الفصل الثاني
كثيرًا ما كان «إيزولو» يردِّد: إن آباء «أوموارو» القدامى يجب أن يخجلوا وتُصيبَهم الحَيْرة والارتباك لما يحدُث هذه الأيام. لقد خاضت «أوموارو» حربًا ضد «أوكبيري» .. هل كان لأحدٍ أن يتصوَّر أن «أوموارو» تكون طرفًا في إحدى الحروب وهي متفرقةٌ هكذا؟ من كان يعتقد أنهم سيتجاهلون تحذيرات قس «أولو» الذي عمل على وحدة القرى الست وجعلهم على ما هم عليه؟ لكن «أوموارو» شعَرَت بالقوة والحكمة وملأها الغرور والخيلاء حتى أصبَحَت مثل الطائر الصغير الذي أكل وشرب ثم تجرَّأ في طلب صراع ربه الخاص ومنازلته. لقد قامت «أوموارو» بتحدي الإله الذي شيَّد قراهم .. وإذن فماذا كانوا يتوقَّعون؟ .. ها هو يعاقبهم .. اليوم وغدًا.
كانوا في غابر الأزمان قليلين جدًّا ومتفرِّقين بين القرى الست؛ «أومواشالا»، «أومونيورا»، «أومواجو»، «أوموزيني»، «أوموجوجو»، و«أوموسيوزو»، وكانوا يعيشون كشعوبٍ متباينة، وكلٌّ منهم يعبُد آلهته الخاصة، وعندئذٍ كان جنود «آبام» المرتزقة يضربون في غياهب الليل .. يُشعِلون النار في البيوت، ويُعامِلون الرجال والنساء والأطفال معاملة العبيد.
في كل أرجاء القرى الست كان الأمر سيئًا وبشعًا إلى أن اجتمع القادة وتكاتفوا لإنقاذ أنفسهم.
استأجروا فريقًا قويًّا من رجال السحر من أجل صنع إلهٍ شائع ومعروف. وكان «أولو» هو الإله الذي صنعه الآباء للقرى الست، دفَن نصفَه هذا الفريق من رجال السحر في مكان عُرف بعد ذلك بسوق «كوا»، وألقَوا بالنصف الآخر في الجدول الذي أصبح «مجرى أولو»، ثم أُطلق اسم «أوموارو» على القرى الست، وصار قس «أولو» رئيسًا للقساوسة. ومنذ ذلك الحين لم يحدث أبدًا أي اعتداء من العدو .. كيف إذن استطاع مثل أولئك الناس أن يتجاهلوا الإله الذي أسَّس بلادهم وحفظها؟
… رأى «إيزولو» ذلك نهاية للعالم.
ذات يوم من أعوام خمسة قرر قادة «أوموارو» إرسال مبعوث إلى «أوكبيري» حاملًا الصلصال الأبيض دليل السلام أو ورقة جديدة من أوراق السرخس دليل الحرب .. تحدثوا كثيرًا وكذا فعل «إيزولو» دون جدوى.
قال لرجال «أوموارو»: أعرف بأن الإله «أولو» لن يساهم في هذه الحرب الظالمة .. نعم، لقد أخبرني أبي أن قريتنا عندما جاءت لتعيش هنا بادئ الأمر كانت الأرض ملكًا ﻟ «أوكبيري» .. إن «أوكبيري» هي التي قدَّمَت لنا الأرض لنعيش فيها، بالإضافة إلى أنهم وهبونا آلهتهم الخاصة «أودو» و«أوجوجو»، لكنهم قالوا لأجدادنا …
توقَّف «إيزولو» قليلًا وقال: انتبهوا لما أقول …
ثم استطرد: قال الناس في «أوكبيري» لأجدادنا بألا يدعوا الإله «أودو» باسمه ولكن باسم «ابن أودو»، وكذلك «أوجوجو» باسم «ابن أوجوجو» .. هذه هي القصة كما سمعتُها من أبي، فإذا أردتم محاربة رجل في أرضه فلن أشارككم تلك الحرب.
كان «واكا» واحدًا من ثلاثة في كل القُرى الست الذين اشتُهروا في الأرض وكان لهم شأنهم .. لقبوه ﺑ «أيرو» إله الثروة؛ فلقد انحدر من سلالةٍ عريقة من الأغنياء، وكانت قريته من «أوموارو».
صاح «واكا» بصوت كالزئير: «أوموارو» وينو:
أجاب رجال «أوموارو»: هيم!
– وينو!
– هيم!
– أوكواتا!
– هيم!
ساد السكون بعد أن قدَّم تحيتَه ثم بدأ كلامه بهدوء: إن الحكمة مثل حقيبةٍ من جلد الماعز، وكل رجل يحمل حقيبته الخاصة به. ولقد حدَّثَنا «إيزولو» عما أخبره به والده عن تلك الأيام البعيدة، وكلنا يعرف أن الأب لا يتحدث سوى الصدق مع ابنه، وكلنا أيضًا يعرف أن أسرار الأرض وحكمتها تقف فيما وراء معرفة كثير من الآباء، وإذا كان «إيزولو» تحدَّث عن آلهة «أوموارو» العظماء التي يؤمن بها، وآمن بها آباؤه من قبله، فقد استمعتُ لما قال، لكنه ذكَر أحداثًا هي أقدَم كثيرًا من «أوموارو» نفسها، ولا أخشى القول بأنه لا أحد في هذه القرية بما فيهم «إيزولو» يعرف شيئًا عن تلك الأحداث؛ فلقد سمعنا من الكبار والرجال ذوي الشأن ثرثراتٍ كثيرةً في هذا الصدَد.
