أمام المحكمة الحسبية
كانت المحكمة الحسبية تُغلفها أجواء من الهدوء المتكلَّف حين دخلتها مع الآنسة بيلينجهام ووالدها. من الواضح أن الجمهور الفضولي العريض لم يكن على علمٍ بالدعوى التي أوشكت إقامتها، أو لم يُدرك ارتباطها ﺑ «قضية البقايا المشوَّهة» الحساسة؛ ولكن المُحامين والصحفيين، الأكثر اطلاعًا، قد تجمعوا بقدْرٍ من الثبات، وملأت همهمات حواراتهم الأجواء مثل طنين آلة الأرغن الذي يسبق عقد القداس في الكاتدرائية.
وحين دخلنا، قام رجل عجوز مليح الوجه وأتى لاستقبالنا، مُصافحًا يد السيد بيلينجهام بحرارةٍ ومُلقيًا التحية على الآنسة بيلينجهام بانحناءةٍ مهذَّبة.
«هذا هو السيد مارشمونت يا دكتور.» قالها الأول مُقدمًا إيَّاي، وبعد أن شكرَني المحامي على المتاعِب التي واجهتها أثناء حضور التحقيق، قادنا إلى دكَّة، كان على أقصى طرفٍ منها يجلس رجل عرفتُ أنه السيد هيرست.
عرَّفه السيد بيلينجهام في اللحظة نفسها ورمقَه بنظرةٍ غاضبة.
صاح بصوتٍ مسموع بكل وضوح: «أرى ذلك الوغد موجودًا هنا! ويتظاهر وكأنه لا يراني، لأنه يخجل من أن ينظر في وجهي، ولكن …»
هتف المحامي المفزوع قائلًا: «صَهْ! صَهْ! أستاذي العزيز. لا ينبغي أن نتحدَّث بهذا الأسلوب، وخاصة في هذا المكان. اسمح لي أن أتوسَّل إليك … أتوسل إليك سيطِرْ على مشاعرك، لا تُدلِ بتصريحاتٍ طائشة؛ في الواقع لا تُدلِ بأي تصريحات بتاتًا.» أضاف جملته الأخيرة بقناعةٍ راسخة بأن أي تصريحات قد يُدلي بها السيد بيلينجهام من شأنها أن تكون طائشة.
ردَّ السيد بيلينجهام بنبرةٍ نادمة: «سامحني يا مارشمونت، سأتمالك نفسي؛ سأكون حذرًا للغاية. لن أنظر ناحيته مرة أخرى، لأنني إذا فعلت، فسأذهب إليه على الأرجح وأكسر أنفه.»
ولا يبدو أنَّ هذا النوع من الحذَر لاقى استحسان السيد مارشمونت، حيث إنه حرص على أن أجلس أنا والآنسة بيلينجهام على أقصى طرفٍ من مُوكله، وبالتالي يعزله بكفاءة عن غريمه.
سأل السيد بيلينجهام: «من الشخص ذو الأنف الطويل الذي يتحدَّث إليه جيليكو؟»
«هذا هو السيد لورام، المحامي العام، محامي السيد هيرست، والرجل ذو الوجه البهيج الجالس إلى جواره هو مُحامينا، السيد هيث، رجل كفؤ و…» هنا همس السيد مارشمونت من خلف يده قائلًا: «مُوجَّه تمامًا بتعليمات من دكتور ثورندايك.»
في هذه اللحظة، دخل القاضي وجلس على مقعده، وتقدم الحاجب بسرعةٍ كبيرة ليحلف في هيئة المُحلفين، وبالتدريج استقرت المحكمة على حالةٍ من الهدوء المعتاد الذي استمر طوال الدعوى، باستثناء حين تهتز الأبواب المتأرجحة الصاخبة عند مرور موظفٍ أو مراسل مُتعجل.
كان القاضي رجلًا عجوزًا ذا مظهرٍ مُتفرد بعض الشيء، له وجه قصير جدًّا وفم طويل جدًّا، وهذه السمات — بالإضافة إلى عينين كبيرتين ومُنتفختين (يبقيهما مُغلقتين عادةً) — أوحتْ بتشابُهٍ أكيد بينه وبين الضفدع؛ كما أنه كان لديه خدعة غريبة تليق بالضفادع تتمثل في تسطيح جفنَيه — كما لو أنه بصدد ابتلاع خنفساء كبيرة — وهو الدليل العاطفي الوحيد الخارجي والمرئي الذي يُظهره.
وبمجرد أن انتهت هيئة المُحلفين من أداء القسَم، وقف السيد لورام لعرض القضية؛ حينئذٍ مال مُوكله إلى الوراء في مقعده وأغلق عينَيه، كما لو أنه يعدُّ نفسه لعمليةٍ مؤلِمة.
أوضح السيد لورام قائلًا: «الدعوى الحالية تتعلق بالاختفاء الغامض للسيد جون بيلينجهام، المُقيم في ١٤١ ميدان كوين، بلومزبيري، والذي حدث قبل عامين، أو على وجه التحديد، في الثالث والعشرين من نوفمبر، لعام ألف وتسعمائة واثنين. ومنذ ذلك التاريخ، لا يُعرَف شيء عن السيد بيلينجهام، ونظرًا لوجود أسبابٍ جوهرية مُحددة للاعتقاد بموته، يتقدَّم المُستفيد الرئيسي من وصيته، السيد جورج هيرست، إلى المحكمة بالتماسٍ بافتراض وفاة الموصي وإثبات صحة الوصية. ونظرًا لأن الوقت الذي انقضى على آخِر مرة شُوهِد فيها الموصي على قيد الحياة هو عامان فقط، فإن الالتماس قائم على ظروف الاختفاء، التي تتَّسِم بالتفرُّد الشديد من عدة جوانب، ربما أبرزها هو كون الاختفاء مفاجئًا وتامًّا.»
هنا قال القاضي بصوت ثابت وهامس: «ربما كان من المدهش أكثر لو أن الموصي اختفى على نحوٍ تدريجي وغير كامل.»
أقر السيد لورام قائلًا: «لا شك يا سيدي، ولكن المقصد هو أنَّ الموصي، الذي كانت عاداته مألوفة ومنتظمة دائمًا، اختفى في التاريخ المذكور دون أن يُجري أيًّا من الترتيبات المعتادة لإدارة شئونه، ومنذ ذلك الحين لم يرَه أو يتواصل معه أحد.»
وبهذه الديباجة، شرع السيد لورام في سرد الأحداث المرتبطة بواقعة اختفاء جون بيلينجهام، والتي كانت متطابقة إلى حدٍّ كبير مع ما قرأته في الصحف؛ وبمجرد أن عرَض الحقائق الواقعية أمام هيئة المُحلفين، واصل مناقشة دلالتها المُحتملة.
وسأل: «الآن، ما الاستنتاج الذي تُوحي به هذه السلسلة الغريبة، بل الأكثر غموضًا، من الأحداث بالنسبة إلى شخصٍ ذكي من شأنه أن يفكر فيها بنزاهة؟ ها نحن لدينا رجل خرَج من منزل ابن عمته أو شقيقه، حسبما يقتضيه الحال، وعلى الفور، وفي لمح البصر، يختفي من فوق وجه الأرض. ما التفسير؟ هل كان يُخطط، بدون إخطار أو تلميح عن نيته، أن يستقلَّ قطارًا إلى ميناءٍ ما، ومن هناك يسافر إلى بلادٍ بعيدة، تاركًا شئونه بلا رعاية وتاركًا أصدقاءه يُخمنون مكانه بلا جدوى؟ هل هو مُختبئ الآن بالخارج، أو حتى داخل أرض الوطن، غير مبالٍ بسلامة مُمتلكاته القيِّمة وراحة بال أصدقائه؟ أم أنَّ الموت غيَّبَه فجأة من خلال الإصابة بمرضٍ أو بسبب وقوع حادث أو على الأرجح على يدِ مجرم مجهول؟ دعونا نفكر في الاحتمالات.
