الفصل التاسع
بنَى «إيدوجو» منزله ملاصقًا لأحد الجوانب الأربعة من بيت أبيه الكبير، ولم يكن يفصل بينهما سوى أحد الحوائط، وكان المنزل صغيرًا ومُكوَّنًا من كوخَين؛ أحدهما ﻟ «إيدوجو»، والآخر لزوجته «آموج». هكذا كانت منازل كثيرٍ من الأولاد البكر؛ لأنهم يرثون فيما بعدُ بيوت آبائهم.
كان منزل «أوبيكا» في جانبٍ آخر من بيت أبيه، لكنه أكبر قليلًا من منزل «إيدوجو»، ويتكوَّن أيضًا من كوخَين؛ أحدهما له، والآخر لعروسه التي أوشكَت على الحضور.
كان القادم من الطريق الرئيسي للقرية، في اتجاه بيت «إيزولو»، يستطيع أن يرى على اليسار منزل «إيدوجو»، وعلى اليمين منزل «أوبيكا».
كان «أوبيكا» قد ذهب مع صديقه، فعاد «إيدوجو» إلى ظل شجرة الإيجبو المواجهة للبيت الكبير، كي يستأنف عمله في الباب الذي كان يصنعه، لكنه وجد نفسه مُضطرًّا لترك الباب قبل الانتهاء منه؛ لأن عملًا آخر كان بانتظاره في المزرعة .. كم كان يحسُد أصحاب الحِرَف من أمثال «أجويجبو»، الذي كان الأولاد يُديرون مزرعته، لكن «إيدوجو» قد فقَد طفله الأول بعد ثلاثة أشهر من ولادته، مما أصابه بفاجعةٍ كبيرة تسبَّبَت في كراهيته للعالم وخصومته.
توقَّف عن التفكير فجأةً إثر سماعه لصرخات طفله الثاني والوحيد «أميشي» الذي كان مختلفًا، كان «أميشي» مليئًا بالحياة، لكنه بعد ستة شهور تغيَّر فجأة، وتوقَّف عن الرضاعة من ثدي أمه، وأصبح جِلْد بشرته مثل أوراق الكوكويام الذابلة.
قال شخصٌ ما: ربما كان السبب في لبن الأم!
طلَبوا من «آموج» بعض اللبن من ثديها، وقاموا بوضعه في طاسةٍ صغيرة، وألقَوا بحشرة داخلها، لكن الحشرة لم تمُت، فعَرفوا أن المشكلة ليست في لبن الأم.
اعتقد بعض الناس أن مصير «أميشي» سيكون مثل الطفل الأول، وكان «إيدوجو» و«آموج» يشعُران بالقلق، غير أنهما لم يُناقِشا هذا الأمر أبدًا، لكن «آموج» كانت خائفةً جدًّا، وكانت تجلس في كوخها فوق مقعدٍ منخفض حين تقدَّم الطفل الباكي نحو قدمَيها، وما هي إلا لحظةٌ قصيرة حتى رفعَت قدمَيها، ونهضَت تاركةً وراءها ما خلَّفه الطفل من ماء وبراز، تطلَّعَت حول الحجرة، ولم تكن تعرف ما تريد ثم صاحت: «وانكو»، «وانكو»، «وانكو».
اندفع الكلب الأسود إلى الداخل، وسارع نحو براز الطفل ثم ابتلعه بلسانه، وراح يهزُّ ذيله على الأرض .. حرَّكَت «آموج» قدمَيها وطفلَها مرةً أخرى، وكانت هذه المرة نقطة خضراء صغيرة هي التي خلَّفها الطفل، لم يجد فيها «وانكو» سببًا كافيًا لنهوضه، واكتفى بمد رقبته ولعقها بلسانه، ثم انتصَب في مكانه في انتظار المزيد، لكن الطفل كان قد انتهى.
توقَّف الطفل عن البكاء، ولم يعُد «إيدوجو» يفكِّر فقط في الباب الذي يصنعه. وضع الشاكوش جانبًا وأمسك بالأجَنَة في يده اليسرى بدلًا من اليد اليمنى.