كان «واكا» أثناء حديثه يتقدَّم للأمام ثم يعود للخلف، وكانت قبعتُه مزركشةً بريش النسر ولِفافةٍ برونزية في ركبته وكأنه أحد أرباب الأرض .. كان شهيرًا ﺑ «أيرو» إله الأغنياء.
استطرد قائلًا: إن أبي روى لي قصةً أخرى مختلفة .. قال لي إن شعب «أوكبيري» كانوا جوَّالين وهائمين في الأرض. وحكى لي أنهم أقاموا لفتراتٍ قصيرة في ثلاثة أو أربعةِ أماكنَ مختلفة، ثم غادروها، وأن «الأموفيا» و«الآباء» و«الأنينتا» قد طردوهم، فهل يذهبون اليوم للمطالبة بكل هذه المواقع؟ هل كان لهم أن يطالبوا بأي شيءٍ قبل أن يُغيِّر الرجل الأبيض حياتَنا تمامًا؟ أيها الكبار، يا كبار «أوموارو»، اتركوا كل شخصٍ يعود إلى بيته. إذا لم تكن لدينا نيةُ القتل فلن نكون أوَّل من هَجَروا أرضَهم أو بيوتَهم تجنُّبًا للحرب، ولكن لا يجب أن نقول لأنفسنا أو لأطفالنا فيما بعدُ إننا فعلنا ذلك لأن الأرض لم تكن لنا وإنما كانت لقومٍ آخرين. دعُونا نُخبرهم بأن آباءهم اختاروا السلام بديلًا عن القتال .. دعُونا نُخبرهم أيضًا أننا تزوَّجنا بنات «أوكبيري» وأن رجالهم تزوَّجوا من بناتنا. وهكذا فقد هذا الخليطُ من الرجال حماسهم للقتال .. «أوموارو وينو!»
– هيم!
– أوكواتا!
– هيم!
– أحيِّيكم جميعًا.
سادت الضوضاء والثرثرة كنوع من القَبول والاستحسان. لقد أفسد «واكا» كل كلمةٍ قالها «إيزولو»، وخاصةً عندما أشار إلى أن أم رئيس الكهنة كانت إحدى بنات «أوكبيري».
تفرَّق المجلس إلى عددٍ كبير من المجموعات الصغيرة، وراحوا يتبادلون الحديث فيما بينهم.
قال أحد الرجال: لقد نَسِي «إيزولو» أن يخبرنا عن الذي روى له حكاية الأرض .. هل كانت أمَّه أم أباه؟
علَت الأصوات في المجلس واحدًا بعد الآخر، وكان واضحًا أن القرى الست بأكملها تقف خلف «واكا».
لم يكُن «إيزولو» هو الرجل الوحيد في «أوموارو» الذي جاءت أمه من «أوكبيري»، لكنَّ أحدًا لم يجرؤ على الوقوف بجانبه ومساندته سوى «أوكوكاليا» فقط، الذي كان غاضبًا ونافرًا من اختياره لحمل الصلصال الأبيض وورقة السرخس إلى «أوكبيري» مسقط رأسه.
كان أكبر الرجال عمرًا من نفس قرية «أكواكاليا» هو آخر من تحدَّث في ذلك اليوم .. كان صوته مهزوزًا لكنه قَوِي، وعندما بادر بتحية المجلس دوَّى صوتُه واضحًا في كل أركان سوق «كوا»، فأصابت كلَّ رجال «أوموارو» الدهشةُ لمجهوده الكبير وصياحه.
قال بهدوء: يجب أن أنتظر قليلًا حتى ألتقط أنفاسي تاركًا الفرصة لهؤلاء الذين يضحكون، أريد أن أوجِّه حديثي إلى الرجل المبعوث إلى «أوكبيري» .. لقد مضى وقتٌ طويل منذ قاتلنا في الحرب، وكثيرٌ منكم ربما لا يتذكَّر .. لا أقول بأن «أكوكاليا» في حاجةٍ لمن يذكِّره ولكنني رجلٌ عجوز، والرجل العجوز لا يملك سوى الكلام. إذا كان ينبغي على أصحاب البيت أن يهملوا عملهم فلا بد أنهم مخطئون في حق أصحاب الأرض. لقد عرفتُ مقدار غضب «أكوكاليا» من الطريقة التي تحدَّث بها، من حقه أن يغضب لكننا لن نُرسلَه إلى موطنه من أجل القتال.
نظر إلى «أكوكاليا» قائلًا: اخترناك مبعوثًا لكي تضعَهم أمام خيارَين لا ثالث لهما، الحرب أو السلام.
ثم قال: هل أواصل حديثي إليكم يا شعب «أوموارو»؟
وافقوا بالإجماع حين استطرد: نتمنى ألا تختار «أوكبيري» الحربَ؛ فلا أحد يحب الحرب. إذا اختاروا السلام فسوف نفرح كثيرًا. وأيًّا ما كان ردهم واختيارهم فلا تتصدَّ يا «أكوكاليا» لأي نزاع؛ فإن واجبك هو إبلاغنا بالرد فقط. نحن جميعًا نعرف أنك رجل شجاع، لكنك هناك يجب أن تضع شجاعتك في حقيبتك. وإذا ما تسبَّب الرجال الذين معك في قلقٍ يكون واجبك عندئذٍ أن تتصرف بشيء من اللباقة والحكمة. لقد ذهبتُ في شبابي للقيام بمثل هذه المهمة، وأعرف جيدًا ما تنطوي عليه من إغراءات. أحيِّيكم.