هل يمكن أن يختفي عن عمدٍ من جانبه؟ ولمَ لا؟ ربما يُطرح هذا السؤال. الرجال يختفون من آنٍ لآخر بلا شك، ليُكتشفوا بالصدفة أو يُعاودون الظهور طواعية بعد مرور سنوات، ويجدون أسماءهم قد نُسيت وأماكنهم شغلها وافدون جدد. أجل، ولكن دائمًا يُوجَد سبب ما لهذا النوع من الاختفاء، حتى إن كان سببًا سيئًا؛ خلافات أسرية تجعل الحياة مُتعبة، صعوبات مالية تجعل الحياة سلسلة من المخاوف، نُفور من ظروف مُعينة وأجواء مُحيطة يبدو أنه لا مهرب منها، قلق ملازم وميول للتشرُّد، وهلمَّ جرًّا.
هل ينطبق أي من هذه التفسيرات على القضية الحالية؟ كلَّا، لا ينطبق أي منها. الخلافات الأسرية — على الأقل تلك القادرة على التسبُّب في تعاسة دائمة — تتعلق حصريًّا بالزواج، ولكن المُوصي كان أعزب بلا أي أعباءٍ تُذكر. كما يمكن استبعاد الصعوبات المالية أيضًا؛ كان الموصي، في الواقع، يعيش في ظروفٍ ميسورة وموسرة. كان نمط حياته مقبولًا فيما يبدو ومليئًا بالاهتمامات والأنشطة، وكان يتمتع بكامل الحرية في التغيير إذا أراد ذلك. كان مُعتادًا على السفر، ويمكنه أن يفعل ذلك دون التخفِّي سرًّا. ولقد بلغ سنًّا لا تبدو فيها التغييرات الجذرية مُرحبًا بها. كان رجلًا له عادات ثابتة ومُنتظمة، وكان انضباطه نابعًا من اختياره، وليس بسبب الإكراه أو الضرورة. وحين شاهده أصدقاؤه لآخِر مرة، كما سأثبت، كان في طريقه إلى وجهةٍ مُحددة مُعربًا عن نيته للعودة لأهدافٍ وضعها بنفسه. وبالفعل عاد ثم اختفى، تاركًا هذه الأهداف دون أن يُنجزها.
وإذا خلصنا إلى أنه اختفى طواعيةً وأنه الآن مُختبئ، فنحن نعتمد رأيًا يخالف كل هذه الحقائق الخطيرة. ومن ناحية أخرى، إذا خلصنا إلى أنه تُوفِّي فجأة، أو أنه قُتل في حادث أو بأي شكلٍ آخر، فنحن نعتمد رأيًا لا ينطوي على أي احتمالات مُستبعدة بالأساس، وهو يتوافق تمامًا مع الحقائق المعروفة؛ الحقائق التي ستُثبَت بشهادة الشهود الذين سأطلبهم. والافتراض بأن المُوصي ميت ليس مُرجَّحًا أكثر من افتراض أنه على قيد الحياة وحسب؛ بل إني أقترح ذلك باعتباره التفسير المنطقي الوحيد لظروف اختفائه.
ولكن هذا ليس كل شيء؛ فافتراض الوفاة الناشئ حتمًا من الطريقة الغامضة والمفاجئة التي اختفى بها الموصي، ثبت مؤخرًا أنها وفاة مؤكدة وقاطعة بشكل حاسم. ففي الخامس عشر من يوليو الماضي اكتُشفت في منطقة سيدكوب بقايا ذراع بشرية — ذراع يسرى أيها السادة — الإصبع الثالثة من يدِها أو إصبع الخاتم تحديدًا مفقودة. والطبيب الذي فحص الذراع سيُخبركم بأن الإصبع بُتِرت إما بعد الوفاة أو قبلها مباشرة؛ وشهادته ستُثبت على نحوٍ حاسم أن الذراع لا بدَّ أنها دُفنت في مكان اكتشافها في نفس توقيت اختفاء المُوصي. ومنذ ذلك الاكتشاف الأول، خرجت إلى النور أجزاء أخرى لنفس الجثة المُشوهة؛ ومن الغريب والمهم أن جميعها عُثر عليه في نطاق حي إلثام أو وودفورد. وستتذكرون، أيها السادة، أن حي إلثام أو وودفورد هما آخِر مكانين شُوهِد فيهما الموصي على قيد الحياة.
الآن، لاحظوا اكتمال الصدفة. هذا الرفات البشري، كما سيخبركم الآن الخبير الطبي المُتمرِّس الذي فحصه فحصًا شاملًا، هو رفات رجل يبلغ من العمر حوالي ستين عامًا، ويبلغ طوله حوالي خمس أقدام وثماني بوصات، ذي كتلة عضلية معقولة ومتينة جدًّا، وصحة جيدة فيما يبدو، وبنية جسدية قوية إلى حدٍّ ما. وسيُخبركم شاهد آخر بأن الرجل المفقود يبلغ من العمر حوالي ستين عامًا، ويبلغ طوله حوالي خمس أقدام وثماني بوصات، ذو كتلة عضلية معقولة ومتينة جدًّا، وصحة جيدة فيما يبدو، وبنية جسدية قوية إلى حدٍّ ما. وثمة حقيقة أخرى مُهمة ومُذهلة أكثر؛ اعتاد الموصي أن يرتدي خاتمًا في إصبعه الثالثة من يده اليسرى، وهي الإصبع المفقودة من البقايا التي عُثر عليها، خاتمًا مميزًا جدًّا، كان مُحكمًا للغاية لدرجة أنه لم يكن قادرًا على خلعه بمجرَّد أن ارتداه؛ إنه خاتم، أيها السادة، ذو نمطٍ مُميز بحيث لو أنه عُثر عليه مع الجثة لتحدَّدت على الفور هوية الرفات. باختصار أيها السادة، البقايا التي عُثر عليها هي بقايا رجل يُشبه المُوصي بالضبط؛ لا تختلف عن مواصفاته في أي جانبٍ مهما كان، وتُظهر تشوهًا يُوحي بمحاولة إخفاء وسيلةٍ مميزة لتحديد الهوية التي يُظهرها بلا شك؛ ودُفنت في مخابئها المختلفة في نفس توقيت اختفاء الموصي. وبناءً عليه، عندما تسمعون هذه الحقائق المُثبتة بشهادة الشهود الأكْفاء والمُحلفين، بالإضافة إلى الحقائق المُتعلقة بالاختفاء، سأطلب منكم حُكمًا وفقًا لتلك الأدلة.»
جلس السيد لورام، وعدل من وضع النظارة الأنفية، وألقى نظرة سريعة على مُذكرته بينما كان حاجب المحكمة يُلقِّن القسَم للشاهد الأول.
كان هذا السيد جيليكو، الذي صعد إلى المنصة وسدَّد نظرة صاعقة إلى القاضي فاقد الوعي (فيما يبدو). وبعد الإجراءات التمهيدية المُعتادة، شرع السيد لورام في استجوابه.
«أظن أنك كنتَ محامي الموصي ووكيله السري؟»
«كنت، ولا زلت.»
«منذ متى وأنت تعرفه؟»
«سبعة وعشرين عامًا.»
«من واقع تجربتك معه، هل تقول إنه شخص من المُرجَّح أن يختفي فجأةً وطوعًا ليتوقف عن التواصل مع أصدقائه؟»
«كلَّا.»
«هلَّا أعطيتَ أسبابك الخاصة لذلك الرأي!»
