حسن ونعيمة
قُدِّمت على مسرح الجيب في عام ١٩٦٤م.
-
إخراج: كرم مطاوع.
-
بطولة:
- أمينة رزق.
- توفيق الدقن.
- محسنة توفيق.
- ملك الجمل.
- حسن عبد السلام.
- الكورس.
-
ديكور: رءوف عبد المجيد.
-
موسيقى: سليمان جميل.
(بيت نعيمة مِن الداخل هو مكان هذه المسرحية، وزمانها بعد مرور سنوات طويلة على حادث
الغدر بحسَن وقَتلِه في ذات المكان.
وحين يفتح الستار يفتح على صدرِ أو «دهليز» بيت من تلك البيوت القرويَّة، المتهدِّلة
القليلة بأعمدتها الطينية، والتي كثيرًا ما تتكوَّن من طابقين. تلك البيوت التي يُمكن
أن
توجد متداخلة على بيوت الفلاحين الواطئة، والتي لا بدَّ وأن جيرها تساقط مع شُرَّاعاتها
…
دواوينها القديمة بدِكَكِها، ومصاطبها المفروشة بالحُصْر، وفراء الخرفان.
إلى اليمين — قليلًا — توجد سلالم لها دربزين خشبيٌّ يقود إلى الدور الثاني حيث تُقيم
نعيمة، ويجاور السلالم مزير — أي بناء طيني — يعلوه زيران قديمان، ويحيط به نبات الصبار
العجوز.
هنا وهناك أدوات منزلية، ومَصاطب وكتُب بلا لون.
إلى اليمين يبدو مدخل حجرة الأم، الحُجرة نصف مظلمة، وإلى اليسار يبدو مدخل حُجرة
الأب،
وإلى الخلف مدخل أو سرداب، يُفضي إلى الباب الخارجي العريض المُحكم الإغلاق بالمزلاج،
ويؤدِّي إلى الحارة التي يقَع البيت فيها.
حين يضاء المسرح إضاءةً باهتة تُدلف الأم من حجرتها، والأم هنا امرأة في العقد الخامس،
سريعة الحركة، متحفِّزة، لا تسكن أبدًا، تتأمَّل المكان قليلًا، تبحث عن شيء، تتعثَّر،
تتَّجه ناحية السلالم محاوِلَة الإمساك بفرخ بطٍّ كبير، تُحاوره قليلًا، تتوقَّف
شاردة.)
الأم
(لنفسِها)
:
دا النهارده العيد (تزفر) والناس فرحانة بره
البيت. (تتوقف) واحنا لازم نفرح زي الناس
بالعيد.
(تُمسِك بفرخ البطِّ شاردة) بس لو كانت تسيبنا
النهارده نعيش (تؤخذ قليلًا) دا بيقولوا البلد
مفضوحة، وفيها رِجل غريبة.
نعيمة
(تظهَر نازلة السلالم، بقوامها المديد، وملامحها الصارمة،
وعينيها الحادتين، تتسمَّر، ترى الأم، ثمَّ تسألها)
:
إيه اللي ناوية تعمليه؟
الأم
(تُؤخَذ، ثم باستهانة)
:
حادبحه.
نعيمة
:
زي زمان.
الأم
(تؤخذ)
:
لازم يندبح.
نعيمة
:
ادبحيه.
الأم
:
عشان ناكل ونعيش، كل الناس بتعمل كده (تتوقَّف) دا النهارده العيد.
نعيمة
(بمرارة)
:
العيد!
الأم
:
تعالي عشان تمدي إيدك وتمسكيه معايا، تساعديني.
نعيمة
:
أدبحه معاك؟ أنا؟ أمسك معاك؟ وعيزاني أمد إيدي (ترتبك،
وهي تتخيَّل الماضي … تسترجعه) وهو بيرفض اللي ما عمروش أذى حد، وما
يعرفش الشر (تشير) وفيه إدين كتير ورجلين دايسه
عليه، على نفَسه، والغدر في كل حته (تحتد) الدم
ملو الأرض. (تواجه الأم التائهة) الدم في كل
حته.
الأم
(مرتدَّة متخاذلة)
:
أنا بقول ع الدِّيك اللي في إيدي.
الكورس
:
بتقول ع الديك، ونعيمة بتقول على حسن، وكل واحد يقول اللي في نفسه.
نعيمة
(تغيب داخل نفسها)
:
أنا فاكراه … قدام عنيه.
الأم
(تَستعطفها)
:
طيب، ساعديني، امسكي معايا (بحنان) دا انتي
بنتي.
نعيمة
(مبتعدة عنها)
:
عايزة مني إيه؟ فيه إيه عيزاني أعمله.
الأم
:
تولعي النار في الحطب.
نعيمة
:
بتقولي تولعيها؟
الأم
(بهدوء)
:
أيوه تولعيها وتساعديني (تقترب منها) تمسكي
معايا، والسكاكين ع الحيط.
نعيمة
(بتحدٍّ)
:
وحتى لو دبحناه … أنا شيفاه وهو بيجري من غير راس، وشايفة اللي قتلوه بالسكاكين.
(بتعقُّل تواجه الأم …) وقعوه … وحشوها.
الأم
(تذعر)
:
امسكي معايا، امسكيه.
نعيمة
:
عيزاني أحط إيدي معاكم ودمه يبقى هنا على هدومي؟ (تتلفت
حولها) على كل حتة، هنا ع الحيطان، وعند السلالم.
الأم
(لنفسها)
:
مكنشي فيه حيطان (تستدير) واللا كان (تتذكر) أنا مش فاكراه، مش فاكراه قوي، اللي
حصل.
الكورس
:
مفيش حاجة بتتنسي، كله بيفضل هنا في الأرض، حتى الغدر.
نعيمة
:
افتكري شوية، اسمعيه في ودانك وهوه بيتمرَّغ ع الأرض قدامك (تعاجلها) هنا تحت رجليك الحتة اللي شيلاكي في
الأرض، وكان ليل.
الأم
(لنفهسا)
:
كان وش الفجر.
نعيمة
:
ومكنشي فيه حس، هو بس اللي كان بيصرخ وياكل في الأرض (تدور حولها تواجهها) والدم حصل هدومك.
الأم
(تفزع)
:
هنا. (تبحث ملابسها) هنا لأ. (تتوقف) أنا قلعتها، قلعتها خالص ورميتها هناك
(تتوقف) لأ، أما حرقتها بالجاز (تتذكر) مش بالجاز، أنا مسكتها في إيدي الجلبية
التييس السودة، ورحت رمياها في شَروقة الفرن على طول دراعي. (لنعيمة) أنت اللي بتجيبهالي، وتلبسهالي كل ما
تشوفيني يا نعيمة وأحط وشي في وشك (لنفسها)
أخليها؟ ودا معقول أحطها تاني على جسمي؟ بدمها اللي حصلني؟ (تتحسر) دا غرقني، ملا هدومي، دا وصل لهنا (تتوقف في مُنتصَف المسرح، وتُسَلَّط عليها إضاءة ملتهبة،
وتروح تبحث وتتشمَّم ملابسها) يا سلام يا بنتي! أحطها تاني على جسمي
وأمشي بيها في الدنيا (تنكس) دا أنا عترت في
السلالم، ومن يومها ما قمتش ووقفت على حيلي، (ترفع رأسها
شيئًا فشيئًا لتواجه نعيمة) وانتي شوفتيني يا نعيمة وعنيك شرختني، زي
المنشار في الخشب وانتي في وقفتك فوق ع السلالم.
(صمت طويل.)
(يدلف الأب بقفطانه المخطط وسرواله وأقدامه العارية سريعًا
مُهرولًا منكَّسًا، من حجرته المظلمة إلى اليسار سائلًا.)
الأب
:
بتقولوا ع اللي حصل.
نعيمة
:
يوم الدم.
الأم
:
بنقول.
الأب
(يستدير مبتعدًا، غير مبال)
:
المغنواتي.
نعيمة
:
أيوه.
الأب
:
وهو مرمي في الأرض بخطره.
نعيمة
:
أيوه، بخطره.
الأب
:
برغبته.
نعيمة
(تقترب منه، تسأل)
:
شفته؟ بعينك شفته، وهو بيلخص من راسه، زي الطور المدبوح؟
الأب
(يبتعد مغمغمًا)
:
أنا ما شفتوش، ومفيش حاجة حصلتني (يعلو صوته الخالي من
التعبير) أنا كنت بعيد عند الباب (يتوقف
يستدير لنعيمة مستاءً) والحكاية دي قديمة قوي (مشوحًا) دا فات عليها كتير (محتدًّا) هيه مش ناوية تخلص، تغور، تنزاح مِن قدام
عنينا؟ (يتحسَّس يديه) دا مفيش حاجة بتستنه،
النخل بيقع، وحتى البيوت بتتفتت وتبقى تراب ندوس عليه واحنا ماشيين، والناس، كله
بيروح وما نشوفوش، ننساه، الحلو والوحش كله بنرميه من ورا ضهرنا، على طول دراعنا
نرميه.
الكورس
(يسخر)
:
نرميه؟ يا ريت، هو فيه في الدنيا حاجة بنعملها ونرميها.
نعيمة
(محتدة)
:
نرميه فين؟ قول، فين؟
الأب
:
نرميه.
الأم
(لنفسها إلى الخلف)
:
أنا رميته مالبستوش (تهرول إلى الداخل،
تتسمَّر) في الشروقة.
نعيمة
(للأم)
:
الدم.
الأم
(لنفسها)
:
ودا معقول؟ أحطه على جسمي؟ بدمه؟
نعيمة
(للأم)
:
الدم؟
الأب
(يتولاه التوتُّر، شيئًا فشيئًا)
:
يا نعيمة ابعدي عني.
الأم
(لنفسها)
:
دي حاجة تخوف.
نعيمة
:
احنا بس بنفتكر، بنجيب اللي ورانا ونشوفو.