تملَّكَت «إيزولو» الدهشةُ لكل ما رأى وسمع، وطافت فوق شفتَيه ابتسامة ملؤها الحزن والتأثُّر، فهَبَّ واقفًا على قدمَيه وكأن نحلةً سوداء لسعَتْه بين أردافه وقال: «أوموارو وينو».
– هيم.
– أحيِّيكم جميعًا.
قدَّم لهم التحية بوجهٍ ساخط، ثم قال: عند وجود الجَدْي في البيت فإن الماعز لا تذهَب بعيدًا لتُعاني آلام المخاض. هذا ما قاله أجدادنا. وإذن فما هذا الذي نراه ونسمعه هنا اليوم؟ إن بعض الناس خائفون والبعض الآخر متعطِّش للحرب، ولكن دعنا من هذا كله الآن، فإذا كانت الأرض هي حقًّا أرضنا فإن «أولو» سيقاتل في جانبنا، وإذا لم تكن كذلك فسوف نعرف. لم أكن راغبًا في الحديث مرةً ثانية اليوم إلى أن رأيتُ الشباب في بيوتهم يُهمِلون واجباتهم. كان من الواجب على «أوجبوفي إيجونوان»، كواحدٍ من أكبر ثلاثة رجال في «أوموارو»، أن يُذكِّرنا بأن آباءنا لم يُحاربوا من الخجل، لكنه بدلًا من ذلك أراد أن يُعلِّم مبعوثنا كيفية حمل النار والماء في فمٍ واحد. ألم نسمع بأن صبيًّا أرسلَه والده للسرقة فلم يذهب خلسةً ولكنه كسر الباب بقدمَيه؟ لماذا إذن يُرهق «إيجونوان» نفسه بمثل هذه الأشياء الصغيرة بينما يتغافل الكبار؟ نحن نريد الحرب، ولن يتصرف «أكوكاليا» مع شعب «أوكبيري» هكذا، بل يستطيع أن يبصُق في وجههم إذا أراد، إذا سمعنا عن سقوط بيتٍ فهل يحق لنا أن نسأل عن وقوع السقف معه؟ أحيِّيكم جميعًا.
عند مطلع الفجر التالي رحل «أكوكاليا» بصحبة رفيقَين إلى «أوكبيري»، وكانت حقيبته المصنوعة من جلد الماعز تحوي بداخلها كومةً كبيرة من الطباشير الأبيض، وقليلًا من ورق النخيل الأصفر كانوا قد اقتطعوه من أعلى الشجرة قبل أن يُعرِّضوه للشمس، وكلٌّ منهم يحمل سلاحه في غمده.
كان فجر يوم «إيك»، يوم السوق الشهير في «أوكبيري»، وكانت النساء أمام «أكوكاليا» ورفيقَيه قد خرجن من كل القرى المجاورة في طريقهن إلى سوق «إيك»، وكثيرٌ منهن كن من «إيلوميلو» و«آبام» الشهيرة بصناعة أفضل أنواع الأوعية في كل أرجاء البلاد. كانت كل واحدةٍ منهن تحمل خمسة أو ستة، وربما أكثر من تلك الأوعية وأواني المياه الكبيرة، مربوطة ببعضها بالحبال، في سلةٍ كبيرة، بدت في ذلك الوقت من الفجر وكأنها أحد الأرواح ذات الرءوس الخيالية .. وبينما عبَر رجال «أوموارو» تلك الحشودَ من نسوة السوق كانوا يتحدَّثون عن سوق «إيك» الكبير في «أوكبيري» وهؤلاء القوم ذاهبون إليه من كل أرجاء «إيبو» و«أولو».
قال «أكوكاليا» مفسِّرًا: إنها قُوى السحر القديمة. إن رجال «أوكبيري» عظماءُ في عالم السحر والدواء.
ثم استطرد بفخر: في البدء كان «إيك» سوقًا صغيرًا يبدو ضئيلًا وخاليًا بجانب الأسواق الأخرى المجاورة، حتى أقبل رجال «أوكبيري» ذات يومٍ على صُنع إلهٍ قوي، يتولى رعاية سوقهم، وعندئذٍ كبر السوق، بل أصبح أكبر سوقٍ في المنطقة. كان ذلك الإله امرأةً عجوزًا، وكان اسمه «واينيك»، وكانت المرأة العجوز يوم «إيك» من كل أسبوع تظهَر في السوق قبل الفجر، تقبض بالمكنسة في يدها اليمنى، وتلُف وتدور في رقصاتٍ سريعة وهي تُشير بالمكنسة في كل الاتجاهات، فتجذب بذلك الناس من أرجاء الأرض. لم يكُن الناس يذهبون للسوق قبل الفجر حتى لا يشاهدوا العجوز وهي ترقص.
قال أحد زملاء «أكوكاليا»: نفس القصة يقولونها على سوق «كوا» بجوار نهر «أومورو» الكبير؛ حيث انتشَرَت أعمال السحر، ولم يعُد يوم «كوا» هو اليوم الوحيد للسوق.
أجاب «أكوكاليا»: لكن «أوموارو» لا تنافس «أوكبيري» في السحر. لقد أصبح السوق عندهم كبيرًا؛ لأن الرجل الأبيض ذهب إلى هناك ببضاعته.
قال الزميل الآخر: ولماذا ذهب الرجل الأبيض ببضاعته إذا لم يكن بسبب السحر؟ .. لقد احتوت مكنسة المرأة العجوز العالم كله، بما فيه أرض الرجل الأبيض التي لا تشرق فيها الشمس أبدًا، كما يقولون.
