غوائل الجامدين في الإسلام والمسلمين
وبقي علينا المسلم الجامد، الذي ليس بأخف ضررًا من الجاحد، وإن كان لا يشركه في الخبث
وسوء النية، وإنما يعمل ما يعمله عن جهل وتعصب.
فالجامد هو الذي مهد لأعداء المدنية الإسلامية الطريق لمحاربة هذه المدنية محتجين
بأن
التأخر الذي عليه العالم الإسلامي إنما هو ثمرة تعاليمه.
والجامد هو سبب الفقر الذي ابتلى به المسلمون؛ لأنه جعل الإسلام دين آخرة فقط، والحال
أن
الإسلام هو دين دنيا وآخرة، وإن هذه مزية له على سائر الأديان، فلا حصر كسب الإنسان فيما
يعود للحياة التي وراء هذه كما هي ديانات أهل الهند والصين، ولا زهده في مال الدنيا وملكها
ومجدها كتعاليم الإنجيل، ولا حصر سعيه في أمور هذه المعيشة الدنيوية كما هي مدنية أوروبة
الحاضرة.
والجامد هو الذي شهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية وفنونها وصناعاتها
بحجة أنها من علوم الكفار، فحرم الإسلام ثمرات هذه العلوم، وأورث أبناءه الفقر الذي هم
فيه،
وقص أجنحتهم، فإن العلوم الطبيعية هي العلوم الباحثة في الأرض، والأرض لا تخرج أفلاذها
إلا
لمن يبحث فيها
١ فإن كنا طول العمر لا نتكلم إلا فيما هو عائد للآخرة قالت لنا الأرض: اذهبوا
توًّا إلى الآخرة؛ فليس لكم نصيب مني.
ثم إننا بحصر كل مجهوداتنا في هذه العلوم الدينية والمحاضرات الأخروية جعلنا أنفسنا بمركز
ضعيف بإزاء سائر الأمم التي توجهت إلى الأرض، وهؤلاء لم يزالوا يعلون في الأرض ونحن ننحط
في
الأرض، إلى أن صار الأمر كله في يدهم، وصاروا يقدرون أن يأفكونا عن نفس ديننا فضلًا عن
أن
يملكوا علينا دنيانا، ومن ليست له دنيا فليس له دين، وليس هذا هو الذي يريده الله بنا
وهو
الذي قال:
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الآية.
٢
وقال:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا.
٣
وقال:
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
٤
وقال فيما حكاه وأقره:
وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا.
٥
وعلمنا أن ندعوه بقوله:
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً٦ … إلخ.
والمسلم الجامد لا يدري أنه بهذا المشرب يسعى في بوار ملته وحطها عن درجة الأمم الأخرى،
ولا يتنبه لشيء من المصائب التي جرها على قومه إهمالهم العلوم الكونية حتى أصبحوا بهذا
الفقر الذي هم فيه، وصاروا عيالًا على أعدائهم الذين لا يرقبون فيه إلا ولا ذمة، فهو
إذا
نظر إلى هذه الحالة عللها بالقضاء والقدر بادئ الرأي، وهذا شأن جميع الكسالى في الدنيا
يحيلون على الأقدار.
هذا الخلق هو الذي حبب الكسل إلى كثير من المسلمين فنجمت فيهم فئة يلقبون «بالدراويش»
ليس
لهم شغل ولا عمل، وليس في الواقع إلا أعضاء مشلولة
في جسم
المجتمع الإسلامي.
وهذا الخلق بعينه هو الذي جعل الإفرنج يقولون: إن الإسلام جبري لا يأمر بالعمل؛ لأن
ما هو
كائن هو كائن، عمل المخلوق أم لم يعمل.
آيات العمل المبطلة لتفسير القدر بالجبر والكسل
ولا شيء أدل على فساد هذا الزعم الإفرنجي من القرآن الملآن بالحث على العمل وباستنهاض
الهمم، وابتعاث العزائم، ونوط الثواب والعقاب والفوز والفشل بالعمل الذي يعمله المكلف،
قال الله تعالى:
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ.
٧
وقال تعالى:
وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ
عَمَلُكُمْ.
٨
وقال تعالى:
وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ.
٩
وقال تعالى:
لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ.
١٠
وقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ.
١١
وقال تعالى:
وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ.
١٢ أي لا ينقصكم أعمالكم.
وقال تعالى:
وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم
مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا.
١٣
«لا يلتكم» من لاته يليته، أو ولته يلته بمعنى نقصه، أي لا يبخسكم من أعمالكم شيئًا،
وقال تعالى:
نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ
فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ.
١٤
وقال عز وجل:
وَإِنَّ كُلًّا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ
أَعْمَالَهُمْ.
١٥
وقال عز وجل:
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ.
١٦
وقال عز وجل:
أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم.
١٧
وقال عز وجل:
فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ.
١٨
وقال عز وجل:
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ
الْعَامِلُونَ.
١٩
وقال عز وجل:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
٢٠
وقال عز وجل:
وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ.