الأب
(يتذكر)
:
أنا ماشوفتوش، أنا لحقت نفسي (يمثل) حطيت إديه
لتنين على عنيه وأنا واقف ورا الباب، وبعد كده اترميت ع الباب (بحدة) ما قدرتش أقوم، واقف على رجليَّه.
الأم
:
دي كانت جلبية الفرح.
الأب
:
ما قدرتش (يسائل نفسه) أقدر ازاي؟
نعيمة
(مغمغمة)
:
بنفتكر.
الأم
:
كانت آخر مرة (لنفسها) وبعد كده
ماقدرتش.
نعيمة
(تشير إليهما)
:
انتو لتنين.
الكورس
(مؤكدًا)
:
هما لتنين، أمك وأبوك.
الأب
(يعاوده المرح)
:
أنا بقول على نفسي (للأم) وكل واحد يقول على
نفسه، هيه كده العيشة، محدش يقف على كتف التاني، أيوه، يعني كل واحد يقف على رجليه،
يشيل نفسه ويمشي. (يضحك ويصفِّق بيديه شأن
الأطفال) الجدع اللي يمشي، اللي يحط رجله ويمشي، ما يقعشي في الأرض زي
الحيطان ويتوه في التراب. (يفتر مرة واحدة)
أيوة، هيه كده.
الأم
:
أنا ما قلتلكشي شيلني وامشي بيَّه(فترة) محدش
بيشيل حد في الدنيا دي.
نعيمة
(فجأة)
:
أنا بس اللي شيلاه وماشية بيه من يومها.
الأب
:
ما هو كلنا شايلين (يضحك) مش انتي بس وحدك …
بزورك اللي شيلاه. (يَهزل مقلِّدًا ابنته) أنا
بس (يجرها نحوها) ليه انتي بس … وحدك.
نعيمة
:
أنا مقتولة، وما عملتش حاجة. (تسألهما في شيء قليل من
الشك) أنا عملت حاجة؟
الأم
(تتسمر)
:
انتي كنتي موجودة (ثم بتأكيد) انتي موجودة.
نعيمة
(تروح تدافع عن نفسها)
:
أنا كنت بعيد، مالمستوش، إيدي ما تحتطش عليه، على شعرة منه، على خيط من هدومه.
الأب
(يغيظها)
:
لكن كنتي معايا، ولك يد في اللي حصل، لك … لك … لك.
الأم
(تهرول ناحية السلالم، وتُضاعَف الإضاءة على السلالم، تبدو خربة
متهالكة)
:
كنتي واقفة هنا. (بحماس فجائي) أنا شفتك وانتي
هنا، وإيدك ع الدربزين وكل حاجة قدام عنيك، اللي بيحصل، اللي كلنا عملناه، كل واحد
حط إيده فيه (تروح تحصي الموجودين) أنا، وده،
وده. (تتوقف) كلنا، كل سكان البيت ده، اللي
بيتنفسوا فيه. (بحدة) كلنا (لنعيمة) وانتي معانا.
الأب
:
معانا.
نعيمة
(باستنكار)
:
معانا، أنا معاكم في اللي عملتوه (تراجع
نفسها) يعني عشان كنت موجودة وشفت؟ كنت أفقع عنيَّه، أتعمي، أردمهم
بالتراب بتاع الأرض وما شفش.
الأم
:
انتي كنت موجودة يا نعيمة، موجودة.
الكورس
:
كانت موجودة، والقتل بيجري تحت عنيها، كانت بتاكل عنيها ورموشها تلهب زي شَروقة
الفرن.
الأب
(يصفق)
:
معانا، ماشية قدام.
نعيمة
(تغضب)
:
انتو عملتوها؟ مع بعض عملتوها وقفتوا صف واحد، إديكم في إدين بعض (تستدرك) أنا بقول على زمان، وبتعملوها النهارده، كل
يوم كل طلعة شمس تعملوها، كل لحظة، كل ما الدنيا تغيم، كل ما نكلم بعض وأحط وشي في
وشك وفي وشه. (تشير إلى الأب المتنمر كالطفل) مع
بعض، صف واحد، من يومها تعملوها (تواجه السلالم)
وأنا واقفة هنا، فوق، بعيد.
الكورس
:
مفيش حد بعيد على اللي بيحصل، الجريمة اللي بتحصل.
الأب
(يصيح)
:
مفيش فوق ومفيش تحت، كلنا مع بعض (باتِّهام)
وانتي مكنتيش بتعيطي وباين عليك حزن، وتاكلي في روحك ع السلالم.
الأم
(تغيب متذكرة)
:
مش عارفة ليه ما نزلكشي دموع وانتي مفجوعة (تتجه الأم
إلى السلالم كالنائمة) وانتي في وقفتك وشيفاه، وبتبصي لفوق، (تتوتر) وعنيك عليَّه، أنا وأبوك، واحنا بننطر الدم
من على هدومنا القديمة ونجري وندخل في الحيطان.
الأب
(يعربد)
:
والمغنواتي ورانا يا هاجر، بيشرب في دمه.
نعيمة
(بتعالٍ، من أعلى السلالم)
:
أنا كنت
فوق.
الكورس
:
ع السلالم.
الأم
:
واحنا هنا، تحت … عند رجليك، أمك وأبوك. (تستعطفها) اللي ربيناك، شلناك هنا، وكنا بنلاعبك ونجري بيك في
الدرب، برا، بعد الناس ما تنام، أيام القمرة (تتغير نبرات
صوتها) أيام ما كنتي تسيبينا وتطلعي في الخلا، ونجيبك من عند راس
الحارة، وانتي بترفسي وصوتك جايب من آخر الدنيا، الدنيا سمعاه. (بحدة أكثر) في لربع جهات، في كل النجع، هنا، وهناك،
في كل حته سمعينك، وانتي بتلفي في العزب والبلاد تغني معاه، وجميع الناس شيفاك
وبتشاور يا نعيمة، شافوكي، مفيش عين ما شفتشي.
الكورس
:
كلنا شفناها نعيمة، وهيه بتحبي، وهيه بتضحك للدنيا وتحضنها.
الأب
(بشكل عادي)
:
في مرة كنت في مولد وشفتهم، مولد القرني … بعنيه.
نعيمة
:
من يومها فاكرين انتي وهوه؟ أبويا وأمي؟ (تتأملها) بعد ما قفلتوا البيت، واستخبيتوا جوه؟ في الحواصل العتمة
اللي جوه (تصرخ) دي عتمة عتمة.
(صمت ثقيل.)
الأب
(للأم)
:
في مرة كنا في مولد، أنا وأولاد أخويا وكان آخر الليل. (يفتر شيئًا فشيئًا) كنا التروكة بتاع الغوازي آخر الليل.
نعيمة
(تقاطعه وهي تنشد لنفسها)
:
وتيجي ليام وتموت، وكل واحد قافل على نفسه، وفي كل يوم تشب حريقة (تؤكد) محصلشي إنها اتطفت يوم وهمدت بقت رماد،
محصلشي (تتأملهما).
الأم
:
ما تبصليش وتحرقيني بعنيك، أيوه … هاه؟ ما تبصليش، ابعدي عني، وأبوك أهو، روحيلو
… كفاية بقه، كفاية (تأخذ في الدفاع عن نفسها)
دا أنا خدلت من يومها، عملت زيه، وهو بيترمي في كل حته، ودمه على هدومنا. (تروح تتشمم ملابسها) دا أنا مش طايقة هدومي من
يومها.
نعيمة
(تعاجلها)
:
مهما تقلعي هدومك وتحرقيها، ترميها في النار الآيدة، برضه حاتفضلي تاكلي في نفسك
في العتمة اللي جوه، اللي ماليه البيت. (تُعدِّد) في كل حته … الحواصل والبيبان، والحيطان وعفش الرز،
والصناديق القديمة والهدوم، كل اللي بنحط عليه إيدنا ورجيلنا، كل اللي بتشوفو
عنينا. (تستدير) وكل واحد بيشوف نفسه (بثقة) وأنا كنت عارفة كده، هو دا اللي كنت بشوفو
(تهدأ) وعشان كده معيطش (تتساءل) وعيَّط ليه؟
الكورس
:
فيه ناس بتعيط، بتعيَّط وما بنسمعهاش.
الأب
(وكما لو كان يغيظها)
:
لكن اللي حصل وصلك. (يضحك ويُحدث ضوضاء شديدة)
أنت غرقانة زينا. (موسيقى خلفية، تأثير أمطار ورذاذ
ماء) رجلك حصلت الميه اللي ما فيش منها طلوع، البحر اللي وقعنا فيه
احنا التلاتة، الطوفان اللي ملوش أول من آخر. (تبرق
عيناه) ومفيش منه مهرب، منفذ قد عقب الباب نفلت منه (حالمًا) ونطلع للهوا الطاير، هوا الليل الحلو
(للأم) فاكراه؟ اللي كنا بنشمه زمان أنا
وانتي. (مشيرًا إلى نعيمة) قبل ما تتولد، زمان،
قبل ما نغرق، قبل حكاية المغنواتي (يعلو صوته)
قبل ما يحصلنا الطوفان يا هاجر (ينسحب إلى الخلف
مغمغمًا) اللي حصل من سنين وسنين.
نعيمة
:
في كل حته يشوف نفسه، في كل حتة.
الأم
(تصيح، تروح تحاصر نعيمة وتسألها)
:
قوليلي يا نعيمة؟ ليه كنتي كده في وقفتك فوق ع السلالم، وإيدك على خشب الدربزين،
ومفيش دمعة واحدة في عنيك لتنبن (تؤكد) دمعة
واحدة!
الكورس
:
فيه ناس بتعيَّط، بتعيَّط وملهاش دموع.