كان «إيزولو» يدسُّ أنفه في كل شيء، وقد وافق الجميع على أن صداقة «أوبيكا» ﺑ «أوفيدو» غير صحيحة، ولا تجلب سوى الشر، غير أن «أوبيكا» لم يعُد طفلًا. لكن «إيزولو» دائمًا ما كان يعامل أولاده الكبار معاملةَ الأطفال، كما أن أحدًا لم يكن يستطيع أن يختلف معه كي لا يحدث شجار كبير بينهما، وهكذا كان الأبناء الكبار يشعرون بكراهية «إيزولو» لهم.
تذكَّر «إيدوجو» مدى حب والده له عندما كان صغيرًا، وكذا حبه ﻟ «أوبيكا» و«أودوش» و«وافو»، وكيف أن السنين غيَّرَت من حُبه هذا الذي لم يدُم طويلًا إلا مع «أوبيكا»، الذي كان يشبهه إلى حدٍّ كبير .. ماذا سيحدُث لو أنجب الرجل العجوز طفلًا آخر في الغد؟ هل سيفقد «وافو» محبتَه؟ ربما، قيل إن «وافو» شديد الشبه بوالد «إيزولو»، وكانوا يعلِّقون خرزة الكاهن في رقبة «وافو»، مما جعل «إيدوجو» يشعُر براحةٍ كبيرة، قال لنفسه بعدها بصوتٍ عالٍ: لا أريد أن أكون رئيسًا للكهنة.
ثم تطلَّع حوله لئلا يكون أحدٌ قد سمعه، أما عن «أوبيكا» فإن أشياء مثل الكهنوتية لم تخطُر بباله قط. إنهما «أودوش» و«وافو» فقط المرشَّحان لذلك، رغم أن أحدًا لم يتوقع أن يرسل «إيزولو» «أودوش» للالتحاق بالدين الجديد.
توقَّف «إيدوجو» فجأةً عن التفكير؛ فقد حدَّثَته نفسه بأن «إيزولو» أرسل «أودوش» عمدًا لكي يتلقى تعاليم الرجل الأبيض والتدين بدينه الجديد، وبذلك لا يصبح من حقِّه الترشُّح لكهنوتية «أولو».
ألقى بالأجَنَة فوق الأرض، ولم يعُد قادرًا على العمل في الباب .. كان «إيزولو» يرغب في أن تكون الكهنوتية من نصيب ابنه الصغير المفضَّل، ولم يقتنع أحدٌ بما قاله «إيزولو» بشأن رغبته في أن يكون أحد أبنائه عينًا وأذنًا له في ذلك العالم الجديد، لماذا إذن لم يرسل «وافو» الذي كان قريبًا من أفكاره؟ لا، لم يكن ذلك هو السبب، لكنه أراد أن يختار وريثه بما يتناسب مع الإله.
اضطَرَب تفكير «إيدوجو»؛ فماذا يفعل لو أن «أولو» اختاره رئيسًا للكهنة؟ هل سيكون سعيدًا إذا أصبَحَت خرزة الكاهن من نصيبه؟ لا، لم يكن يعرف شيئًا سوى أن هذه الفكرة لم تخطُر بباله من قبلُ؛ لأنه كان يعرف أن «أولو» لا يريده .. تذكَّر ما قالَته أمه قبل أن تموت. لقد قالت بأن «إيزولو» يُحب دائمًا أن يتصرف الناسُ جميعًا، بما فيهم زوجاته وأقرباؤه وأطفاله وأصدقاؤه، كما يتصرف هو، ومن يجرؤ على معارضته يُصبِح عدوًّا له. لقد نَسِي بذلك قول الأجداد الذي يفيد بأن الرجل الذي يبحث عن رفيقٍ يفكِّر ويتصرَّف مثله تمامًا سوف يحيا في عزلةٍ كاملة.
ذهب «أوبيكا» وكان «إيزولو» ما يزال جالسًا في نفس المكان مستندًا بظهره على الحائط، وهو يتطلع إلى الأمام حتى يستطيع رؤية القادمين، وكانت جلود الماعز متراصةً فوق المقعد الديني الطويل على يساره، وكان سطح ذلك الجزء من الكوخ مائلًا للوراء، مما جعل «إيزولو» قادرًا على رؤية السماء لمشاهدة القمر الجديد، غالبًا ما كان ضوء النهار يتسلَّل إلى الكوخ من ذلك الجزء.
