أوموارو» إلى تناوُل تلك اليامات القادمة من أرضٍ غريبة. لم يكن أحدٌ هناك عندما استخرجوها، وإذن فلا أحد يستطيع أن يُقسِم أنها ياماتٌ جديدة، وهكذا كان الناس يضحكون بجانبٍ واحد من وجوههم، حتى إن ذوي الألقاب كانوا حريصين على تناوُل تلك اليامات دون أن يراهم أحد.
اشتدَّت حدَّة الورطة التي تعاني منها «أوموارو» على «إيزولو» وعائلته أكثر مما يتصور الناس، لكنَّ أحدًا لم يستطع في عائلة كبير الكهنة أن يسمح لنفسه بتلك المراوغات التي سمح الآخرون لنفسهم بها من أجل تناول اليام الجديدة، محليةً كانت أم أجنبية؛ لأنهم كانوا ميسورين أكثر من معظم العائلات التي تملك مخزونًا وفيرًا من اليام القديمة، والتي ذبُلَت وتحوَّلَت إلى يامٍ لا طعم لها.
أصبح عقل «إيزولو» مشغولًا ومثقلًا، وكان معتادًا على الوحدة، ولكونه كبير الكهنة غالبًا ما كان يمشي وحيدًا أمام «أوموارو»، وكان باستطاعته دائمًا سماع الفلوت والأغنية الشهيرة التي كانت تهزُّ الأرض بدون النظر إلى الخلف، كان عددٌ كبير من الناس يَشْدُون بتلك الأغنية معًا ونادرًا ما كانوا ينقسمون، كما حدث ذات مرة في الأرض المُتنازَع عليها في «أوكبيري»، لكن انقسامهم لم يستمر فترةً طويلة.
جاء عددٌ قليل من الناس إلى كوخه، وكان شغوفًا لسماع ما تقوله «أوموارو»، لكنهم لم يقولوا شيئًا، ولم يشأ «إيزولو» أن يُظهِر شغَفه لسماعهم.
كان نوعٌ من الهدوء الغريب يسود «أوموارو» في كل يومٍ جديد، ذلك النوع من الهدوء الذي يحرق الإنسان من الداخل، مثل حافة الموسى الزرقاء المتوهِّجة وهي تخترق جدار جَوزة النخيل، وكان «إيزولو» يعاني من الألم المتواصل، فطلب الخروج من أرضه إلى ساحة سوق «كوا» لكي يصيح في «أوموارو».
لم يقترب أحد من «إيزولو» بما يكفي لمعرفة مدى عذابه وألمه، تخيَّلوا أنه جالس في كوخه يتأمل بسرور تلك المحنة التي تُعاني منها «أوموارو»، لكنه كان أكثر من كل أتباعه معاناة. كان من الممكن أن يعتاد «إيزولو» ذلك الهدوء الذي يسود «أوموارو». غير أن ثمَّة أخبارًا قليلة ومتناثرة كانت تصل إليه، وكانت لقلَّتها تبدو مثل حصاةٍ مُلقاةٍ في كهف.
كان «أكيوبو» هو الرجل الوحيد بين أصدقاء «إيزولو» وأقربائه الذي لم ينقطع عن زيارته، لكنه دائمًا ما كان يلتزم الصمت أثناء الزيارة أو الحديث في أشياء لا أهمية لها؛ لكنه أراد اليوم أن يُلقي بحصاته، فأشار إلى تطورات جديدة في الأزمة التي يعاني منها، ربما كان «أكيوبو» هو الرجل الوحيد في «أوموارو» الذي يعرف أن «إيزولو» لم يَعمِد إلى معاقبة «أوموارو»؛ فهو يعرف أن كبير الكهنة يعمل دون مساعدة أحد، فظل في كل زيارة حريصًا على عدم تناوُل الأفكار القريبة من أذهانهما، لكنه اليوم لا يستطيع مواصلة الصمت أمام تحرُّكات المسيحيين وهم يَجنُون حصاد «أوموارو».
قال «أكيوبو»: ما يحدُث يسبِّب لنا قلقًا شديدًا؛ فهو يُشبِه صراع الإخوة حتى الموت، كما قال أسلافنا، وها هو شخصٌ غريب يأتي ليرث أملاك الإخوة.
