أهم أسباب تأخر المسلمين
من أعظم أسباب تأخر المسلمين الجهل، الذي يجعل فيهم من لا يميز بين الخمر والخل، فيتقبل السفسطة قضية مسلمة، ولا يعرف أن يرد عليها.
ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين العلم الناقص، الذي هو أشد خطرًا من الجهل البسيط؛ لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشدًا عالمًا أطاعه ولم يتفلسف عليه، فأما صحاب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري، وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون، أقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم.
ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين فساد الأخلاق؛ بفقد الفضائل التي حث عليها القرآن، والعزائم التي حمل عليها سلف هذه الأمة وبها أدركوا ما أدركوه من الفلاح، والأخلاق في تكوين الأمم فوق المعارف، ولله در شوقي إذ قال:
ومن أكبر عوامل تقهقر المسلمين فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص، وظن هؤلاء — إلا من رحم ربك — أن الأمة خلقت لهم أن يفعلوا بها ما يشاءون، وقد رسخ فيهم هذا الفكر حتى إذا حاول محاول أن يقيمهم على الجادَّة بطشوا به؛ عبرة لغيره.
وجاء العلماء المتزلفون لأولئك الأمراء، المتقلبون في نعمائهم، الضاربون بالملاعق في حلوائهم، وأفتوا لهم بجواز قتل ذلك الناصح بحجة أنه شق عصا الطاعة، وخرج عن الجماعة.
ولقد عهد الإسلام إلى العلماء بتقويم أود الأمراء، وكان قديمًا في الدول الإسلامية الفاضلة بمثابة المجالس النيابية في هذا العصر، يسيطرون على الأمة، ويسددون خطوات الملك، ويرفعون أصواتهم عند طغيان الدولة، ويهيبون بالخليفة فمن بعده إلى الصواب.
شبهات الجهلاء الجبناء وردها
من السخفاء من يقول: نعم؛ قد كان ذلك، لكن قبل أن يخترع الإفرنج آلات القتال الحديثة، وقبل المدافع والدبابات والطيارات، وقبل أن يصير الإفرنج إلى ما صاروا إليه من القوة المبنية على العلم، وهذا القول هو منتهى السخف والسفه والحماقة، فإن لكل عصر علمًا وصناعة ومدنية تشاكله، وقد كانت في القرون الوسطى علوم تشاكلها، كما هي العلوم والصناعات والمدنية الحاضرة في هذا العصر، وأمور الخلق كلها نسبية، ولقد كانت في العصر الذي نتكلم عنه آلات قتال ومنجنيقات ودبابات ونيران مركبة تركيبًا مجهولًا اليوم، وكانت في ذلك الوقت كما هي المدافع والرشاشات وقنابر الديناميت وما أشبه ذلك في هذه الأيام.
على أنه ليست الدبابات والطيارات والرشاشات هي التي تبعث العزائم، وتوقد نيران الحمية في صفوف البشر، بل الحمية والعزيمة والنجدة هي التي تأتي بالطيارات والدبابات والقنابر، وما هذه إلا مواد صماء لا فرق بينها وبين أي حجر، فالمادة لا تقدر أن تعمل شيئًا من نفسها، وإنما الذي يعمل هو الروح، فإذا هبت أرواح البشر وتحركت عزائمهم فعند ذلك نجد الدبابات والطيارات والرشاشات والغواصات وكل أداة قتال ونزال على طرف التمام.
يقولون: إلا أن هذا ينبغي له العلم الحديث، وهذا العلم مفقود عند المسلمين، فلذلك أمكن الإفرنج ما لم يمكنهم.
(والجواب): أن العلم الحديث أيضًا يتوقف على الفكرة والعزيمة، ومتى وُجِدَتْ هاتان وُجِدَ العلمُ الحديث ووجدت الصناعة الحديثة، أفلا ترى أن اليابان إلى حد سنة ١٨٦٨ كانوا أمة كسائر الأمم الشرقية الباقية على حالتها القديمة، فلما أرادوا اللحاق بالأمم العزيزة تعلموا علوم الأوروبيين، وصنعوا صناعاتهم، واتسق لهم ذلك في خمسين سنة، وكل أمة من أمم الإسلام تريد أن تنهض وتلحق بالأمم العزيزة يمكنها ذلك وتبقى مسلمة ومتمسكة بدينها، كما أن اليابانيين تعلموا علوم الأوروبيين كلها وضارعوهم ولم يقصروا في شيء عنهم ولبثوا يابانيين ولبثوا متمسكين بدينهم وأوضاعهم، وأيضًا فمتى أرادت أمة مسلمة أدوات أو أسلحة حديثة ولم تجدها؟ إن ملاك الأمر هو الإرادة؛ فمتى وجدت الإرادة وجد الشيء المراد.