نعيمة
(تواجهها)
:
وأعيَّط ليه طول ما أنا بشوف نفسي؟
الأب
:
انتي كنتي معانا، وكنتي بتحبيه زي خرز عنيك، وشفتي بعنيكي اللي حصل تحت رجليك
(يطرق كفًّا بكف).
الكورس
:
كانت موجودة، احنا شفناها بعنينا اللي حايكلها الدود.
(صمت)
نعيمة
:
أيوة، أنا كنت موجودة، واللي بيحصل قدام عنيه (تتَّجه
إلى السلالم مع حركة الإضاءة، تصعَدُ سريعًا إلى منتصفها، تجمد في وقفتها، نفس
الوقفة القديمة) أنا كنت موجودة.
الأم
(تصعد إليها، وتروح تعدل من وقفتها، تنزل سلمة، وتتأملها
قليلًا، تذعر، تتراجع)
:
لأ لأ مش هيه دي عنيك، مش هيه (تشير نازلة
السلالم) فاكراها.
الأب
(يتراجع ناحية الباب)
:
أنا كنت بعيد، قرب الباب (يتأمل ذيل قفطانه)
ومفيش حاجة حصلتني.
الأم
(تبحث ملابسها)
:
أنا اللي غرقت.
الكورس
:
كلهم غرقانين، سكان البيت ده.
نعيمة
:
أنا كنت هنا … فوق، وشيفاكم.
الأم
(باتِّهام)
:
كنتي موجودة بتتفرجي، وعنيكي ناشفة، بتجهزيه، الشر اللي بياكل فيك، سوس بينغل في
كل حتَّة، في عنيك ورموشك وسقف حنكك الناشف.
نعيمة
(يغالبها الضحك وهي في وقفتها تلك على السلالم)
:
هاه، جاهزين؟! (بتحدٍّ) نعيد اللي حصل في وش
بعض؟ كل واحد منا احنا التلاتة يعمل قاضي على نفسه، وما فيش قاضي من بره …
جاهزين؟
الكورس
:
طواحين، طواحين، طواحين، كل طلعة شمس، كل غمضة عين.
الأم
(وهي منكمشة في مكانها، تتطلَّع إليها باسترحام)
:
بلاش يا نعيمة، بلاش؛ دا احنا مش قادرين (تبحث عن شيء
إلى أن تعثر على فرخ البط المقيد) دا أنا نسيت اللي ورايا (تستعطفها) واحنا لازم نعيش زي الناس اللي عايشة، دا
احنا صدينا زي النحاس القديم، ما عدناش نشوف الدنيا، النسيم الحلو، اللي يشرح
القلب، قلب العليل، يشفيه.
(يتولاها الفرح) دي الناس بره، بره البيت ده،
بيسهروا قدام البيت والدكاكين لوش، … والبنات بترقص وتغني وتتجوز في الستر،
والحواري بتكبر وتشغي عيال (للأب) كل دا نسيناه،
ماعدناش فاكرينو بقالنا عمر. (لنعيمة) لا عدنا
بنشوف الناس … ولا الناس عايزة … تشوفنا … من بعد اللي حصل.
الكورس
:
احنا شايفين … عنينا مفتوحة ع اللي بيحصل … القاتل والمقتول.
نعيمة
(في مكانها)
:
احنا بنشوف الناس … والناس بتشوفنا (تتجه ناحية
الأم) وحتى لو كنتي بتطلعي كل ليلة … تسهري لوش الفجر … وتكلمي الناس
… تعيشي معاهم برضه حاتشوفي نفسك … في كل حتى تحطي فيها رجلك … تشوفي نفسك … اللي
عملتيه بإديك … وانتي واقفة هنا … وماسكة الساطور والدم على هدومك.
الأب
:
انتي كنتي عيزاني أعمل إيه؟ أسمع فضايحك طول ما أنا ماشي يا نعيمة؟ في كل شبر،
الحتة اللي أحط فيها رجليَّه.
نعيمة
:
عايز تقول أني أنا السبب في اللي حصل.
الأم
:
أيوه انتي السبب … انتي اللي مررتي حنكنا عمر بطولو … انتي اللي قفلتي البيت
وقوضتيه من جوا ومن برا … (تتحسر) دا ما عدشي
فيه … سكانوا ماتوا من زمان وشبعوا موت (تلقي بفرخ البط
بعيدًا).
الكورس
(أصوات متداخلة … مختلطة)
:
بتحطم وتعيش … بتشم الهوا … اللي فات … الحلو والوحش … حاتشوفو … حاتشوف حسن …
فاكرين؟ كانت معلولة م الحب … كان بيغنيلها في كل حتة … كانت لسه في عز الصبا … هيه
الصبا … نعيمة الصبا.
نعيمة
(تحلم … موسيقى خلفية … تأثير موالد … ودفوف … وصاجات … ومغني
يمول)
:
أنا كنت عايزة أشم الهوا دا اللي بتتكلموا عليه ليل نهار … أحب وأغني وأتجوز … زي
كل البنات (تتوقَّف) وكانت أول مرة أشوفو فيها …
كنا في مولد … وهوه كان بيغنِّي … وحسيت إنه كان بيغني من قلبه … بيقول اللي جواه …
ولقيت نفسي ماشية معاه … رِجْلِي على رجله.
(تنحسب إلى الخلف) سبت البنات اللي معايا،
ورحتله (يظهر الجزء الأعلى من حسن، في بقعة ضوء … تتجه
إليه نعيمة … تعلو ضوضاء المولد فترة).
حسن
(بخفوت)
:
صحيح عايزة تيجي معانا؟
نعيمة
(مطرقة في الأرض)
:
أيوه يا حسن.
حسن
:
أنا شفت ده في عنيك.
نعيمة
:
أنا اسمي نعيمة.
حسن
(حالمًا)
:
يا نعيمة.
نعيمة
:
وبلدنا اسمها المنشية.
حسن
:
وأهلك؟ أبوك وأمك؟
نعيمة
:
حارجع أقولهم … آخد رأيهم.
حسن
:
وإن قالوا لأ … ومارضيوش يجوزوك مغنِّي فقايري زي حالاتي … بيغني على غاب، وبيغني
من غلبه … يا نعيمة.
نعيمة
:
حامشي معاك طول العمر يا حسن … وأموت معاك.
حسن
:
أنا اللي حاموت عشانك يا نعيمة.
نعيمة
(تتراجع)
:
لأ … لأ … يا حسن.
(تعلو ضوضاء المولد … يختفي حسن، وتعود نعيمة إلى مقدمة
المسرح.)
نعيمة
:
وجيت قولتلكم … حبيت على إديكم … (للأب) ع
التراب اللي بتدوس عليه … التراب.
الأب
(منزعجًا)
:
بس دا كان زمان … زمان قوي … وراح.
نعيمة
(بقوة)
:
ما حجاش راحت … ودا ما يتنسيش.
الأم
:
احنا كل يوم نجيبه، ونقلب فيه، كل واحد يقف فوق، على كتف التاني ويدوسه تحت
رجليه.
الأب
:
غرقانين.
نعيمة
:
محدش غرقكم مفيش حاجة قفلت عليكم الباب من بره بالضبة والمفتاح … وغرقتكم بعد ما
قتلتوه وهو بيغني (فترة) انتوا اللي غرقانين.
الأم
(تتنمر)
:
وانتي معانا … كلنا … احنا التلاتة.
نعيمة
:
أنا عايزة كده.
الأب
:
كدابه طول عمرك.
نعيمة
:
عيزاكم تغرقوا كل طلعة شمس … عيزاكم تنسوها الشمس اللي بتملا الشوارع … وتفوت في
الهدوم.
الأم
(تؤخذ)
:
بتستناه الشر … وتمشيلو (تتذكر وتعاود الجري ناحية
السلالم) وهو دا اللي شفته في عنيها، وكفها ع الدربزين.
الأب
:
خلينا في وش بعض … أهوه كلنا هنموت ونشبع موت … أهي موته جو البيت.
نعيمة
:
أنا ماهموتش.
الأم
:
كلنا حانموت … وبنموت … ما فيش حد حايخلد … حتى اللي بره البيت … والنخل العالي …
والجميز … والطير الضارب في قبة السما … (مهددة)
وانتي معانا …
الأب
(يستعد للدخول في حجرته)
:
دي قبلينا يا هاجر، دي هيه السبب. (يدخل) هيه
اللي جابته لحد هنا … الندم (يختفي).
الأم
(تجري كالمذعورة ناحية حجرة الأب)
:
أنت حاتدخل تنام وتسيبني هنا؟ (تشير إلى
نعيمة) تسيبني لها … لوحدي.
الأب
(من الداخل ضائقًا)
:
أنا مش قادر بقه … كل واحد يشيل نفسه.
(صمت)
الأم
(تستدير إلى البطة المقيدة الملقاة)
:
دا احنا كنا عايزين ندبح الضكر وناكله نفرح بالعيد ونتعشى … زي الناس اللي عايشه
(تتأمل نعيمة التي تروح تتزين وتفرد ضفائر شعرها …
تتغير الإضاءة … تخفت أكثر).
الأم
(تستعطفها)
:
كفاية النهارده كده يا نعيمة … كفاية.
نعيمة
:
أنا ما عملتش حاجة … أنا بدافع عن نفسي معاكم.
الكورس
:
نَفَسهم انقطَع، بيعضوا الأرض، بياكلوا لحم بعض جوا البيت في الدِّرا.
الأم
(بتلهُّف)
:
واحنا كمان بندافع عن نفسنا … (بتعقُّل) أصل
كل واحد بيتهم التاني في وشه بيشيل حمله ويرميه على ضهر اللي قدامه، (لنفسها) أصله كتير … كتير قوي واحنا شايلينه بقالنا
كتير … دا احنا شبنا أنا وأبوك (تقترب منها
مهدِّدة)، وانتي كمان … خلاص (تتأمَّلها من
تحت لفوق) راحت عليك، (تتحسَّر) ما
عدشي فيكي … (تمسك كعبيها) رجليكي نشفت وكعابك
عرقبت (تقوم على ركبتيها وتروح تتحسَّسها) وجسمك
ما عدشي فيه (تواجهها) وحتى كمان صدرك … صدر
نعيمة … حط وشه في الأرض … (تَهمِسُ في أذنيها)
اسمعيني يا بنتي … وشوفي شعرك في المراية … شوفي نفسك … (تَبتعِد عنها) دا انتي … كنتي ست الستات.