أشار «إيزولو» بكلتا كفَّيه المفتوحتَين تجاه صديقه، وقال: ماذا تتوقع أن أفعل؟ إذا نَسِي أيُّ رجلٍ في «أوموارو» نفسه وأراد اللحاقَ بهم فدَعْه يفعل.
هزَّ «أكيوبو» رأسه بيأس، وفور مغادرته صاح «إيزولو» مناديًا «أودوش»، وسألَه عن حقيقة المقدَّسات التي يقدِّمها الناس لأولئك الذين يريدون الانتقام من «أولو»، فأجاب «أودوش» بأنه لم يفهم.
– ألا تفهم؟ هل يقول أولئك الذين تنتمي إليهم عن «أوموارو» بأنه إذا قدَّم أيُّ شخص قربانًا إلى مزاركم فسوف يجني اليامات في أمان؟ هل تفهم الآن؟
– نعم، لقد قال لهم مُدرِّسنا ذلك.
– قال لهم ذلك! هل تُكرِّر عليَّ ما قاله؟
– لا.
– لماذا؟
ساد صمتٌ قال بعده «إيزولو»: قلتُ لك لماذا لا تكرِّر ما قاله؟
ظل الأب والابن فترةً طويلة ينظران إلى بعضهما بحزم وكلاهما صامت، ثم بدأ «إيزولو» بالحديث مرةً أخرى وكان صوتُه مشبعًا بالحزن: هل تتذكَّر ما قلتُه لك يا «أودوش» عندما أرسلتُكَ للالتحاق بأولئك الناس؟
حرَّك «أودوش» عينَيه تجاه إصبع قدمه اليمنى الكبيرة الممددة قليلًا إلى الأمام، وحينئذٍ استطرد «إيزولو»: بما أنك أصبحتَ أخرس دعني أذكِّرك، لقد استدعيتُك كما يستدعي الأب ابنه، وقلت لك أن تكون عيني وأذني بين أولئك الناس، ولم أرسل «أوبيكا» ولا «إيدوجو»، كما لم أرسل شقيقك «وافو»، لقد اخترتُك خصوصًا لترى وتسمع من أجلي، لكنني لم أكن أعرف في ذلك الوقت أنني أقوم بإرسال جمجمة ماعز، اغرُب عن وجهي وعُد إلى كوخ أمك؛ فلا أريد الكلام الآن، وعندما أكون مستعدًّا للحديث سوف أخبِرك بما أفكِّر فيه، اذهب بعيدًا عني، وعليك أن تفرح لأن أباك لا يستطيع الآن مناقشتك، قُلتُ بأن تذهب من هنا أيها السحلية التي تجلب الخراب لجنازة أمها.
خرج «أودوش» وقد أوشك على البكاء، ثم شعَر «إيزولو» ببعض الراحة.
مع قدوم قمرٍ جديد تناوَل «إيزولو» اليام الثانية عشرة، وفي الصباح التالي بعث إلى مساعديه ليُعلِنوا عن عيد اليام الجديد، وفي ذلك اليوم كانت الطبول تدقُّ في بيت «أمالو» إيذانًا بذكرى الميت في الغد، وصل صوت دقات الطبول إلى كل القرى في «أوموارو»، ولم يكونوا في حاجةٍ إلى من يذكِّرهم في مثل ذلك الوقت العصيب.
في المساء حلَم «إيزولو» حُلمًا غريبًا وغير عادي، وفي الصباح ومع ضوء النهار أدرك كل شيء، كان حُلمًا مثل ذلك الحُلْم الذي جاءه في «أوكبيري». لقد حلَم بأنه كان جالسًا في كوخه، فسمع نُواحًا خلف بيته، فيما وراء الحوائط الطويلة الحمراء، فأصابه قلقٌ كبير. وتساءل عن هُوية أولئك الناس، ثم فكَّر بالخروج لملاقاتهم، إيمانًا منه بما قاله القدماء عن ضرورة مواجهة من يسير خلف البيت وإلا فإنهم لن يتوقفوا، لكنه كان يفتقر إلى العزم فوقف حيث كان، فبدأَت الأصوات ودقات الطبول وأنغام الفلوت تعلو شيئًا فشيئًا، وكانوا يُغنُّون:
كانت الأغنية تخترق الأسماع مثل هبَّات الريح وفي طليعة هؤلاء كان النائحون يُغنُّون بالقرب من الجثة مع دقات الطبول.