والمتنبي يقول:
فالمسلمون عز عليهم المال ففقدوه، وعزت عليهم الحياة ففقدوها، وأبى الله إلا تصديق كلام النبي الموحى إليه حيث يقول: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على القصاع»، قالوا أوَمن قلة فينا يومئذ يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكنكم غُثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع من قلوب أعدائكم، من حبكم الدنيا، وكراهيتكم الموت».
هكذا يريد الله ليكون المسلمون، فإن لم يكونوا هكذا بصريح نص القرآن، فكيف يستنجزون الله عداته بالنصر والتمكين والسعادة والتأمين؟!
ضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين
ومن أكبر عوامل انحطاط المسلمين الجمود على القديم، فكما أن آفة الإسلام هي الفئة التي تريد أن تلغي كل شيء قديم، بدون نظر فيما هو ضار منه أو نافع، كذلك آفة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريد أن تغير شيئًا، ولا ترضى بإدخال أقل تعديل على أصول التعليم الإسلامي؛ ظنًّا منهم بأن الاقتداء بالكفار كفر، وأن نظام التعليم الحديث من وضع الكفار.
فقد أضاع الإسلام جاحد وجامد.
محافظة الشعوب الإفرنجية على قوميتها
فلننظر إلى أوروبة — لأنها هي اليوم المثل الأعلى في ذلك — فنجد كل أمة فيها تأبى أن تندمج في أمة أخرى، فالإنكليز يريدون أن يبقوا إنكليزًا، والإفرنسيس يريدون أن يبقوا إفرنسيسًا، والألمان لا يريدون أن يكونوا إلا ألمانًا، والطليان لا يرضون أن يكونوا إلا طليانًا، والروس قصارى همهم أن يكونوا روسًا، وهلم جرّا.
ومما يزيد هذا المثال تأثيرًا في النفس أن الأيرلنديين مثلًا أمة صغيرة مجاورة للإنكليز، وقد بذل هؤلاء جميع ما يتصوره العقل من الجهود ليدمجوهم في سواهم مدة تزيد عن سبع مئة سنة، فأبوا أن يصيروا إنكليزًا ولبثوا أيرلنديين بلسانهم وعقيدتهم وأذواقهم وعاداتهم.
وفي فرنسة نفسها تأبى أمة «البريتون» إلا أن تحافظ على أصلها، وفي جنوبي فرنسة جيل يقال لهم «الباشكنس» احتفظوا بقوميتهم تجاه القوط، ثم تجاه العرب، ثم تجاه الإسبان، ثم تجاه الفرنسيس، وجميعهم مليون نسمة، وهم لا يزالون على لغتهم وزيهم وعاداتهم وجميع أوضاعهم.
والفلمنك يأبون أن يجعلوا اللغة الإفرنسية لغتهم والثقافة الإفرنسية ثقافتهم، ولم يزالوا يصيحون في بلجيكا حتى اضطرت دولة بلجيكا إلى الاعتراف بلغتهم لغة رسمية.
وفي سويسرة ثلاثة أقسام: القسم الألماني وهو مليونان وثمان مئة ألف، والقسم المتكلم بالطليانية وهو أكثر قليلًا من مئتي ألف، والقسم المتكلم باللغة الفرنسية، وكل قسم منها يحافظ على لغته وقوانينه ومنازعه مع أنهم كلهم متحدون في مصالحهم السياسية وهم يعيشون في مملكة واحدة.
وإن الدانمرك وبلاد الإسكنديناف وهولاندة فروع من الشجرة الألمانية لا مراء في ذلك، لكنهم لا يريدون الاندماج في الألمان ولا العدول عن قومياتهم، وبقي «التشيك» مئتين من السنين تحت حكم الألمان وبقوا تشيكًا، واستأنفوا بعد الحرب العامة استقلالهم السياسي، بعد أن حفظوا لسانهم واستقلالهم الجنسي مدة خمسة قرون.
وقد هذب الألمان أمة المجر وعلموهم ورقوهم، ولكنهم لم يتمكنوا من إدماجهم في الألمانية، فتجدهم أحرص الأمم على لغتهم المغولية الأصلية، وعلى قوميتهم المجرية.