وشعرك كان سلب … سلب جمال … ومفيش عين كانت تترفع فيك … زمان … وانتي لسه صبية
قبل ما تشيلي وتحزني … (يعلو صوتها) وأنا شفتك
هنا ع السلالم … (لنفسها) وزي ما تكوني شيلاه …
ومجهزاه … وعيزاه.
الكورس (١)
:
نعيمة كانت شيلاه … شيلاه.
الكورس (٢)
:
نعيمة كانت عرفاه.
نعيمة
:
أنا كنت عرفاه.
الأم
:
وليه تمديله إديك … وتحضنيه.
نعيمة
:
اللي بيعمل حاجة … بيعملها بإديه.
الأم
:
يا ريتها كانت انقطعت … وما تمدتشي (تتأمَّلُ
يديها) لكن أبوك … أبوك هو اللي دفعني.
الأب
(من داخل حجرته)
:
انت بتقعي عليه؟ (فترة عابثًا) دا أنا مش قادر
أشيل نفسي …
الأم
:
عايز يهرب … ينام … عنيه تغمض.
نعيمة
:
مفيش هرب … والباب مفتوح.
الأم
(بتلهُّف)
:
وليه ما نخرجشي … ونبقى زي الناس (باستعطاف)
دا كل الناس بتعمل كده … الدم على هدومهم، لكن بيقابلو بعض في كل حته … وماشيين.
نعيمة
:
اللي يقدر يمشي … يمشي … الباب آهو.
(تشير إلى الباب.)
الأم
:
نمشي (تدور حول نفسها) نروح فين؟
نعيمة للأم
:
الدنيا كلها سكك.
الأم
(مُلتهِّفة)
:
فين؟
الكورس
:
مش عارفين يروحوا فين … والدنيا كلها سكك.
نعيمة
:
الدنيا قدامك.
الأم
:
نمشي مع بعض … احنا التلاتة.
الكورس
:
القاتل والمقتول.
نعيمة
(تسخر)
:
احنا التلاتة … القاتل والمقتول.
الأم
:
نحط إدينا في إدين بعض ونطلع … نطلع خالص من البلد دي.
نعيمة
:
والناس اللي برا … اللي برا البلد دي؟
الكورس
:
الناس اللي برا … الناس … احنا.
الأم
:
محدش شاف حاجة … ومحدش له عندنا حاجة (تتوقف)
بس البلد فيها رِجْل غريبة.
الأب
(من الداخل … يتململ)
:
يا ريت.
الأم
:
انت بتحلم.
نعيمة
:
عايز يقوم.
الأم
:
دا العجز ضارب في كل حتة.
نعيمة
(بتعاجُب)
:
أنا لسه صبية … أنا بنت امبارح.
الأم
(ساخرة)
:
انتي … دا انتي مدفونة جوا نفسك.
نعيمة
:
انتوا اللي دفنتوني.
الأب
(هازئًا)
:
أنا كنت بعيد.
نعيمة
:
وأنا ما عملتلكمشي حاجة، ما قفلتش عليكم زي ما بتقولوا، والدنيا آهي، واسعة للي
عايز يمشي، يشيل حمله على كتفه ويمشي (تتجه إلى الباب
الخارجي وتعالجه وتفتحه على مصراعيه. تبدو الحارة ويعم الضجيج
الخارجي).
الأب
(يخرج مسرعًا … فرحًا)
:
انتي فتحتي الباب؟ (للأم) نطلع بره.
(فترة صمت إلى أن تظهر السائلة بوجهها المتغضِّن القبيح … وخواتمها
وغوايشها وشَعرها المصبوغ بالحناء تحت طرحتِها السوداء … تُنزل أحمالها.)
السائلة
(ورجلها على عتبة الباب الخارجي)
:
يا ساتر … ياللي هنا.
(يُذعر كلٌّ من الأم والأب … يتبادَلان النظرات العَجلى … ويركضان
إلى حجرتهما.)
نعيمة
:
مين؟
السائلة
:
هما جروا ليه؟
نعيمة
:
لما شافوكي … وانتي مين؟
السائلة
(تتقدم بأحمالها)
:
أنا غريبة … بلف في البلاد ولما شفت البيت مفتوح … وجواه ناس بتتكلم دخلت أشوف …
نعيمة
:
اللي جوه محدش يشوفو (فترة) تعالي،
ادخلي.
السائلة
(تتقدم أكثر بأحمالها، تقف على مبعدة من نعيمة،
تتفرَّسها طويلًا، ثم بتردُّد وهي تقدِّم رِجْلًا وتؤخِّر أخرى)
:
قوليلي يا بنتي، احكيلي أحكيلك واشكيلي وأنا أشكيلك.
نعيمة
:
أنا ما عنديش حاجة أقولها (فترة) هما اللي
عندهم.
السائلة
(تحاول باستمرار أن تُخفي شيئًا في نفسها)
:
مفيش حد على ضهر الدنيا ماعندوش حاجة شايلها … جواه … في الستر.
نعيمة
(تسألها)
:
انتي بتقولي ع الندامة … اللي حصل؟
السائلة
:
أيوه.
نعيمة
:
أنا ماعنديش.
السائلة
(تضحك وتخفي فمها بكفة يدها)
:
انتي ماعندكشي؟
نعيمة
:
أيوه.
السائلة
:
يعني مكنتيش موجودة وشايفة؟
نعيمة
:
كنت موجودة وشايفة، لكن إديَّه ماتمدتشي، وإديَّه آهي (تريها يديها).
السائلة
:
لكن شفتي اللي مدوا إديهم.
نعيمة
:
كنت أتعمي … ما شفشي.
السائلة
(بتودد)
:
لا … بس تمنعيه.
نعيمة
(باستسلام)
:
ما أقدرشي.
السائلة
(تستفزها)
:
ما تسكتيش.
نعيمة
(تروح تدقق في السائلة وتطوف حولها طويلًا)
:
أنا ماسكتش وكان لازم أتوجد معاهم عشان يشوفوني كل يوم، كل طلعة شمس يشوفوا اللي
عملوه … يشوفوا نفسهم.
السائلة
(تفاجئها)
:
ودا كفاية.
نعيمة
:
دا اللي أنا أقدر عليه.
(صمت)
السائلة
(تتأمل البيت)
:
دا انتوا قفلتوه من زمان.
نعيمة
:
محدش قفلو … هما اللي عايزين كده.
السائلة
:
لكن دا انتوا اتخنقتوا.
نعيمة
:
هما اللي اتخنقوا.
السائلة
(تعترضها)
:
بتقولي كنتي موجودة؟
نعيمة
:
أيوه، بس كنت بعيد.
السائلة
(باندهاش)
:
لكن شفتي اللي حصل؟ يعني لكي فيه؟
نعيمة
(منكسة)
:
شفته.
السائلة
(تحوطها)
:
يبقى ما تسكتيش.
نعيمة
(باستسلام)
:
إذا كان الميت جه للموت برجليه … وسكت ع اللي حصله … أعمل أنا إيه؟
الأم
(تندفع خارجة من حجرتها)
:
لا … أبدًا … ما تسمعيهاش … ما تصدقيهاش … دي كانت موجودة … زي ما كان البيت دا
موجود … والسلالم … والحيطان دي اللي بتقع … وتتفتت يوم بعد يوم … (تتعثر قليلًا، تسكن فجأة عن الحركة والكلام، تتأمل السائلة …
ثم بحدة) وانتي مين؟ انتي منين؟
السائلة
(تؤخذ، تتقوقع أكثر داخل نفسها، تتراجع)
:
أنا؟ أنا برضه ليَّه في اللي حصل.
الأم
(تروح تستجمع أطراف شخصيتها)
:
مين؟ وإيه اللي دخلك هنا؟ في البيت دا بالليل! (تتفرسها) انتي مش م النواحيدي.
السائلة
(بصوتها الحاد الذي يشبه رنة افتعال مصاحبة لرعشة خفيفة في اليد
اليمنى القابضة على عصا من الجريد)
:
أنا ست على باب الله، بلف في البلاد، بدور على حاجة ضايعة مني (تتعثر) مش فاكراها قوي، (بثقة) لكن لازم ألقاها.
نعيمة
(للسائلة)
:
أنت برضه ضاع منك حاجة يا غريبة؟
السائلة
:
أيوه … من زمان … من سنين … وعايزة أعرف اللي عملوها.
الأم
(تبتعد … تزأر … تحتدُّ)
:
احنا ماعنديناش حاجة في بيتنا، (تشير إلى الباب الخارجي
المفتوح) دوَّري بره … الدنيا واسعة.
نعيمة
(للأم)
:
وتدور بره ليه؟ هوه فيه حاجة هنا؟
السائلة
:
دوَّرت كتير بره … طول عمري بدور.
نعيمة
:
يبقى تدوري هنا، جوه. (فترة) ادخلي.
السائلة
(مخفية جانب وجهها)
:
بس … انتو عايزين تناموا.
نعيمة
:
أنا ليل ونهار نايمة.
الأم
:
كدابة ليل ونهار … انتي مابتناميش … النوم ما بيكحلشي عنيك (فترة) انتي بنتي وأنا عرفاكي.
(تطل بنات ثلاث برءوسهن من المدخل الخارجي، يتلصصن، يتبادلن
النظرات الوجلى، تعلو ابتسامة غريبة وجوههن.)