زعق «إيزولو» لاستدعاء عائلته كي يلحقوا به في مواجهة أولئك الناس، لكن لا أحد كان موجودًا، فتحوَّلَت حَيرتُه إلى تحذير، وصل إلى كوخ «ماتيفي»، فلم يجد شيئًا سوى رماد حريق، فاندفع خارجًا إلى كوخ «أوجوي»، ونادى عليها وعلى أولادها، لكن كوخها كان منهارًا، وثمَّة عُشبٌ أخضرُ قليل كان ينمو فوق سقف القش، وبينما كان يجري نحو كوخ «أوبيكا» توقَّف إِثْر سماعه أصواتًا جديدة خلف البيت، وكانت مراسم الدفن قد انتهت، كان الألم اللذيذ للمُغنِّي الوحيد قد استقر في الرأس مثل الندى:
انتشَرَت ضحكات المغني المفاجئة المهووسة في بيت «إيزولو»، وعندما استيقظ كان يتصبَّب بالعرق رغم البرد، وشعَر بارتياحٍ شديد لكونه مجرد حُلْم، لكنَّ خوفًا غامضًا ظل ينتابه؛ لأن صوت الثعبان قد تلاشى مثل صوت أمه عندما أصابها الجنون، كانوا يَدْعونها في «أوموارو» «واني أوكبيري» وكانت مغنيةً عظيمة في شبابها، كانت تُغني لقريتها بسهولة كما يتحدث بعض الناس، وكانوا يضَعون قدَمها في المقبض أيام القمر الجديد حين أصابها الجنون، وكانت تلك لحظات فزعٍ كبير بالنسبة ﻟ «إيزولو» الطفل.
في تلك الأيام ساعد ممر «أوجبا زولو بودو» في تنشئة «إيزولو»، الذي لم يعِش طوال حياته مثل ذلك الليل المليء بالغضب والجنون، كانوا مثل فريقٍ كبير من العدَّائين تُغطِّيهم حبال الإيكيبلي ذات الخشخشة من رقابهم إلى رسغهم.
تعجَّب «إيزولو» لعدم القيام بتحيته عندما مرُّوا بجوار بيته، أم أنهم قد فعلوا قبل أن يستيقظ.
حاول جاهدًا أن ينام بعد ذلك الحُلم والاضطراب الذي حدَث في مَمَر «أوجبا زولو بود» غير أنه لم يستطع، بدءوا في إشعال قالب الطوب عند مكان «أمالو»، حَسَب «إيزولو» تسع دقات من دقات الطبول وكان النوم قد غادر جفنَيه تمامًا، استيقظ وراح يتلمس مزلاج بابه بعد أن تناول منجله وزجاجة النشوق من جانب السرير، ثم تحسَّس طريقه إلى الحجرة الخارجية حيث شعَر بقشعريرةٍ جافة تسري في جسده، فسارع بتذكية النار التي كانت ما تزال حية في جذعَي الشجرة الكبيرَين حتى اشتعلَتا قليلًا.
كانت عائلة «أمالو» تحمل ضيقًا شديدًا تجاه «إيزولو» وعائلته، لكن «أنيتو» لم يجد مفرًّا من التوسل إلى «أوبيكا» الذي قال له: لا أريد أن أقول لك لا، رغم أن مثل هذا الشيء لا يستطيع الرجل عملَه عندما يكون جسَدُه كله ليس ملكًا له، وأنا منذ البارحة أعاني من الحُمَّى.
قال «أنيتو»: ما هذا؟! .. إن كل شخص هذه الأيام يبدو مثل إناءٍ مكسور.
– لماذا لم تسأل «ويك أوكباكا» أن يفعل نفس الشيء؟
– كنتُ أعرفُه قبل مجيئي إليك، ولقد مررتُ ببيته.
نظر «أوبيكا» إلى الأمر بعين الاعتبار.
