الفصل الثامن
كان السيد «رايت» يُشرِف على الطريق الواصل بين «أوكبيري» و«أوموارو»، والذي كان مخطَّطًا له الانتهاء منه قبل موسم المطر، لكنه الآن في مراحله الأخيرة، وعلى وشك الانتهاء .. فكَّر السيد «رايت» في زيادة عدد العمال، فلم يوافق الكابتن «وينتربوتوم» لعدم إمكانية ذلك، ثم اقترح «رايت» تقليل أجور العمال إلى بنسَين في اليوم بدلًا من ثلاثة بنسات، رغم أن ذلك سيعمل على إضعاف قوة العامل، فراح يفكِّر مرةً ثانية في معاملة العمال معاملةً خشنة، لكن ذلك أيضًا لن يحقِّق النتيجة المطلوبة .. كان الكثير من رؤساء العمال كسولين، ولكنهم يعملون بجد ونشاط عند طلبهم للعمل، وكانوا مخلصين كالكلاب الأليفة، ويملكون قدرةً هائلة في ارتجال الأغاني .. عندما عرفوا أجرهم في اليوم الأول راح رئيسهم يُغنِّي:
كانت الأغنية تساعدهم في العمل، وظلوا يُغنُّونها طَوالَ أيامٍ عديدة،
حتى باللغة الإنجليزية:
كان على السيد «رايت» أن ينتهي من العمل في ذلك الطريق قبل يونيو، ولم يجد أمامه سوى اختيارٍ واحد، وجد نفسه مُضطرًّا لاستخدام عُمال بدون أجر، فطلب تصريحًا بذلك، ثم وافق الكابتن «وينتربوتوم» لبعض الاعتبارات قائلًا في رسالته: إن سياسة الإدارة تفرض الرجوع إلى تلك الطريقة، وإنما فقط في ظروفٍ استثنائية، ولكن من اليسير اعتبار القوميين استثناءً في ظل المبدأ القائل بأن العامل مساوٍ لمستأجره.
كان السيد «رايت» قد جاء من المعسكر الذي يبعُد خمسة أميالٍ لتلقي هذا الرد .. حدَّق في الورقة، ثم طبَّقَها بدون عناية، ووضعها في جيب بنطاله الكاكي القصير.
قرَّر رؤساء «أوموارو» عندما علموا بالطريق الجديد أن يقدِّموا المساعدة، فعقَدوا اجتماعًا لاختيار مجموعتَين من أصغر الأجيال، واقترحوا تسمية المجموعة الأولى «أوتاكاجو» والمجموعة الأخرى «أوموماوا»، ولم تتفق كلتا المجموعتَين إحداهما مع الأخرى أبدًا، وكانتا مثل أخوَين ناجحَين دائمًا ما يتشاجران، وكان اجتماعهما يتَّسِم دائمًا بالعَداء وكأنه لقاءٌ بين النار والبارود، كما كان طريقهما مختلفًا، واتفقتا على العمل بالتناوب في أيام «إيك»، مما اضطَرَّ الرجلَ الأبيض أن يغيِّر نظام الدفع الذي كان منتظمًا.
التحَق «موسى أوناشوكو» النجَّار بالمجموعتَين رغم كبر سنه، وكان هذا لمعرفته لغة الرجل الأبيض، فعمل على تنظيمهما وتلقِّي الأوامر من الرجل الأبيض؛ لكن السيد «رايت» ارتاب منه في البداية كما يرتاب من كل القوميين، لكنه سرعان ما اكتشف أهميته حتى فكَّر في تقديم جائزة له بعد الانتهاء من الطريق.
ارتفع اسم «أوناشوكو» عاليًا في سماء «أوموارو»؛ فقد كان الوحيد الذي يتحدث بلغة الرجل الأبيض. وانتشَرَت القصة في القرى الست، وصار الجميع يتحدث عن «أوناشوكو». غير أن «إيزولو» شعَر بأسفٍ شديد؛ لأن رجلًا من «أومونيورا» ينال كل هذا التقدير، لكنه سرعان ما تذكَّر أن ابنه سيحصُل قريبًا على نفس هذا الشرف العظيم.