«هذا التصرُّف من جانب الموصي من شأنه أن يكون مُخالفًا تمامًا لعاداته وشخصيته، على حدِّ علمي بها. كان اعتياديًّا وجادًّا للغاية في تعاملاته معي. فحين كان يسافر خارج البلاد، كان يُطلعني دائمًا على مكان وجوده، أو إذا كان من المُحتمل أن تقطع سبل التواصل معه، كان يُعلمني دومًا مُقدَّمًا. كانت إحدى مهامي هي استلام معاش يأخذه من وزارة الخارجية، ولم يسبق له، في أي مناسبة، قبل اختفائه، أن تخلَّف عن تسليمي الوثائق الضرورية لهذا المعاش في موعده.»
«على حدِّ علمك، هل كان لديه أي أسباب للرغبة في الاختفاء؟»
«كلَّا.»
«متى وأين كانت آخِر مرة رأيتَه فيها على قيد الحياة؟»
«في الساعة السادسة مساءً، يوم الرابع عشر من أكتوبر، عام ألف وتسعمائة واثنين، في ١٤١ ميدان كوين، بلومزبيري.»
«هلَّا أخبرتَنا بما حدث في تلك المناسبة.»
«زارَني المُوصي في مكتبي في الثالثة والربع، وطلب مني أن آتي معه إلى منزله لمقابلة دكتور نوربيري. رافقتُه إلى ١٤١ ميدان كوين، وبعد فترةٍ قصيرة وصل دكتور نوربيري ليُلقي نظرة على بعض الآثار القديمة التي كان المُوصي ينوي منحها إلى المتحف البريطاني. كانت المنحة عبارة عن مومياء وأربعة أوانٍ كانوبية وقِطَع أخرى من أثاث المقبرة أوصى المُوصي أن تُعرَض في نافذةٍ واحدة وبالحالة المعروضة عليها الآن. ومن بين هذه الأغراض، كانت المومياء هي الوحيدة الجاهزة للمُعاينة. ولم يصِل أثاث المقبرة إلى إنجلترا بعد؛ ولكن كان مُتوقَّعًا وصوله في غضون أسبوع. قَبِل دكتور نوربيري المنحة نيابة عن المتحف؛ ولكنه لم يتمكن من اقتناء الأغراض إلا بعد أن قام بالتواصُل مع المدير وحصل على تصريحه الرسمي؛ ومِن ثَم، أعطاني المُوصي تعليماتٍ مُحدَّدة بخصوص تسليم المنحة، نظرًا لأنه كان سيُغادر إنجلترا في تلك الليلة.»
«هل هذه التعليمات ذات صِلة بموضوع هذا التحقيق؟»
«أظنُّ أنها كذلك. الموصي كان مسافرًا إلى باريس، وربما من هناك إلى فيينا. وأمرَني بتسلُّم أثاث المقبرة وتفريغه بمجرد وصوله، وتخزينه مع المومياء في غرفةٍ خاصة، حيث كان من المُقرَّر أن تظلَّ هناك لمدة ثلاثة أسابيع. وإذا عاد خلال ذلك الوقت، كان من المُقرر أن يُسلمها بنفسه إلى سلطات المتحف التي يحقُّ لها امتلاك مجموعة المقتنيات ونقلها بما يتراءى لها. ومن منطلق هذه التعليمات، استنتجتُ أن الموصي لم يكن واثقًا من طول فترة غيابه عن إنجلترا ومدة رحلته.»
«هل ذكر بالضبط إلى أين ذهب؟»
«كلَّا، قال إنه سيذهب إلى باريس وربما إلى فيينا، ولكنه لم يعطِ أي تفاصيل ولم أسأل عن أيٍّ منها.»
«هل تعرف في الحقيقة إلى أين ذهب؟»
«كلَّا، لقد ترك المنزل في الساعة السادسة مرتديًا مِعطفًا طويلًا وثقيلًا وحاملًا معه حقيبة سفر ومظلة. ودَّعته عند الباب ورأيته يبتعد كما لو أنه ذاهبٌ نحو طريق ساوثامبتون رو. ليس لديَّ أدنى عِلم إلى أين ذهب، ولم أرَه مرة أخرى مطلقًا.»
«ألم يكن معه أمتعة أخرى بخلاف حقيبة السفر؟»
«لا أعلم، ولكن لا أظن ذلك. اعتاد السفر بالضروريات فقط، وكان يشتري أي شيء آخَر يريده في الطريق.»
«ألم يقل شيئًا للخدَم بخصوص تاريخ عودته المُحتمَل؟»
«لم يكن هناك خدم باستثناء مُشرف المنزل. لم يكن المنزل مُستخدمًا لأغراضٍ سكنية. كان المُوصي يبيت ويتناول وجباته في ناديه، رغم أنه كان يحتفظ بملابسه في المنزل.»
«هل تلقَّيتَ منه أي رسائل بعد أن رحل؟»
«كلَّا، لم أتواصل معه مرةً أخرى بأي شكلٍ من الأشكال. انتظرتُ لمدة ثلاثة أسابيع كما طلب مني، ثم أخطرت سلطات المتحف بأن المجموعة جاهزة لنقلها. وبعد مرور خمسة أيام، جاء دكتور نوربيري وتسلَّمها بصفة رسمية ونُقِلت إلى المتحف على الفور.»
«متى جاءتك أخبار عن المُوصي بعد ذلك؟»
«في الثالث والعشرين من نوفمبر التالي، في الساعة السابعة والربع مساءً، جاء السيد جورج هيرست إلى شقتي، الواقعة فوق مكتبي وأبلغني أن المُوصي زاره في منزله أثناء غيابه، واقتيد إلى غرفة المكتب لينتظره. وعند عودته — عودة السيد هيرست — وجد أن المُوصي قد اختفى بدون عِلم الخدم برحيله المقصود، ودون أن يراه أحد وهو يُغادر المنزل. رأى السيد هيرست أن هذا أمرٌ مُهم جدًّا لدرجة أنه أسرع إلى المدينة ليُبلغني، كما أنني رأيت أنه ظرف مُهم، لا سيما أنني لم أتلقَّ أي رسالة من الموصي، وكِلانا قرَّر أنه من المستحسن أن نُعلم شقيق الموصي، جودفري، بما حدث.
وبالتالي، أسرعتُ أنا والسيد هيرست بأقصى ما يمكن إلى محطة ليفربول ستريت واستقللنا القطار الأول المتاح والمتجه إلى وودفورد، حيث كان السيد جودفري بيلينجهام يسكن آنذاك. وصلْنا إلى منزله في الساعة التاسعة إلا خمس دقائق، وأخبرَتنا الخادمة أنه ليس موجودًا بالمنزل، ولكن ابنته موجودة في المكتبة، وهي مبنًى منفصل موجود في الحديقة. أوقدت الخادمة مصباحًا وقادتنا عبر الحديقة إلى المكتبة، حيث وجدنا السيد جودفري بيلينجهام والآنسة بيلينجهام. وقد جاء السيد جودفرى توًّا ودخل عبر البوابة الخلفية، والتي لها جرسٌ يرن داخل المكتبة. أبلغ السيد هيرست السيد جودفري بما حدث، ثم غادرْنا المكتبة لنتوجَّه إلى المنزل. وعلى بُعد بضع خطواتٍ من المكتبة، لاحظتُ على ضوء المصباح، الذي كان يحمله السيد جودفري، جسمًا صغيرًا مُلقًى على العشب. أشرتُ إليه فالتقطه، وحينئذٍ أدركنا جميعًا أنه جعران كان المُوصي معتادًا على ارتدائه في سلسلة ساعته. كان مُثبتًا بسلكٍ ذهبي يمرُّ خلال فتحة التعليق وحلقة ذهبية. كان كلٌّ من السلك والحلقة في موضعهما، ولكن الحلقة مكسورة. توجَّهنا إلى المنزل وسألنا الخدَم عن الزائرين؛ ولكن لم يرَ أي منهم المُوصي، واتفقوا جميعًا أنه لم يأتِ أي زائرين إلى المنزل خلال فترة ما بعد الظهيرة أو المساء. وأوضح السيد جودفري والآنسة بيلينجهام أنهما لم يرَيا المُوصي أو يعرفا أخباره، ولم يكونا على علمٍ بعودته إلى إنجلترا. ونظرًا لأن الظروف كانت مُقلقة إلى حدٍّ ما، تواصلت، في صباح اليوم التالي، مع الشرطة، وطلبتُ منهم إجراء تحقيقات، وهو ما فعلوه، ونتج عنها العثور على حقيبة سفرٍ تحمل الحروف الأولى «جيه بي» في حجرة المعاطف بمحطة تشيرينج كروس. استطعتُ التعرُّف على حقيبة السفر بأنها الحقيبة التي رأيتُ الموصي يحملها من ميدان كوين. واستطعتُ أيضًا التعرُّف على بعض المحتويات. قابلتُ موظف حجرة المعاطف الذي أخبرني بأن الحقيبة أودعت في الثالث والعشرين في حدود الساعة ٤:١٥ مساءً. ولكنه لم يتذكَّر الشخص الذي أودعها. وظلَّت في حوزة شركة السكك الحديدية لمدَّة ثلاثة أشهر دون أن يطلبها أحد، ثم سُلِّمْتُ إيَّاها.»