نعيمة
(بتعالٍ للأم)
:
بتقولي انتي تعرفيني؟ أنا؟ دا أنا غريبة عنك زي الست دي (تشير للسائلة) وحتى ما بدورشي على اللي ضايع مني بره زيها. (تعاودها حيوية مفاجئة) أصل الي بره دا زي قِلِّته،
ما يعملشي حاجة. (فترة) لكن الموت الحقيقي هو أن
الواحد منا يموت وهو واقف على رجليه، يعني يبقى بياكل ويتكلم مع الناس وهوه ميِّت
من زمان وشبعان موت.
السائلة
(تتنحنح وتُخفي جانب وجهها … لنفسها)
:
دي حريقة.
الأم
(للسائلة)
:
دي بنتي، بنت بطني (تضرب بطنها بكفة يدها، تقع منها
نظرة على البنات المتلصصات. تتوقف فجأة صارخة) انتو مين؟ (تتراجع) إيه اللي دخلكم هنا؟ انتو مين؟ (لنعيمة) إيه
الحكاية؟ إيه اللي بيجرى؟ (تهزها) انتي واقفة
كده ليه؟ نعيمة … يا بنتي،يا بنت بطني، ردي علَّيه؟ على أمك اللي ربتك (تركع عند قدميها) بصي وَرَاكي، شوفي دي ناس من
برَّة، دا احنا بقينا في الشارع. (تقف ببطء وتفرَح
قليلًا) دا بابنا انفتح وفيه برا سكك.
الأب
(يخرج مشتَّتًا)
:
مين؟ مين؟ (يتوقف مشيرًا للسائلة) مين؟
قولولي.
الأم
(باتزان)
:
فتحت الباب … (تشير) بنتك … وبتقول إنها ليل
ونهار نايمة … سمعت؟ ليل ونهار.
الأب
:
أنا مش فاهم حاجة، والليل دخَل، العتمة في الدرب (يحتمي
بالجدار) وفيه ناس غُرْب في البيت.
الأم
(لنعيمة)
:
أنا عارفة اللي انتي بتجهزيه، عرفاه.
نعيمة
:
أنا مجهزتش حاجة، ومش حاعمل فيكم حاجة.
الأب
(متخابثًا)
:
انتي!
نعيمة
:
أنا معاكم ليل ونهار، ودا مكفيني.
الأم
:
بتعضي فينا عض الوز ليل ونهار، ومش مكفيكي.
السائلة
:
انتوا خايفين من حاجة؟
نعيمة
:
أنا مش خايفة.
الأم
(باتِّهام)
:
انتي اللي فتحتي الباب، انتي السبب في الأول وفي الآخر.
نعيمة
:
عايزيني أقفله؟
السائلة
:
أنا ماشية على طول.
الأم
:
وتمشي ليه؟ هو فيه حاجة؟
الأب
:
دا بيت مقفول زي كل البيوت، واللي بيحصل جواه حصل وبيحصل في كل حته (فترة) احنا بس بنتعارك صبح وضهر وليل. (يتوقف) احنا كده (للبنات) وحتى الناس برا بتسمعنا، بيسمعونا كتير، والعيال (مشيرًا للبنات المبتسمات).
نعيمة
(بنفس طريقة الأب في الدفاع عن البيت)
:
أيوه، وياما ناس بتاكل في ناس ليل ونهار كل غمضة عين، وعايشين مع بعض، ومحدش عارف
القاتل م المقتول.
الأم
(لنعيمة)
:
انتي بتقولي إيه؟
الأب
:
بتقول في الحكاية بتاعة كل يوم، العركة اللي بتحصل (للأم) انتي نستيها يا هاجر دا احنا لسه فيها.
السائلة
:
وليه ماتنسوش اللي فات وتعيشوا مع بعض عيلة واحدة زي كل البيوت اللي مالية الدنيا
واللي بنشوفها طول ما احنا ماشيين مقفولة ومفتوحة، معتمة ومنورة ومفيهاش حاجة وحشة
(تقترب بحنان من نعيمة وتسألها) كنتي
موجودة؟
نعيمة
(تبتعد قليلًا)
:
انتي عايزة تعرفي؟
الأم
(بتعالٍ)
:
دي سائلة، شحاتة.
الأب
:
ادوها حاجة تاكلها واقفلوا الباب، اهدوا، كل واحد يتربس بابه عليه وناموا.
(صمت)
نعيمة
:
ونقوم الصبح، نكمل اللي فات، وننام (بسخرية)
وتاني يوم نبقى في وش بعض.
الأم
(تذعر وتندهش)
:
نقوم من النجمة، نكمل اللي فات (تتساءل) هو
اللي فات دا ما يخلصشي؟ ملوش نهاية؟ حاجة كده زي العيشة، محدش يعرف فيها الأول م
الآخر، أيام ورا أيام واحنا بنكمل. (تصرخ) يعني
مفيش راحة أبدًا؟
نعيمة
:
يبقى نطلَّع الغُرب، نسيبهم في حالهم، ونققل بابنا علينا (بحدة تواجه الأم) نعمل إيه؟ إيه اللي انتوا عايزين
تعملوه دا انتوا عميتوني عن السكة، لبستوني هدومكم القديمة.
الأم
(بتعقُّل)
:
احنا كنا مع بعض، احنا التلاتة، واحنا عيلة. (تروح
تحاصرها وتصبُّ الكلام في أذنيها) دا انتي بنتنا.
السائلة
(تتدخل)
:
اسمعي كلام أمك وأبوكي اللي ربوكي.
الأب
(بثقة للسائلة)
:
دي بنتي.
نعيمة
:
يعني نقفل الباب ونقعد في وش بعض؟ انتوا عايزين كده؟
الأم
(تلاحقها)
:
وليه نقفل الباب في وش الضيوف (بتأكيد وهي تتحرك ناحية
الباب الخارجي) بابنا يتقفل ليه في وش الضيوف؟ (لنعيمة) هوا مفيش في الدنيا ناس بتزعل مع ناس؟
(تتوقف) واحنا مش غُرْب على بعض. (تروح تمثل بكل جسدها — مُحدِّدة دائرة في الوسط يقف على
أبعادها الثلاثة الباقون وهي في الوسط — وتُهَمْهِم بكلمات غير مفهومة مثيرة
لنفسها مستعينة بهم) دا هو كان واقف زي كده، واحنا هنا (لنعيمة) وانتي كنتي واقفة وشايفة، يعني موجودة
معانا، احنا التلاتة وشفتي الراس وهيه بتقع في التراب! (تواجه نعيمة) يعني معانا. (تؤكد)
انتي واحد منا وعنيكي دي معانا.
نعيمة
(تغيب في الضحك وهي تتأمَّل الأم المرتبكة)
:
يعني زينا زي بعض، هيه هيه، زيي زيكم!
الأب
(للبنات)
:
تعالوا ما تقفوش بعيد في العتبة، ادخلوا انتوا جيران (يتأملهم) دا انتوا كبرتوا آهو وطلعتوا من حضن أمهاتكم (البنات يضحكْنَ ويزحفْنَ شيئًا فشيئًا إلى
الداخل).
البنت الأولى
:
احنا كنا صغيرين لما اللي حصل حصل.
البنت الثانية
:
كنا لسه بناكل هدومنا.
البنت الثالثة
:
كنا بنتفرج.
الأب
:
آهي حاجات بنعملها، وبعده كده نرميها ونمشي.
نعيمة
(للبنات)
:
وكل واحد واللي عمله.
السائلة
:
بس عرفونا؛ عشان كل واحد يعرف التاني، يشوفو.
الأم
(للسائلة)
:
دي بنتي، بنتي.
نعيمة
:
وطول ما فيه ناس غُرْب من برة لازم نسكت، نقفل الباب نداري على بعض.
السائلة
(تحتد)
:
أنا الوقت عرفتك (بعنف) انتي زيهم.
البنت الأولى
:
دي بنتهم، حته منهم.
البنت الثانية
:
كانت موجودة، واللي حصل تم قدام عنيها.
البنت الثالثة
:
معاهم.
نعيمة
(تنكس)
:
أعمل إيه مع أبويا وأمي.
الأم
(تضحك وتجري على ابنتها وتحتضنها)
:
أنا مربياها على كده وعرفاها من فوق لتحت (للسائلة) دي ما عيطتشي أبدًا (تبحث عن شيء
، ثم للبنات وهي تنحرهم بدق قبضة يدها على كفها) تعالوا، ادخلوا، دا
مفيش حاجة تفرحوا لها، وتقولوها لبعض.
الأب
:
تعالوا دا مفيش حاجة في البيت، تعالوا (تنشغل البنات
الثلاث بالتطلع إلى كل محتويات البيت وراء الأب) بيت زي بيوتكم مفهش
حاجة الحيطان هيه الحيطان، والفرن فرن، ودي السلالم. (يتسمَّرنَ أمام السلالم ومعهنَّ السائلة) وفي الدور التاني أوضة
نعيمة … فوق.
البنت الأولى
:
تطل على النيل.
البنت الثانية
:
والنيل يوصل الغريب بلده.
الأم
(تتنبه)
:
انتو بتدوروا على حاجة يا بنات انتوا؟ أنا شايفة عنيكم بتروح بعيد. (تهدأ فجأة) أعملكم شاي؟
الأب
(مبسوطًا)
:
يا شيخة نستينا، لازم نشرب شاي، ياللا … ياللا، ولعي النار عشان الضيوف. أهلًا
وسهلًا وتعالوا ما تستغربوش، مفيش حاجة غريبة (لنعيمة) وكل حاجة زي ما هيه يا نعيمة (بتودُّد) فيه ناس غُرْب، لازم نلبس هدومنا قدامهم.
الأم
:
دا احنا لحم بعض.
نعيمة
:
ما تخافوش، مفيش حاجة يتخاف منها برانا (يجمد كل من
الأب والأم في مكانهما، ونعيمة تحذِّر الغرباء) بس ما تروحوش عند
الصندوق ده، ابعدوا عنه.