كان «أوبيكا» بن «إيزولو» وصديقه «أوفيدو» ينتميان إلى مجموعة «أوتاكاجو»، التي كان دَورها في العمل اليوم التالي للاحتفال بأوراق القرعة .. كانا قد شربا كثيرًا من النبيذ ليلة الاحتفال، وحين ذهبَت المجموعة إلى العمل كان «أوبيكا» و«أوفيدو» نائمَين .. فشلَت أم «أوبيكا» وأختُه في إيقاظه؛ فقد عاد — كعادته دائمًا — إلى البيت عند الفجر مُترنِّحًا.
كان «أوبيكا» و«أوفيدو» يشربان النبيذ في يوم الاحتفال مع ثلاثة رجالٍ آخرين في السوق حين صمَّم أحد الرجال أن يتحداهم، وتحدَّث عن كمية النبيذ التي يستطيع الرجل السكِّير أن يشربَها دون أن يفقد وعيه.
قال أحد الرجال: إنَّ ذلك يرجع إلى نوعية النبيذ.
فقال صديقه «مادوكا»: نعم، نوعية النبيذ.
وقال «أوفيدو»: لا، ليس كما تقولون، بل يرجع إلى الرجل الذي يشرب؛ فلو أنكَ أحضرتَ أي نوع من النبيذ في «أوموارو»، فإنني سأواصل الشراب منه بلا انقطاع حتى تنتفخ بطني، ثم سأعود إلى البيت يقظًا.
قال «أوبيكا» مؤكدًا كلام صديقه: يُوجَد فعلًا نوعٌ من النبيذ أقوى من الآخر، لكن السكِّير الجيد يشرب أي نوع مهما كان قويًّا دون أن يلُف رأسُه.
– هل سمعتَ عن شجرة النبيذ «أوكبوساليبو» التي في قريتي؟ أجاب «أوبيكا» و«أوفيدو»: لا.
– من لم يسمع بهذه الشجرة، ولم يشرب من نبيذها، فهو يخدع نفسه إذا زعم أنه سكِّير.
قال آخر: صوابٌ ما قاله «مادوكا». إن خمر هذه الشجرة لا يُباع أبدًا في السوق، ولا أحد يستطيع أن يشرب ثلاثة أقداح منه دون أن يَضِلَّ طريقه إلى بيته.
– هذه «الأكبوساليبو» شُجيرةٌ قديمة جدًّا، وقد تشاجر اثنان من الإخوة شجارًا عنيفًا ذات يومٍ وكأنهما غرباء، حين شربا قدَحَين من نبيذها، ومنذ ذلك اليوم أطلقوا عليها اسم مفرِّقة الأقارب.
قال «أوبيكا» وهو يملأ قدَحه: احكِ لنا قصةً أخرى، ربما قد أضافوا شيئًا إلى ذلك النبيذ، أما إذا كان بدون إضافات فإنني أكرِّر بأن تحكي لنا قصةً أخرى.
قال «مادوكا» متحديًا: ليس من اللائق أن تتكلم كثيرًا؛ فالشجرة ليست ببعيدة. إنها هنا في «أوموارو». دعنا نذهب إلى أرض «وكافو»، ونطلب منه أن يبيع لنا من هذه الشجرة .. أعرف بأن نبيذَها باهظ الثمن، ولكنني سأدفع بشرط أن يشرب كلٌّ منكما ثلاثة أقداح. وإذا عرفتما بعد ذلك طريقكما إلى البيت فإنني سأخسر راضيًا ما دفعتُه. أما إذا فقد كلاكما وعيه وأصبح مخمورًا، فيجب أن تردُّوا لي ما دفعتُ عندما تُفيقان.
لعبَت الخمر برأسَيهما، وناما حيث كانا جالسين، فرفعَهما «مادوكا» في الليل، ثم ذهب لينام، لكنه عاد مرتَين في الليل، فوجدهما ما زالا في نومٍ عميق، وعندما استيقظ في الصباح لم يجدهما .. تمنى لو شاهدَهما وهما يرحلان، لكنهما على أية حال لن يتكلما مرةً ثانية عن النبيذ.
كانت الشمس متلألئةً حين استيقظ «أوفيدو»، الذي كان أحسن حالًا من «أوبيكا». هُرِع إلى بيت «إيزولو» لاستدعاء «أوبيكا»، الذي استيقظ بصعوبة، بعد أن صبَّ «أوفيدو» إناءً من الماء البارد فوق وجهه.
أسرعا للَّحاق بمجموعتهم من أجل العمل في الطريق الجديد، وكانا مثل زوج من أقنعة الليل في وضَح النهار.