«هل كان هناك أي علامات أو ملصقات تُشير إلى الطريق الذي قُطع أثناء السفر؟»
«لم يكن هناك أي مُلصقات عليها أو علامات أخرى بخلاف الحروف الأولى «ج. ب».»
«هل تعلم سنَّ المُتوفَّى؟»
«أجل. كان يبلغ من العمر تسعةً وخمسين عامًا في الحادي عشر من أكتوبر، عام ألف وتسعمائة واثنين.»
«هل يمكنك أن تُخبرنا كم كان يبلُغ طوله؟»
«أجل، كان خمس أقدام وثماني بوصات بالضبط.»
«ما نوعية الحالة الصحية التي كان يتمتع بها؟»
«على حدِّ علمي، كانت صحته جيدة. ليس لديَّ علم ما إذا كان يُعاني من أي أمراض. أنا أحكم فقط من منطلق مظهره الخارجي، الذي كان مظهر رجلٍ سليم.»
«هل يمكنك أن تصفه بكونه مُحافظًا على صحته أم لا؟»
«يُمكنني أن أصفه برجلٍ محافظ على صحته بالنسبة إلى عمره.»
«كيف تصِف بِنيته؟»
«أصفه بكونه عريضًا ومتين البنية نوعًا ما، ذا كتلة عضلية معقولة، رغم أنها ليست استثنائية.»
سجل السيد لورام ملاحظة سريعة بهذه الإجابة ثم قال:
«لقد أخبرتَنا سيد جيليكو بأنك تعرف المُوصي معرفة وثيقة لمدة سبعةٍ وعشرين عامًا. الآن، ألم تلاحظ قطُّ أنه كان مُعتادًا على ارتداء أي خواتم في أصابعه؟»
«كان يرتدي في الإصبع الثالثة من يده اليسرى نسخةً من خاتم عليه شعار عين أوزيريس. كان هذا هو الخاتم الوحيد الذي يرتديه، على حدِّ علمي.»
«هل كان يرتديه باستمرار؟»
«أجل، بحكم الضرورة، لأنه كان صغيرًا جدًّا عليه، وبمجرد أن حُشِر في إصبعه لم يستطع أن يخلعه مرةً أُخرى.»
كانت هذه خلاصة شهادة السيد جيليكو، وفي نهايتها ألقى الشاهد نظرةً مُستفهمة على محامي السيد بيلينجهام. إلا أن السيد هيث ظلَّ جالسًا، مُتأمِّلًا باهتمامٍ الملاحظات التي سجلها توًّا، ليجد أنه ليس هناك حاجة إلى الاستجواب المضاد. نزل السيد جيليكو من فوق المنصة. اتكأتُ إلى الخلف في مقعدي، ثم أدرتُ رأسي لألحظ الآنسة بيلينجهام مُستغرقة في تفكيرٍ عميق.
سألتها: «ما رأيك في هذا؟»
أجابت قائلة: «تبدو مُكتملة وحاسمة للغاية.» ثم همهمتْ بتنهيدةٍ قائلة: «عمِّي جون المسكين! كم يبدو من المزعج أن تتحدَّث عنه بدمٍ بارد وبهذه الطريقة العملية، باعتباره «المُوصي»، كما لو أنه لم يكن سوى عددٍ من الأعداد الجبرية.»
أجبتها قائلًا: «في رأيي، ليس هناك مجالٌ للعواطف فيما يخصُّ دعاوى المحكمة الحسبية.» وافقتني الرأي ثم تساءلت: «من هذه السيدة؟»
«هذه السيدة» كانت شابة متأنقة صعدت توًّا على منصة الشهود وكانت تؤدي القسَم الآن. وبعد انتهاء الإجراءات التمهيدية، أجابت على سؤال الآنسة بيلينجهام والسيد لورام بقولها إن اسمَها أوجستينا جويندولين دوبس، وإنها كانت خادمة السيد جورج هيرست في «ذا بوبلارز»، إلثام.
سألها السيد لورام: «أظن أن السيد هيرست يعيش بمفرده، أليس كذلك؟»
قالت الآنسة دوبس: «لا أعرف ماذا تقصد بهذا.» إلا أن المحامي أوضح:
«أقصد أنه رجل غير متزوج؟»
احتجَّت الشاهدة بنبرةٍ انتقادية: «حسنًا، وماذا في هذا؟»
«أنا أوجِّه لكِ سؤالًا.»
قالت الشاهدة بحدة: «أعلم ذلك، وأقول إنه لا يحقُّ لك مثل هذه التلميحات لشابَّةٍ محترمة حين يكون هناك مُدبرة منزل وخادمة مطبخ تعيشان في المنزل، وهو يبلغ من العمر ما يكفي ليكون والدي …»
هنا استوى جفنا سيادة القاضي من أثر الاندهاش، وقاطعها السيد لورام قائلًا: «أنا لم أُلمِّح إلى شيء. كل ما هنالك أنني سألتُ ما إذا كان ربُّ عملك، السيد هيرست رجلًا أعزب أم لا؟»
قالت الشاهدة في عبوس: «لم أسأله قط.»
«من فضلك، أجيبِي عن السؤال؛ بنعم أو لا.»
«كيف يُمكنني أن أجيب عن سؤالك؟ لعله يكون متزوجًا ولعلَّه لا يكون. كيف أعرف؟ لستُ محققًا خاصًّا.»
سدد السيد لورام نظرةً مذهولة إلى الشاهدة، وفي فترة الصمت التي أعقبت ذلك جاء صوت المُدَّعي من فوق المنصة:
«هل هذه النقطة جوهرية؟»
ردَّ السيد لورام قائلًا: «بالتأكيد يا سيدي.»
«إذن، أرى أنك ستستجوب السيد هيرست، ربما من الأفضل أن تطرح عليه السؤال. هو يعرف على الأرجح.»
أحنى السيد لورام رأسه، وعاد القاضي إلى حالة الغيبوبة المُعتادة منه، والتفت إلى الشاهدة المُنتصِرة:
«هل تتذكرين أي شيء مُهم في اليوم الثالث والعشرين من نوفمبر السنة قبل الماضية؟»
«أجل، زار السيد جون بيلينجهام منزلنا.»