سارع الزميل الأول بالسؤال: هل حقًّا أن واحدةً من نسائهم في «أوموارو» ذهبَت بعيدًا بدون القبَّعة البيضاء وأذابت زيت النخيل في الشمس؟
قال «أكوكاليا»: سمعتُ أيضًا عن ذلك، لكن ثمَّة أكاذيب كثيرة عن الرجل الأبيض، فسمعتُ مثلًا ذات مرة أنه لا تُوجَد أصابعُ في قدمه.
كانوا عند الشروق قد وصلوا إلى الأرض المُتنازَع عليها. كانت أرضًا جافة لم تعرف الزرع منذ سنواتٍ عديدة، وكان الحشيش ذو اللون البني منتشرًا بكثافةٍ فوقها.
هَزَّ «أكوكاليا» رأسه قائلًا: أتذكَّر جيدًا يوم جئتُ هنا مع أبي لقَطع الحشيش وجَمع القَش من أجل عمل سقفٍ لنا، وما يبعث الدهشةَ في نفسي أن أهل أمي يطالبون بها اليوم.
إن كل شيءٍ يرجع إلى الرجل الأبيض الذي يقول كما يقول رجلٌ كبير لطفلَين متصارعَين بألا يتشاجرا في وجوده، فيبدأ أصغرُ الطفلَين وأضعفُهما في التباهي وإظهار قوَّته.
قال «أكوكاليا»: لقد قلتُ الحقيقة، مثل هذه الأشياء لم تكن تحدُث أبدًا وأنا صغير، لم تكن تحدُث أيام أبي، نعم .. إنني أتذكَّر جيدًا كل شيء.
ثم أشار بيده مستطردًا: هذه الشجرة هناك. إنها شجرة «أيبينيب» التي حطَّمها الرعد ذات مرة، وجمع الناس القَش من تحتها، ثم هُرعوا إلى كل الاتجاهات.
كان أحدُهم صامتًا طوال الرحلة التي بدأَت في الفجر، ولم يكن قد تحدَّث كثيرًا، وفجأةً قال: ماذا يجب أن تقول لهم؟ .. يجب عليهم — إذا كانت الأرضُ حقًّا أرضَهم — أن يفسِّروا لنا كيف تركونا نزرعها ونجمع منها القش جيلًا بعد جيل ولم يدركوا ذلك إلا بعد مجيء الرجل الأبيض.
أجاب «أكوكاليا»: ليس من حقنا أن نطرح أي سؤالٍ سوى ما يريدون هم الإجابة عليه. أعتقد أنني أخبرتُك بأن تكون حريصًا فيما تقوله لهم، ودعِ الكلام لي .. إنهم قومٌ عنيدون بما فيهم أمي، ولكني أعرف ما يعرفون، فإذا ما أشار لك رجلٌ من «أوكبيري» مناديًا إيَّاك، فهذا يعني أن تجري بكل قُوَّتِك، يجب أن تتعوَّد طريقتَهم في الحياة كي لا تقضي معهم وقتًا طويلًا وتُشاركَهم الحديث والطعام دون أن تفهَم شيئًا، وتكون مجرد شيء يطفو فوق سطح الماء. دعهم لي إذن؛ لأن الرجل الماكر حين يموت فإن أحدًا لا يدفنه سوى رجلٍ ماكر مثله.
وصل الرجال الثلاثة إلى «أوكبيري» في اللحظة التي فرغ فيها الناس من تناول إفطارهم، واتجهوا على الفور إلى «أدوزو» الذي يُعَد أقرب الناس إلى أم «أكوكاليا».
كانت «أوكبيري» تتوقع مثل هذه المبادرة من «أوموارو». وربما أدرك «أدوزو» هذا من وجوه الرجال المتجهمة، فسارع بسؤالهم عن أحوال الناس في قريتهم.
أجاب «أكوكاليا» بنفاد صبر: إنهم بخير، الجميع بخير. لكننا جئنا في مهمةٍ عاجلة نودُّ لو عرفنا رأي «أوكبيري» بشأنها الآن.
قال «أدوزو»: نعم، نعم، لقد تساءلتُ بيني وبين نفسي عن سبب مجيء ابني بصحبة اثنَين من أهله كل هذا الطريق، وفي مثل هذا الوقت المبكِّر. لو أن أمك ما زالت تعيش لفكَّرتُ عندئذٍ أن شيئًا ما قد أصابها.
توقَّف لحظةً قليلة ثم استطرد: مهمَّة عاجلة وهامة. نعم، إن الضفدعة لا تجري إلا إذا كان ثمَّة شيءٌ وراءها. لا أريد أن أكون سببًا في تأخير مهمتك، ولكن يجب أن أقدِّم لك قطعة من جَوز الكولا.
لا داعي لأي شيء، ولا تُقلِق نفسك؛ فربما نعود فور الانتهاء من مهمتنا. إنه عبءٌ كبير يُثقِل رءوسنا، ولن نستطيع أن نفهم ما نقول قبل إزاحة هذا العبء.
أعرف ما تعني — ها هي قطعة من الصلصال الأبيض — دعني أوافقك، ولنترك قطعة الكولا حتى تعود.
أسرع «أدوزو» إلى حجرته الداخلية، وعاد حاملًا حقيبته المصنوعة من جلد الماعز، وقال: سوف أصحبك إلى الرجل الذي يتلقى رسالتك.
