تحقيق الطبيب الشرعي
قد تكون إجراءات تلك المؤسسة العريقة البارعة، محكمة الطب الشرعي، عرضة للإضرار بهيبتها بسبب البيئة غير القضائية التي تُعقَد فيها. كان من المُقرر إجراء التحقيق الحالي في غرفةٍ طويلة ملحقة بالنُّزُل، والمُخصَّصة عادة للتجمُّعات ذات الطابع الودي، كما تشهد مختلف مبانيه المُلحقة.
ثم، اتَّجهت إلى مكان التحقيق بعد غداءٍ مطول وبعض التأمُّل أثناء تدخين الغليون، وكوني أول من وصل — بعد أن أدَّت هيئة المُحلفين اليمين واتجهت إلى مشرحة الجثث لمشاهدة الرفات — قضيتُ الوقت في التفكير في عادات الموجودين المُعتادين في الغرفة على ضوء الأشياء التي تحتويها. عُلِّقت لوحة تنشين مُثبت بها سهم أو سهمان على نهاية الحائط لجذب الكثير من شجعان القرية لاختبار مهاراتهم، كما كانت هناك علامات محفورة على مائدةٍ مصنوعة من خشب البلُّوط تدلُّ على ممارستهم لعبة إلقاء العُملة المعدنية؛ وصندوق مفتوح كبير مملوء بشَعرٍ مستعار أبيض اللون وأردية ملونة ورماح خشبية وسيوف وشارات المُلك، مَطلية على نحوٍ فظ بالورق المذهب، من الواضح أنها مُرتبطة بالحفلات الصبيانية للمؤسَّسة الأخوية أوردر أوف درودز.
لقد استنفدتُ اهتمامي بهذه الآثار ونقلت انتباهي إلى معرض الصور عندما توافد بقية الحضور والشهود. وعندها جلستُ مُسرعًا على الكرسي المريح الوحيد بجانب المقعد الموضوع على رأس المنضدة، ويُفترض أنه مُخصَّص للطبيب الشرعي؛ وبالكاد فعلتُ ذلك عندما دخل الأخير برفقة هيئة المُحلفين. بعدهم مباشرة جاء الرقيب، والمحقق بادجر، ورجل أو اثنان من الرجال المرتدين ملابس مدنية، وأخيرًا أحد الجراحين.
جلس الطبيب الشرعي على مقعده على رأس الطاولة وفتح دفتره، وجلست هيئة المُحلفين على دِكَّتَين على جانبٍ واحد من الطاولة الطويلة.
نظرتُ بشيء من الاهتمام إلى «الرجال الطيبين والصادقين» الاثني عشر. كانوا مجموعة يُمثلون التجار البريطانيين، هادئين، يقظين، ومَهيبين إلى حدٍّ ما؛ لكن ما جذب انتباهي للغاية هو رجل ضئيل البنية برأسٍ كبير جدًّا وشعْر كثيف مُنتصب، وقدرت، بعد إلقاء نظرةٍ على وجهه الذكي والمشاكس، والركبتين اللامِعتين لسرواله، أنه إسكافي القرية. جلس بين رئيس العمال عريض المنكبين، الذي كان يُشبه الحداد، ورجل عنيد ذي وجه مُشرب بالحمرة يوحي سمتُه العام من السِّمنة الشديدة بمهنته كجزار.
بدأ الطبيب الشرعي حديثه قائلًا: «التحقيق، أيها السادة، الذي نبدؤه الآن يتعلق بسؤالين. الأول هو سؤال الهوية: من كان هذا الشخص الذي رأينا جثته للتو؟ والثاني هو: كيف ومتى وبأي طريقةٍ مات؟ سنتناول موضوع الهوية أولًا ثم نبدأ بالظروف التي اكتُشفت فيها الجثة.»
هنا وقف الإسكافي ورفع يدًا شديدة القذارة.