«وكيف عرفتِ أنه السيد جون بيلينجهام؟»
«لم أعرف؛ ولكنه عرَّف نفسه، وأظنه يعرِف.»
«متى وصل؟»
«الساعة الخامسة والثلث مساءً.»
«ثم ماذا حدث؟»
«أخبرته أن السيد هيرست لم يصِل إلى المنزل بعدُ، فقال إنه سينتظره في غرفة المكتب ليكتُب بعض الخطابات؛ أدخلته إلى غرفة المكتب وأغلقتُ الباب.»
«وماذا حدث بعد ذلك؟»
«لا شيء، وصل السيد هيرست المنزل في موعده المعتاد — الساعة السادسة إلا الربع — ودخل بعد أن فتح الباب بمفتاحه. وتوجَّه مباشرة إلى غرفة المكتب حيث ظننتُ أن السيد بيلينجهام لا يزال هناك، ولذا لم ألاحظ، ولكني أعددتُ المائدة لفردين. وفي الساعة السادسة، دخل السيد هيرست إلى غرفة الطعام — فهو يتناول الشاي في المدينة ويتغدَّى الساعة السادسة — وحين رأى أن المائدة قد أُعدَّت لفردَين سأل عن السبب. قلتُ له إن السيد بيلينجهام ينتظر حتى تناول الغداء.
قال: «السيد بيلينجهام! لم أكن أعرف أنه هنا. لماذا لم تُخبريني؟» قلت: «ظننتُ أنك كنت معه، يا سيدي. لقد أدخلته إلى غرفة المكتب.» قال: «حسنًا، لم يكن موجودًا حين دخلت. وهو ليس هناك الآن. لعله ينتظر في غرفة الاستقبال.» ومِن ثَم ذهب وبحَث في غرفة الاستقبال، ولكنه لم يكن موجودًا. ثم قال السيد هيرست إنه يظن أن السيد بيلينجهام قد سئم من الانتظار ورحل؛ ولكني أخبرته أنني متأكدة تمامًا من أنه لم يفعل، لأنني كنتُ أراقب المكان طوال الوقت. ثم سألني ما إذا كان السيد بيلينجهام بمُفرده أم أن ابنته معه، فقلت إنه لم يكن السيد بيلينجهام على الإطلاق وإنما السيد جون بيلينجهام، ثم تفاجأ أكثر من أي وقتٍ مضى. قلتُ له إنه من الأفضل أن نُفتش المنزل لنتأكد مما إذا كان موجودًا أم لا، فقال السيد هيرست إنه سيأتي معي، ومِن ثَم ذهبنا جميعًا للبحث في المنزل وتفتيش جميع الغرف، ولكن لم نجد أي أثر للسيد بيلينجهام في أيٍّ منها. ثم شعر السيد هيرست بالتوتُّر والانزعاج، وبعد أن تناول في عُجالة القليل من الغداء، ركض للحاق بقطار الساعة السادسة والنصف المُتجه إلى البلدة.»
«أنتِ تقولين إنه لا يمكن للسيد بيلينجهام أن يُغادر المنزل لأنكِ كنتِ تراقبين المكان طوال الوقت. أين كنتِ أثناء مراقبتك للمكان.»
«كنتُ في المطبخ. ويمكنني أن أرى البوابة الأمامية من نافذة المطبخ.»
«تقولين إنكِ أعددتِ المائدة لفردَين. أين أعددتِها؟»
«في غرفة الطعام طبعًا.»
«هل يمكنك رؤية البوابة الأمامية من غرفة الطعام؟»
«كلَّا، ولكن يمكنني أن أرى باب غرفة المكتب. غرفة المكتب في مقابل غرفة الطعام.»
«هل يجب عليكِ صعود الدرَج لتذهبي من المطبخ إلى غرفة الطعام؟»
«أجل، بالطبع يتعيَّن ذلك!»
«إذن، ألا يُحتمل أن يكون السيد بيلينجهام قد غادر المنزل أثناء نزولك من الطابق العلوي؟»
«كلَّا، لا يمكن أن يكون قد فعل ذلك.»
«ولمَ لا؟»
«لأن هذا من المستحيل.»
«ولماذا هو مُستحيل؟»
«لأنه لا يمكن أن يكون قد فعل ذلك.»
«أنا أفترض أن السيد بيلينجهام قد غادر المنزل في هدوءٍ بينما كنتِ في الطابق العلوي؟»
«كلَّا، لم يفعل.»
«كيف عرفتِ أنه لم يفعل؟»
«أنا متأكدة تمامًا أنه لم يفعل.»
«ولكن كيف يمكنك التأكد؟»
«لأنني لا بدَّ أن أراه لو فعل.»
«ولكن أقصد حين كنتِ على الدرج.»
«كان في غرفة المكتب حين كنتُ على الدرَج.»
«كيف تعرفين أنه كان موجودًا في غرفة المكتب؟»
«لأنني أدخلته إلى هناك ولم يخرُج منها.»
صمت السيد لورام لبرهةٍ وأخذ نفَسًا عميقًا، استوى جفنا القاضي.
استأنف المُحامي في ضجر قائلًا: «هل تُوجَد بوابة جانبية للمبنى؟»
«أجل. تؤدي إلى حارةٍ ضيقة بجانب المنزل.»
«ويُوجَد نافذة فرنسية في غرفة المكتب، أليس كذلك؟»
«بلى، إنها تطلُّ على قطعة أرضٍ عُشبية صغيرة في مقابل البوابة الجانبية.»
«والنافذة والبوابة كلتاهما مزوَّدتان بمزاليج، هل من الممكن أن يخرُج السيد بيلينجهام منهما إلى الحارة؟»
«كل من النافذة والبوابة مزوَّدتان بالمزاليج من الداخل. ويمكنه أن يخرج بتلك الطريقة ولكنه لم يفعل قطعًا.»
«ولمَ لا؟»
«حسنًا، لن يتسلل أي رجل نبيل بتلك الطريقة الخفية كلص.»
«هل تأكدتِ من أن النافذة الفرنسية كانت مُغلقة ومُوصدة بعد اختفاء السيد بيلينجهام؟»
«ألقيتُ نظرة عليها حين كنَّا نغلق المنزل في الليل. كانت مُغلقة وموصدة من الداخل.»
«والبوابة الجانبية؟»
«كانت تلك البوابة مُغلقة وموصدة بالمزلاج. عليك أن تَصفِق البوابة لتُثبِّت المزلاج، ومِن ثَم لا يستطيع أحد الخروج من البوابة دون أن يُسمَع.»
عند هذه النقطة انتهى الاستجواب الرئيسي، وجلس السيد لورام مُتنفسًا الصعداء بصوتٍ مسموع. كانت الآنسة دوبس بصدد النزول من فوق منصة الشهود حين هبَّ السيد هيث واقفًا ليستجوبها مرةً أُخرى.
«هل رأيتِ السيد بيلينجهام بوضوح؟»
«جيد جدًّا. كان الجو مُظلمًا في الخارج، ولكن مصباح الرواق كان مضاءً.»
«من فضلك، انظري إلى هذا …» هنا جسم صغير مُرِّر أمام الشاهدة. «هذه حلية صغيرة يُقال إن السيد بيلينجهام كان يُعلقها في عليقة ساعته. هل تستطيعين تذكُّر ما إذا كان يرتديها حين زار المنزل؟»
«كلَّا. لم يكن يرتديها.»
«أنتِ متأكدة من ذلك؟»
«متأكدة تمامًا.»
«شكرًا لكِ. والآن، أودُّ أن أسألكِ عن التفتيش الذي ذكرته. قلتِ إنك بحثتِ في أرجاء المنزل كافة. هل دخلتِ غرفة المكتب؟»
«كلَّا، على الأقل حتى ذهب السيد هيرست إلى لندن.»