ولبثت الروسية العظيمة من مئتين إلى ثلاث مئة سنة تحاول إدخال بولونية في الجنس الروسي وحمْل البولونيين على نسيان قوميتهم الخاصة؛ بحجة أن العرق السلافي يجمع بين البولونيين والروس، ففشلت جميع مساعيها في إدماج البولونيين فيها، وعاد هؤلاء بعد الحرب العامة أمة مستقلة في كل شيء؛ وذلك لأنهم لم يتخلوا طرفة عين عن قوميتهم.
وليس من العجيب أن لا تريد أمة عددها ٣٠ مليونًا الاندماج في غيرها، ولكن الاستوانيين وهم مليونان فقط انفصلوا عن الروسية، ولم يقبلوا الاندماج فيها، وأحيوا استقلالهم ولسانهم المغولي الأصل وجعلوا له حروفًا هجائية، ومثلهم أهالي فنلاندة المنفصلون عن الروسية أيضًا.
وقد عجز الروس من جهة كما عجز الألمان من جهة أخرى عن إدخال هذه الأقوام في تراكيبهم القومية العظيمة؛ لأن كل شعب مهما كان صغيرًا لا يرضى بإنكار أصله ولا بالنزول عن استقلاله الجنسي.
وقد حفظ الكرواتيون استقلالهم الجنسي مع إحاطة أمتين كبيرتين بهم؛ هم: اللاتين، والجرمان.
وحفظ الصربيون استقلالهم الجنسي مع سيادة الترك عليهم منذ قرون.
ولم يزل الأرناءوط أرناءوطًا منذ عهد لا يعرف بدؤه وهم بين أمتين كبيرتين: اليونان، والصقالبة؛ أي السلاف!
وكذلك البلغار أبوا إلا أن يبقوا بلغارًا فيما بين الروم والسلاف واللاتين، ثم جاءهم الترك فتعلموا التركية لكنهم بقوا بلغارًا.
ولا أريد أن أخرج في الاستشهاد عن أوروبة؛ لأني إن خرجت عن أوروبة قالت تلك الفئة الجاحدة: نحن لا نريد أن نجعل قدوة لنا أممًا متأخرة مثلنا.
فالأمم التي استشهدنا الآن بها كلها أوروبية، وكلها متعلمة راقية، وكلها ذوات بلدان ممدنة منظمة؛ وكلها عندها الجامعات والأكادميات والجمعيات العلمية والجيوش والأساطيل … إلخ.
العبرة للعرب وسائر المسلمين برقي اليابانيين
ولكني أخرج من أوروبة إلى اليابان فقط؛ لأن رقي اليابان يضارع الرقي الأوروبي، وقد تم لليابان كما تم رقي أوروبة للأوروبيين؛ أي في ضمن دائرة قوميتهم ولسانهم وآدابهم وحريتهم ودينهم وشعائرهم ومشاعرهم وكل شيء لهم.
كان اليابانيون يكرهون الأسفار إلى البلدان البعيدة، ويحظرون دخول الأجانب إلى بلادهم، ولكن هذا المنع قد ارتفع بعد النهضة العصرية، وتلافت اليابان ما فات بشكل مدهش، والنتائج هي أمامنا، إلا أن الماضي لا يزال عند اليابانيين مقدسًا معظمًا في جميع طبقاتهم؛ لأنه في هذا الماضي المقدس يجد اليابانيون جميع شعورهم بقيمتهم الحاضرة، فتراهم يكافحون بوسائل المدنية الحديثة التامة التي لا سبيل إلى الحياة بدونها في أيامنا هذه، لكن ينبذون كل «تغرب» بمجرد ما يجدون أنفسهم في غنى عنه، ويعودون مع اللذة إلى شعورهم القومي الخالص الذي به يعتقدون أنهم الأعلون.
وهناك هياكل «شنتو» ومعابد «زن» والهياكل البوذية وهي مكرمة معظمة مخدومة بأشد ما يمكن من الحماسة الدينية والإيمان الثابت كما كانت منذ قرون، والحق أن هذا الاحترام الشديد الذي يشعر به اليابانيون لقديمهم ولمعبوداتهم هو الذي قام عندهم حصنًا منيعًا دون المبادئ الشعوبية، والأفكار الشيوعية المضرة.
فبدأت اليابان تستعير من أوروبة وأمريكا قسمًا من مدنيتهما المادية، ومن نظامهما العسكري، ومن مباحث تعليمهما العام، ومن سياستهما المالية، فكان المجددون يجتهدون في أن يقتبسوا من كل شعب ما يرونه الأحسن عنده، فكان ذلك مشروع تجديد وهدم وإعادة بناء، وظهرت آثار ذلك في جميع مناحي الحياة اليابانية.