٢١
وقال عز وجل:
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
٢٢
وقال عز وجل:
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ
خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا
وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا.
٢٣
وقال عز وجل:
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ.
٢٤
وقال عز وجل:
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا.
٢٥
وقال تبارك وتعالى:
وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا.
٢٦
وقال تبارك وتعالى:
لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي
عَمِلُوا.
٢٧
وقال تعالى:
إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولئِكَ
لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا.
٢٨
وقال تعالى:
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۖ
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
٢٩
وقال تعالى:
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ
* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
٣٠
وقال تعالى:
سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
٣١
وقال تعالى:
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
٣٢
وقال تعالى:
وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
٣٣
إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى من الآيات التي امتلأ بها القرآن، ومنها ما هو نص في
مسألتنا هذه كقوله تعالى:
وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.
٣٤
وقوله تعالى:
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم
مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ.
٣٥
إن صاحب السؤال يعلم، وأكثر المسلمين لا يعلمون أن هذه الآية خاطب الله تعالى بها
أكمل هذه الأمة إيمانًا وإسلاما وهم أصحاب رسول الله
ﷺ؛ إذ تعجبوا من ظهور
المشركين عليهم في غزوة أحد فرد الله عليهم ببيان السبب؛ وهو مخالفتهم أمره
ﷺ
للرماة الذين يحمون ظهور المقاتلة بألا يبرحوا أماكنهم سواء كان الغلب للمسلمين أو
عليهم، فلما انهزم المشركون خالفوا الأمر؛ لمشاركة المقاتلين في الغنيمة، فكر عليهم
المشركون حتى شُجَّ رأس النبي
ﷺ … إلخ.
وكلها ناطقة بأن الإسلام هو دين العمل، لا دين الكسل، ولا هو دين الاتكال على القدر
المجهول للبشر، كما يقول الدراويش البطالون: رزقنا على الله؛ عملنا أم لم نعمل، كما
يزين للناس بعض مؤلفي الإفرنج من أن دين الإسلام دين جمود وتفويض وتسليم، وأن تأخر
المسلمين إنما نشأ عن ذلك، ولو كان في هذه الدعوى ذرة ما من الصحة لما نهض الصحابة —
أخبر الناس بالإسلام — وفتحوا نصف كرة الأض في خمسين سنة، ولكن التسليم الذي يتكلمون
عليه، ويهرفون فيه بما لا يعرفون، إنما هو مقرون بالعمل وبالكدح وبالسعي وإلا فلا يسمى
تسليمًا بل يسمى جمودًا، ويعد بطالة وهو مخالف للقرآن والسنة.
وأما إذا كان التسليم لله مقرونًا بالعمل فإنه أنفع في الدنيا والآخرة؛ لأن إفراط
المرء في الاعتماد على نفسه يورطه في البطر إذا نجح، وفي الجزع إذا فشل، والذي يريده
الإسلام إنما هو أن يعقل الإنسان ويتوكل
٣٦ وأن يدبر لنفسه بهداية عقله الذي جعله الله مرشدًا، ويعلم مع ذلك أن ليس كل
الأمر بيده، وإن من الأقدار ما لا تدركه الأفكار، وهذا صحيح، ولما ذكر النبي
ﷺ
القدر سأله بعض أصحابه ألا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له. (رواه البخاري
ومسلم).
ومن أغرب الغرائب أن هؤلاء الإفرنج الذين لا يفتئون ينعتون الإسلام بالجبرية وينسبون
تأخر المسلمين إلى هذه العقيدة — التي كان يقول بها فئة قليلة من المسلمين — يذهلون عما
هو وارد في الإنجيل من آيات القضاء والقدر التي تماثل ما في القرآن وقد تزيد عليه مثل
قوله: لا تسقط شعرة من رءوسكم إلا بإذن أبيكم السماوي. ومثل آي كثيرة لو أردت استقصاءها
لطال المقال.
ولا نجد في الإفرنج الذين هم مغرمون بالعمل وهائمون وراء الكسب ومنكرون للقضاء والقدر
في الجملة، إلا من يقرأ الإنجيل الشريف ويقدسه ويعجب بمبادئه السامية كما نعجب بها نحن،
فما بالهم نسوا ما فيه من آيات القضاء والقدر؟ وما بالهم لم يصفوا أقوال المسيح صلوات
الله عليه بالجبرية؟!
يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا.
٣٧
وحقيقة الأمر أن كل ما هو وارد في الإنجيل وكل ما هو وارد في القرآن من آيات القضاء
والقدر إنما كان مقصودًا به سبق علم الله بكل ما يقع
٣٨ ولم يكن مقصودًا به نفي الاختيار والتزهيد في الكسب.
وفي حديث الوزنتين والوزنات وغير ذلك من مواعظ الإنجيل الشريف ما يدل على ما عزاه
القرآن الكريم إلى صحف إبراهيم وموسى؛ أي وغيرهما من رسل الله.
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ * وَأَن
لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ
يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ.
٣٩
هوامش