وقال «أنيتو»: كثيرٌ من الناس يستطيعون فعل ذلك.
فأجاب «أوبيكا»: حقًّا، كثيرٌ من الناس، ولكن بشيء من الجبن.
ثم قال «أوبيكا» لنفسه: إذا قلتُ لا فسوف يعتقدون أن «إيزولو» وعائلته يعمدون للمرة الثانية إلى تخريب قبر رجلِ قريتهم الذي لم يسبِّب لهم أي أذًى.
لم يُخبر زوجته بعزمه على الخروج تلك الليلة إلا بعد تناول وجبته المسائية، وقد كان «أوبيكا» دائمًا يدخل كوخ زوجته لتناول وجباته، حتى إن أصدقاءه كانوا يضايقونه قائلين بأن المرأة أفسَدَت عقله.
كانت «أوكواتا» على وشك الانتهاء من تناوُل حَسَائها عندما تحدَّث «أوبيكا»، مسحَت الطاسة بإصبعها، ثم تحسَّسَت به لسانها وقالت: هل تخرج وأنت مصابٌ بالحُمَّى؟ يجب أن تشفق على نفسك، إن المأتم غدًا، أفلا يستطيعون فعل شيء بدونك حتى الصباح؟
– لن أبقى طويلًا، إن «أنيتو» من جيلي، ويجب أن أذهب لرؤية ما يقوم بإعداده.
حافظَت «أوكواتا» على هدوئها المشبع بالحزن، واستطرد «أوبيكا»: اقفلي الباب جيدًا، ولن يخطفك أحد، كما أنني لن أبقى طويلًا.
ارتفع الصوت مناديًا: كوم – كوم – كوم .. كوم.
كان تحذيرًا لأي شخص بالإسراع إلى السرير وإطفاء كل الأنوار، وبعد أن توقف الصوت ساد هدوءٌ ممتزج بصوت الحشَرات، تقدَّم «أوبيكا» والآخرون ممن يحملون جوقة روح «آياكا» نحو دقات طبلة الأوكولو الأكثر انخفاضًا، وكانوا يُثرثِرون ويضحكون، ثم التحق بهم الرجل الذي كان يقرع على الأيك تاركًا طبلتَه في منتصف ضوء الصباح.
وفَور انتهائه من تلك الكلمات تأرجح «أوجبا زولو بودو» وصرخ قائلًا: أيو أوكو! أيو أكو! ألقى قارع الطبول بعصاه، وأطفأ الضوء بسرعة، وزرَعَت الرُّوحُ العصا في الأرض وارتدَّت، سحبها مرةً أخرى فتلاشت في الريح تاركةً ثمَّة كلماتٍ في الهواء.
إن الذبابة التي تتبختر زهوًا فوق رابية من الروث تُبدِّد وقتها؛ لأن الرابية ستظل دائمًا أكبر من الذبابة، والظلام العظيم يُمِد الكلاب بقرون، إن من يبني منزلًا قبل الآخر يستطيع التباهيَ بمزيد من الأواني المكسورة، والرجل الذي يسير في مقدِّمة أتباعه يكتشف الأرواح في الطريق، إن الخفَّاش يعرف وقاحته فيختار الطيران في الليل، وعندما يلوِّث الإنسان الهواء عند قمة شجرة النخيل يرتبك الطير، ويشرب الإنسان سيئ الحظ الماء فيلتصق بأسنانه.
كان الرجال الثمانية الذين يغنُّون في الكورس ما زالوا يتحدثون حيث تركهم «أوبيكا»، جاء «أوزومبا» وجلس معهم انتظارًا لعودته، كانوا يتحدَّثون عن الثور الكبير الذي ابتاعه أولاد «أمالو» لجنازته عندما سمعوا الصوت يعود، زحف رجال الكورس على أقدامهم واستعدُّوا للغناء، وفور دخول «أوجبا زولو بودو» الكوخ اندهَشوا جميعًا لعودته، فقال «أوزومبا» بفخر: ليس «أوبيكا»، إنه شخصٌ حادُّ الطباع، أعطني ولدًا حادَّ الطباع حتى لو كسر الأوعية.