إن ظفر اليابان بالصين لم يثبت علو الأفكار والمبادئ العلمية التي أخذتها اليابان عن الغرب وكفى، بل أثبت أمرًا آخر وهو أن شعبًا آسيويًّا بمجرد إرادته وعزيمته عرف أن يختار ما رآه الأصلح له من مدنية الغرب (تأمل جيدًا) مع الاحتفاظ باستقلاله وعقليته وآدابه وثقافته. ا.ﻫ.
وقبلًا كنت نشرت في الجرائد — وما نشرته لم يكن إلا نقطة من غدير — خلاصة الحفلات التي أقامها اليابانيون لتتويج عاهلهم منذ سنتين، وكيف استمرت مراسم هذا الاحتفال مدة شهر، وكانت بأجمعها دينية، وكيف أن الميكادر هو كاهن الأمة الأعظم، وكيف أنه من سلالة الآلهة (الشمس) وكيف اغتسل في الحمام المقدس المحفوظ من ألفي سنة، وكيف أكل مع الآلهة الأرز المقدس الذي زرعته الدولة تحت إشراف الكهنة؛ حتى يكون تام القدسية لا شبهة فيه، وكيف كان ثمة في الحفل ستماية ألف ياباني وكلهم يهتفون ليحيا الميكادو عشرة آلاف سنة، إلى غير ذلك.
هوامش
وأغرب من ذلك أن الواحد من يهود المغرب فضلًا عن الفرنسيس يستفيد من الميزانية المغربية أكثر من أربعين مسلمًا، وأغرب منه أنه من هذه الميزانية التي أربعة أخماسها من جيوب المسلمين يأخذ المبشرون والقسوس دعاة النصرانية مئات ألوف من الفرنكات لأجل بث المسيحية بين البربر المسلمين، وهذا على نسق إعطاء مبشري النصرانية في السودان المصري إعانات من أموال المسلمين، فلولا هوان المسلمين على دول الاستعمار، وكون هذه لا تقيم وزنًا ما كانوا يستخفون بهم إلى هذا الحد الأقصى، ولا كان عند الفرنسيس الأربعون مسلمًا بيهودي واحد، ولا الستون مسلمًا بإفرنسي واحد، ولقد تحديناهم مرارًا أن يجيبونا عن هذا الظلم الفاحش فما أجابونا بغير الطعن والقذف والتهمة لنا بعداوة فرنسا، كأن الإنسان لا يمكن أن يكون صديقًا لفرنسا إلا إذا أهدر في سبيلها جميع حقوق قومه، وهذا من أغرب الغرائب.
ولو تأملوا قليلًا لعلموا أن نصحنا لهم بإنصاف المسلمين هو نصح عائد إلى مصلحتهم، وأن العدو لا يشير عليهم باستجلاب قلوب المسلمين أبدًا، وإنما يريدها حامية بين الفريقين إلى ما شاء الله. (ش).
قوله ﷺ «تداعى» أصله تتداعى أي تجتمع ويدعو بعضها بعضًا لسلب ملككم كما تتداعى الأكلة وهي جمع آكل — كالفعلة جمع فاعل — إلى قصعة الطعام، والغُثاء بالضم ما يحمله السيل ويلقيه من الزبد والعيدان ونحوها؛ ويضرب مثلًا لما لا قيمة له ولا فائدة، والوهن بالنون: الضعف، وإنما سأله السائل عن سببه فأجابه ﷺ بأن سببه حب الحياة الدنيا ولذاتها الخسيسة، وإيثارها على الجهاد في الدفاع عن الحقية وإعلاء كلمة الله، وكراهية الموت ولو في سبيل الحق؛ حرصًا على هذه الحياة الخسيسة.
وقد أوردت هذا الحديث في تفسير قوله تعالى (الأنعام: آية ٦٥): قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ.
وأوردت قبله حديث ثوبان الآخر الذي رواه مسلم في صحيحه قال رسول الله ﷺ: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر، والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليها عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم (أي ملكهم وسلطانهم ومقر قوتهم) وإن ربي قال لي: يا محمد إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة (أي قحط) وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها — أو قال من بين أقطارها — حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا» ورواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي بزيادة على رواية مسلم هذه، وكلا الحديثين في أعلام النبوة التي ظهر بها صدقه ﷺ بعد قرون من وفاته ورفع روحه إلى الرفيق الأعلى، فما ذهب شيء من ملك المسلمين إلى أيدي الأجانب إلا بخذلان بعضهم لبعض، ومساعدتهم للأجانب على أنفسهم، وفي هذه الرسالة للأمير شكيب بعض الشواهد من مسلمي هذا العصر على ذلك، وراجع الموضوع بتفصيله في تفسير الآية المشار إليها من ص٤٩٠–٥٠١ ج٧ تفسير (ر).