كان «إيزولو» ممدَّدًا فوق الفِراش، وكان مُجهَدًا من احتفال الأمس، سمع أصواتًا بالداخل نهض على إثرها، ثم سأل «وافو» عن سبب تلك الضوضاء، فأخبره أنهم كانوا يوقظون «أوبيكا» .. التزم «إيزولو» الصمت وصرَّ أسنانه؛ فلقد كان «أوبيكا» دائمًا يمثِّل عبئًا ثقيلًا فوق رأس والده.
قال «إيزولو» لنفسه: يجب أن تأتي عروس «أوبيكا» الجديدة. إذا كانت أمها قد شُفيَت فلا بد أن تعود لترى ذلك الرجل الذي لا يستطيع رؤية قبَّعته في الليل، ذلك الرجل الغارق في الخمر حتى أذنَيه .. أين الرجولة في مثل هذا الزوج السكِّير الذي لا يستطيع حماية زوجته إذا طرق اللص بابه في الليل .. الرجل الذي تُوقِظه النساء في الصباح؟
بصَق الكاهن العجوز ولم يستطع أن يتحمل مزيدًا من القرف والنكَد.
لم يسأل «إيزولو» عن التفاصيل، لكنه كان مدركًا أن «أوفيدو» وراء ما حدَث .. لقد قال مِرارًا إن «أوفيدو» هذا ليس إنسانًا، ولا يستحق أن يكون رفيقًا لابنه، وكثيرًا ما قال ﻟ «أوبيكا» إن مثل ذلك الشخص ليس صديقًا مناسبًا لأي إنسانٍ يريد أن يفعل شيئًا في حياته. لكن «أوبيكا» لم يكتَرث، وظل متمسكًا بصداقة «أوفيدو»، حتى أصبح الاختيار بينهما كالاختيار بين جَوز النخيل الغَض والجُرن المكسور.
كانا يمشيان في هدوء في طريقهما للَّحاق بالمجموعة حين شعر «أوبيكا» بضربات في رأسه، كان رأسه كأنه مخدَّر بندى الليل، لكن الحركة في المشي جعلَتْه في حالٍ أفضل بينما كان الإحساس بالخدَر يُعاوِده من حينٍ لآخر.
أبصر «أوبيكا» و«أوفيدو» بدايةَ الطريق الجديد، الذي بدا مثل طلوع النهار بعد ليلٍ حالِك.
قال «أوفيدو»: ماذا يكون ذلك الشيء الذي قدَّمه لنا «مادوكا» بالأمس؟
كان هذا السؤال أول حديثٍ بينهما عن حادثة الأمس، ولم يُجب «أوبيكا»، ولكنه تأوَّه، فاستطرد «أوفيدو»: لم يكن نبيذًا عاديًّا، وأعتقد أنه كان ممتزجًا ببعض العشب .. لقد كنا أغبياءَ حين تَبِعْنا ذلك الرجل الخطير إلى بيته .. هل تتذكَّر أنه لم يشرب قدَحًا واحدًا؟
كان «أوبيكا» ما زال صامتًا.
– لن أدفع له ثَمنَ ما شربنا.
قال «أوبيكا» مندهشًا: ومن قال لك أن تدفع؟ .. إن كل ما حدث بالأمس كان مجرَّد كلماتٍ على شرف الخمر.
وصلا إلى جانب من الطريق يبدو فيه المرء مفقودًا، مثل حبة من الذرة في حقيبةٍ فارغة من جلد الماعز، حين أمسك «أوبيكا» بالفأس في يده، بعد أن شعر بكامل يقظته.
لم يكن الطريق يؤدِّي إلى الجدول أو السوق، فلم يقابلا كثيرًا من القرويين سوى بعض النسوة اللاتي يحملن حطب الوقود، وعند اقترابهما من شجرة الإيجبو القديمة البالية سمعا بعض الأغاني والثرثَرات.
قال «أوبيكا»: ما هذا الذي أسمعه؟
– كنتُ على وشك أن أسألَك .. إن أصواتهم تشبه تلك الأصوات التي يُغنُّون بها في المآتم.
