أدلَّة ظرفية
في صباح اليوم التالي لجلسة الاستماع رآني أنطلِق في جولتي بروح معنوية جيدة أكثر من المُعتادة. كانت الجولة نفسها قصيرة، لأن قائمتي تضمنت اثنين فقط من المرضى الذين يعانون من أمراضٍ مزمنة، وربما ساهم هذا في نظرتي المبهجة إلى الحياة. لكن كانت هناك أسباب أخرى؛ فقد جاء حكم المحكمة كتأجيلٍ غير متوقع، وعلى الأقل، تأجَّل تدمير آمال أصدقائي. ثم علمتُ أن ثورندايك عاد من بريستول وتمنَّيتُ أن أطمئن عليه. وأخيرًا، وافقت الآنسة بيلينجهام على قضاء ظُهر هذا اليوم معي، نتجوَّل في صالات العرض بالمتحف البريطاني.
كنتُ قد صرفت مريضيَّ في الساعة الحادية عشرة إلا الربع، وبعد ثلاث دقائق كنت أتقدَّم على طريق ميتري كورت، وكُلي حماس لسماع ما قد يقوله ثورندايك فيما يتعلق بمُلاحظاتي بشأن التحقيق. كان «الباب» مفتوحًا عندما وصلتُ إلى مكتبه، وأجاب مُعلمي بنفسه على طرقي الخفيف على الحلقة النحاسية الصغيرة للباب الداخلي.
قال وهو يُصافحني بلطف: «كم هو لُطف منك، بيركلي، أن تبحث عني في وقتٍ مُبكر. أنا وحدي، أتصفح فقط تقرير أدلة قضية أمس.»
وضع لي مقعدًا مريحًا، وجمع حزمةً من الأوراق المطبوعة، ووضعها جانبًا على الطاولة.
فسألته: «هل تفاجأت من الحكم؟»
فأجابني: «لا. سنتان هي فترة غياب قصيرة؛ ومع ذلك، ربما كان من السهل أن تسير الأمور على غير هذا النحو. أنا مرتاح للغاية. تمنحنا هذه المهلة الوقت لإجراء تحقيقاتنا دون تسرُّع لا داعي له.»
ثم سألته: «هل وجدت لملاحظاتي أي فائدة؟»
«لقد قام هيث بذلك. فقد سلَّمها بولتون إليه، وكانت ثمينة بالنسبة له لاستجوابه الشهود. لم أرَها بعد؛ في الواقع، لقد استرددتُها منه للتو. دعنا نستعرضها معًا الآن.»
فتح درجًا وأخذ منه دفتر ملاحظاتي، وجلس، وبدأ في قراءة ملاحظاتي باهتمامٍ شديد، بينما كنتُ أقف ونظرت بخجلٍ من فوق كتفه. وعندما نظر في الصفحة التي تحتوي على رسوماتي الخاصة بالذراع التي عُثر عليها في سيدكوب، والتي تُظهر توزيع بيض الحلزون على العظام، توقَّف لبرهةٍ بابتسامة باهتة جعلتني أشعر بالسخونة واحمرار وجهي.
فقلت: «هذه الرسومات تبدو مُبتذلة للغاية، لكن كان عليَّ أن أدوِّن شيئًا في دفتر ملاحظاتي.»
«ألم تُعلق أي أهمية على الحقائق التي توضحها؟»
«لا. كانت بُقَع البيض موجودة، لذلك دوَّنت هذه الحقيقة. وهذا كل شيء.»
«أهنئك، يا بيركلي. لا يُوجَد شخص واحد من بين عشرين شخصًا كان لديه الحسُّ لتدوين ملاحظةٍ دقيقة لما يعتبره حقيقةً غير مهمة أو غير ذات صلة؛ والمحقق الذي يلاحظ فقط تلك الأشياء التي تبدو مُهمة هو بالفعل شخص عديم الفائدة تمامًا. فهو لا يمنح نفسه أي مادةٍ لإعادة النظر فيها. لكنك لا تقصد أن بُقَع البيض وقنوات الديدان هذه لم تبدُ لك ذات أهمية على الإطلاق؟»
«أوه، بالطبع، فهي تُظهر الموضع الذي دُفنت فيه العظام.»