فقال: «أطلب نقطة نظام، سيدي الرئيس.» نظر إليه المُحلفون الآخرون بفضولٍ ويؤسفني أن أقول إن بعضهم، ابتسم ابتسامةً عريضة. فتابع قائلًا: «لقد أشرتَ يا سيدي إلى الجثة التي شاهدناها للتو. وأودُّ أن أُشير إلى أننا لم نرَ جثة، بل شاهدنا مجموعةً من العظام.»
فأجابه الطبيب الشرعي: «سوف نُشير لها على أنها رفات، إن كنتَ تُفضِّل ذلك.»
فكان ردُّه: «أفضل ذلك بالفعل.» ثم جلس المُعترض.
«جيد جدًّا.» ثم عاد الطبيب الشرعي، وبدأ في استدعاء الشهود، وكان أولهم العامل الذي اكتشف العظام في حوض نبات البقلة المائية.
سأل الطبيب الشرعي الشاهد عندما أخبره بقصة الاكتشاف: «هل تعرف كم من الوقت مضى منذ أن نُظِّف حوض نبات البقلة آخِر مرة؟»
«نُظِّف بأوامر من السيد تابر قبل أن يتخلَّى عنه مباشرة. سيكون ذلك أفضل قليلًا مما كان عليه منذ عامين. في شهر مايو كان الأمر كذلك. ساعدتُ في تنظيفه. لقد عملتُ في هذا المكان نفسه، ولم يكن هناك أي عظام حينها.»
نظر الطبيب الشرعي إلى هيئة المُحلفين ثم سألهم: «هل لديكم أي أسئلة أيها السادة؟»
وجَّه الإسكافي نظرةً عابسة مُخيفة إلى الشاهد وسأل:
«هل كنتَ تبحث عن عظام عندما عثرت على هذا الرفات؟»
صاح الشاهد: «أنا! ولماذا ينبغي أن أبحث عن العظام؟»
قال الإسكافي بصرامة: «لا تتهرَّب. أجب عن السؤال: نعم أم لا.»
«لا، بالطبع لم أكن كذلك.»
هزَّ المحلف رأسه الكبير على نحوٍ مُريب كما لو أنه يُشير إلى أنه سيتغاضى عن الأمر هذه المرة، ولكن يجب ألا يحدث ذلك مرة أخرى؛ واستمرَّ استجواب الشهود، دون إثارة أي شيءٍ جديد بالنسبة لي أو إثارة أي أمرٍ آخر، حتى وصف الرقيب العثور على الذراع اليُمنى في عشِّ طائر الوقواق.
سأل الطبيب الشرعي: «هل كان هذا الاكتشاف مُصادفة؟»
«لا. لقد تلقَّينا تعليماتٍ من شرطة سكوتلانديارد بالبحث في أي بحيرة مُحتملة في هذا الحي.»
امتنع الطبيب الشرعي بتكتُّم عن استثارة هذه المسألة أكثر من ذلك، لكن من الواضح أن صديقي الإسكافي كان في حالة تأهُّب، وتوقعتُ إجراء استجواب سريع للسيد بادجر عندما جاء دوره. كان للمُحقق الرأي نفسه على ما يبدو، لأنني رأيته يُلقي نظرةً تنمُّ عن الحقد الدفين الظاهر على تلميذ سانت كريسبين الشديد التحري. في الواقع، جاء دوره بعد ذلك، ووقف شعْر الإسكافي من شعوره بفرحةٍ مُروِّعة.
كان العثور على النصف السفلي من الجذع في بحيرة ستابل في لوتون إنجازًا للمُحقق نفسه، لكنه لم يكن متفاخرًا بذلك. وأشار إلى أن هذا الاكتشاف يتبع بشكل طبيعي الاكتشاف السابق في عش طائر الوقواق.
سأل الإسكافي: «هل كانت لديك أي معلومات سِرية دفعتك للبحث في هذا الحي بالتحديد؟»
أجاب بادجر: «لم تكن لدينا معلومات سرية على الإطلاق.»