«وحين دخلتِ، كانت النافذة موصدة؟»
«أجل.»
«هل يمكن أن تُوصَد من الخارج؟»
«كلَّا، لا يُوجد مقبض من الخارج.»
«ما الأثاث الموجود في غرفة المكتبة؟»
«تُوجَد طاولة كتابة، وكرسي دوَّار، وكرسيَّان مُريحان، وخزانتان كبيرتان للكتب، وخزانة ملابس يحتفظ فيها السيد هيرست بمعاطفه وقبعاته.»
«هل خزانة الملابس موصدة؟»
«أجل.»
«هل كانت مُغلقة حين دخلتِ الغرفة؟»
«لا أعرف قطعًا. لا أذهب لأتحرَّى عن الدواليب والخزانات.»
«ما الأثاث الموجود في غرفة الاستقبال؟»
«خزانة، وستة كراسٍ أو سبعة، وأريكة جلدية، وبيانو، وطاولة فضية، وطاولة تقديم أو طاولتان.»
«هل البيانو كبير أم قائم؟»
«البيانو كبير وقائم.»
«في أي موضع يقف؟»
«يقف في زاويةٍ قريبة من النافذة.»
«هل تُوجَد مساحة كافية وراءه لاختباء رجل؟»
تفاجأت الآنسة دوبس من السؤال ولم تُخفِ ذلك. قالت ضاحكة: «أوه، أجل، تُوجَد مساحة كافية ليختبئ رجل وراءه.»
«حين فتشتِ غرفة الاستقبال، هل ألقيتِ نظرة وراء البيانو؟»
قالت الآنسة دوبس بنبرة تهكُّمية: «كلَّا، لم أفعل.»
«هل فتشتِ أسفل الأريكة؟»
«كلَّا بالتأكيد!»
«ماذا فعلتِ إذن؟»
«فتحنا الباب وألقينا نظرةً على الغرفة. نحن لا نبحث عن قطةٍ أو قرد؛ نحن نبحث عن رجلٍ في منتصف العمر.»
«وهل من هذا أستنتج أنكِ فتشتِ باقي المنزل بطريقةٍ مُماثلة؟»
«طبعًا! ألقينا نظرةً على الغُرَف، ولكننا لم نُفتِّش أسفل الأسِرَّة أو الخزانات.»
«هل جميع الغرف الموجودة في المنزل مُستخدَمة للمعيشة أو النوم؟»
«كلَّا، تُوجَد غرفة واحدة في الطابق الثاني تُستخدَم للتخزين وغرفة المُهملات، وواحدة في الطابق الأول يستخدمها السيد هيرست لتخزين الأشياء التي لا يستخدمها.»
«هل ألقيتِ نظرة على تلك الغرف حين فتشتِ المنزل؟»
«كلَّا.»
«هل ألقيتِ نظرة عليها منذ ذلك الحين؟»
«دخلتُ غرفة التخزين منذ ذلك الحين، ولكني لم أدخل الغرفة الأخرى. فهي غالبًا تكون موصدة.»
عند هذه النقطة تسطَّح جفنا سيادة القاضي على نحوٍ باعث على التشاؤم، ولكن اختفت هذه الأعراض بمجرد أن جلس السيد هيث وأشار إلى أنه ليس لديه المزيد من الأسئلة.
وهمَّت الآنسة دوبس بالنزول من فوق منصة الشهود، حين قفز السيد لورام كعفريت العلبة.
قال: «لقد أدليتِ ببعض التصريحات بخصوص الجعران الذي اعتاد السيد بيلينجهام أن يرتديه مُعلقًا في عليقة ساعته. تقولين إنه لم يكن يرتديه حين زار منزل السيد هيرست في الثالث والعشرين من نوفمبر، عام ألف وتسعمائة واثنين. هل أنتِ متأكدة من ذلك تمامًا؟»
«متأكدة تمامًا.»
«يجب أن أطلب منك تَوخِّي الحذر الشديد بشأن تصريحك بخصوص هذه النقطة. السؤال في غاية الأهمية. هل تُقسِمين على أن الجعران لم يكن يتدلَّى من غطاء ساعته؟»
«أجل، أقسِم على ذلك.»
«هل لاحظتِ عليقة الساعة على وجه التحديد؟»
«كلَّا، لم ألاحظها على وجه التحديد.»
«إذن، ما الذي يجعلك متأكدة من أن الجعران لم يكن مُعلقًا فيها؟»
«مُستحيل أن يكون كذلك.»
«ولماذا يستحيل ذلك؟»
«لأنه لو كان كذلك، لكنتُ لاحظته.»
«ما نوعية عليقة الساعة التي كان يرتديها السيد بيلينجهام؟»
«أوه، عليقة ساعة من النوع العادي.»
«أقصد هل كانت سلسلةً أم شريطًا أم حزامًا؟»
«أظن أنها سلسلة — أو ربما شريط — أو لعلَّه حزام.»
استوى جفنا سيادة القاضي، ولكنه لم يُبدِ أي علامات أخرى وواصل السيد لورام قائلًا:
«هل لا حظتِ أم لم تُلاحظي نوعية عليقة الساعة التي كان يرتديها السيد بيلينجهام؟»
«لم ألاحظ. ولِمَ ينبغي أن أفعل؟ ليس من شأني.»
«ورغم ذلك، أنتِ متأكدة تمامًا من الجعران؟»
«أجل، متأكدة تمامًا.»
«إذن، أنت لاحظتِ ذلك؟»
«كلَّا، لم ألاحظ. وكيف ألاحظها وهي لم تكن موجودة؟»
توقف السيد لورام ونظر إلى الشاهدة عاجزًا؛ وتصاعدت ضحكة مكبوتة من هيئة المحكمة، وتساءل الصوت الواهن من فوق المنصة:
«هل أنت غير قادرة تمامًا عن الردِّ بإجابة مباشرة؟»
كان رد الآنسة دوبس الوحيد هو أنها انفجرت في البكاء؛ حينئذٍ جلس السيد لورام فجأةً وتوقف عن الاستجواب.
أخلت الآنسة دوبس منصة الشهود وبعدها صعد كلٌّ من دكتور نوربيري، والسيد هيرست، وموظف حجرة المعاطف، ولم يدلِ أي منهم بحقائق جديدة، وإنما أكدوا التصريحات التي أدلى بها السيد جيليكو وخادمة المنزل وحسب. ثم جاء العامل الذي اكتشف العظام في منطقة سيدكوب، والذي كرَّر دليل الإثبات الذي قدمه في التحقيق، مُبينًا أن البقايا لا يمكن أن تكون مدفونة في حوض البقلة المائية لأكثر من عامين. وفي النهاية، تم استدعاء دكتور سمرز، وبعد أن قدم وصفًا موجزًا للعظام التي فحصها، سأله السيد لورام:
«هل سمعت الوصف الذي أدلى به السيد جيليكو عن الموصي؟»
«أجل سمعت.»
«هل الوصف ينطبق على الشخص الذي قمتَ بفحص رفاته؟»
«بوجهٍ عام.»
«يجب أن أطلب منك إجابة مباشرة؛ بنعم أو لا. هل ينطبق؟»
«أجل، ولكن حريٌّ بي أن أقول إن تقديري لطول المُتوفَّى هو مجرد تقدير تقريبي.»
«تمامًا. ومن منطلق فحصك لهذا الرفات ووصف السيد جيليكو، هل من الممكن أن يكون هذا الرفات رفات الموصي، السيد جون بيلينجهام؟»
«أجل، ربما يكون.»
جلس السيد لورام بعد أن حصل على هذا الاعتراف، وعلى الفور وقف السيد هيث ليستجوب الشاهد.