مضَوا خلفه في الطريق بهدوء .. عبَروا السوق الكبير المكدَّس بالناس، وكان موسم النبات وكثيرٌ من الناس في السوق يحملون سلالًا كبيرة تحوي بذور اليام، وآخرون يحملون الماعز في سلالٍ كبيرة أيضًا، ورجلٌ ما يُمسِك بدجاجة. أما النساء وكان بعضهن قد جئن من أماكن بعيدة، فكن يتحدَّثن بصوتٍ عالٍ كلما تجمَّعن في مكانٍ ما؛ فقد أصابهن التعب والإجهاد، وظلِلْن صامتات، بينما لم يجد «أكوكاليا» صعوبةً في التعرُّف على أواني المياه التي يحملنها فوق الرءوس.
كان غيابه عن موطن أمه ثلاثَ سنوات قد جعلَه يشعر بعاطفةٍ غريبة تجاه هذه الأرض — التي تساءل يومًا ما وهو صغيرٌ عن لونها الأبيض — بينما الأرض في «أوموارو» بلونٍ أحمر بني، فأجابَتْه أمه يومئذٍ بأن ذلك يعود إلى أن الناس في «أوكبيري» يغتسلون كل يوم، وكانوا على قدْرٍ كبيرٍ من النظافة بينما في «أوموارو» لا يقرَبون الماء إلا يومَين أو ثلاثةً في الأسبوع.
كانت أمُّه امرأةً شديدة القسوة، وتتوق دائمًا إلى العِراك معه، لكنه يُحس الآن عاطفةً قوية تجاه هذه الأرض وتجاه أمه.
وصل «أدوزو» مع زُوَّاره الثلاثة إلى بيت «أوتيكبو» مناديًا «أوكبيري»، الذي كان جالسًا في كُوخه يقوم بإعداد حبات اليام للسوق. قدَّم التحية لزُوَّاره مناديًا «أدوزو» باسمه، ومُرحبًا ﺑ «أكوكاليا» قائلًا: ابن ابنتنا. ثم صافح الاثنَين الآخرَين.
كان «أوتيكبو» طويلًا وقويًّا وذا أكتافٍ عريضة، ولم يزل يبدو مثلما كان في شبابه عدَّاءً كبيرًا .. دلَف إلى الحجرة الداخلية وعاد بحصيرةٍ ملفوفة يضعُها فوق السرير الطيني للزوار .. دخلَت فتاةٌ صغيرة وهي تنادي: أبي .. أبي.
– اذهبي بعيدًا يا «أوجيانج» .. ألا تَرَيْن؟
– ضربَني «ويك»، لقد صفعَني يا أبي.
– سأجلدُه فيما بعدُ، قولي له إنني سأجلدُه.
قال «أدوزو»: هيه .. «أوتيكبو» .. دعنا نخرج من هنا لنتحدث قليلًا؛ فإنهم في عَجَلة من أمرهم ولن يبقوا طويلًا .. أرجو أن تأتي ببعض جَوْز الكولا في الطاسة الخشبية.
قدَّم «أكوكاليا» الشكر قائلًا: لن نستطيع أن نأكل أو نشرب شيئًا قبل أن نفرغَ أنا وزملائي من المهمَّة التي جئنا بشأنها.
سأل «أوتيكبو»: وإذن هل من الممكن البوحُ لي أنا و«أدوزو» فقط بما تتضمن هذه المهمة التي تُثقِل كاهلَكُم، أم أنه من الضروري حضور كبار رجال «أوكبيري»؟
– إنها تتطلَّب كبار الرجال.
– إذن فقد جئت في وقتٍ غير مناسب .. كل إنسان في «إيمبولاند» يعرف جيدًا أن شعب «أوكبيري» لا يفعل شيئًا في يوم «إيك» الذي هو يوم السوق الكبير .. كان من الأفضل لو جئتَ بالأمس أو أمس الأول أو غدًا أو بعد غد .. ابن ابنتنا .. كان ينبغي أن تعرف عادتنا.
أجاب «أكوكاليا»: إن عاداتكم لا تختلف كثيرًا عن عادات الآخرين، لكن مهمتنا لا تحتمل التأجيل.
قال «أوتيكبو»: نعم .. نعم.
ومضى إلى الخارج، وكان صوته مسموعًا وهو ينادي على جاره «إيبو»، ثم عاد وقال مستطردًا: مهمة لا تحتمل التأجيل! وماذا نستطيع أن نفعل الآن؟ أقترح أن تنام في «أوكبيري» اليوم لمقابلة الكبار غدًا.
دخل «إيبو» ولوَّح بالتحية إلى كل الحاضرين .. أصابته الدهشة لوجود كل أولئك الناس، وللحظات انتابه التردُّد، ثم صافح الجميع لكن «أكوكاليا» رفض مصافحتَه.
قال «أوتيكبو»: اجلس يا «إيبو» .. إن «أكوكاليا» يحمل رسالةً إلى شعب «أوكبيري» تمنعه من تناول جَوزة الكولا ومن المصافحة. إنه يرغب في مقابلة الكبار. ولقد شرحتُ له استحالة ذلك اليوم.
– ولماذا اختاروا اليوم لإبلاغنا برسالتهم؟ أليس لديهم سوق في بلدهم؟ إذا كنتَ قد استدعيتَني من أجل هذا السبب فينبغي أن أعود للإعداد للسوق.
– يجب إبلاغ رسالتنا حالًا .. لا يمكن الانتظار .. قلتُ هذا من قبل.