تابع المُحلف، مُشيرًا ببعض الأدلة الجنائية وسبابة قذرة للغاية نحو المُحقق قائلًا: «الآن سأوضح لك الأمر. هذا الرفات عُثِر عليه في سيدكوب، وهذا الرفات عُثِر عليه في سانت ماري كراي، وهذا الرفات في لي. وجميع هذه الأماكن تُوجَد في كينت. ألا يتَّضح أن ذلك يجعل من الضروري علينا التوجه مباشرة إلى غابة إيبينج، الموجودة بإسيكس، والبحث عن هذه العظام والعثور عليها؟»
أجاب بادجر: «كنا نقوم ببحثٍ منهجي لجميع الأماكن المُحتملة.»
قال الإسكافي بابتسامةٍ شرسة: «بالضبط، هذه هي وجهة نظري وحسب. فأنا أقول، أليس من المُضحك أنه بعد العثور على الرفات في كِنت على بعد عشرين ميلًا من هنا، ومع وجود نهر التيمز بينهما، تعين عليك المجيء إلى هنا للبحث عن العظام والذهاب مباشرة إلى بحيرة ستابل، حيث تصادَف وجودها، وتجِدها فعلًا؟»
أجاب بادجر بحدة: «كان يمكن أن يكون الأمر مُضحكًا أكثر، لو ذهبنا مباشرة إلى مكان لم يتصادف أن تُوجَد فيه، ووجدناها.»
ظهرت ضحكات مُمتنَّة من أحد عشر رجلًا صالحًا وصادقًا، وابتسم الإسكافي ابتسامةً عريضة؛ ولكن قبل أن يفكر في ردٍّ مناسب، قام الطبيب الشرعي بالتدخُّل.
وقال: «السؤال ليس جوهريًّا للغاية، ويجب ألا نُحرج الشرطة بالتحقيقات غير الضرورية.»
قال الإسكافي: «في اعتقادي أنه كان يعلم بوجودها هناك طوال الوقت.»
قال الطبيب الشرعي: «أقرَّ الشاهد أنه ليست لديه معلومات سرية.» وشرع في أخذ بقية أدلة المُحقق، التي يُراقبها المحلف الناقد عن كثب.
قُدِّم تقرير العثور على الرفات بالكامل، واستُدعِي جرَّاح الشرطة وأدَّى القسم؛ قام أعضاء هيئة المُحلفين ببسط أظهرهم إلى الوراء في جوٍّ من الترقُّب، وقلبتُ صفحةً من دفتر ملاحظاتي.
سأل الطبيب الشرعي: «هل فحصت العظام، محل نقاش هذا التحقيق، الموجودة حاليًّا في المشرحة؟»
«نعم فعلت.»
«هل يمكن أن تُخبرنا بما لاحظته؟»
«اكتشفتُ أن العظام هي عظام بشرية، وهي في رأيي جميع أجزاء الشخص نفسه. إنها تُشكل هيكلًا عظميًّا مُكتملًا باستثناء الجمجمة، والإصبع الثالثة من اليد اليسرى، وعظام الركبة والساق؛ أعني العظام بين الرُّكبتَين والكاحِلين.»
«هل هناك ما يُفسر غياب الإصبع المفقودة؟»
«لا. ليس هناك تشوُّه ولا دليل على بترِها خلال حياته. في رأيي بُتِرَت بعد الموت.»
«هل يمكنك أن تُعطينا أي وصفٍ للمُتوفَّى؟»
«يجب أن أقول إنها عظام رجل مُسن، ربما تجاوز الستين من عمره، يبلغ طوله حوالي خمس أقدام وثماني بوصاتٍ ونصف، وهي عظام قوية إلى حدٍّ ما، مليئة بالعضلات بشكلٍ نسبي، ومحفوظة جيدًا. لا تُوجَد علامات على المرض باستثناء بعض النقرس الروماتيزمي القديم لمِفصل الورك الأيمن.»
«هل يمكنك تكوين رأي عن سبب الوفاة؟»
«لا، لا تُوجَد علامات وقوع عنف أو إصابات. لكن سيكون كذلك من المُستحيل تكوين أي رأي حول سبب الوفاة حتى نرى الجمجمة.»