جلَس «وافو» فوق المقعد الطيني الطويل في مواجهة والده، وكان سرير «إيزولو» المنخفض المصنوع من شجرة البامبو في الجانب الآخر من الكوخ، وبجانبه كومةٌ محترقة من الخشب.
كان «إيزولو» ما زال يحدِّق بثباتٍ إلى الأمام، ثم قال موجهًا حديثه إلى «وافو»: إن الرجل الأبيض لا يقول شيئًا لابنه سوى الحقيقة، تذكَّر ذلك دائمًا، أنت مجرد ولدٍ صغير، ولم أكن أكبر منكَ عندما بدأ أبي يثق بي .. هل تسمع ما أقول؟
أجاب «وافو»: نعم.
– أنت تعرف أن عروس أخيك سوف تأتي في خلال أيامٍ قليلة، وعندئذٍ سوف يصبح رجلًا، ولن يسأل الغرباءُ حينما يَرونَه قائلين: ابنُ من هذا؟
ولكنهم سيقولون: من هذا؟
وكذلك لن يقولوا عن زوجته: بنتُ من هذه؟
ولكنهم سيقولون: من تكون هذه الزوجة؟ هل تفهمني؟
أحسَّ «وافو» بالارتباك، وامتلأ وجهه بالعَرق، وكان شخصٌ ما قادمًا نحو الكوخ حين فتح «إيزولو» عينَيه بصعوبة وقال: من القادم؟
قفَز «وافو» من المقعد الطيني إلى وسط الكوخ ليرى وقال: إنه «أوجبوفي أكيوبو».
كان «أكيوبو» واحدًا من قليلين في «أوموارو» ممن يَستمِع إليهم «إيزولو»، بالإضافة إلى رجلَين آخرَين من نفس العمر.
اقترب «أكيوبو» ورفع صوته سائلًا: هل صاحب هذا البيت ما زال حيًّا؟
قال «إيزولو»: من يكون هذا الرجل؟ لقد سمعنا أنك فارقتَ الحياة.
مضى «أكيوبو» إلى داخل الكوخ بعد أن عَبَر السقف المنخفض، وكان جسده منحنيًا عند الخصر ويدُه اليمنى فوق ركبته. ظل محتفظًا بانحناءته وهو يصافح رئيس الكهنة، ثم ألقى بجِلد الماعز على الأرض، وجلس فوق المقعد الطيني.
قال «إيزولو»: كيف حالكم؟
– إنهم بخير.
هكذا كانت إجابته دائمًا حين يسأله أحد عن عائلته.
ثم توجَّه بالسؤال إلى «إيزولو»: وماذا عنكم؟
– إن أحدًا لم يمُت.
– هل جلَد الرجل الأبيض «أوبيكا» بالسياط؟
رفع «إيزولو» باطن يدَيه إلى السماء ولم يقل شيئًا.
فاستطرد «أكيوبو»: إنها إساءةٌ كبيرة ﻟ «أوبيكا».
– لنتحدَّث يا صديقي في أشياءَ أخرى؛ فلقد استغرق ذلك الحدَث مني وقتًا طويلًا في التفكير، كما أنه أصابني بالحُمَّى، ولكن ذلك كله قد انتهى.
ثم قال ﻟ «وافو»: اذهب وأخبِر أمك أن تأتيني بجَوْزة الكولا.
– سمعتها تقول هذا الصباح إن جَوْزات الكولا قد انتهت.
– اذهب وأخبِر «ماتيفي» إذن.
ابتسم «أكيوبو» وقال: لا يجب أن تقلَق بشأن جَوزة الكولا؛ فأنا لستُ غريبًا.
قال «إيزولو»: لم يُعلِمني أحدٌ أن جوزة الكولا طعام للغرباء، كما أنه يُعَد أحمق من يعامل أخاه أسوأ من معاملته للغريب. أعرف ما تخاف منه؛ فلقد سمعتُ أنك فقدتَ كل أسنانك.