الأم
(وهي تتعرف ابنتها. فترة)
:
أيوه، ماتشيلوش حاجة من مكانها، كل حاجة عليها غطاها.
(البنات يتسمَّرنَ في مواجهة الصندوق.)
الأب
(للأم)
:
خلي كل حاجة في مكانها، واعملي انتي الشاي للضيوف، وكمان ولعي اللنضة الكبيرة أم
طربوش، آجي أغسلك الكبيات البنور (يتحرك خلف الأم، وينهمك
معها في مساعدتها في عمل الشاي أمام الكانون الطيني الصغير).
(نعيمة تتذكر فجأة الصندوق، تُخْرِج مفتاحًا وتغلقه، تراها الأم في
وقفتها، تجري عليها تحتضنها وتقبلها، تُشير إلى الأب فيتوقف عند الصندوق ويروح يدفع به
إلى الخلف. يعود الأب والأم إلى عملهما، تواجه نعيمة السلالم، تغيب داخل نفسها، تصعد
إليها، تقف نفس الوقفة القديمة)، (يحيط البنات بالسائلة ويرحن يتهامسْن، ينسى الأب
والأم أنفسهما في تحضير الشاي دون أن تغفل عين كل منهما عن متابعة فعل نعيمة. البنات
يتحدَّثن إلى السائلة حديثًا مُتقطِّعًا بصوت منخفض وهن يتبعْنها.)
البنت الأولى
:
بتفتكر.
البنت الثانية
:
ما بتموتشي.
البنت الثالثة
:
بتشوفو.
البنت الأولى
:
بتكلم نفسها.
البنت الثانية
:
نعمل إيه؟
البنت الثالثة
:
لازم تحلم وتعيش.
السائلة
(باتِّهام)
:
خوافة، وميتة.
(يُدلف حسن من خلف السلالم، يطلُّ برأسه في بقعة ضوء، تخفَّف
الإضاءة حيث تقف السائلة والبنات من حولها جامِدات، بينما يتحرَّك الأب والأم مُنحنيان
ببطء شديد إلى الخلف عند الكانون، ولا يَغفُلان عن متابعة فعل نعيمة.)
نعيمة
(بخفوت لحسَن)
:
كنت عارف!
حسن
(مطرقًا)
:
أعمل إيه؟
نعيمة
:
كنت بتسكر، عارف.
حسن
:
أيوه.
نعيمة
:
ومكنشي فيه سكة تانية؟
حسن
:
فيه!
نعيمة
(تسأله)
:
وليه كده؟
حسن
:
حاجات ملناش فيها، ما بنشوفهاش (بتساؤل) نعمل
فيها إيه؟ نجري؟ ونجري نروح فين؟
(يتوقف)
نعيمة
:
وأنا أعمل إيه؟
(حسن: صمت)
نعيمة
:
فيه في إيدي إيه؟
(حسن: صمت)
نعيمة
:
دا أنا ميتة بالحيا.
حسن
(يزفر)
:
هه!
نعيمة
(بحدة)
:
دفنوني، أمي وأبويا.
حسن
(معترضًا بكلتا يديه)
:
بلاش يا نعيمة، بلاش وأنا موجود.
نعيمة
(باستنكار)
:
بلاش؟ (تصرخ فيه) أنت طول عمرك تقول
بلاش؟
حسن
(يتراجع قليلًا مهدِّدًا)
:
أنا حامشي.
نعيمة
(بحدة)
:
عشان كده كنت عارف إنك هاتموت، شايف الموت بعنيك ورايحله، مشيتله بلاد على رجليك،
وجيتله برجليك.
حسن
(مطرقًا)
:
إيه اللي كان في إيدي أعمله؟
نعيمة
:
ما تمشي!
حسن
(سائلًا)
:
وأسيبك محبوسة وميتة؟
نعيمة
:
أنا النهارده ميتة.
حسن
(سائلًا)
:
مع أبوك وأمك اللي قتلوني.
نعيمة
:
مع اللي قتلوك!
حسن
:
أنت عايشة معاهم في بيت مقفول.
نعيمة
(تشير)
:
دول تهموني، غرقوني معاهم.
حسن
:
دول بيموتوا كل طلعة شمس.
نعيمة
:
أنا بموت معاهم.
حسن
:
كل واحد بيشوف نفسه.
نعيمة
:
محدش عارف القاتل م المقتول.
حسن
:
احنا ما نبصش للي برا، احنا نشوف نفسنا بس (فترة) وأنا كنت عارف اللي حصل من ساعة أهلك ما طبوا بلدنا، وجوني
بيتي عشان أروح بلدكم أغني فيها، أنا كنت حاسس إني مش حارجع، ودا اللي حصل.
نعيمة
(ملوِّحة في وجهه)
:
يبقى لك يد في اللي حصل!
حسن
:
دا أنا مقتول ومقطع!
نعيمة
:
انت اللي جيت برجليك للقتل، والنهارده عايزني أسكت وأتستر على اللي قتلوك (تصرخ في وجهه) جيتلو برجليك ليه … الموت؟ وأنت عارف
وشايف اللي بيدبَّروه مع بعض، دا كل الناس كانت عارفة، وأنت بتعيط وفي كل كلمة تقول
نعيمة قدامهم، قدام أبويا وأمي وولاد عمي، وكل إلى حاوطوك هنا تحت السلالم (تشير وتستدير متحدثة إلى نفسها) ومن يومها وأنا
عايشة مع ميتين، من يومها وأنا شيفاك (يختفي حسن، وتصحو
نعيمة قليلًا) وفيه ناس من برة آهي (تشير
للسائلة والبنات) بيتهموني. (تفزع
قليلًا) وحتى أبويا وأمي اللي قتلوك بيتهموني، بيقولوا إني كنت موجودة
زي ما كانوا هما موجودين، والبيت ده (لنفسها وهي تتحرك
نازلة السلالم) علشان يبقى من بره ومن جوه.
(تُسَلَّط الإضاءة على السائلة والبنات.)
نعيمة
(تفيق لنفسها تستردُّ شخصيتها الأولى، تتجه إليهنَّ
مُستفسرة)
:
هه، بتقولوا إيه؟
السائلة
(تسألها)
:
بتقولي محدش عارف التاني.
البنت الأولى
:
دي بنتهم.
البنت الثانية
:
معاهم.
البنت الثالثة
:
وعايشين في وش بعض طول عمرهم.
البنت الأولى
:
والباب مقفول!
السائلة
:
دا انتوا ميتين، انتوا التلاتة.
الأم
(تقبل بالشاي معربدة والأب من خلفها)
:
دي بنتي ودا أبوها.
السائلة
:
احنا عرفنا كل حاجة!
نعيمة
(السائلة)
:
عرفتوا القاتل م المقتول؟
الأم
(تتراجع وتُلْقِي ببراد الشاي بعيدًا)
:
انتوا بتقولوا في إيه؟
الأب
(يؤخذ)
:
محدش قال حاجة (للأم) اصحي لنفسك، ودي حكاية
قديمة، واحنا لازم نقفل بابنا علينا (يواجه
السائلة) والغُرْب ملهمش في بيتنا، في الحتة اللي بنحط فيها جسمنا مع
بعض. (يقترب من نعيمة مهددًا) وانتي ماتنميش على
روحك (بتوتُّر) فيه ناس غرب في البيت (باعتزاز) أنا أبوكي، وبقولك الكلام (محذِّرًا) فتحي عنيكي واصحي.
نعيمة
(لنفسها)
:
طول العمر نايمة، طول العمر أحلم.
السائلة
:
انتي لازم تصحي.
الأم
(باتِّهام)
:
دي ما بتنمش أبدًا، دي بنتي وأنا عرفاها.
الأب
(مؤكِّدًا كلماته)
:
فيه ناس كده في الدنيا دي، تبقى شايفة الشر وعرفاه وترحله برجليها تحضنه!
نعيمة
(تسأله)
:
… أنا؟
الأب
:
كلنا لنا يد في اللي حصل، حتى المقتول (فترة)،
وانتي كنتي عارفة (بنعومة) وأنا قلتلك يا بنتي
بلاش، قلتلك كتير، لساني اتبرى ومسمعتيش. (يروح يتعرفها
مهددًا) وانتي أصلك يا نعيمة بذرتك كده من الأول، تسمعي نفسك بس،
ومفيش حاجة من بره.
نعيمة
:
أنا سمعاه. (فترة) من يوم ما شفته في المولد
وهو بيغني، (تنبري لتواجه الأب) وهو كان
كده.
السائلة
:
تنبري لتواجه الأب. (تبتعد) ويا ما قلنالوا كتير ما ترحشي
برجليك.
الأم
(تُذعر)
:
انتي بتقولي على إيه؟
السائلة
:
بقول ع الغريب.
الأب
:
دي سائلة مخبولة.
نعيمة
(مأخوذة)
:
حسن؟
الأم
(للسائلة والبنات)
:
انتوا ليكم حاجة هنا؟ (لنفسها) دا أنا عميانة
(تجري على نعيمة) اطلعي فوق نامي، وكفاية
لحد كده.
الأب
(غاضبًا محتجًّا)
:
احنا بننام م المغرب، ماحناش بتوع سهر، كفاية.
نعيمة
(للسائلة)
:
بتقولي هو كان كده؟ انتي تعرفيه؟
السائلة
:
أيوه، كان عارف.
البنت الأولى
:
ونعيمة كانت عارفة.
البنت الثانية
:
موجودة وشايفة.
البنت الثالثة
:
أصلها بنتهم، من صلبهم.
الأم
(للغرباء)
:
انتوا بتولَّعوا في البيت؟
الأب
:
عايزين تحرقوه وتمشوا؟!