«هل لاحظتَ أي شيء آخر مُهم؟»
«نعم، لقد أدهشني وضوح المعرفة والمهارة التشريحية من قِبَل الشخص الذي قطع أعضاء الجسد. وثبتَتْ معرفته بعلم التشريح من خلال حقيقة أن الجثة قد قُسِّمت إلى مناطق تشريحية مُحدَّدة. على سبيل المثال، فإن عظام الرقبة مُكتملة وتشمل المفصل العلوي للعمود الفقري المعروف باسم الفقرة الحاملة (الأطلسية)؛ في حين أن الشخص الذي ليس لديه معرفة تشريحية من المُحتمل أن يخلع الرأس عن طريق قطع الرقبة. ثم فُصِلت الذراعان باستخدام عظام الكتف (أو لوح الكتف) والترقوة (أو عظمة الترقوة) مُتصلة، تمامًا مثلما يحدُث عند بتر الذراع للتشريح.
تظهر المهارة من خلال الطريقة الدقيقة التي قُطِّع بها. لم تُختَرَق الأجزاء بخشونة، ولكن فُصِلَت بمهارةٍ من المفاصل لدرجة أنني لم أكتشف خدشًا أو علامةً واحدة للسكين على أيٍّ من العظام.»
«هل يمكنك اقتراح أي فئةٍ من الأشخاص من المُحتمل أن تمتلك المعرفة والمهارة التي تُشير إليها؟»
«بالطبع، هذه المهارة يمتلكها جرَّاح أو طالب طب، وربما جزَّار.»
«هل تعتقد أن الشخص الذي قطع أعضاء هذه الجثة ربما كان جرَّاحًا أو طالبًا في الطب؟»
«نعم، أو جزَّارًا. شخص ما اعتاد تقطيع الجُثَث وماهر باستخدام السكين.»
هنا هبَّ الإسكافي واقفًا على قدميه.
قال: «إنني أقف، سيدي الرئيس، للاحتجاج على البيان الذي أُدلِي به حالًا.»
سأله الطبيب الشرعي: «أي بيان؟»
تابع الإسكافي بلهجة خطابية: «على الاتهامات الواردة، والتي أُلقِيَت على مهنةٍ مُحترمة.»
قال الطبيب الشرعي: «أنا لا أفهمك.»
«لقد ألمح الدكتور سمرز إلى أن جريمة القتل هذه قد ارتكبها جزَّار. الآن، عامل في تلك المهنة المُحترمة يجلس ضمن هيئة المُحلفين …»
صاح الجزار: «دعْني وشأني.»
أصرَّ الإسكافي قائلًا: «لن أتركك وحدك. أنا أرغب …»
«أوه، اخرس، بوب!» كان هذا هو صوت رئيس العمال، الذي مد، في اللحظة نفسها، يده الضخمة المُشعرة التي أمسك بها طرف معطف الإسكافي وأعاده إلى وضعية الجلوس بضربةٍ هزَّت الغرفة.
لكن السيد بوب، رغم جلوسه، لم يسكت. وقال: «أرغب في تسجيل احتجاجي.»
قال الطبيب الشرعي: «لا أستطيع أن أفعل ذلك، ولا يُمكنني السماح لك بمقاطعة الشهود.»
قال السيد بوب: «إنني أعمل لصالح صديقي هنا وأعضاء المهنة المحترمة …»
لكن هنا انقلب الجزار عليه بوحشية، وهمس بصوتٍ أجش:
«اسمع، بوب؛ لديك الكثير مما يلعق به القط …»
احتجَّ الطبيب الشرعي بشدة قائلًا: «أيها السادة! أيها السادة! لا يمكنني السماح بهذا السلوك غير اللائق. إنكم تتناسَون جدية الموقف وموضع المسئولية المنوطة بكم. يجب أن أُصرَّ على سلوكٍ أكثر تهذيبًا ولياقة.»
ساد صمتٌ عميق، وفي خضمِّه اختتم الجزار بنفس الهمس الأجش:
«… يلعق به كفوفه.»
رمقه الطبيب الشرعي بنظرةٍ انتقادية، والتفت إلى الشاهد واستأنف التحقيق.