كانت الطاسة الخشبية بجوانبها الأربعة مثل رأس السحلية، تناول منها «إيزولو» كَومةً من الصلصال الأبيض، وقذف بها على الأرض في اتجاه «أكيوبو»، الذي التقطَها ورسم بها على الأرض أربعة خطوطٍ رأسية، ثم رسم الإصبع الكبير لقدمه اليمنى، وأعاد الصلصال إلى «إيزولو»، الذي وضعه في الطاسة الخشبية مرةً ثانية.
جاء «وافو» مسرعًا يحمل بين يدَيه طاسةً أخرى بها جَوزة الكولا، وقال لوالده: دَعْ «أكيوبو» يراها.
قال «أكيوبو»: لقد رأيتُها.
– عليكَ بكَسْرها إذن.
– لا، إن جَوزة الكولا الخاصة بالملك لا يقربُها سواه.
– أهكذا ترى؟
– نعم.
تناول «إيزولو» الطاسة من «وافو»، ووضَعها بين قدمَيه، ثم التقَط جَوزة الكولا بيده اليمنى، وبدأ في الصلاة، كان يهزُّ يده للأمام وهو يتمتم بكل كلمة وكفَّاه مفتوحتان إلى أعلى وأصابع يدَيه ممسكة بجَوزة الكولا.
– «أوجبوفي أكيوبو»، ربما تعيش أنت وكل أهلك وأعيش أنا مع كل أهلي وشعبي، لكن الحياة بمفردها لا تكفي، ربما نمتلك نحن أسباب الحياة، لكنَّ هناك نوعًا من الحياة البطيئة الصعبة أسوأ من الموت.
– الحقيقة ما تقول.
– كل الناس سواء، فلتدَع الغَيرة تأكل صاحبها.
– نعم، نعم.
– قد يعُم الخير أرض «إيبو» وقد يصل إلى بلاد النهر، وربما ..
توقَّف دون أن يواصل حديثه، ثم ضغط بقبضة يده على جَوزة الكولا وكسَرها، وألقى بالفصوص في الطاسة على الأرض، وراح يصفر ويقول: انظر، ها هي الأرواح تُريد أن تأكل.
رفع «أكيوبو» رقبته ليرى، ثم قال: واحد .. اثنان .. ثلاثة .. أربعة .. خمسة .. ستة، حقًّا، إنهم يريدون أن يأكلوا.
تناول «إيزولو» واحدةً من الفصوص، وألقى بها خارج الطاسة، ثم التقط واحدةً أخرى، وقذف بها إلى فمه .. تقدَّم «وافو» للأمام، وأمسك بالطاسة متوجهًا بها ناحية «أكيوبو»، وحين ساد الصمت لحظةً بين الرجلَين أصبح صوت جَوزة الكولا وهي تنكسر بين الأسنان واضحًا.
ابتلع «إيزولو» اثنَين من فصوص جَوزة الكولا، ثم قال: غريبٌ أمر هذه الكولا، لا أستطيع أن أتذكَّر آخر مرة رأيتُ فيها واحدةً بستة فصوص.
– إنها فعلًا نادرة جدًّا، كما أن ذات الخمسة فصوص أيضًا ليست شائعة .. كانت أول مرة أرى فيها واحدةً بخمسة فصوص منذ سنوات، حين كنتُ مُضطرًّا لشراء أربع أو خمس سلالٍ مملوءة بجَوزة الكولا لتقديمها كقربان.
أضاف مخاطبًا «وافو»: اذهب إلى كوخ أمك، وأحضر إبريقًا كبيرًا من الماء البارد. إن الجو حار.
قال «إيزولو»: أعتقد أن هناك ماءً في السماء. إنها الحرارة التي تسبق سقوط الأمطار.
ثم نهَض، وسار خطواتٍ قليلة إلى سريره المصنوع من شجرة البامبو، وتناوَل حقيبتَه المصنوعة من جِلد الماعز. كانت الحقيبة مصنوعةً بمهارةٍ فائقة، حتى إنها كانت تبدو وكأنهم قد انتزَعوا الماعز من داخلها، كما ينزعون القوقعة من المحارة، وكانت لها أربع أقدامٍ قصيرة، ويبدو الذيل كما هو.