«بالضبط. كانت الذراع موضوعة، وممدودة بالكامل، والجزء الظهري موضوع إلى الأعلى. لكننا نعرف أيضًا من بُقَع البيض هذه أن اليد قد انفصلت عن الذراع قبل إلقائها في البركة؛ وهناك شيء مُميز جدًّا في ذلك.»
انحنيتُ على كتفه وحدقتُ في رسوماتي، مندهشًا من السرعة التي أعاد بها ترتيب أجزاء الطرف من رسوماتي التقريبية للعظام الفردية.
فقلت: «ومع ذلك، لا أفهم كيف توصلت إلى ذلك.»
«حسنًا، انظر إلى رسوماتك. توجَد بقَع البيض على سطح الجزء الظهري للكتف، وعظام العضد، وعظام الذراع الأمامية. ولكنك أظهرتَ هنا ستةً من عظام اليد: عظام المشط، عظام العَجُز، وثلاث سُلاميات؛ وجميعها بها بقع بيض على سطح راحة اليد. لذلك كان كفُّ اليد موضوعًا بحيث يتَّجِه لأعلى.»
«ربما كانت اليد تُعاني من الكَب.»
«إذا كنت تقصد الكَب بخصوص الذراع، فهذا مُستحيل، لأن موضع بُقع البيض يُظهر بوضوح أن عظام الذراع كانت في وضع البسط. وبالتالي فإن السطح الظهري للذراع والسطح الراحي لليد على التوالي موجه لأعلى، وهو أمر يستحيل تشريحيًّا طالما أن اليد مُتصلة بالذراع.»
«ولكن ألا يمكن أن تكون اليد قد انفصلت بعد إلقائها بالبركة ببعض الوقت؟»
«لا. لا يمكن فصلها حتى تتحلل الأربطة، وإذا تم فصلها بعد تحلُّل الأجزاء الرخوة، فإن العظام كانت ستتفتت. لكن بقع البيض كلها على سطح راحة الكف، مما يدلُّ على أن العظام كانت لا تزال في مواضعها الطبيعية النسبية. لا، يا بيركلي، لقد أُلقِيت تلك اليد في البركة بشكلٍ مُنفصلٍ عن الذراع.»
فسألته: «ولكن لماذا يجب أن يكون الأمر كذلك؟»
«آه، هناك مشكلة صغيرة جدًّا عليك وضعها في الاعتبار. وفي الوقت نفسه، اسمح لي أن أُخبرك بأن رحلتك الاستكشافية قد حقَّقت نجاحًا باهرًا. أنت مُراقب ممتاز. خطؤك الوحيد هو أنك عندما تدوِّن بعض الحقائق لا يبدو أنك تُقدِّر أهميتها تمامًا، وهي مجرد مسألة قلة خبرة. أما بالنسبة للحقائق التي جمعتها، فللعديد منها أهمية قصوى.»
قلت: «أنا سعيد لأنك راضٍ، على الرغم من أنني لا أرى أنني قد اكتشفتُ الكثير باستثناء بَيض هذا الحلزون؛ ولا يبدو أنه أحدث تقدمًا كبيرًا في الأمور.»
«الحقيقة المؤكدة، يا بيركلي، هي شيء ثمين مُحدد. ربما نجد حاليًّا جزءًا صغيرًا من الأُحجية المعقدة يتناسب مع حقيقة اليد المبتورة. ولكن، أخبرني، ألم تجد شيئًا غير مُتوقَّع أو مثيرًا بشأن هذه العظام؛ من حيث عددها وحالتها، على سبيل المثال؟»
«حسنًا، رأيتُ أنه من الغريب بعض الشيء العثور على لوح الكتف والترقوة. حريٌّ بي أن أتوقع منه بتر الذراع من عند مِفصل الكتف.»