اقتَربا من موقع العمل فلم يعُد ثمَّة شك .. كانت النغمة حقًّا حزينة وجثَّة في طريقها للمدفن:
تعرَّفا على المنشدين الذين كانوا من مجموعتهم فانفجرا في الضحك. كان أحدهم قد غيَّر الأغنية، وحولها إلى أغنيةٍ غريبة غير مألوفة. وكان «أوفيدو» متأكدًا أن «ويك أوكباكا» وراء ذلك التغيير السيئ.
أحدث قدوم «أوبيكا» وصديقه تغييرًا مفاجئًا بين العمال، توقَّفوا عن الغِناء وراحُوا يقطعون جذوع الأشجار، وتوقَّف من كان بينهم ينحني للأمام بفأسه لتسوية الأجزاء البارزة ثم نهضوا، وكانت أقدامهم مغروسةً في الأرض ويغطِّيها لون الأرض الأحمر.
صاح «ويك أوكباكا»: كو .. كو .. كو .. كو.
فأجاب بقية الرجال: كووو .. أوه!
ثم ضحكوا جميعًا.
غضب السيد «رايت» بشدة، فقبض على السَّوط في يده اليمنى، ووضع اليد الأخرى أعلى فخذه مُهدِّدًا، وقد بدا بخوذته البيضاء أقصر مما كان. نظر بإمعان نحو «أوبيكا» و«أوفيدو» اللذَين جاءا متأخرَين، وكان «موسى أوناشوكو» في تلك اللحظة يتحدث إليه باهتمام، غير أنه بدا وكأنه لا يسمع شيئًا. تعجَّب الآخرون لذلك الغضب الذي يملأ قسماتِ وجهه وكأنه غادر الفِراش هذا الصباح من الجانب الأيسر .. كان دائمًا ما يحمل السَّوط، لكنه لم يكن يستخدمه إلا نادرًا.
عرف «أوبيكا» أن الرجل غاضب، فراح يختال في مشيته، مما أثار الضحك وسط الرجال، ثم واصل نفس طريقة المشي أمام السيد «رايت»، الذي لم يعُد يحتمل مزيدًا من الغضب، فلوَّح بسوطه في عنف، ثم أمسك «أوبيكا» من أذنه. غضب «أوبيكا» وجُنَّ جنونه، ثم سارع بإلقاء فأسه، وأوشك أن يهجُم على الرجل، لكن «موسى أوناشوكو» ألقى بنفسه بين الرجلَين، وسارع اثنان من مساعدي السيد «رايت» بالإمساك «بأوبيكا»، فراح السيد «رايت» يضربه بالسياط فوق ظهره العاري. لم يُبدِ «أوبيكا» أي مقاومة، لكنه كان يرتعش كقربان اليام، كما ارتعش «أوفيدو» أيضًا، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها قتالًا أمامه ولا يستطيع عمل شيء سوى المشاهدة فقط.
صاح «موسى أوناشوكو» في دهشة: هل جُنِنتَ حتى تهاجم الرجل الأبيض؟ لقد سمعتُ أن عائلتكَ كلها من المجانين، ويبدو أن ما سمعتُه حقيقي.
شعَر أحد رجال قرية «أوبيكا» أن صوت «أوناشوكو» يحمل في طيَّاته حالة العَداء بين «أومواشالا» و«أومونيورا»، فقال: ماذا دهاكَ يا رجلُ حتى تقول مثل هذا الكلام؟
كان بقية الناس يراقبون في هدوء، ثم انطلقوا مشاركين في الصراع القائم، وعلَت صيحات التهديد من كل جانب، وهزَّ أحدهم إصبعه في وجه الآخر .. لقد تفجَّر الصراع القديم بين القريتَين، وكان المشهد غريبًا.
صَرخ السيد «رايت» قائلًا: اخرسوا، أيها القردَة السود، وانهضوا للعمل.
ساد الصمتُ لحظة، ثم قال ﻟ «أوناشوكو»: أخبرهم أنني لن أسمح بأي تراخٍ في العمل.
ترجَم «أوناشوكو» ما قال، ثم استطرد السيد «رايت»، وقال: أخبِرهم أن هذا العمل يجب أن ينتهي في يونيو.
خاطب «أوناشوكو» الرجال قائلًا: يقول الرجل الأبيض بأنكم ستعرفون أي نوعٍ هو من الرجال إذا لم ينتهِ العمل في الوقت المحدَّد له، فلتَعملوا إذن بدون تأخير.