جلس «إيزولو» فوق مقعده، وراح يبحث في الحقيبة عن علبة النشوق، التقط علبة النشوق، ووضعها على الأرض، وبدأ في البحث عن الملعقة العاج الصغيرة التي سرعان ما عثر عليها، ثم ألقى بالحقيبة بعيدًا .. رفَع العلبة البيضاء إلى أعلى لرؤية ما تبقَّى من النشوق، وظل يهزُّها فوق ركبته، ثم فتَحها وأفرغ قليلًا من محتوياتها في كفِّه.
قال «أكيوبو» بعد أن تجرَّع الماء: أعطِني قليلًا من هذا الشيء كي يتوازن رأسي.
أجاب «إيزولو»: تعالَ وخذ ما تشاء، فلا تتوقع أن أمدك بالنشوق، وكذا لن أهبَك زوجة وأبحثَ لك عن حصيرةٍ لتنامَ عليها.
نهَض «أكيوبو» ومال بجسَده إلى الأمام واضعًا يده اليمنى فوق ركبته، ولوَّح بكفه اليسرى في اتجاه «إيزولو»، وقال: لن أجادلك كثيرًا؛ فلديك اليام، ولديك السكين.
ملأ «إيزولو» ملعقتَين من النشوق، ووضعَهما في كف «أكيوبو»، ثم أفرغ من العلبة لنفسه، وعندئذٍ قال «أكيوبو» وقد صارت إحدى فتحتَي أنفه ذات لونٍ بني من أثَر النشوق: إنه نشوقٌ جيد.
ثم تناوَل بإبهامه حفنةً أخرى من يده اليسرى، ووضَعَها في فتحة الأنف الأخرى، وبعد ذلك ألقى برأسه للوراء، وظل يشم ثلاث أو أربع مرات، وبدا أثَر النشوق واضحًا في فتحتَي الأنف، وفي تلك الأثناء كان «إيزولو» يستخدم الملعقة العاج بدلًا من الإبهام.
قال «إيزولو»: ولهذا أنا أبيع نشوقي في السوق.
دخل «إيدوجو» ممسكًا بقارورة النبيذ من الحبل المتدلي من رقبتها، وقدَّم التحية ﻟ «أكيوبو» ووالده، وترك القارورة على الأرض.
قال «إيزولو»: لم أكن أعرف أنك تملك نبيذًا.
– لقد أرسلَه لي صاحب الباب الذي أصنعه.
– ولماذا جئتَ به في وجود هذا الصديق؟
– إن «إيدوجو» لم يقل بأن النبيذ لك.
قال «إيدوجو»: إنه لكما أنتما الاثنَين.
أخرج «أكيوبو» قدحًا من حقيبته، وراح ينظِّفه بكف يده لإزالة الوسخ العالق به، وكذا تناول «إيزولو» قدحه من الحقيبة المجاورة، وتقدم به ناحية «أكيوبو» ليملأه، ثم تناول منه القارورة وملأ قدح «أكيوبو» .. قبل أن يبدأ الشراب جنح «أكيوبو» قليلًا إلى الأرض، وتمتم بصوتٍ خفيض، كان «أكيوبو» يتوجَّه بالدعاء إلى آبائه.
قال «إيزولو»: إن جسدي مليء بالرماد، ولا أعتقد أن النبيذ يصلح لي الآن.
شرب «أكيوبو» القدَح الأول، ورنا بوجهه وكأنه كان في انتظار صوتٍ ما داخل رأسه يُخبره عما إذا كانت الخمر جيدة أم لا، ثم قال: لا .. ليس من الصواب أن تشرب نبيذًا الآن.
تناول «إيدوجو» القدَح من والده، وصب لنفسه حين جاء «أودوش»، وقدَّم التحية لأبيه وﻟ «أكيوبو»، وجلَس مع «وافو» فوق المقعد الطيني، كان يرتدي — كعادته منذ التحق بدين الرجل الأبيض — حزامًا عند الخصر من قماش القطن بدلًا من الشقة الرفيعة بين القدمَين .. صَبَّ له «إيدوجو» قدَحًا لكنه لم يشرب.