قال ثورندايك: «نعم. وكذلك كان حريٌّ بي توقُّع الشيء نفسه؛ فهذا ما تمَّ في كل حالات البتر التي أعرفها. بالنسبة لشخصٍ عادي، يبدو أن الذراع تتصل بالجذع عند مفصل الكتف، وهذا هو المكان الذي سيبتره منه بشكلٍ طبيعي. فما هو التفسير الذي تُرجِّحه لهذا الوضع غير المعتاد لبتر الذراع؟»
سألته وأنا أتذكَّر ملاحظة دكتور سمرز: «هل تعتقد أن الجاني ربما يكون جزَّارًا؟ فهذه هي الطريقة التي يتم بها نزع كتف الضأن.»
فأجابني ثورندايك قائلًا: «لا. فالجزَّار يترك عظام اللوح مع الكتف من لحم الضأن لغرَض مُحدد، ألا وهو نزع كمية مُعينة من اللحم. وذلك أيضًا، لأن الخروف ليس لديه ترقوة، فهي أسهل طريقةٍ لفصل الأطراف. ولكن أعتقد أن الجزَّار سيجد نفسه يواجه صعوباتٍ إذا حاول بتر ذراع إنسانٍ بهذه الطريقة. ستكون الترقوة سمةً جديدة وذات طبيعة مُحيرة بالنسبة إليه. هذا إلى جانب أن الجزَّار لا يتعامل بلُطف شديد مع ما يقوم بتقطيعه؛ فإذا أراد أن يُقسِّم مفصلًا، فإنه يقطعه فحسْب ولن يكلف نفسه عناء تجنب ترك أي علاماتٍ على العظام. لكنك تلاحظ هنا أنه لا يُوجَد خدش أو جرح واحد على أيٍّ من العظام، ولا حتى مكان بتر الإصبع. الآن، إذا كنت قد أعددت عظامًا لمتحفٍ من قبل، كما فعلتُ أنا، فسوف تتذكَّر العناية القصوى اللازمة لفكِّ المفاصل لتجنُّب تشويه الأطراف المفصلية للعظام بالجروح والخدوش.»
«إذن، هل تعتقد أن الشخص الذي بتر أعضاء هذه الجثة لا بدَّ أن لديه بعض المعرفة والمهارة التشريحية؟»
«هذا ما اقتُرِح بالفعل. لم يكن اقتراحي.»
«إذن، أستنتج من ذلك أنك لا توافق على هذا الرأي؟»
ابتسم ثورندايك، ثم قال: «يؤسفني أن أكون غامضًا جدًّا، بيركلي، لكنك تفهم أنني لا أستطيع الإدلاء بتصريحات. ومع ذلك، أحاول أن أقودك إلى استخلاص استنتاجاتٍ مُعينة من الحقائق التي لديك.»
فسألته: «إذا قمتُ بالاستنتاجات الصحيحة، فهل ستُخبرني؟»
أجابني بنفس الابتسامة الهادئة: «لن يكون ذلك ضروريًّا؛ فعندما تضع أجزاء الأحجية معًا، فلن تحتاج إلى أحدٍ ليخبرك أنك فعلت ذلك.»
كان الأمر مُثيرًا للغاية. فكرتُ في المشكلة على نحوٍ شديد العبوس، الأمر الذي أضحك ثورندايك على الفور.
قلتُ باستفاضة: «يبدو لي أن هوية الرفات هي السؤال الأساسي وهي مسألة حقيقية. لا يبدو أن هناك فائدة من التخمين بشأنها.»
«بالضبط. إما أن هذه العظام هي رفات جون بيلينجهام أو أنها ليست كذلك. لن يكون هناك شك في هذا الموضوع عندما يتم تجميع العظام كلها — إن وُجِدت. ومن المُحتمل أن تُلقي تسوية هذه المسألة الضوء على سؤالٍ إضافي: من الذي دفنها في الأماكن التي وُجِدت فيها؟ ولكن بالعودة إلى ملاحظاتك، ألم تفهم أي شيء من حالة العظام الأخرى؟ من الحالة الكاملة لفقرات العنق مثلًا؟»
«حسنًا، رأيتُ أنه من الغريب جدًّا أن يتكبد شخص عناء فصل الفقرة الحاملة (الأطلسية) عن الجمجمة. لا بدَّ أنه كان ماهرًا جدًّا في استخدام المشرط ليقوم بذلك بطريقةٍ نظيفة كما فعل؛ ولكن لا أفهم لماذا كان يجب عليه أن يُنجز المهمة بأكثر الطرُق إزعاجًا.»