– ماذا؟
– ماذا؟ .. ألا تستطيع أن تفهم الإنجليزية الواضحة البسيطة؟ أقول كفى تأخيرًا، ويجب الانتهاء من هذا العمل في وقته المحدَّد.
– أوه .. ها؛ أي إن على كل شخصٍ أن يعمل بجد، ويتوقف عن أكل الخِراء.
وقال «ويك أوكباكا»: أرغب في أن أسمع إجابة الرجل الأبيض على سؤالي.
سألَه «أوناشوكو»: وما هو هذا السؤال؟
ثم تردَّد قليلًا، وحكَّ رأسه قائلًا للسيد «رايت»: هذا الرجل يرغب في سؤالك يا سيدي.
– لا أحد يسألُ عن أي شيء.
– نعم .. نعم.
ثم قال مخاطبًا «ويك»: يقول الرجل الأبيض إنه لم يغادر منزله هذا الصباح ليأتي إلى هنا كي يُجيبَ على أسئلتك.
تذمَّروا وساد الشَّغب، فصاح «رايت» مهددًا بمعاملةٍ قاسية إن لم يعودوا إلى العمل في الحال، ولم تكن كلماته في حاجةٍ إلى ترجمة من «أوناشوكو»، كان التهديد واضحًا.
بدءوا العمل من جديد، لكنهم راحوا يتفقون على تنظيم اجتماعٍ بينما كانوا يقطعون الأشجار.
كان الاعتراض على وجود «موسى أوناشوكو» هو أوَّل ما أثاره في الاجتماع؛ فقد رأى كثيرٌ من الناس، خاصةً من قرية «أومواشالا»، ألا يحضُر رجلٌ من المجموعة الأخرى اجتماعهم. بينما أشار آخرون بأنه اجتماعٌ خاص للمناقشة حول الرجل الأبيض، وسيكون من الحماقة عدم حضور القريب الوحيد الذي يعرف لغة الرجل الأبيض وأساليبه.
نهَض «أوفيدو»، ووسط دهشة الجميع وافق على بقاء «موسى»؛ حيث قال: لكنني أوافق لسببٍ آخر، أريده أن يخبرنا جميعًا بما قاله الرجل الأبيض عن عائلة «أوبيكا»، كما أننا نريد أن نعرف إذا ما كان حقًّا قد حرَّض الرجل الأبيض على جَلْد صديقنا بالسياط، وبعد أن يجيب على هذه الأسئلة عليه أن يذهب بعيدًا عنَّا. وإذا ما سألني أحدٌ عن ضرورة ألا يكون معنا بعد ذلك أقول له إن هذا الاجتماع لمجموعة «أوتاكاجو»، ودعُوني أذكِّركم جميعًا، وخاصةً أولئك الذين يتمتمون ويقاطعونني، أنه ينتمي أيضًا إلى دين الرجل الأبيض، وهذا ما لا أريد التحدث بشأنه الآن. إن كل ما أرغب في قوله هو أن على هذا اﻟ «أوناشوكو» أن يُجيب على أسئلتي، ثم يَمْضي بعيدًا حاملًا معه كل معرفته عن الرجل الأبيض وأساليبه .. لقد سمعنا حكاياتٍ كثيرة عن كيفية حصوله على هذه المعرفة. لقد سمعنا أنه عندما غادر «أوموارو» كان يعمل في مطبخ الرجل الأبيض كالنساء.
ساد التذمُّر مختلطًا ببقية كلام «أوفيدو».
قال كثيرٌ من الناس: يجب أن يفتح فمَه ويُجيب على أسئلة «أوفيدو».
كان «موسى أوناشوكو» يتحدَّث ولكن دون أن يسمعه أحد، وحين ساد الهدوء بدا صوته مبحوحًا وهو يقول: إذا شئتم أن أرحل فسوف أفعل ذلك في الحال.
– لا تذهب.
– نحن نسمح لك بالبقاء.
– ولكنني إذا ذهبتُ فلن يكون ذلك بسبب هذا الكلام الذي سمعتُه.
– كفى .. كفى.
– لم نأتِ هنا كي نتهم أنفسنا.