قال له: ماذا بك؟
قاطَعه «إيزولو» قائلًا: متى ستذهب إلى «أوكبيري»؟
أجاب «أودوش»: بعد غد.
– وكم من الوقت ستقضي هناك؟
– أسبوعَين.
صمَت «إيزولو» لحظة، وبدا كأنه يفكِّر في ذلك.
فقال «أكيوبو»: ومن أجل أي شيءٍ تذهب إلى هناك؟
– يريدون أن نختبر معلوماتنا عن الكتاب المقدَّس.
هزَّ «أكيوبو» كتفَيه فقال «إيزولو»: لستُ متأكدًا من ذهابك، ولكن دعني أفكِّر ثم أقرِّر.
لم يقل أحدٌ أي شيء، والتزموا جميعًا الصمت.
كان «أودوش» يعرف تمامًا أنَّ أحدًا لا يملك الجرأة على معارضة والده.
شرب «أكيوبو» قدَحًا آخر من الخمر وبدأ يصرُّ بأسنانه، وعندئذٍ أعلن بأن الخمر جيدة، ثم ضرب بالقدح فوق الأرض مراتٍ قليلة وهو يصلي قائلًا: أطال الله في عمر الرجل الذي صنع هذه الخمر، وأطال أيضًا في عمرنا نحن الذين نشربها. مسح أخيرًا حافة القدَح، ثم وضعه في حقيبته.
قال «إيدوجو»: فلتشرب قدحًا آخر.
مسح «أكيوبو» فمه بظهر يده، وقال: إن العلاج الوحيد ضد الخمر هو أن تملك القوة لتقول لا.
عاد «إيزولو» قليلًا بذاكرته إلى الوراء، وقال ﻟ «أكيوبو»: قبل أن تأتي كنتُ أقول لهذا الولد الصغير إن الرجل دائمًا يقول الحقيقة لابنه، حتى لو كان ذلك الرجلُ من أكبر الكذَّابين.
قال «أكيوبو»: هو كذلك بالفعل؛ فالرجل يستطيع أن يُقسِم أمام الإله بما قاله له والده.
استطرد «إيزولو»: وإذا لم يكن الرجل متأكدًا من الحدود بين أرضه وجيرانه، فإنه يقول لولده بأنه يعتقد، ولكنه ليس متأكدًا.
أجاب «أكيوبو»: هو أيضًا كذلك.
– ولكن عندما يتحدَّث الرجل بالحقيقة، ويفضِّل أبناؤه الكذب ..
توقَّف لحظة، ثم ارتفع صوته، واهتزَّ رأسُه بقوة، ثم تمالك نفسه، واستطرد بهدوء: ولهذا يستطيع الغريب أن يجلد ابني دون أن يلومه أحد؛ لأن ابني لم يسمع كلامي، ولكن كان من الأجدر لذلك الغريب أن يتعلم بأنه اعتدى على «إيزولو»، وأن ذلك الاعتداء سيؤدي بالضرورة إلى أن تلعق الكلاب عينَيه، وإلى أنني سأطيح برأسه.
قال «أكيوبو» متسائلًا: هل «أوبيكا» هو الذي وجَّه الضربة الأولى؟
– كيف لي أن أعرف؟ كل ما أستطيع قولَه أنه كان مخمورًا بما فيه الكفاية عندما رحل في الصباح، وظل مخمورًا حتى بعد عودته.
قال «إيدوجو»: قال إنه لم يسدِّد الضربة الأولى.
فسألَه والده: هل كنت هناك؟ وهل تُقسِم أمام الإله؟ ليتني كنتُ متأكدًا!
ثم قال ﻟ «أوكيوبو»: لو كنتُ متأكدًا لما جلستُ هنا الآن وتبادلتُ معك الحديث، بينما الرجل الذي وخَز عيني ينام في بيته، كنتُ على الأقل قد أرسلتُ له بكلماتٍ قليلة تجعل العَرق يرشح من جبينه.