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ.
ولعمري إن تعليل هذه الحالة الروحية التي نجدها عند المسلمين الخاضعين لدول أوروبة المستعمرة ليتعذر على نطس أطباء الاجتماع جميعًا؛ إذ لا يمكن أن يعقل صنفان من الموت: أحدهما: مر المذاق لا تقوى على مواجهته النفس وهو الموت في مقاومة الأجنبي المتغلب، والثاني: مقبول الطعم سهل الاقتحام وهو الموت في مقاتلة عدو ذلك المتغلب، لا جرم أن هذه حالة روحية شاذة لا تفسر ولا تعلل إلا بالمرض، وعدم اعتدال المزاج، وكون الرعب المستمر الذي أوقعه في قلوبهم الأجنبي المتغلب انتهى بأن أوجد في نفوسهم هذه الحالة الغريبة التي لم أجد لها شبيهًا في التاريخ إلا ما كان منهم يوم زحف التتار المغوليين إلى بلاد الإسلام ونسفوا تلك الحضارات الزاهرة التي كانت في تركستان وإيران والعراق، وذبحوا الملايين من أهلها ذبح الشياه، ودمروا بغداد دار الخلافة، وأهلكوا الخليفة المستعصم العباسي تحت أرجل الفيلة، وجعلوا من جماجم القتلة آكامًا عالية فوصل الرعب بقلوب المسلمين إلى أن صار المغولي الواحد يدخل على المئة منهم فيقتلهم جميعًا وأسلحتهم في أيديهم، ولا تحدثهم نفوسهم بأدنى مقاومة، ولا يقال لمثل هذا: إنه مجرد انكسار قوى معنوية بل هو أبعد مدى من هذا بكثير؛ فإن انكسار القوى المعنوية لا يسلب المغلوب كل آثار النشاط للمقاومة، وإنما كان ذاك مرضًا زاغت به الطبائع البشرية عن مركزها، وعتهًا استولى على العقول وجردها من خواص الإدراك، وقد حدث أحد المؤرخين برواية غريبة عن رجل شهد تلك الوقائع بعينه فقال ما معناه: فررت من التتار فساقني القدر إلى بيت وجدت فيه ثمانية عشر رجلًا كلهم تخبئوا فيه لعلهم ينجون من الموت فبينما نحن جالسون؛ إذ دخل علينا أحد التتار فرآنا جميعًا وعلى وجوهنا غبرة الموت ولم يكن معه سلاح يقتلنا به فقال لنا: ابقوا هنا حتى آتي بسكين وأذبحكم. ومضى ليأتي بالسكين، فلما ذهب قلت للجماعة: ماذا تنتظرون؟! قالوا: لا ننتظر شيئًا سوى الموت. فقلت لهم: كيف ننتظر الموت من يد رجل واحد ونحن عصبة ١٩ رجلًا؟! قالوا: ماذا تريد أن نصنع؟ قلت: نقتله. قالوا: لا تمتد أيدينا إليه؛ لأننا نخاف. قلت: مم تخافون؟! إن كان خوفكم من الموت فهو قاتلكم على كل حال. قال: وما زلت أشجعهم إلى أن اقتنع بكلامي اثنان منهم لا غير، فلما رجع المغولي وبيده السكين الذي يريد أن يقتلنا به هجمنا عليه نحن الثلاثة ونزعنا السكين من يده وقتلناه به وخرجنا ونجونا. هذا؛ وبقي المسلمون في رعب من التتار غير ممكن التعليل إلى أن خرجت إليهم العساكر المصرية في زمن الملك قطز، فتلاقى الجمعان في عين جالوت في فلسطين وانهزم التتار هزيمة شنعاء، ثابت بعدها عزائم المسلمين إليهم، وأخذوا يفتكون بالتتار، وصار هؤلاء عندهم كسائر الناس، ولو لم يدخل التتار في الإسلام لكان المسلمون أبادوهم.
وخلاصة القول: أن المسلمين كلما آثروا السلامة ازدادوا موتًا، وكلما احتقروا الحياة ازدادوا حياة، وإلى هذا أشار الله تعالى في كتابه الكريم حين يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (ش).
أي إن عدم إنفاقكم في سبيل الله هو التهلكة بعينها، وقد أصابت المسلمين تهلكة عدم الإنفاق، وصدق فيهم ما حذرهم الله منه (ش).