– لم أسمع من قبلُ عن رسالةٍ لا تحتمل الانتظار أو التأجيل، أم أنك جئتَ لنا بأخبار تفيد بأن «شوكو» الإله الأكبر أوشك على تدمير العالم؟ إذا لم يكن الأمر كذلك فلا بد أن تعرف أن مجيء ثلاثة رجال إلى المدينة لن يكون سببًا لتوقف يوم «إيك» في «أوكبيري» .. تستطيع أن تسمع بوضوح تلك الأصوات في السوق، والتي لم تكتمل إلى النصف حتى الآن .. عندما تكتمل يمكنك سماعها من «أمودا»، فهل تعتقد أن سوقًا كهذا يمكن أن يتوقَّف لسماع رسالتك؟
جلس لحظةً قصيرة، وساد صمتٌ قطَعه «أوتيكبو» قائلًا: والآن لعلَّك تعرف يا ابن ابنتنا صعوبةَ إحضار رجالنا الكبار قبل الغد.
– وإذا ما اشتعلَت الحرب في مدينتكم فجأةً فكيف تستدعون رجالكم يا جدِّي؟ هل ستنتظرون حتى الغد؟
انفجر «إيبو» و«أوتيكبو» ضاحكَين بينما كان رجال «أوموارو» الثلاثة يتبادلون النظرات. وارتسمَت فوق وجه «أكوكاليا» علاماتُ الغضب الممتزج بالخطر، أما «أدوزو» فكان كما هو منذ جاء جالسًا ويدُه اليسرى تحت ذقنه.
قال «أوتيكبو» بعد أن فرغ من الضحك: اختلافُ العادات من اختلاف الناس، وفي «أوكبيري» ليس من عاداتنا أن نُرحِّب في سوقنا بالغرباء.
– يا جدِّي أنت إذن تعتبرنا كنساء السوق .. لقد تحمَّلتُ إهانتكَ بصبر، فدعني أذكِّرك أن اسمي «أوكيك أكوكاليا» من «أوموارو».
قال «إيبو» ولم يزل متألمًا من عدم مصافحته له: أووه .. «أوموارو» .. إنني سعيد لقولك «أوموارو»، لكن هذه المدينة تُدعى «أوكبيري».
صاح «أكوكاليا»: عد إلى بيتك وإلا حطَّمتُ رأسك.
– إذا أردتَ أن تصيح كالثور المخصي فعليكَ بالانتظار حتى تعود إلى «أوموارو» .. قلتُ لكَ إن هذا المكان يُدعى «أوكبيري».
قال «إيبو»: إن «أكوكاليا» عاجز، وإن زوجتَيه كانتا تذهبان سرًّا إلى رجالٍ آخرين من أجل إنجاب أطفاله.
وهنا أصبح القتال عنيفًا، ولم يكن «إيبو» ندًّا ﻟ «أكوكاليا»، الذي سرعان ما حطَّم رأسه، التي غرقَت في الدم.
غضب «إيبو»، وأصابه الجنون من الألم وشدة الخجل، وأسرع لالتقاط سلاحه من بيته .. كانت كل نساء وأطفال البيوت المجاورة بالخارج .. ارتفَع صُراخُهم من الرعب، واندفع المارة إلى حيث يتشاجران في محاولةٍ للتوسُّط بينهما.
تطاير الشرَر من عينَي «أكوكاليا»، فاندفع داخل الكوخ ملتقطًا سلاح «إيبو» من مخزنه، ووسط دهشة الجميع حطَّمه إلى نصفَين بينما كان «أوتيكبو» يُهدِّئ من غضب «إيبو» تجنبًا لسفك الدماء. وعندما شاهد الجميع ما عزم «أكوكاليا» على فعلِه ناشدوا «أوتيكبو» أن يترك الرجل وشأنه.
خرج الرجلان الآخران معًا من الكوخ .. اندفع «إيبو» في اتجاه «أكوكاليا»، ثم توقف عما يريد عمله، ولم يكن يعرف أبدًا ما إذا كان مستيقظًا أم أنه يحلُم .. فرك عينَيه بظهر يده اليسرى وكان «أكوكاليا» واقفًا أمامه، وكان السلاح المنشطر إلى نصفَين في مكانه فوق التراب حيث ألقاه «أكوكاليا».
– تحرَّكْ خطوةً أخرى إن كنتَ رجلًا .. نعم إنني كسرتُه إلى نصفَين .. ماذا تستطيع أن تفعل؟
– كان حقيقةً إذن ما فعلت .. قالها «إيبو» وظل يلُف حول نفسه، ثم دخل كوخه، وعند المخزن ركع على قدمَيه لإلقاء نظرة قريبة على السلاح، فوجد مكانه فارغًا في الدولاب الخشبي، لم تلحقه الرمال بعدُ.
بكى مُردِّدًا: نا .. دو .. نا .. دو .. وراح ينادي أباه المتوفى أن يأتي لمساعدته، ثم نهض وذهب إلى حجرة نومه حيث طال غيابه .. خاف «أوتيكبو» أن يفعل شيئًا في نفسه فاقتحم الحجرة، لكن «إيبو» دفعه جانبًا وهُرع إلى الكوخ حاملًا بندقيته المليئة بالرصاص، وعند العتبة ركع على قدمَيه وصوَّب نظراته نحو الهدف .. كان «أكوكاليا» يرى الخطر قادمًا فاندفع إلى الأمام، وبالرغم من أن الرصاصة أصابَتْه في الصدر إلا أنه واصل الجري رافعًا سلاحه إلى أعلى حتى سقط أمام العتبة .. لامس وجهُه سقفَ القش المنخفض قبل أن يسقط على الأرض.
صاعقةٌ أصابت كل فرد في «أوموارو» عندما جاءت الجثة. لم يحدُث أبدًا من قبلُ أن قتلوا رسول «أوموارو» خارج بلده.
قالوا: لقد قتلوا أحد أبناء عشيرتنا، ولا تهاوُن أو سماح في ذلك.