اقترح شخصٌ ما أن يذهبوا إلى كبار الرجال في «أوموارو» لإخبارهم بعدم قدرتهم على الاستمرار في العمل في ذلك الطريق، لكنهم جميعًا اعترضوا على هذا الاقتراح، فقال «موسى»: يستطيع الرجل الأبيض حينئذٍ أن يُلقي بالأولاد الكبار في سجن «أوكبيري»، وأنتم تعرفون العلاقة بيننا وبين «أوكبيري»، فإذا سُجن أي رجلٍ من «أوموارو» هناك، فهل تعتقدون أنه سيعود حيًّا؟ هل نسيتم أننا في أيام قمر الزرع؟ هل تريدون لزرعكم أن ينمو في السجن هذا العام وفي الأرض التي يَدين لها آباؤكم ببقرة؟ أنا أتحدث إليكم كأخٍ أكبر، ولقد سافرتُ إلى «آلو» و«إيجبو»، وأفيدكم علمًا بأنه لا مفَر من الرجل الأبيض الذي جاء ليبقى .. عندما تزداد الطَّرقاتُ فوق بابك وتُخبره بعدم وجود مقعدٍ له فسوف يقول لك: لا تقلَق. لقد أحضرتُ معي مقعدي الخاص.
هكذا هو الرجل الأبيض .. كنتم جميعًا أطفالًا صغارًا عندما رأيتُ بنفسي ما فعله الرجل الأبيض في «آبام»، وربما لهذا أكرِّر بأنه لا مفَر. وكما أن النهار يعقُب الظلام فإن الرجل الأبيض سوف يقضي على عاداتنا .. إنني متأكِّد مما أقوله لكم الآن، وسوف تَرون؛ فهو يملك قوةً مصدرها إلهٌ حقيقي، قوة تحرق مثل النار. إنه الإله الذي نجتمع عنده في اليوم الثامن من كل أسبوع.
صاح خصوم «أوناشوكو» قائلين: هذا الاجتماع خاص بمجموعتنا، ولسنا في حاجة لأن تُخبرنا بتلك الحماقة، التي تَدْعوها دينهم الجديد.
ارتفع أحد الأصوات قائلًا: نحن نتحدث عن طريق الرجل الأبيض.
– نعم، نتحدث عن الطريق الذي يمهِّده الرجل الأبيض، لكن سقوط أرضية وحوائط منزلٍ ما يتبعها بالضرورة سقوط السقف .. الرجل الأبيض، الدين الجديد، الجنود، الطريق الجديد، كل ذلك يُعَد جزءًا من نفس الشيء .. إن الرجل الأبيض يملك بندقيةً وفأسًا وقوسًا، ويحمل النار في فمه، ولن يحارب بسلاحٍ واحد.
قال «ويك أوكباكا»: ثمَّة شيءٌ مهم .. لقد نسي أولئك الراغبون في ذهاب «أوناشوكو» أنْ لا أحد غيره يفهم لغة الرجل الأبيض؛ ولذلك يجب أن نُنصِت إليه بانتباه .. ماذا سيفعل الكبار إذا أخبرناهم بأننا لن نعمل في طريق الرجل الأبيض؟ هل سيحملون فئوسهم ويخرجون للعمل بينما نحن جالسون في البيوت؟ أعرف أننا نكره الرجل الأبيض ونريد محاربته، لكن الرجل الأحمق فقط هو الذي يذهب لمنازلة النمر بيدٍ عارية. إن الرجل الأبيض مثل الشوربة الساخنة التي يجب تناولها ببطء من حافة الطاسة .. إن «أوموارو» كانت هنا من قبل مجيء الرجل الأبيض من أرضه لكي يطلب أرضنا، كما أننا لم نتوسل إليه ليأتي في زيارتنا، بالإضافة إلى أنه ليس أحد أقربائنا أو هو نسيب لنا، نحن لم نسرق منه الماعز أو الدجاج، ولم نغتصب أرضه أو زوجته، ولا فعلنا أي شيء خطأ في حقه، ورغم ذلك يأتي لإثارة القلاقل بيننا .. إن الغريب لن يقتل مُضيفه عند زيارته، وعندما يذهب فربما لا يذهب بظهرٍ متورم، فلا يجب أن نمنَحه الفرصة التي يسعى إليها كي لا يُشعِل الحريق؛ ولذلك سوف نستمر في العمل في هذا الطريق، وعندما ننتهي سنطلب منه مزيدًا من العمل .. يعتقد الرجل الأبيض أنكم حمقى، وهذا اعتقادٌ جيد في بعض الأحيان .. يكفي أن يعرف أنكم تبدُون حمقى من أجل السلام فقط .. سوف نسأله سؤالًا واحدًا أردتُ أن أتوجَّه به إليه هذا الصباح، ولكنه لم يستمع .. سوف نتوَّسل إلى «أوناشوكو» ليُترجِم لنا هذا السؤال: لماذا لا يدفع لنا أجورنا مقابل العمل في الطريق؟ فأنا أعرف، كما رأيتُ في «آلو» و«إيجبو»، أن الرجل الأبيض يدفع أجرًا مقابل نفس هذا النوع من العمل .. فلماذا نكون نحن مختلفين؟
كان «أوكباكا» مقنعًا في حديثه، فلم يستطع أحد أن يضيف شيئًا، واتفقَت مجموعة «أوتاكاجو» على أن يختار «أوناشوكو» اللحظة المناسبة ليسأل الرجل الأبيض عن السبب في عدم دفع النقود مقابل العمل في الطريق.