«إذن، فقد لاحظتَ اتِّساق الطريقة. لقد فصل الرأس عن العمود الفقري، بدلًا من قطع العمود الفقري على طول امتداده إلى أسفل، كما قد يفعل مُعظم الأشخاص؛ لقد نزع الذراعين بحزام الكتف بالكامل، بدلًا من بترها ببساطة من مفصل الكتف. حتى في الفخذين تظهر نفس السمة الخاصة؛ لأنه في أيٍّ من الحالتين لم يُعثَر على رضفة الركبة مع عظم الفخذ، على الرغم من أنه بُحِث عنها. الآن الطريقة الواضحة لتقسيم الساق هي قطع الرباط الرضفي، تاركًا رضفة الركبة مُتصلة بالفخذ. ولكن في هذه الحالة، يبدو أن رضفة الركبة قد تُركت مُتصلة بالساق. هل يمكنك توضيح سبب اعتماد هذا الشخص لهذه الطريقة غير العادية والشاقة إلى حدٍّ ما؟ هل يمكنك اقتراح دافع لهذا الإجراء، أم يمكنك التفكير في أي ظروفٍ قد تدفع الشخص إلى تفضيل اتباع هذه الطريقة؟»
«يبدو كما لو أنه أراد، لسببٍ ما، تقطيع الجسم إلى مناطق تشريحية مُحددة.»
ضحك ثورندايك ثم قال: «أنت لا تقدِّم هذا الاقتراح كتفسير، أليس كذلك؟ لأنه سيتطلب شرحًا أكثر من المشكلة الأصلية. وهذا حتى ليس صحيحًا. من الناحية التشريحية، فإن رضفة الركبة مُتصلة بالفخذ، لا الساق. إنه عظم سمسماني ينتمي إلى عضلات الفخذ؛ ومع ذلك، فقد تُرِكَ متصلًا بالساق على ما يبدو في هذه الحالة. لا، يا بيركلي، هذه الفكرة مُستحيلة. لم يكن الجرَّاح المجهول يُعدُّ هيكلًا عظميًّا كعينةٍ للمتحف؛ بل كان يُقطع جسدًا إلى أجزاء ذات أحجامٍ مناسبة بغرَض نقلها إلى بِرَك مُختلفة. والآن، ما الظروف التي ربما دفعته إلى تقطيعها بهذه الطريقة الغريبة؟»
«يؤسفني أنه ليس لديَّ أي اقتراح لأقدمه. هل لديك؟»
دخل ثورندايك فجأةً في حالة من الغموض، ثم قال: «أعتقد أنه من الممكن تصور مثل هذه الظروف، ويمكنك أنت كذلك، على الأرجح، إذا أعدتَ التفكير في الأمر.»
فسألته: «هل استنتجتَ أي شيء مُهم من الدلائل المقدمة في التحقيق؟»
أجابني: «من الصعب الجزم بذلك. ولكن تستند جميع استنتاجاتي في هذه القضية إلى ما يُعد فعليًّا دليلًا ظرفيًّا. ليس لديَّ حقيقة واحدة يُمكنني القول بأنها لا تقبل غير تفسير واحد. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أنه حتى أكثر الحقائق غير الحاسمة، إذا تضاعفت بشكل كافٍ، فسوف تؤدي إلى نتيجة حاسمة للغاية. وكومة الأدلة الصغيرة الخاصة بي تزداد، دليلًا تلوَ الآخر؛ لكن يجب ألا نجلس هنا نتحدَّث في هذه الساعة من اليوم؛ يجب أن أتشاور مع مارشمونت وأنت تقول إنَّ لديك موعدًا في وقتٍ مُبكر بعد الظهيرة. يُمكننا السير معًا حتى شارع فليت.»