وعندئذٍ دخل «أوجبا زولو بودو»، وانتزع «أوزومبا» القلادة من رقبته معلنًا عن اسمه، لكن «أوبيكا» لم يُجب، أعلن عن اسمه مرةً ثانية متحسسًا صدره، غير أنه أيضًا لم يُجب.
صبُّوا بعض الماء البارد فوق وجهه وجسده، وما إن بدأَت أغنية الأياكا حتى توقَّفَت، وعندئذٍ وقفوا جميعًا غير قادرين على الكلام.
قبل صياح الديك الأول كان «إيزولو» باقيًا في كوخه، وكانت النار ما تزال متوهجة في الخشب الكبير، ولكن بدون لهب، هل هو وَقْع أقدامٍ ذلك الذي يسمعه «إيزولو»؟ أرهف السمع، نعم، إن وَقْع الأقدام يقترب شيئًا فشيئًا، وكذلك كانت الأصوات ترتفع، اشتاق لمنجله، أي شيء يمكن أن يكون؟
صاح «إيزولو» قائلًا: مَن؟
توقَّف وَقْع الأقدام، ولم تعُد ثمَّة أصوات، وساد صمتٌ بعضَ الوقت، كان الصمت ثقيلًا مع وجود الغُرباء بالخارج في الظلام.
قال أحدهم: أيها الناس.
– من الذي ينادي؟ بندقيتي جاهزة.
– «إيزولو»، إنني أنا «أوزومبا».
– «أوزومبا»؟
– نعم.
– ما الذي جاء بك في مثل هذا الوقت؟
– لقد استبد بنا مكروه، لقد أتت الماعز على أوراق النخيل.
تنَحنَح «إيزولو»، وراح يذكي النار ببطء، وقال: دَعْني أُشعِل النار لرؤية وجوهكم.
كانت إحدى عِصِي الخشب المستخدَم في النار طويلةً جدًّا، فكسرها فوق ركبته، ثم نفَخ في النار مراتٍ قليلة، فتولَّد اللهب، وقال: ادخلوا كي أسمع ما تقولون.
فَورَ رؤيته جسَد «أوبيكا» قفز على قدمَيه شاهرًا مِنجَله: ماذا حدث له؟ من فعل ذلك؟ أقول من؟!
بدأ «أوزومبا» في تفسير ما حدث، لكن «إيزولو» لم يسمع شيئًا، وسقط المنجَل من يده، وتهاوى فوق كلتا ركبتَيه بجانب الجثة باكيًا وهو يقول: ابني، أين كنتَ يا «أولو» عندما حدث ذلك لي؟
ثم دَسَّ وجهَه في صدر «أوبيكا».
من أول شعاعٍ من ضوء الصباح كانت كل الترتيبات قد تمَّت لإعلان خبر الوفاة، وكان قارعو طبول الموت مستندين على الحائط واضعين جانبًا زجاجة البارود، تاه «إيزولو» وسط الناس المشغولين بمحاولة المساعدة، أبعَد المِكنسَة الطويلة التي يستخدمونها في تنظيف الأرض فتناولها وراح يكنس، حتى سارع شخصٌ ما وتناولَها منه، ثم قاده من يده إلى كوخه.
قال بصوتٍ خفيض: سرعان ما سيأتي الناس إلى هنا ولم يزَل المكان في حاجة إلى النظافة.
– لا تفكِّر في ذلك، سوف جد شخصًا ما للقيام بذلك حالًا.
كانت وفاة «أوبيكا» كالصاعقة بالنسبة لكل «أوموارو»؛ فقد كان رجلًا نادرًا، وبدا «إيزولو» وكأنه رجلٌ ميت.
توقَّع بعض الناس أن يكون «إيزيديميلي» مبتهجًا، لكنه ليس من ذلك النوع من الرجال، بالإضافة إلى معرفته الجيدة بخطر مثل ذلك الابتهاج، وكان كل ما قاله في هدوء: كان يجب أن يتعلم أن هناك حدودًا لجرأته في المرة القادمة.
لم تكن هناك مرةٌ قادمة بالنسبة ﻟ «إيزولو»، أية مرةٍ قادمة يُمكِن أن تكون؟
قال لنفسه: أريد العودة سريعًا إلى كوخي لأحرِّك الإناء وأكتشف الخطأ، قد يكون شخصٌ ما في بيتي، وربما يكون طفلًا قد انتهك حرمة محظوراتي! لا.