«عندما فحصتَ هذا الرفات، دكتور سمرز، هل اكتشفتَ أي سمات فردية تمكنك من تحديد هويته باعتباره رفات شخصٍ بعينه أكثر من كونه رفات شخصٍ آخر بنفس الحجم والسن والأبعاد؟»
«كلَّا. لم أجد شيئًا من شأنه أن يحدد الرفات باعتباره رفات شخصٍ مُعين.»
ونظرًا لأن السيد هيث لم يطرح أي أسئلة أخرى، انصرف الشاهد، وأخبر السيد لورام هيئة المحكمة أن هذه هي دعوته. أومأ القاضي برأسه، على نحوٍ ناعس، ثم وقف السيد هيث ليخاطب هيئة المحكمة بالنيابة عن المُدَّعى عليه. لم تكن خطبة طويلة، ولم تكن ثرية بأي استعراض لأساليب بلاغية مزخرفة؛ وإنما كانت مقتصرة فقط على دحْض الحجج المُقدَّمة من جانب محامي المدعي.
وبعد أن أشار في إيجازٍ إلى أن مدة الغياب كانت قصيرة على نحوٍ أكثر من اللازم للتقدم بناءً عليها بالتماس لافتراض حدوث الوفاة، استطرد السيد هيث قائلًا:
«بالتالي، فإن الدعوى تستند على تقديم دليل من جانب شخص نقي السريرة. ويؤكد صديقي الخبير أن المُوصي قد مات على الأرجح، وعليه أن يُثبت ما يؤكده. الآن، هل فعل ذلك؟ أؤكد أنه لم يفعل. لقد جادل بقوةٍ بالغة وبراعة شديدة بأن المُوصي، باعتباره رجلًا أعزب، رجلًا وحيدًا بلا زوجة أو ولد، وبلا عائل أو مُعيل، وبلا أي منصب عام أو خاص، أو أي رابط، أو مسئولية، أو أي ظروف أخرى تُقيد من حريته، ليس لديه أي سبب أو دافع للاختفاء. هذه هي حجة صديقي الخبير، ولقد قدمها ببراعةٍ ومهارة بالغة لدرجة أنه لم يفلح في إثبات دعواه وحسب، وإنما بالغ في إثباتها أيضًا. فإذا كان صحيحًا، كما جادل صديقي الخبير باستحقاقٍ بالغ، أن رجلًا متحررًا من أي شكلٍ من الالتزامات، أليس صحيحًا أنه ليس لديه أي سبب للاختفاء؟ لقد جادل صديقي بأن المُوصي كان له مطلق الحرية ليذهب أينما يحلو له وقتما يحلو له وكيفما يحلو له؛ وبالتالي لم يكن هناك حاجة تدعوه إلى الفرار. وكان ردِّي: إذا كان لديه مُطلق الحرية ليذهب حيثما ووقتما وكيفما يحلو له، لماذا نستغرب من استخدامه لحريته؟ يُشير صديقي الخبير إلى أن المُوصي لم يُخطر أحدًا بنيته للرحيل ولم يُعرِّف أحدًا بمكان وجوده؛ إلا أنني أتساءل: من الذي ينبغي أن يُخطره؟ لم يكن مسئولًا عن أحد، لم يكن هناك أحد يعتمد عليه؛ حضوره أو غيابه لم يشغل أحدًا سوى نفسه. وإذا اقتضت الظروف فجأة سفرَه إلى الخارج، لماذا ينبغي عليه ألا يُسافر؟ أقول إنه ليس هناك سبب مهما كان.
لقد قال صديقي الخبير إن الموصي سافر تاركًا شئونه بلا رعاية. الآن، أيها السادة، أتساءل ما إذا كان بالإمكان أن يُقال هذا بإنصاف عن رجل شئونه، مثلما هي الحال لسنواتٍ عديدة، في يد وكيلٍ كفء بدرجةٍ عالية وجدير بالثقة تمامًا، وعلى دراية بها أفضل من المُوصي نفسه؟ قطعًا لا يمكن ذلك.
لنختتم هذا الجزء من الحجة: أؤكد أن ظروف الاختفاء المزعوم للمُوصي لا تُقدِّم شيئًا خارجًا عن المألوف. المُوصي هو رجل صاحب إمكانياتٍ وافرة، بلا أي مسئوليات تُقيد تحركاته، وكان مُعتاد السفر دائمًا، وإلى مناطق بعيدة ونائية غالبًا. الحقيقة المجردة هي أنَّ غيابه لوقتٍ أطول من المُعتاد إلى حدٍّ ما لا يوفر أساسًا أيًّا ما كان للدعوى القاسية بافتراض الوفاة والاستيلاء على مُمتلكاته.
وبالرجوع إلى الرفات البشري الذي ذُكر فيما يخصُّ القضية، لست بحاجة إلى قول الكثير. لقد فشلت محاولة الربط بينها وبين المُوصي تمامًا. أنتم أنفسكم سمعتم دكتور سمرز يقول بعد أداء القَسَم إنه لا يمكن تحديد هويته باعتباره رفات شخص مُعين. وهذا من شأنه استبعادها. ويجب أن أعلق على نقطةٍ فريدة للغاية أثارها محامي المُدَّعي الخبير، ألا وهي:
يُشير صديقي الخبير إلى أن هذا الرفات اكتُشف بالقرب من منطقة إلثام وودفورد، وأن آخِر مرةٍ شوهد فيها المُوصي على قيد الحياة في واحدٍ من هذين المكانين. ولسببٍ ما اعتُبر هذا حقيقةً في غاية الأهمية. ولكني لا أتفق معه في الرأي؛ فإذا كانت آخر مرة شوهد فيها المُوصي على قيد الحياة في وودفورد واكتُشف الرفات في ووفورد، أو إذا كان قد اختفى من إلثام، واكتُشف الرفات في إلثام، لاكتسب هذا الأمر قدرًا من الأهمية. إلا أنه ربما شُوهِد في واحدٍ من هذين المكانين، بينما اكتُشف الرفات في كِلا المكانين. مرة أخرى يبدو أن صديقي الخبير بالَغ في الإثبات أكثر مما ينبغي.
لكن لست بحاجة إلى شغل وقتكم أكثر من ذلك. وأكرر أنه لكي نُبرر افتراض وفاة الموصي، سيكون من الضروري وجود دليلٍ واضح وإيجابي. ولم يُقدَّم مثل هذا الدليل. وبناءً على ذلك، بافتراض أن المُوصي قد يعود في أي وقتٍ ويحق له أن يجد مُمتلكاته كاملة، فأطلُب منكم إصدار حُكم سيؤمِّن له العدالة المُعتادة.»
وفي ختام حديث السيد هيث، فتح القاضي عينيه، كما لو أنه استيقظ من قيلولة مُنعشة؛ كانت عيناه تشعَّان بالذكاء والدهاء على نحوٍ استثنائي، حين يُنحِّي الجفنين المُعبرين جانبًا كما ينبغي. شرع في قراءة جزءٍ من الوصية وبعض الملاحظات — على نحوٍ أشبه بمعجزةٍ؛ بإغلاق عينيه — ثم شرع في استعراض الأدلة وحجج المُحاميَين طلبًا لتوجيهات هيئة المُحلفين.
وقال: «قبل النظر في الأدلة التي سمعتموها، أيها السادة، يجدُر بي أن أقول بضع كلماتٍ بخصوص الجوانب العامة للقضية التي تشغل اهتمامنا.