قال «أوناشوكو»: سوف أبلغ رسالتكم.
نهض «ووي أودورا» قائلًا: إن الرسالة هكذا ناقصة؛ فالرجل الأبيض يعرف السبب الذي من أجله لا يدفع لنا، ونحن أيضًا نعرف. كما أنه يعرف أيضًا، بأن من يعملون نفس العمل في «أوكبيري» يتقاضَوْن أجرًا في مقابل عملهم.
صمَت لحظةَ قصيرة، ثم أضاف: وإذن يجب أن يكون السؤال عن السبب في أننا لا نتقاضى أجرًا بينما يتقاضى الآخرون أجرًا مقابل القيام بنفس العمل، فهل نحن مختلفون؟ من الضروري، بل ومن الضروري جدًّا، أن تسألوه عما إذا كنا مختلفين!
وافقوا جميعًا، ثم قال أحدهم موجهًا حديثه إلى «ووي أودورا» وهو يغادر السوق: إن كلامك جيد، وما قلته هو الصواب؛ فربما يُخبرنا الرجل الأبيض بأننا قتلنا أباه أو أمه.
شعر «إيزولو» بعد الاحتفال بألم في قدمه وفخذه، وكان لعابه مُر المذاق. بدأ في تدليك جسده بالمرهم عندما عاد إلى البيت، وأشعل النار في الخشب طوال الليل، بالقرب من سريره المنخفض المصنوع من شجر البامبو. خافت زوجته الصغرى لمرضه، لكن «إيزولو» لو علم بخوفها لضحك كثيرًا؛ لأن «أوجوي» لو عرفَته في شبابه لأدركَت أن ما يشعر به من تعبٍ بعد الاحتفال لا يُعَد شيئًا بالنسبة لتقدُّمه في السن، وأنه نفسه يعتبر ذلك شيئًا عاديًّا.
لم تهتَم بناتُه كثيرًا بقلق الزوجة وخوفها؛ لأنهن كُن أكثر حكمة، وكن يدركن أن ذلك نتيجة طبيعية لما يحدث بعد الاحتفال، إنه جزء من التضحية، فهل يستطيع أن يدوس خطايا «أوموارو» في الرمال دون أن تنزف قدمُه؟ .. ليس من اليسير أن يأمل أحد في ذلك. حتى بينما كانت المجموعة تعقد اجتماعها تحت ظلال شجرة الإيجبو في السوق، كانت قصة الرجل الأبيض الذي جلَد «أوبيكا» قد انتشَرَت في كل القرى. وكانت زوجة «إيدوجو» التي عادت محمَّلةً بحطب الوقود فوق رأسها هي التي جاءت بالخبر إلى بيت «إيزولو»، الذي استيقظ من النوم على أثَر بكاء أم «أوبيكا» وأخته. ألقى بالحصيرة بعيدًا، وقفَز على قدمَيه، وأحَسَّ أن أحدًا قد مات، ثم سمع زوجة «إيدوجو» تتحدث بما يعني أن أحدًا لم يمُت، فجلس على حافة سريره ورفع صوته مناديًا زوجة «إيدوجو»، التي جاءت على الفور وتبعها زوجها، الذي كان يصنع بابًا لبيت أحد الرجال المرموقين، بعد أن عادت زوجته.
سأل «إيزولو» «آموج»: ماذا تقولين؟
سَردَت عليه القصة كما سمعَتْها، فقال «إيزولو» باندهاش وهو عاجز عن استيعاب ما سمعه: جلد .. سياط؟!