«هل لك أن تُخبرنا، أيها الطبيب، كم من الوقت مضى على وفاة الراحل؟»
«أظن أنه ما لا يقل عن ثمانية عشر شهرًا، بل ربما أكثر من ذلك. ولكن يستحيل تحديد تلك الفترة المزيدة عن طريق الفحص وحدَه. العظام نظيفة تمامًا — أي نظيفة من جميع الأنسجة اللينة — وستظل إلى حدٍّ كبير على حالتها الحالية سنوات عديدة.»
«أدلة الرجل الذي عثر على الرفات في حوض البقلة المائية تُشير إلى أنه يستحيل وجودها هناك لأكثر من عامين. في رأيك، هل تتفق العوامل الظاهرية مع هذا الرأي؟»
«نعم، تمامًا.»
«هناك نقطة أخرى، أيها الطبيب؛ نقطة مهمة للغاية؛ هل تجد أي شيء في أيٍّ من العظام، أو جميعها معًا، مما يُمكِّنك من تحديد أنها عظام فردٍ مُعين؟»
أجاب الدكتور سمرز: «لا. لم أجد أيَّ خصوصية يمكن أن توفر وسيلةً لتحديد الهوية الشخصية.»
قال الطبيب الشرعي: «الوصف الذي عُرِض علينا لشخصٍ مفقود هو رجل يبلغ من العمر تسعةً وخمسين عامًا، يبلغ طوله خمس أقدام وثماني بوصات، يتمتع بصحةٍ جيدة، وبنية متينة جدًّا وعريضة إلى حدٍّ ما، ولديه كسر بوت قديم في الكاحل الأيسر. هل الرفات الذي فحصته يتفق مع هذا الوصف؟»
«نعم، بقدْر ما يكون الاتفاق مُمكنًا، ليس هناك أي خلاف.»
«قد يكون رفات ذلك الشخص؟»
«ربما، لكن لا يُوجَد أي دليل إيجابي على ذلك. قد ينطبق الوصف على نسبةٍ كبيرة من الرجال المُسنِّين، باستثناء ما يتعلق بالكسر.»
«ألم تجد أي علاماتٍ لمِثل هذا الكسر؟»
«لا. يؤثر كسْر بوت على العظمة المُسمَّاة بالشظية. هذه هي إحدى العظام التي لم يُعثَر عليها بعد، لذلك لا يُوجَد دليل على هذه النقطة. كانت القدم اليسرى طبيعية تمامًا، ولكن ربما كانت كذلك على أي حال، إلا إذا كان الكسر قد أدَّى إلى تشوُّهٍ كبير.»
«لقد قدرتَ أن طول الميت يزيد بنصف بوصة عن طول الشخص المفقود. فهل هذا يُمثل خلافًا؟»
«لا، تقديري مجرد تقدير تقريبي فقط. نظرًا لأن الذراعَين مُكتملتان والساقين ليستا كذلك، فقد أسستُ حساباتي على العرض بين الذراعين. لكن قياس عظام الفخذ يُعطي نفس النتيجة. طول الفخذ قدمٌ واحدة وسبع بوصات وخمسة أثمان.»
«إذن ربما لم يكن طول المُتوفَّى أكثر من خمس أقدام وثماني بوصات؟»
«هذا صحيح، من خمس أقدام وثماني بوصات إلى خمس أقدام وتسع بوصات.»
«شكرًا لك. أعتقد أن هذا كل ما نريد أن نطرحه عليك أيها الطبيب؛ ما لم ترغب هيئة المُحلفين في طرح أي أسئلة.»
ألقى نظرةً مُضطربة على تلك الهيئة الموقرة، وعلى الفور فإن بوب الذي لا يمكن منعه استغلَّ الموقف.
قال الإسكافي: «بالنسبة لهذه الإصبع المفقودة، تقول إنها بُتِرت بعد الموت؟»
«هذا هو رأيي.»
«الآن، هل يمكنك أن تُخبرنا لماذا بُتِرت؟»
«لا، لا أستطيع.»