وقالوا: فلنضَع أنفسنا مكان ذلك الرجل القاتل .. من منا يتحمل هذا الشيء؟ وما التضحية أو الكفَّارة التي تغفر له؟
كان ممكنًا ﻟ «أوموارو» أن تتجاهل ذلك الحدث أو تتناساه، وربما تنازعَت كل البلاد بسببه، لكنَّ شيئًا صغيرًا كان يُقلِقهم .. شيءٌ صغير لكن دلالته كبيرة .. لماذا لم تتنازل «أوكبيري» بإرسال مبعوث إلى «أوموارو» يُخبرهم بما حدث؟
إن الجميع متفقون على أن الرجل الذي قتل «أكوكاليا» كان غاضبًا، وأن شيئًا ما استفزَّه، وأنه لمن الحق أيضًا أن «أكوكاليا» لم يكن ابنًا ﻟ «أوموارو» فقط، وإنما هو ابن بنت «أوكبيري» أيضًا، وما حدث شبيه بسقوط رأس الماعز في حقيبة من جلد الماعز .. وإذن كان عليهم بعد قتل الرجل أن يقولوا شيئًا، أو يقدِّموا بعض التفسيرات، إلا أن «أوكبيري» لم تفعل شيئًا سوى عودة الجثة، وكان ذلك دليل احتقارٍ شديد ﻟ «أوموارو»، ولم يكن هذا التصرُّف بالشيء الذي يمكن تجاهلُه بسهولة.
مضت أربعة أيام منذ وفاة «أكوكاليا» .. أربعة أيام من الحزن والتساؤلات، ثم راح المنادون يهتفون في الليل عَبْر القرى الست.
في صباح اليوم التالي اجتمع الناس .. كان مجلسًا مهيبًا، أجمع فيه غالبية المتحدثين على أنه ليس من حقهم أن يلوموا المتوفَّى، مع التسليم بأن قريبه أخطأ خطأً جسيمًا .. طالَب كثيرٌ من رجال «أوكبيري»، وخاصةً الكبار منهم، نسيان ما حدث؛ فقد شد بعضُهم شَعره أسفًا، ثم أقسموا أنهم لن يعيشوا كي يرَوْا «أوموارو» تحترق .. كانوا كما في الماضي تحت قيادة «واكا»، الذي تحدَّث بفصاحته المعتادة، فأثارهم، وحرَّك كثيرًا من القلوب.
كان «إيزولو» صامتًا طَوَال الوقت، وكان آخر المتحدِّثين.
قدَّم لهم التحية بهدوء ولكن بحزنٍ شديد: أوموارو وينو.
– هيم.
– أوموارو أوبودونيزي وينو.
– هيم.
– ويزينو.
– هيم.
– إن الناي الذي كنا نعزف عليه أصبح الآن مكسورًا .. عندما تحدَّثتُ يوم السوق الماضي والذي قبله من نفس هذا المكان استخدمتُ مثالًا عن الماعز أثناء حديثي، وكنتُ حينها أتحدث إلى «أوجبوفي إيجونوان» الشاب .. أخبرتُه — لعلكم تتذكَّرون — بأن يكون حُرًّا في حديثه إزاء ما كنا نخطِّط له بدلًا من أن يضع قطعةً من الفحم المُشتعِل في أوراق نخيل الطفل، ويسأله أن يحملها بعناية، وها نحن جميعًا عرفنا بأي عنايةٍ حملَها .. لم أكن أتحدَّث وقتئذٍ إلى «إيجونوان» بمفرده، بل إلى كل الكبار هنا الذين تركوا ما كان يجب فعلُه وفعَلوا شيئًا آخر .. الذين كانوا في البيت وتركوا الماعز تعاني آلام المخاض.
ألا تعرفون حكاية المصارع الذي لم تعرف الدنيا مثل قبضته؟ .. كان يصارع الرجال من قرية إلى أخرى حتى طرح كل رجال العالم أرضًا، ثم قرَّر أن يذهب للمصارعة في أرض الأرواح ليُصبِح بطلًا هناك أيضًا .. ظل يضرب كل الأرواح التي تتقدم ناحيته، وكان لبعضها سبعة رءوس والبعض الآخر عشرة رءوس لكنه قهرهم جميعًا، إلى أن توسل إليه زملاؤه — وهم يبالغون في مدحه — أن يبتعد، فلم يبتعد .. كان الدم يغلي في عروقه، واحترقَت أذناه، فقرَّر ألا يقبل دعوتَهم بالعودة والابتعاد حتى يأتوا له بأقوى مصارع لديهم، فأرسلوا له الإله الشخصي لهم .. روحٌ صغيرة وقوية أوقفَتْه بيدٍ واحدة، وحطَّمَته فوق الأرض الحجرية.
يا رجال «أوموارو» .. لماذا أخبَرَنا آباؤنا بهذه القصة؟ لماذا تعتقدون أيها الرجال؟ لأنهم أرادوا أن يُعلِّمونا أن الإنسان يستطيع أن يتحدى كل شيء وأي شيء مهما عظُم شأنه، ومهما كان قويًّا أو عظيمًا .. هذا ما فعلَه قريبنا .. لقد تحدَّى قدَره .. كنا نعزف له أنغامًا على الفلوت ولم نفعل شيئًا لإنقاذه من الموت .. أين هو اليوم؟ .. إن الذبابة حين لا تجد أحدًا تقرصُه تتبع الجثة داخل القبر.