نعيمة
(فجأة للسائلة)
:
انتي مين يا غريبة؟
السائلة
(تتراجع مأخوذة)
:
أنا؟ أنا واحدة من أهل القتيل اللي غدرتوبو هنا في البيت ده، ومتربية معاه، وأهله
كتير، ملو البلد، وبيدوروا عليه.
الأم
(تتراجع … لنفسها)
:
أهل القتيل؟! (تحتمي في الأب) شايف؟
الأب
(للأم)
:
ابعدي عني (محذرًا) ودي بنتنا، محدش له عندنا
حاجة.
السائلة
(لنعيمة)
:
عرفتيني؟ (للباقين) أنا مش غريبة قوي، أنا بنت
عم القتيل، بنت عم حسن، وبقالي عمر بدور عليه.
نعيمة
:
عايزة تعرفي القاتل م المقتول؟
الأب
(لنفسه منزعجًا)
:
إيه الحكاية؟
الأم
(بتحدٍّ لنعيمة)
:
انتي هاتفضحينا أنا وأبوكي. (بهياج) نويتي
خلاص وجهزتيه؟ ونسيتي اللي بتعمليه فينا عمر بطولو؟
البنت الأولى
:
شوفي سكتك.
البنت الثانية
:
انتي فين؟
البنت الثالثة
:
إذا كنتي عايزة تعيشي.
نعيمة
(تتأمَّل أبويها بخفوت)
:
دول ميتين!
السائلة
:
عرفتيني؟
الأب
:
شوفي أبوكي (باستعطاف) شوفيني.
الأم
(لنفسها)
:
وأنا بعد دا كله؟ داحنا شربنا المر، الحنضل (لنفسها) كاسات في كاسات
السائلة
(تفاجئ نعيمة)
:
هما اللي قتلوه؟
نعيمة
(بتعقل)
:
هو كان عارف وساكت.
السائلة
:
وانتي هاتسكتي؟
البنت الثانية
:
لحمهم.
نعيمة
(لكل المحيطين بها، تتوتَّر)
:
انتوا بتتهموني؟ (تتوقف عند السائلة والبنات)
حتى انتوا كمان يا غُرْب، ياللي ماشوفتوش حاجة؟
(ينكمش كل من الأب والأم في ترقُّب شديد وذُعْر.)
السائلة
(محتدَّة)
:
وإيه اللي انتي عايزة تقوليه؟ هاتقفي مع مين؟
البنت الأولى
:
قدامك سكِّتين، وانتي شيفاهم.
البنت الثانية
:
ماتسكتيش ع الشر.
البنت الثالثة
:
على أمك وأبوك.
نعيمة
:
هو عايز كده (صمت) ميحبش الشر.
السائلة
:
انتي الوحيدة اللي شفتي بعنيكي، وانتي اللي تشهدي على اللي قتلوه، ودا مش شر.
نعيمة
(بلا مبالاة)
:
هو كان عايز كده.
الأم
(بفرح جنوني)
:
دي بنتي، بنت بطني.
الأب
(يتمالك نفسه، ثمَّ للغرباء)
:
مالكمشي حاجة هنا يا وش المصايب.
السائلة
(تروح تجمع حاجياتها، ويبدو الاستياء والقلَق على البنات
الثلاث، يتحرَّكْن في همود؛ استعدادًا للخروج وقرب الباب الخارجي، تستدير السائلة
لنعيمة)
:
كل الناس قالتلي كده، قالتلي إنك زيهم، غدارة، الشر في عنيكي لتنين!
البنات الثلاث
(يَلغطْنَ مرة واحدة وهنَّ يتحركْن متسكِّعات في اتجاه
الخروج)
:
كلنا قلنا دي من زمان ستراهم، زيهم، بنتهم، والشر في عنيها، طول عمرها كده، قافلة
على نفسها، أصلها ميتة وشبعانة موت، والتلاتة ما بيشوفوش الشمس، التلاتة (يخرجْن ويصفعْنَ الباب بشدة، وتُسْمَع من الخارج همهمات،
وطرقات، وأصوات طوب يُحْدَف على الباب الخارجي، وهمهمات تَظلُّ تعلو، فترة).
نعيمة
(تَنتبِه فجأة، تجري إلى الباب الخارجي وتُحْكِم إغلاقه
بالمِزلاج، تعود إلى حين يقف الأب والأمُّ مبهوري الأنفاس)
:
عشان نقعد في وش بعض، شتا وصيف، أيام ورا أيام.
الأم
(مؤمِّنة)
:
هوا كده دا احنا لحم بعض ومحدش له عندنا حاجة (بتودُّد) ولازم بقه ننسى اللي فات، نردم عليه، ونشوف نفسنا (تتحرَّك في شيء من الحيوية التي يشوبها التوتُّر)
أيوه نعيش زي الناس، ناكل ونتهنى، ونهدا (للأب)
نعيش زي ما كنا عايشين زمان.
الأب
(يتحرَّك إلى جانب نعيمة)
:
أيوه نشوف الدنيا بقه، (لنفسه) دي راحت من على
بالنا خالص.
الأم
(تتساءل حول نفسها)
:
احنا كلنا عملنا اللي ما يعمل، دا احنا مُجْبَرين، وبنعيط!
الأب
:
أيوه يعني حاجات ورانا أكبر منا، بتدفعنا وترمينا في الأرض على وشنا.
نعيمة
(باندهاش)
:
تدفعنا.
الأم
(باتِّهام)
:
انتي مش كنتي موجودة وشايفة اللي بيحصل؟ هنا قدامك؟ (تجري ناحية السلالم) هنا.
نعيمة
:
وانتي واقفة وفي إيدك الساطور.
الأم
(تسكن)
:
أنا؟
نعيمة
:
انتي وهو (تشير إلى الأب).
الأب
(باندفاع)
:
دا ملوش أول ولا آخر.
الأم
(للأب)
:
دا الموت أرحم.
الأب
:
أنا مش قادر بقه (تائهًا) ومش عارفلي سكة
(مغمغمًا) اللي ننام فيه نقوم فيه!
نعيمة
(بهدوء)
:
هانعيش زي ما احنا عايشين، بابنا مقفول ومتربس، والشمس ما نعرفهاش، ونحاسب بعض،
كل واحد يقول اللي في نفسه، اللي عنده، اللي جواه (تتغيَّر نبرات صوتها وهي تتحرَّك حولهما) اللي بياكل فيه زي الدود
في المش.
الأم
(بهمود واستكانة واستسلام)
:
احنا لسه هناكل في بعض؟ لسه هانطلَّع الميِّتين من تربهم؟ (لنعيمة) نعيشهم معانا؟ ننام ونقوم معاهم؟ (تزأر) لسه!
نعيمة
:
نعمل إيه؟ (مبتعدة) آهي لعبة بنلعبها على بعض،
احنا التلاتة برضانا، (تتوقَّف) لكن أبدًا، كل
واحد بيشوف نفسه.
الأب
(يتساءل)
:
نعمل إيه؟ (فترة مؤكدًا) دا احنا لازم نعمل
(يتحرَّك كل من الأم والأب بسرعة وتوتُّر شديدَين،
وآذانهما لا تغفل عن متابعة الضجيج الخارجي).
الأم
:
لازم تشوفلنا سكة تانية غير دي.
نعيمة
:
اعملوا (فترة، ثم غير مبالية) أنا معملتش لكم
حاجة، أنا سلمتكم لنفسكم. (متخابثة) للقاضي اللي
جوانا، بيكتب ويسطَّر في اللوح.
(فترة يتسمَّعان ويعلو الضجيج الخارجي القرقعات والأصوات
المختلطة.)
نعيمة
:
دا حنا لازم نشوفلنا سكة، نعمله آخر، حد.
الأم
(لنفسها)
:
اللي ننام فيه نقوم فيه.
الأب
(يواجه الباب الخارجي)
:
دا احنا، دا أنا فطست (يميل ويروح يتأمَّل
نفسه) دا ماعدشي فيه، ماعدشي!
الأم
(تواصل هي الأخرى تأملها لنفسها)
:
وأنا؟ فين شبابي اللي دفنته هنا من ساعة ماعملتها (تتأمَّل يديها) من ساعة إيدي ما اتمدت عليه، (تستدير إلى نعيمة، تلتقي عيونهما. تجري عليها الأم)
ماكنتش أقصد، ماكنشي بإيدي، مكنتش شايفة ده.
الأب
(مندهشًا ساخطًا)
:
انتي بتحبي على رجليها؟ انتي أمها!
الأم
(تلحق بالأب عند الباب، ويروحان يتأملانها ويتهامسان)
:
دي زي لما تكون بالها رايق.
الأب
:
بتقتلنا بالحيا.
الأم
:
بتكايدنا وتنحرنا (وفي هذه الأثناء تتَّجه نعيمة إلى
الصندوق، وتنشغل بتأمُّله، وفتحه وإخراج محتوياته).
نعيمة
:
فين هدوم حسن؟ فين هدوم جوزي وحبيبي؟ فين طاقيته؟
الأم
(شاهقة)
:
دي بتطلع الميِّتين وتلبسنا القديم، تفرجنا على نفسنا (تصرخ) دي مراية!
(تنقضُّ عليها والأب من خلفها، ويوقِعان بها على
الصندوق في حركة مفاجئة توحي بما لو كانا ينويان بها غدرًا.)
لأ … لأ، كله إلا كده، كفاية، كفاية، نعملو آخر، كفاية.
نعيمة
(بتخاذل)
:
دي هدوم حسن، اللي قتلتوه في بيتكم وهو بيغني.
الأب
(وهو يَنتزع منها الملابس محتدًّا)
:
دي هدومنا احنا، احنا اللي نلبسها ونستر بيها جسدنا العريان.
الأم
(وهي تتراجَع ناحية الباب الخارجي)
:
نلبسها مرة واحدة، موش كل يوم، كل غمضة عين، كل ما تفتَّحي فينا، وتقتلينا
بالحيا.