أجابت «آموج»: لم يقولوا شيئًا عما ارتكَبه.
فقال «إيزولو» مفكرًا: ربما لأنه تأخر في الذهاب، ولكن الرجل الأبيض لا يجلد رجلًا لهذا السبب، خاصةً وأنه ابني، ربما يكون «أوبيكا» هو الذي بدأ بالضرب.
شعَر «إيدوجو» بما أصاب والده، لكن «إيزولو» كان يُحاوِل أن يبدو طبيعيًّا.
قال «إيدوجو»: سوف أذهب إلى «كو» حيث هم مجتمعون الآن؛ فأنا لا أجد معنًى لهذه القصة.
ثم عاد إلى كُوخه، وتناوَل سلاحه وخرَج.
كان والده ما زال يُحاوِل أن يفهم، فصاح مناديًا «إيدوجو»، ونصحه بألا يكون مندفعًا، ثم غيَّر من لهجته قائلًا: كيف أعرف أن أخاك لم يبدأ بالضربة الأولى، خاصةً وأنه كان مخمورًا عندما غادر البيت؟
ابتسم «إيدوجو» وسارع بالرحيل مرتديًا شقةً طويلة ورفيعة بين القدمَين، وحزامًا حول الخصر ذا نهايتَين؛ إحداهما في الأمام، والأخرى في الخلف.
خرجت أم «أوبيكا» من البيت وهي تتنشق، وتضع ظهر قبضتها أمام عينَيها، فقال «إيزولو»: إلى أين أنت ذاهبة؟ هل ستقاتلين الرجل الأبيض؟
ثم ضحك، واستدارت «ماتيفي» لتسمع ما كان يقول.
استطرَد «إيزولو»: عودي إلى كوخك أيتها المرأة، لقد وصل «إيدوجو» إلى الطريق الرئيسي واتجه يسارًا.
جلس «إيزولو» فوق لوح من الخشب ممددًا ظهره على الحائط بحيث يستطيع رؤية القادمين، وراح يفكِّر كثيرًا، ويحاول — دون جدوى — أن يفهم قصة الجَلْد والسياط، ثم تساءل قائلًا: من هو يا تُرى ذلك الرجل الأبيض الذي فعَل ذلك، أعتقِد أنه «وينتابوتا» صديقي محطِّم البنادق.
لكن «إيزولو» سرعان ما أُصيب بخيبة أمل عندما عرف أنه رجلٌ آخر، كان «وينتابوتا» طويلًا ومنتصبًا يمشي كرجلٍ عظيم وله صوتٌ كالرعد، أما الرجل الآخر فإنه سمين وقصيرٌ ذو شعرٍ كثيف كالقرد.
أبصَر «إيزولو» بعض القادمين نحوه فهزَّ رأسه للأمام، لكنهم كانوا قد مضَوا .. قرَّر آخر الأمر — إن لم يكن ابنه مخطئًا — أن يذهب بنفسه إلى «أوكبيري»، ويشكو الرجل الأبيض إلى سيده، لكنه توقَّف فجأةً عن التفكير إثر ظهور «أوبيكا» و«إيدوجو»، وكان خلفهما رجلٌ ثالث لم يجد صعوبةً في التعرُّف عليه. كان الرجل هو «أوفيدو»، الذي لا يستطيع «إيزولو» أبدًا أن يقبلَه صديقًا لابنه.
تجاهَل «إيزولو» كلًّا من «أوبيكا» و«أوفيدو»، ثم توجَّه بالسؤال إلى «إيدوجو»: ما هو سبب الجَلْد؟
كانت أم «أوبيكا» والجميع قد أسرعوا إلى كوخ «إيزولو».
أجاب «إيدوجو»: كانا متأخرَين عن العمل.
– ولماذا تأخَّرتما؟
صاح «أوبيكا»: لم أعُد إلى البيت لكي أجيب على أسئلة أحد.
– لك الحرية في الإجابة أو عدم الإجابة، لكنني أقول لك إن ذلك مجرَّد بدايةٍ فقط لما سيلحق بك نتيجة لشرب النبيذ؛ فالموتُ الذي يفتك برجلٍ دائمًا ما يكون شهيًّا في بدايته.
خرج «أوبيكا» وتَبِعه «أوفيدو».