اتركوا «أكوكاليا» جانبًا الآن .. لقد ذهب بالطريقة التي رسمَها له القدَر، اتركوا العبد الذي يرى شيئًا آخر داخل ظلال القبر يعرف أنه سيُدفَن بنفس الطريقة عندما يحين موعده.
إن «أوموارو» اليوم تتحدَّى قدَرها .. هل يُوجَد رجل أو امرأة في «أوموارو» لا يعرف «أولو» الإله، الذي يُدمِّر الإنسان في أحسن حالاته؟ .. إن بعض الناس ما زالوا يتحدثون عن شن حربٍ ضد «أوكبيري» .. هل تعتقدون أن «أولو» سيُقاتِل معكم؟ .. إن العالم في اضطرابٍ عظيم، وإذا ذهبتَ للحرب لمجرد الانتقام من شخصٍ ما لعَن أمك وأباها فستتلوَّث بالفساد والعفونة، ولن يتبعَك «أولو»، «أوموارو» .. أحيِّيكم.
انتهى الاجتماع وساد اضطراب .. انقسمَت «أوموارو» إلى مجموعتَين .. تجمَّع الكثير من الناس حول «إيزولو» مؤكِّدين وقوفَهم بجانبه ومساندتَه، بينما ذهب آخرون إلى «واكا» الذي عقد اجتماعًا آخر في بيته في نفس الليلة، وقرَّروا فيه حتميةَ سقوط رءوسٍ أربعة من «أوكبيري» كي يستقر الأمر .. أكَّد «واكا» على ألا يحضُر أحدٌ من «أومواشالا» قرية «إيزولو» إلى ذلك الاجتماع المسائي.
قال «واكا»: لا يجب على «أوموارو» السماح لنفسها بالسير تحت قيادة رئيس كهنة «أولو» .. لم يُخبرني أبي بأن على «أوموارو» أن تأخذ الأمر من كاهن «أولو» قبل الدخول في الحرب .. إنه يحمل تعاليم الإله ويعمل على إنجاز الطقوس الدينية وحَمْل القرابين .. هذا كل ما في الأمر .. لكنه ليس ملكًا .. إنني أراقب هذا «الإيزولو» منذ سنوات وأعرف أنه رجلٌ طموح .. إنه يطمع في أن يكون ملكًا وكاهنًا وعَرَّافًا .. يريد كل شيء .. إنه مثل أبيه تمامًا كما يقولون .. يجب على شعب «أوموارو» أن يقولوا له بأن شعب «إيبو» يعلم تمامًا بعدم وجود ملوك، ولقد حان الوقت لقول ذلك لابنه أيضًا .. نحن لسنا ضد «أولو»؛ فهو الذي لم يزل يحمينا، مع أننا لم نعُد نخاف من أبطال «آبام» في الليل .. لن أعيش حتى أرى بعيني ذلك الكاهن الذي اختاره يجعل من نفسه ملكًا علينا .. لقد حدَّثني أبي عن أشياءَ كثيرة لم يكن من بينها أن «إيزولو» سيكون ملكًا في «أوموارو» .. مَن هو على أية حال؟ هل دخل أحدُكُم بيته من البوابة؟ .. إذا قرَّرَت «أوموارو» أن يصبح لها ملك فنحن نعرف من أين سيأتي .. متى أصبَحَت «أومواشالا» عاصمةً للقرى الست؟ .. إن الغَيْرة كانت منتشرة بين القرى الكبيرة كما نعرف، مما جعلهم يختارون الكاهن من أضعف القرى، سوف نقاتل من أجل أرضنا ومن احتقار «أوكبيري» لنا .. لن نستمع إلى أي شخصٍ يُحاول إثارة مخاوفنا باسم «أولو» .. إن إرادة الرجل فوق كل شيء. ولقد سمعنا عن كيفية تعامُل شعب «أنينتا» مع الإله الخاص بهم عندما فشل معهم .. ألم يأخذوه إلى الحدود الفاصلة بينهم وبين جيرانهم وأشعلوا فيه النيران؟ .. أحيِّيكم.
كان «آفو» هو اليوم الذي اشتعلَت فيه الحرب .. قتلَت «أوموارو» رجلَين من «أوكبيري»، وكان «كوا» هو اليوم التالي، فتوقَّف القتال، لكنه في اليومَين التاليَين «إيك» و«أوي» اشتدَّت ضراوة الحرب فقتلَت «أوموارو» أربعة رجالٍ آخرين مقابل ثلاثةٍ قتلَتْهم «أوكبيري» كان أحدُهم أخًا ﻟ «أكوكاليا» يُدعى «أوكوي» .. أصبَحَت الحرب في اليوم التالي أكثر عنفًا، فسارع الرجل الأبيض «وينتابوتا» بإحضار جنوده إلى «أوموارو» لإيقاف الحرب .. ألقت «أوموارو» أسلحتَها دون أي مقاومة، وما زالوا يقُصُّون حكاية هؤلاء الجنود وما فعلوه بفزع، ويقولون بدون خجل إن موت «أكوكاليا» كان أخذًا بالثأر، وإنهم ضحَّوا من أجله بثلاثة رجالٍ آخرين كي يستريح في موته، كان «إيكونزو» إله الشر وراء موت «أكوكاليا» وأخيه في نفس النزاع.
لم يتوقف الرجل الأبيض عند إيقاف الحرب، ولكنه جمع كل الأسلحة في «أوموارو»، وأصدر أمرًا للجنود بتكسيرها في وجههم، فيما عدا ثلاثَ بنادقَ أو أربعًا احتفَظ بهم، ثم عقَد محاكمة بين «أوموارو» و«أوكبيري» انتهت بحق «أوكبيري» في الأرض المُتنازَع عليها.