بعد دقيقةٍ أو دقيقتين، ذهب كلٌّ منَّا في طريقه، فذهب ثورندايك نحو شارع لومبارد وأنا إلى حارة فيتر، مُدركَين تمامًا لتلك الأحداث القادمة التي يكتنفها الغموض المُثير.
كانت هناك رسالة واحدة فقط بانتظاري، وعندما أحضرها أدولفوس (وسط أبخرةٍ نتنة تصاعدت من الطابق السُّفلي، مُنذرة بوجود سمك موسى المقلي)، وضعت سماعة الطبيب في جيبي وانطلقتُ إلى زقاق جَنباودر، حيث يوجد المسكن الأرستقراطي لمريضي، لأشقَّ طريقي ببهجةٍ وسط الطرق المألوفة في ميدان جوف، مُتأمِّلًا بسرور الحسَّ الأدبي المُثير الذي يسود هذه المناطق المجهولة. حيث يبدو أن شبح مؤلف رواية راسيلاس لا يزال يطارد مشاهد أعماله الهائلة بمرح صاخبٍ ولكنه عفوي في الوقت نفسه. وكل شارع وكل حارة تهمس بالكتب وتأليف الكتب؛ أشكال الحروف المطبوعة، عربات يدفعها صبية ملطخون بالحبر، تُحيي المارة عند المنعطفات الغريبة؛ أكوام من ألواح القش، أو لفَّات أو بالات من الورق، أو براميل حبر الطباعة أو بكرات الطباعة، تقف على الرصيف خارج المداخل المُظلمة؛ نوافذ الطابق السُّفلي تُعطي لمحات عن كهوف هادين المُستأجرة من قبل جحافل من فطاحلة الطباعة؛ والهواء مشحون بأزيز المكبس ورائحة الصمغ والمعجون والزيت. الحي بأكمله يعمل في نشاط الطباعة والتجليد؛ وحتى مريضي اتَّضح أنه يعمل في شحذ آلة قصِّ وتشذيب الورق ذات المقصلة — مهنة قاسية وجامحة تتعارَض بشكل غريب مع مظهره غير المؤذي وسمته الوديع.
لقد قضيت وقتًا جيدًا في مكان زيارتي، على الرغم من العوائق التي يواجهها سمك موسى المقلي وعمَّال شحذ آلات القص والتشذيب غير الصالحين؛ لكن، لأنَّ الوقت كان مُبكرًا، كانت الآنسة بيلينجهام تنتظر بالفعل في الحديقة — كانت تملأ وعاءً بالورود — استعدادًا للخروج.
فقالت، بينما كنَّا نتجه نحو حارة فيتر، «تمامًا مثلما اعتدنا في الماضي، لنذهب إلى المتحف معًا. هذا يُذكرني بألواح تلِّ العمارنة وكل لفتاتك اللطيفة والإيثارية. أعتقد أننا سنتمشَّى إلى هناك اليوم؟»
أجبتها: «بالتأكيد. لن أشارك رفقتك مع البشر العاديين الذين يركبون الحافلات العامة. سيكون ذلك مجرد إهدار خاطئ للفرصة. علاوة على ذلك، من الأفضل أن نمشي.»
«نعم، إنه كذلك؛ وصخب الشوارع يجعل المرء أكثر تقديرًا لهدوء المتحف. ما الذي سنشاهده عندما نصل إلى هناك؟»
أجبتها: «يجب أن تُقرِّري أنتِ ذلك. فأنتِ تعرفين مجموعة المُقتنيات أفضل بكثيرٍ مما أعرف.»
تأمَّلتْ قليلًا ثم قالت: «حسنًا، إذن، أتساءل ما الذي ترغب في رؤيته؛ أو بعبارة أخرى، ما الذي أرغب في أن تراه. الفخار الإنجليزي القديم رائع إلى حدٍّ ما، خاصة أدوات فولهام. أعتقد أنني أُفضل أن أصحبك لترى ذلك.»
فكَّرَت بعض الوقت، وبعد ذلك، بمجرد وصولنا إلى بوابة حانة ستابل، توقَفَتْ ونظرَتْ بعناية في طريق جرايز إن.