إذا سافر شخص ما إلى الخارج أو اختفى من منزله وأماكن وجوده المعتادة وغاب لفترة طويلة، تُرفع دعوى بافتراض الوفاة بعد انقضاء سبع سنواتٍ على التاريخ الذي شُوهد فيه لآخِر مرة؛ بمعنى أن الاختفاء الكامل لشخصٍ لمدة سبع سنوات يُقدِّم دليلًا افتراضيًّا بأن الشخص المذكور قد مات؛ ويمكن أن يُنحَّى الافتراض جانبًا من خلال تقديم دليلٍ بأنه كان على قيد الحياة خلال فترة السبع السنوات. ولكن من ناحيةٍ أخرى، إذا سُعي لافتراض وفاة شخصٍ تغيب لفترة أقصر من سبع سنوات، فمن الضروري تقديم دليل يزيد من احتمال وفاة الشخص المذكور بدرجةٍ كبيرة. بالطبع، تتضمَّن الدعوى فرضيةً على النقيض من الدليل الفعلي؛ إلا أن الدليل في مثل هذه القضية لا بدَّ أن يخلق اعتقادًا قويًّا جدًّا بأن الوفاة قد حدثت؛ ولستُ بحاجة إلى قول إنه كلما كانت فترة التغيب أقصر، لا بدَّ أن يكون الدليل أكثر إقناعًا.
وفي هذه القضية، تغيَّب المُوصي، جون بيلينجهام، لفترةٍ أقل من عامين. وهذه فترة قصيرة نسبيًّا، وفي حدِّ ذاتها لا تُبرر إقامة دعوى افتراض الوفاة. ورغم ذلك، افتُرض حدوث الوفاة في قضيةٍ كانت الفترة فيها أقصر من ذلك واستُرِدَّ مبلغ التأمين؛ ولكن في تلك الحالة كان الدليل الذي يدعم الاعتقاد بحدوث الوفاة وجيهًا بدرجةٍ استثنائية.
كان المُوصي في هذه القضية ربان سفينة، واختفاؤه كان مُصاحبًا لاختفاء السفينة وطاقم السفينة بأكملِه في رحلةٍ بحرية من لندن إلى مرسيليا. وفقدان السفينة وطاقمها كان التفسير المنطقي الوحيد للاختفاء، ومع غياب الدليل الفعلي، قدَّمت الحقائق دليلًا مُقنعًا بوفاة جميع الأشخاص الذين كانوا على متنها. أذكر هذه القضية كمثالٍ توضيحي. أنتم لا تتعاملون مع احتمالاتٍ تخمينية. أنتم تُمعنون النظر في دعوى قضائية خطيرة جدًّا، ويجب أن تكونوا واثقين جدًّا من دافعكم. تأمَّلوا ما هو مطلوب منكم القيام به.
صاحِب الالتماس يلتمس افتراض وفاة المُوصي لكي يتسنَّى توزيع ممتلكات المُوصي على المُستفيدين بموجب الوصية. والموافقة على هذا الالتماس تُحمِّلنا المسئولية في أخطر صورها. فحُكم غير مدروس قد يُلحق ظلمًا خطيرًا بالموصي، ظلمًا لا يمكن التراجُع عنه أبدًا. ومِن ثَم، لزامًا عليكم موازنة الأدلة بأكبر قدرٍ من الحرص، للتوصُّل لحُكم مبني على التمعُّن الشديد في جميع الحقائق.
تنقسِم الأدلة التي سمعتموها إلى جزأين؛ جزء متعلق بظروف اختفاء الموصي، والآخر متعلق ببعض الرفات البشري. وفيما يتعلق بالجزء الأخير، لا يسعني سوى الإعراب عن دهشتي وأسفي لعدم تأجيل الدعوى حتى الانتهاء من استجواب الطبيب الشرعي، والسماح لكم بمعاينة الأدلة. ضعوا في الاعتبار أن دكتور سمرز قال بصراحةٍ إنه لا يمكن تحديد هوية الرفات وأنه خاص بشخصٍ معين؛ إلا أن المُوصي والمتوفَّى مجهول الهوية لديهما نقاط تَشابه كثيرة لدرجة أنه يُحتمل أن يكونا الشخص نفسه.
وفيما يخصُّ ظروف الاختفاء، لقد سمعتم أدلة السيد جيليكو التي تفيد بأن المُوصي لم يسبق له السفر إلى الخارج دون إخطاره بوجهته المُحتملة. ولكن بالنظر إلى الأهمية التي قد تعيرونها إلى هذا التصريح، ضعوا في الاعتبار أنه حين سافر المُوصي إلى باريس بعد مُقابلته مع دكتور نوربيري، لم يُخطر السيد جيليكو بأي معلوماتٍ بخصوص وجهته المحددة، وعنوانه في باريس، أو التاريخ الدقيق لعودته، ولم يتمكن السيد جيليكو من إخبارنا أين ذهب الموصي أو ماذا كان نشاطه. في الواقع، كان السيد جيليكو يجهل تمامًا خطَّ سير الموصي أو التحقُّق من مكان وجوده.
والأدلة التي قدمتها الخادمة، دوبس، والسيد هيرست كانت مُحيرة جدًّا. يبدو أن الموصي جاء إلى المنزل، وحين بحثوا عنه فيما بعد لم يجدوه. وأظهرت عملية تفتيش المكان أنه لم يكن في المنزل، ومِن ثَم يبدو أنه غادر المنزل حتمًا؛ ولكن نظرًا لأنه لم يُعلم أحدًا بنيته المغادرة، بدا أنه عبَّر عن نيته في البقاء لمقابلة السيد هيرست، وتصرفه في المغادرة خِفية بدا غريبًا بعض الشيء؛ وبالتالي، فالنقطة التي يجب أن تضعوها في الاعتبار، هي ما إذا كان الشخص القادر على مغادرة المنزل بهذا الأسلوب المُتخفِّي الغريب، دون إخطار الخدم، قادرًا على مغادرة أماكن وجوده المعتادة بنفس الأسلوب المُتخفِّي الغريب دون إخطار أصدقائه، أو إخطارهم فيما بعدُ بأماكن وجوده.
إذن، ثمة سؤالان، أيها السادة، لا بدَّ أن تطرحوهما على أنفسكم قبل إصدار الحكم: الأول: هل ظروف اختفاء الموصي وغيابه المُستمر يتعارض مع عاداته وسماته الشخصية المعروفة عنه؟ والثاني هو: هل ثمة أي وقائع تؤكد وفاة الموصي؟ سلوا أنفسكم هذين السؤالين، أيها السادة، فالإجابة عنهما، في ضوء الأدلة التي سمعتموها، ستُرشدكم إلى الحُكم.»
وبعد أن انتهى القاضي من التعليمات المذكورة آنفًا، شرع في قراءة الوصية بإمعانٍ وبأسلوب مِهني، وفي هذه الأثناء قاطعه الإعلان من رئيس هيئة المُحلفين بأنه اتُّفِق على حُكم.
جلس القاضي ونظر إلى منصَّة المُحلفين، وحين قال رئيس هيئة المحلفين «لم نجد سببًا كافيًا لافتراض وفاة الموصي، جون بيلينجهام.» أومأ برأسه موافقًا. كان من الواضح أن هذا رأيه أيضًا، كما حرص على التعبير عنه حين أخبر السيد لورام رفض المحكمة الموافقة على الالتماس المُقدَّم.
جعلني الحُكم أشعر بارتياحٍ كبير، وأظن أن الشعور نفسه ساور الآنسة بيلينجهام؛ وبالأخص والدها، الذي وقف وخرج على الفور من المحكمة بأسلوبٍ مهذب وهو عاجز عن إخفاء ابتسامة النصر، حتى لا يراه هيرست المُحبط. تبعته أنا وابنته، وبينما كنَّا نغادر المحكمة، قالت مُبتسمة:
«إذن، إملاقنا ليس مُطلقًا على أي حال. لا يزال أمامنا فرصة وسط كل هذه المآزق، وربما لا يزال هناك فرصة أمام العم جون العجوز المسكين أيضًا.»