الأب
(محتضنًا الملابس القديمة لاحقًا بالأم)
:
دا احنا نموت مرة واحدة ونخلص.
الأم
(ويدها على مزلاج الباب الخارجي)
:
أنا حافتح الباب للموت، للشمس اللي بتملا الشوارع. (تفتح الباب الخارجي، تبدو السائلة والبنات وفلاحون،
يُوجم الجميع مرة واحدة، تتسمَّر الأم والأب لحظة ويفسح الناس لهما طريقًا
ليَخرُجا، الأم تصرخ) تعالوا قرَّبوا، اللي له حاجة واللي ملوش، تعالوا.
الأب
(رافعًا الملابس أعلى من رأسه)
:
وهدومه آهي، هدوم القتيل الغريب، هدوم المغنَّواتي، هدوم حسن اللي قتلناه
بالسكاكين، في الصيف من عِشرين سنة.
الأم
:
أنا اللي قتلته، وأنا بقول تعالوا كلكم خلصونا، واسمعوا اللي عملناه، الحاضر يبلغ
الغايب (يتحرَّكان حتى يختفيا، والناس تتعقَّبهما حتى
يختفيا، ويختفي الجميع، وتَخفت الإضاءة، ويعمُّ الصمت فترة).
نعيمة
:
هربوا؟ (تتوقَّف متسائلة) أبويا وأمي؟ (تتوقَّف) هايعملوا فيهم إيه؟ هايقتلوهم؟ (تتوقف) مش قادرين يعيشوا، هربوا! (تواجه السلالم) هوا قال ده اللي حصل (تتوقف … لنفسها) كان عارف! عارف إن كل واحد بيشوف
نفسه (تؤكد) لازم يشوف نفسه، اللي عمله واللي
بيعمله، اللي وراه واللي قدامه.
(تسمع من الخارج ضجة وزحامًا وزعيقًا لا حد له، وأصوات أناس تَصرُخ
وتتوجَّع، وأصوات تَجري، وأصوات.)
أصوات متداخلة
:
بلاش … سيبوهم … بالحبال … اوعى انت اوعى … حاسب … حاسب … كتفوهم (تتجه نعيمة متوجِّسة ناحية الباب الخارجي، تُقبل البنات
الثلاث جاريات مذعورات).
البنت الأولى
:
تعالي يا نعيمة، دول بيكتفوهم.
البنت الثانية
:
بالحبال.
نعيمة
:
أبويا وأمي؟
البنت الثالثة
:
أيوه تعالي.
نعيمة
(تسأل فجأة)
:
وأنا؟! دا أنا كنت موجودة!
صوت الأم
(من الخارج بحدة)
:
كانت موجودة، واللي حصل تم قدام عنيها.
نعيمة
(تصرخ)
:
أنا كنت موجودة (تتلفَّت حولها) وأنا حاقعد
هنا وحدي؟ أنا ما أقدرشي، أبدًا ما أقدرش.
(تحيط بها البنات من كل جانب، وتبدو هي كالغريقة وسطهنَّ.)
البنت الأولى
:
انتي بريئة.
البنت الثانية
:
هدومك عليك.
البنت الثالثة
:
هدومك النضيفة، واحنا بنشمها في الحارة.
البنت الأولى
:
من كل البلد.
نعيمة
:
هدومي!
البنت الأولى
:
مفيش عليك حاجة وحشة، وكفاية لحد كده.
البنت الثانية
(تواجهها)
:
وكل واحد بيشوف نفسه.
البنت الثالثة
:
في كل حتة يشوف نفسه.
نعيمة
:
أنا كنت موجودة، وشايفة اللي حصل.
البنت الأولى
:
مفيش في إيديك حاجة، ودا كلامك يا نعيمة.
نعيمة
(مبتعدة عنهنَّ)
:
فيه، كل حاجة في إدينا، وأنا بغير نفسي في كل لحظة.
البنت الثانية
:
دا احنا مجبَرين وبنعيط.
البنت الثالثة
:
حاجات أكبر منا وملناش فيها.
البنت الأولى
:
وكل واحد يرضى بنصيبه ويسكت.
نعيمة
(تتساءل)
:
يسكت؟! ونسكت ليه ع اللي بيحصل (تواجههم) إيه
اللي يخلينا نسكت. ونقفل لبواب ومانتكلمشي، وكل واحد حابس نفسه في حاصل عتمه، وقاعد
جوه ياكل نفسه في العتمة.
(تدخل ثلاث قرويات عجائز يتعكَّزن على بعضهن البعض، وتغيم الأولى
بعينيها.)
العجوز (١)
:
احنا معاك يا نعيمة، وكفاية لحد كده، كفاية اللي حصل ومفيش حاجة في إدينا يا
بنتي، دا حنا ما بنشُفشي.
نعيمة
(للعجوز)
:
أنا كنت شايفة اللي حصل، شفته في عنيهم من بدري.
العجوز (٢)
:
بتقولي على أبوك وأمك؟
نعيمة
:
بقول على حاجات كتير، بقول على كل حاجة، على كل اللي بيحصل.
العجوز (٣)
:
موش بإدينا.
نعيمة
:
عايزين تقولوا إننا مكتفين، كلنا … القاتل … والمقتول؟
البنت الأولى
:
هو دا اللي بنقولوا.
البنت الثانية
:
ولازم تسميعه، لازم.
البنت الثالثة
:
وتعيشي معانا في الستر.
نعيمة
(للجميع)
:
عايزين تقولوا كده؟
العجوز (١)
:
احنا ما بنقلشي حاجة.
العجوز (٢)
:
كلام سامعينه من زمان.
العجوز (٣)
:
طول عمره في ودانا، طول ما فيه نخل بيتقلِّم.
نعيمة
(للجميع)
:
هوا ده بقه اللي قتل حسن من سنين، وهوه كان عارفه وشايفه (العجائز يضحكْن) انتوا بتضحكوا م الكلام ده؟!
(تغضب) انتوا أصلكم راقدين في الأرض،
والكساح ضارب في بدانكم (تتساءل) وصحيح، هيه
كده، ناس طول عمرها ممروضة جنب الحيطان في الدِّرا ومستسلمة لكل اللي بيحصل، البلا
اللي مالي الدنيا.
العجوز (١)
(مندهشة)
:
ليه كده يا بنتي؟ ليه تقلعي هدومك مرة واحدة وترميها على طول دراعك وتقفي بطولك
عريانة ملط؟
العجوز (٢)
:
أنت معيوبة يا نعيمة.
العجوز (٣)
:
مش كفاية اللي حصل لأمك وأبوك على آخر الزمن.
البنت الأولى
:
من تحت راسك؟
البنت الثانية
:
يا خاطية.
(صمت)
نعيمة
:
أنا خاطية (للبنت الثانية) أنا خاطية؟ (للعجائز) أنا؟!
العجائز
(باستنكار، يمصمصْنَ شفاههنَّ علامة الرفض)
:
لا … لا … لا … كله إلا كده.
العجوز (١)
:
احنا دايات ونعرف نعيمة من قمعها لضفرها.
العجوز (٢)
(مؤكِّدة)
:
طول عمرها.
العجوز (٣)
:
من منبتها.
نعيمة
(للعجائز)
:
أنا مش بقول على ده، لأ، أنا أصلي زعلانة من نفسي (فترة) أنا كنت موجودة (بحدة)
أسكت على ناس بتقتل ناس.
العجوز (٣)
:
وإيه اللي كان في إيدك تعمليه؟ تمنعي المكتوب؟
نعيمة
:
دا لازم يتمنع (تتوقَّف) أصل المكتوب دا وحش،
سجن، ومفيش مكتوب من بره، من برانا احنا اللي بنمشيله برجلينا. (فترة) وحسن جه للموت وحضنه (باتِّهام) وأنا كنت شيفاه هنا ع السلالم (تواجه السلالم) شفته بعنيه دي وسمعت صراخه بوداني
وهو بيلطش في الحيطان وماعيطش عشان المكتوب.
العجوز (٣)
(بإلحاح)
:
وإيه اللي كان في إيدك تعمليه؟ عايزة تعملي إيه؟
نعيمة
:
اللي ما تعملشي.
العجوز (٢)
:
تمنعي المكتوب من النفاذ؟
العجوز (٣)
:
تجري من نصيبك؟
البنت الثانية
:
وتروحي فين؟ فين السكة؟
نعيمة
(تصعد ثلاث سلمات وتتوقف)
:
السكة … (تتوقف) السكة إننا نمشي وما نبصش
لورا، للميِّتين اللي ورانا، ما نسمعشي كل اللي قالوه ونقول دا نصيب ومكتوب، ونسكت
ع الشر، نمشي من جنب الحيطان، ونداري على بعض، نداري اللي جوانا (تروح تتفرَّس الوجوه المحيطة بها من كل جانب) وأنا
ما أقدرشي أعيش معاكم ولا مع الميِّتين، أحضن الشر بإديَّه، وأقول دا مكتوب.
(باتِّهام) وانتو كلكم سكتوا ع الشر والغدر
اللي حصل في البلد دي، وقفلتوا لبواب والشبابيك، واتحبستوا جوا نفوسكم.
البنات الثلاث
:
احنا معاك يا نعيمة، احنا معاك
العجائز
:
انت بتطلعي من جلدك يا نعيمة … جلدك!
نعيمة
:
أنا هاطلع من جلدي.
(تتراجع العجائز مذعورات، وتحيط بها البنات مَبهورات ويتحركْن
خلفها، يخرجْنَ ويصفعْنَ الباب الخارجي، وتنزوي العجائز، ويجلسن متفرِّقات في زوايا
المسرح المظلمة.)
العجوز (١)
:
أمها وأبوها.
العجوز (٢)
(مترحمة)
:
يا خسارة.
العجوز (٣)
:
هربوا منها وسابولها البيت، وراحوا للموت.
العجوز (١)
:
يا خسارة.
(يُسْدَل الستار سريعًا)