«لقد اهتممتَ كثيرًا ﺑ «قضيتنا» كما يُسميها الدكتور ثورندايك. هل ترغب في رؤية فناء الكنيسة حيث تمنَّى العم جون أن يُدفن؟ إنه بعيد قليلًا عن طريقنا، لكننا لسنا في عجلةٍ من أمرنا، أليس كذلك؟»
بالتأكيد، لم أكن على عجلةٍ من أمري. فأي حياد عن المسار قد يُطيل مسيرتنا مُرَحَّب به، وفيما يتعلق بالمكان، يا إلهي، كانت كل الأماكن سيان بالنسبة إليَّ لو كانت هي بجانبي فقط. إلى جانب ذلك، كانت فكرة رؤية فناء الكنيسة حقًّا موضع اهتمام، لأنه كان بلا شك السبب المُثير للفقرة الثانية المزعجة من الوصية. وفقًا لذلك، أعربتُ عن رغبتي في زيارتها، وعبرنا إلى مدخل طريق جرايز إن.
سألتني بينما نترك خلفنا الطريق القذر: «هل حاولتَ يومًا أن تتخيل أماكن مألوفة كيف كانت تبدو قبل بضع مئاتٍ من السنين؟»
أجبتها: «نعم، ووجدت ذلك صعبًا للغاية. على المرء أن يصنع المواد اللازمة لإعادة الإعمار، ومِن ثَم سيظل الجانب الحالي من المكان يفرض نفسه. لكن بعض الأماكن أسهل في إعادة إنشائها أكثر من غيرها.»
قالت: «هذا ما اكتشفته، الآن، على سبيل المثال، من السهل جدًّا إعادة بناء هولبورن، على الرغم من أنني أجرؤ على القول بأن الشكل التخيُّلي لا يُشبه إلى حدٍّ ما الشكل الأصلي. ولكن هناك أجزاء مُتبقية، مثل ستابل إن والجزء الأمامي من جرايز إن؛ وبعد ذلك يُمكننا رؤية مطبوعات من العصر الأوسط القديم وبعض الحانات، بحيث يكون لدى المرء بعض المواد التي تساعد في تخيُّله. ولكن هذا الطريق الذي نسير فيه دائمًا يُحيرني. يبدو قديمًا جدًّا ومع ذلك، فإن أغلبه جديد لدرجة أنني أجد أنه من المُستحيل تكوين صورةٍ مُرضية عن مظهره، على سبيل المثال، عندما كان السير روجر دي كوفرلي يتجوَّل في طريق جرايز إن، أو أبعد من ذلك، عندما كان فرانسيس بيكون لديه شقة في المكان.»
قلت: «أتخيل أن هذا الجزء من الصعوبة يكمُن في الطابع المختلط للحي. هنا من ناحية، أعتقد أن هناك جرايز إن القديم، الذي لم يتغير كثيرًا منذ عصر بيكون؛ فلا تزال شقته موجودة ومتاحة للزيارة، وهناك عند البوابة؛ على جانب كليركينويل، يُوجَد حي كثيف وقذر إلى حدٍّ ما تأسَّس في منطقةٍ ريفية جزئيًّا بسِمات مُتسرِّبة تمامًا من هذا العصر. وأماكن مثل «باجنجي ويلز» و«هوكلي في هول» لم يكن بها الكثير من المباني التي كان من المُحتمل أن تبقى صامدة؛ وفي غياب النماذج الباقية، لن يكون هناك مجال كبير للخيال.»
قالت: «أنا أجرؤ على القول إنك على حق. من المؤكد أن ضاحية كليركينويل القديمة تقدم صورة مشوشة للغاية بالنسبة لي؛ بينما في حالة شارع قديم مثل شارع جريت أورموند على سبيل المثال، يتعين على المرء فقط أن يجرف المباني الحديثة ويستعيض عنها بالمنازل القديمة الرائعة مثل القلة المتبقية، حفر الطريق والأرصفة ووضع أحجار مرصوفة، ووضع بعض الأعمدة الخشبية، وتعليق مصباح أو مصباحين من الزيت، ويكتمل التحوُّل. وهو تحوُّل رائع للغاية.»
