مدنية الإسلام
أما زعم من زعم أن الإسلام لم يتمكن من تأسيس مدنية خاصة والاستدلال على ذلك بحالته الحاضرة، فهو خرافة يموه بها بعض أعداء الإسلام من الخارج، وبعض جاحديه من الداخل، أما القسم الأول فلأجل أن يصبغوا المسلمين بالصبغة الأوروبية، وأما القسم الثاني فلأجل أن يزرعوا في العالم الإسلامي بذور الإلحاد، ونحن لا ننكر تأثير الدين في المدنية، ولكننا لا نسلم بأنه يصح أن يكون لها ميزانًا؛ وذلك لأنه كثيرًا ما يضعف تأثير الدين في الأمم فتفلت من قيوده، وتفسد أخلاقها، وتنهار أوضاعها، فيكون فساد الأخلاق هو علة السقوط، ولا يكون الدين هو المسئول، وكثيرًا ما تطرأ عوامل خارجية غير منتظرة فتتغلب على ما أثلته الشرائع من حضارة، وتزلزل أركانها، وقد تهدمها من بوانيها، ولا يكون القصور من الشريعة نفسها، فتأخر المسلمين في القرون الأخيرة لم يكن من الشريعة؛ بل من الجهل بالشريعة، أو كان من عدم إجراء أحكامها كما ينبغي، ولما كانت الشريعة جارية على حقها كان الإسلام عظيمًا عزيزًا.
وأي عظمة أعظم مما كان الإسلام في أيام عمر بن الخطاب مثلًا.
فالمدنية الإسلامية هي من المدنيات الشهيرة التي يزدان بها التاريخ العام، والتي تغص سجلاته الخالدة بمآثرها الباهرة.
وقد بلغت بغداد في دور المنصور والرشيد والمأمون من احتفال العمارة، واستبحار الحضارة، وتناهي الترف والثروة، ما لم تبلغه مدينة قبلها ولا بعدها إلى هذا العصر، حتى كان أهلها يبلغون مليونين ونصف مليون من السكان، وكانت البصرة في الدرجة الثانية عنها، وكان أهلها نحو نصف مليون.
وكانت دمشق والقاهرة وحلب وسمرقند وأصفهان وحواضر أخرى كثيرة من بلاد الإسلام أمثلة تامة وأقيسة بعيدة في استبحار العمران، وتطاول البنيان ورفاهة السكان، وانتشار العلم والعرفان، وتأثل الفنون المتهدلة الأفنان.
وكانت القيروان وفاس وتلمسان ومراكش في المغرب أعظم وأعلى من أن يطاولها مطاول، أو يناظرها مناظر، أو أن يكاثرها مكاثر في ممالك أوروبة حتى هذه القرون الأخيرة.
وكانت قرطبة مدينة فذة في أوروبة لا يدانيها مدان، وكان عدد سكانها نحو مليون ونصف مليون نسمة، وكان فيه نحو سبع مئة جامع، عدا المسجد الأعظم الذي لما زرته في هذا الصيف قال لي المهندس الذي كان معي من قبل الحكومة الإسبانيولية: إنه يسع بحسب مساحته خمسين ألف مصلٍّ في الداخل و٣٠ ألف مصلٍّ في الصحن، فجملة من يسعهم هذا المسجد العجيب ثمانون ألفًا من المصلين.
ولما ذهبنا إلى آثار قصر الزهراء رأيناها آثار مدينة لا آثار قصر واحد، وعلمنا أنها تمتد على مسافة تسع مئة متر طولًا في ثمان مئة متر عرضًا، والإسبانيون يقولون: مدينة الزهراء.
وقال لي المهندسون الموكلون بالحفر على آثارها: إنهم يرجون الإتيان على كشفها كلها من الآن إلى خمسين سنة.
وحسبك أن غرناطة التي كانت حاضرة؛ كانت مملكة صغيرة في آخر أمر المسلمين بالأندلس، لم يكن في أوروبة في القرن الخامس عشر المسيحي بلدة تضاهيها ولا تدانيها، وكان فيها عندما سقطت في أيدي الإسبانيول نصف مليون نسمة، ولم تكن وقتئذ عاصمة من عواصم أوروبة تحتوي نصف هذا العدد، وحمراء غرناطة لا تزال يتيمة الدهر إلى اليوم.
هذه لمحة دالة من مآثر حضارة الإسلام وغرر أيامه، وإلا فلو استقصينا كل ما أثر المسلمون في الأرض من رائع وبديع لم تسع ذلك الجلود الكثيرة المرصوفة طبقًا فوق طبق.
وكم حرر المؤرخون الأوروبيون تحت عنوان (مدنية الإسلام) كتبًا قيمة ومجاميع صور تأخذ بالأبصار، وإن أشد مؤرخي الإفرنج تحاملًا على الإسلام لا يتعدى أن يحاول التصغير من شأن مدنيته، وأن ينكر كونه أبا عذرتها، فقصارى هذه الفئة أن ينكروا كون المسلمين قد ابتكروا علومًا وسبقوا إلى نظريات صارت خاصة بهم، وغايتهم أن يقولوا: إن المسلمين لم يزيدوا على أن نقلوا وأذاعوا وكانوا واسطة بين المشرق والمغرب.
وهذا القول مردود عند المحققين الذين يعرفون للمسلمين علومًا ابتكروها، وحقائقَ كشفوها، وآراءً سبقوا إليها، فضلًا عما زادوا عليه وأكملوه، وما نشروه ونقلوه، ومن استرقَ شيئًا وقد استرقَّه، فقد استحقه.
وبعد؛ فلم نعلم مدنية واحدة من مدنيات الأرض إلا وهي رشح مدنيات سابقة، وآثار آراء اشتركت بها سلائل البشرية، ومجموع نتائج عقول مختلفة الأصول، ومحصول ثمرات ألباب متباينة الأجناس.