«أوه، هيا يا دكتور سمرز، يجب أن تكون قد كوَّنتَ رأيًا بشأن هذا الموضوع.»
وهنا تدخل الطبيب الشرعي قائلًا: «لا يهتم الطبيب إلا بالأدلة القائمة على الفحص الفعلي للرفات. وأي آراء أو تخمينات شخصية ربما يكون قد شكَّلها لا تعدُّ دليلًا، ويجب ألا يُسأل عنها.»
اعترض بوب وقال: «لكن يا سيدي، نريد أن نعرف سبب بتر هذه الإصبع. لا يمكن خلعها بدون سبب. هل لي أن أسأل، سيدي، إذا كان لدى الشخص المفقود أي شيءٍ غريب يتعلق بتلك الإصبع؟»
أجاب الطبيب الشرعي: «لا يرِد في الوصف المكتوب أي شيء بهذا المعنى.»
قال بوب: «ربما، يمكن للمُحقق بادجر أن يُخبرنا.»
قال الطبيب الشرعي: «أعتقد أنه من الأفضل ألا نوجِّه إلى الشرطة الكثير من الأسئلة. فسيُخبروننا بأي شيءٍ يرغبون في نشره على الملأ.»
صاح الإسكافي قائلًا: «أوه، حسنًا جدًّا. إذا كان الأمر يتعلق بالتكتم، فليس لديَّ المزيد لأقوله؛ أنا فقط لا أرى كيف سنصل إلى حُكم إذا لم تكن الحقائق أمامنا.»
بعد استجواب جميع الشهود الآن، شرع الطبيب الشرعي في تلخيص ما قيل ومُخاطبة هيئة المحلفين.
«أيها السادة، لقد سمعتم الأدلة من عدة شهود، وستُدركون أنها لا تُمكِّننا من الإجابة عن أيٍّ من الأسئلة التي تشكل موضوع هذا التحقيق؛ فنحن نعلم الآن أن المتوفَّى كان رجلًا مُسنًّا، يبلغ من العمر حوالي ستين سنة، وطوله حوالي خمس أقدام وثماني بوصات إلى تسع؛ وأن وفاته حدثت منذ فترةٍ تتراوح بين ثمانية عشر شهرًا إلى عامين. هذا كل ما نعرفه. من الطريقة التي تعامل بها الجسد يمكننا تشكيل التخمينات فيما يتعلق بظروف وفاته. ولكن ليس لدينا معرفة فعلية. لا نعرف من هو المُتوفَّى أو كيف حدثت الوفاة. وبالتالي، سيكون من الضروري تأجيل هذا التحقيق حتى تتوفَّر حقائق جديدة، وعندما يحدُث ذلك، ستتلقَّون إشعارًا واجبًا يفيد بضرورة حضوركم.»
حلَّ ضجيج الكراسي المتحركة محلَّ صمت قاعة المحكمة، ثم بدأ حديث حماسي نهضت أثناءه وشققتُ طريقي للخروج إلى الشارع. وعند الباب التقيتُ بالطبيب سمرز، الذي كانت عربته ذات العجلتين تنتظِر بالقُرب.
فسألني: «هل ستعود إلى المدينة الآن؟»
أجبت: «نعم، بمجرد أن أستطيع اللحاق بالقطار.»
«إذا قفزتَ إلى عربتي، فسوف أوصلك في الوقت المناسب. سيفوتك إذا مشيت.»
قبلتُ عرضه بامتنان، وبعد دقيقةٍ واحدة كانت العربة تدور بخفة على الطريق إلى المحطة.
قال الطبيب سمرز: «هذا الشيطان الصغير الغريب، ذلك الرجل المدعو بوب، ذو شخصية غريبة؛ اشتراكي، مناصر للعمال، مُحرض، غريب الأطوار؛ كل تلك الصفات اللازمة لمشاجرة كلامية.»
أجبت: «نعم، هذا ما أشار إليه مظهره. لا بدَّ أن الطبيب الشرعي يحاول الحصول على نذْلٍ مشاكس مثل هذا في هيئة مُحلفين.»