قال «أكيوبو»: حقًّا ما تقول، ولكنني أعتقد أنه من واجبنا اكتشاف ومعرفة الذي وجَّه الضربة الأولى .. هل هو «أوبيكا» أم …
قاطعه «إيزولو» قائلًا: ولماذا ينبغي أن أذهب لأكتشف وأعرف من الغرباء ما فعلَه ابني؟
– نعم، نعم، ولكن دعنا أولًا نتعقَّب القطة الشرسة، ثم نلوم الدجاجة.
ثم قال ﻟ «إيدوجو»: أين «أوبيكا»؟
قال «إيزولو»: يبدو أنك لم تسمع ما قلت .. أين …
قاطعه «إيدوجو» مخاطبًا «أكيوبو»: لقد خرج مع «أوفيدو»، خرج لأن أبي وبَّخه قبل أن يسأله عما حدث.
كان اتهامًا غير متوقع، أحس «إيزولو» حيالَه وكأنه حشرةٌ سوداء، لكنه تمالك نفسه من الغضب ووسط دهشة الجميع مال بظهره على الحائط، وأغلق عينَيه ثم فتحهما، وبدأ يصفر في هدوء .. أومأ «أكيوبو» برأسه أربع أو خمس مراتٍ في دهشة، وحرَّك «إيزولو» رأسه بخفة من جانب إلى آخر، ثم إلى أعلى وأسفل دون أن يتوقَّف عن الصفير.
قال «أكيوبو» موجهًا حديثه إلى «إيدوجو» والولدَين الآخرَين: إن الرجل دائمًا أكثرُ حساسيةً من أولاده.
كان من الواضح أنه قال ذلك لتهدئة «إيزولو»، رغم أنه لم يقل سوى الحقيقة، ثم استطرد: يعتقد أمثالكم أنهم أكثر حكمةً من آبائهم، لكنكم نسيتم أن تلك الحكمة جاءت إليكم من آبائكم؛ ولهذا فمن الخطأ أن يحاول الولد مجادلة أبيه .. لماذا أتحدَّث هكذا إليكم؟ لأنني لست غريبًا في كوخ والدكم ولست خائفًا من قول الحقيقة، وأنا أعرف أن والدكم كثيرًا ما توسل إلى «أوبيكا» أن يتنازل عن صداقته مع «أوفيدو»، لكن «أوبيكا» لم يهتَم بتوسلاته .. لماذا؟ لأنكم جميعًا، وكذلك الولد الصغير الذي هناك، تعتقدون أنكم على صواب، وأنكم تعرفون ما لا يعرفه أبوكم. إن أبنائي مثلكم تمامًا، لكنكم تنسَون دائمًا أن المرأة التي تنتهي من إعداد الطعام قبل الأخرى فإنها تكسر مزيدًا من الأطباق والأواني .. نحن الكبار لا نتحدَّث لأننا نرى بعض الأشياء التي لا تستطيعون أنتم رؤيتها. لقد تعلَّمنا من آبائنا أننا عندما نرى امرأةً عجوزًا تتوقف في رقصتها لكي تبدأ مرةً ثانية وثالثة من نفس النقطة، فلا بد أن شيئًا ما قد حدث منذ فترةٍ طويلة قد أثَّر في حياتها .. عندما يعود «أوبيكا» أخبِره يا «إيدوجو» بما قلتُ .. هل تسمعني؟
أومأ «إيدوجو» برأسه موافقًا، وكان يتساءل بينه وبين نفسه عما إذا كان الرجل حقيقةً لا يكذب على ابنه.
رفع «أكيوبو» أردافه، ودار بجسده حتى أصبح في مواجهة «إيزولو»، ثم قال: لقد تحدَّثتُ مع الأولاد، ولن أخاف من الحديث معك .. أعتقد أنكَ قاسٍ جدًّا مع «أوبيكا» .. لقد باركَك الناس جميعًا كرئيس للكهنة، لكن الناس يختلفون؛ فهناك الطيبون والأشرار، الشجعان والجبناء، الأغنياء والفقراء، من يتقدمون بالنصائح الطيبة وأولئك الذين تملأ أفواههم أحاديثُ السكارى، ومن أجل هذا يا صديقي فمهما كانت النغمة التي تعزفُها في الأرض فإن شخصًا ما يستطيع دائمًا أن يرقُص عليها .. أحيِّيك.