انهار «إيزولو» على الأرض في دهشةٍ مطلقة؛ فلم تكن وفاة «أوبيكا» مجرد رياحٍ بسيطة، كانت رياحًا عاتية، دائمًا ما يتلقَّى الرجال رياحًا قوية، والرياح هي التي تصنع الرجال، لكن الرجفة الهادئة للألم تحت جسد «إيزولو» كانت تُنبِئ عن مُعاناته.
كان «إيزولو» دائمًا منافسًا لحزنه، ولم يستطع أي نوعٍ من الألم أن ينال منه، لكنه الآن يسأل نفسه مرةً أخرى: لماذا اختار «أولو» أن يتصرَّف هكذا معي؟ لماذا طرحَني أرضًا وأهالَ الطين على جسدي؟ ماذا كانت جريمتي؟ ألم يتكهَّن بإرادة الإله ويُطِعها؟ من سمع أن قطعةً من اليام حرقَت طفلًا وهي في كف أمه؟ ماذا يريد الرجل حين يرسل ابنه بالشقفة لإحضار النار من كوخ الجيران تاركًا المطر ينهمر عليه؟ ومن يسوق ابنَه إلى النخيل لجمع الجَوْز ثم يأخذ الفأس ويقطع الشجرة؟
مثل هذه الأشياء تحدُث اليوم أمام أعين الجميع، فإلى أي شيء يشير ذلك؟ هل هو انهيار ودمار كل شيء؟ ها هنا يجد الإله نفسه عاجزًا، وربما يركب طائرة وينظر نظرةً أخيرة من الخلف، ويصرخ في عباده: إن الفأر لا يستطيع الفِرار أسرعَ مما يجب، دَعْه يصنع طريقًا للسلحفاة!
هكذا فكَّر «إيزولو»، لكنها كانت مجرد أفكارٍ تركت شجًا في رأسه؛ فقد كانت وفاة «أوبيكا» تؤكِّد رحمةَ الإله الذي جعل «إيزولو» في أيامه الأخيرة يعيش في بهاءٍ وعجرفة وجعل منه كاهنًا مهووسًا.
عاد «وينتربوتوم» في تلك الأثناء من رحلته الشفائية في إنجلترا وقد تزوج الطبيبة، ولم يسمع ﺑ «إيزولو» مرةً أخرى.
كان «جون وديكا» خادم «وينتربوتوم» قد تَرك خدمتَه للقيام ببعض الأعمال الصغيرة في تجارة الدخان، لكن الآلهة على ما يبدو وقسوة الأحداث الأخيرة جعلَت «وينتربوتوم» يحتاج إليه مرةً أخرى، فكان «وديكا» أول من نقل النبأ إلى الإدارة الحكومية.
عرف زعماء «أوموارو» وشعبها النتيجة النهائية التي كانت بدهية بالنسبة لهم؛ فلقد وقف الإله بجانبهم ضد الكاهن الطموح والعنيد. لقد وقف بجانب حكمة أسلافهم؛ فالرجل مهما كان عظيمًا لن يكون أعظم من شعبه، ولا أحد يستطيع أن يقف ضد عشيرته.
اختار «أولو» وقتًا عصيبًا لتأكيد تلك الحقيقة، وقد أحدَث تدمير كاهنه نكبة لنفسه مثل السحلية في الخرافة التي خربَت بيدَيها جنازة أمها، اختار الإله مثل ذلك الوقت لمعاقبة كاهنه أو التخلي عنه؛ لأنه كان الوقت الذي حَثَّ فيه «إيزولو» الناس لنيل حرياتهم حيث؛ كانت «أوموارو» متأهبة لذلك، استمر الحصاد المسيحي أيامًا قليلة بعد وفاة «أوبيكا»، وقد شهد الحصاد كثيرًا من الناس أكثر مما كان يحلُم «جود كنتري».
أرسل الناسُ أولادَهم لتقديم اليام إلى الدين الجديد، وبعد ذلك أصبح حصادُ اليام لدى أيٍّ من الرجال يتمُّ باسم الابن.