ضحك سمرز قائلًا: «لا أعرف. لقد قدم عنصرًا فكاهيًّا. وبعد ذلك ستعلم، هؤلاء الرفاق لهم استخداماتهم؛ فبعض أسئلته كانت وثيقة الصلة بالموضوع.»
«لذا بدا أن بادجر يفكر.»
ضحك سمرز وقال: «نعم، يا للعجب! بادجر لم يُحبه على الإطلاق، وأظن أن المُحقق المبجَّل كان يُبحر في اتجاه الريح في إجاباته.»
«هل تعتقد أن لديه بالفعل بعض المعلومات السرية؟»
«يعتمد على ما تعنيه بكلمة «معلومات»؛ فالشرطة ليست هيئة للمضاربة أو التخمين. لن تتحمَّل كل هذه المشكلات ما لم يكن لديها نصيحة قيمة من شخصٍ ما. كيف حال السيد والآنسة بيلينجهام؟ كنت أعرفهما عندما كانا يعيشان هنا.»
كنت أفكر في إجابةٍ رصينة عن هذا السؤال عندما وصلنا إلى ساحة المحطة. وفي نفس اللحظة، دخل القطار إلى الرصيف، ومع مُصافحته بسرعةٍ شكرتُه على عجَل، وقفزت من العربة وانطلقت إلى المحطة.
خلال الرحلة البطيئة إلى المنزل، قرأتُ ملاحظاتي وسعيتُ إلى استخلاص بعض الحقائق من الحقائق التي حدَّدوها بخلاف تلك الظاهرة على السطح، ولكن دون نجاحٍ كبير. ثم بدأتُ في تخمين ما قد يُفكر فيه ثورندايك بشأن الأدلة في التحقيق، وما إذا كان سيُصبح راضيًا عن المعلومات التي جمعتُها. استمرت هذه التكهنات، مع بعض الاستطرادات من حينٍ لآخر، حتى وصلتُ إلى شارع تيمبل وصعدت الدرَج بشغفٍ مُتجهًا إلى شقة صديقيَّ.
ولكن كانت هناك خيبة أمل بانتظاري؛ كان المكان فارغًا باستثناء بولتون، الذي ظهر عند باب المُختبر في مئزره الأبيض، وفي يديه زوج من الملاقط الدقيقة ذات الرأس المسطح.
فأوضح قائلًا: «كان على الطبيب أن يذهب إلى بريستول للتشاور بشأن حالةٍ طارئة، وذهب الدكتور جيرفيس معه. سيكونان في الخارج لمدة يومٍ أو يومين، كما أتوقع، لكن الطبيب ترك هذه الرسالة لك.»
أخذ رسالة من الرف، حيث كانت موضوعةً بشكل واضح على الحافة، وسلَّمها لي. كانت ملاحظةً قصيرة من ثورندايك يعتذر فيها عن رحيله المفاجئ ويطلب مني أن أُعطي بولتون ملاحظاتي مع أي تعليقاتٍ كان عليَّ أن أُدلي بها.
وأضاف: «سوف تكون مُهتمًّا بمعرفة أن الالتماس سيُستَمع إليه في المحكمة الحسبية بعد غد. لن أحضر بالطبع، ولا جيرفيس أيضًا؛ لذلك أودُّ أن تحضر أنت وأن تبقى مُتيقظًا لأي شيء قد يحدُث أثناء جلسة الاستماع، والذي قد لا يظهر في الملاحظات التي سيُطلَب من كاتب مارشمونت تدوينها. لقد استعنت بالدكتور باين للوقوف بجانبك ومساعدتك في هذه الجلسة، حتى تتمكن من حضور المحكمة بضميرٍ يقِظ.»
كان هذا مُمتعًا للغاية ومُكِّفرًا تمامًا عن خيبة الأمل البسيطة. وبامتنانٍ عميق للثقة التي منحها لي ثورندايك، وضعتُ الرسالة في جيبي، وسلمتُ ملاحظاتي إلى بولتون، وتمنيتُ له «أمسية سعيدة»، وذهبت إلى حارة فيتر.