«رائع للغاية، وهو بالمناسبة، فكرة مُحزنة، لأننا يجب أن نقوم بعمل أفضل من أسلافنا؛ في حين أن ما نقوم به في الواقع هو هدم المباني القديمة، وتكسير المداخل، والأروقة، والألواح، والأرفف في متاحفنا، ثم نضع مكانها شيئًا رخيصًا ومفيدًا وغير مُثير على الإطلاق.»
نظرتْ رفيقتي إليَّ وضحكت بهدوء، ثم قالت: «بالنسبة لشاب مُبتهج بطبيعته ومسرور دائمًا، فأنت مُتشائم للغاية. ويبدو أن عباءة إرميا الباكي — إذا كان قد ارتدى واحدة — قد سقطت عليك، ولكن دون الإضرار بروحك الطيبة على الأقل فيما يخصُّ الأمور المعمارية.»
فقلت: «لديَّ الكثير لأكون ممتنًّا له، ألا تصحبني سيدة جميلة إلى المتحف؟ ألن تُبقيَني مع صناديق المومياوات وتريحني بالأواني الفخارية؟»
صحَّحتْ قولي قائلة: «أواني الفخار». ثم عندما التقينا مجموعة من النساء الجميلات يخرُجن من شارع جانبي، قالت: «أعتقد أن هؤلاء طالبات كلية الطب.»
«نعم، وهن في طريقهن إلى مستشفى رويال فري. لاحظي رزانة سلوكهن الجاد وقارني بينه وبين رعونة الطلاب الذكور.»
أجابتني قائلة: «كنتُ أفعل ذلك، وأتساءل لماذا عادة ما تكون النساء العاملات أكثر جدية من الرجال.»
اقترحتُ قائلًا: «ربما، إنها مسألة اختيار. نوع خاص من النساء ينجذب إلى المِهن، في حين أن على كل رجلٍ أن يكسب رزقه بطبيعة الحال.»
«نعم، أجرؤ على القول بأن هذا هو التفسير. هذا هو ما تحوَّلنا إليه.»
مررْنا بشارع هيثكوت، وفي نهايته كانت هناك بوابة مفتوحة تعطي مدخلًا إلى أحد المقابر المهجورة والمتغيرة التي ستلاقيها في بعض الأحياء القديمة في لندن؛ حيث ينزوي الموتى المحرومون في الزوايا لإفساح المجال للأحياء. كان العديد من شواهد القبور لا يزال قائمًا، والبعض الآخر، الذي تم تهجيره لإفساح المجال للمشي والمقاعد الإسفلتية، يتراكم حول الجدران التي تُظهِر نقوشًا أصبحت بلا معنًى بسبب إزالتها. لقد كان مكانًا ممتعًا بدرجة كافية بعد ظهر هذا اليوم الصيفي، على عكس الشوارع الضيقة التي أتينا منها، على الرغم من أن حشائشها كانت باهتة وصفراء مع اختلاط صوت تغريد الطيور على الأشجار مع أصوات الأطفال في المدرسة الداخلية البشعة، الذين كانوا يلعبون حول المقاعد والمقابر القليلة المُتبقية.
قلت: «لذلك هذا هو آخر مكان للراحة لآل بيلينجهام.»
«نعم؛ ولسنا الأشخاص المميزين الوحيدين الذين يستريحون في هذا المكان. دُفنت هنا ابنة شخص لا يقلُّ عن ريتشارد كرومويل؛ القبر لا يزال قائمًا، لكن ربما كنتَ هنا من قبل وتعرف ذلك.»
«لا أعتقد أنني جئتُ إلى هنا من قبل؛ ومع ذلك هناك شيء ما في المكان يبدو مألوفًا.» نظرتُ حولي، وأخذت أعتصر ذهني بحثًا عن مفتاح للأحاسيس الخافتة التي أثارها المكان؛ حتى، فجأة، رأيتُ مجموعة من المباني البعيدة ناحية الغرب، مُحاطة بجدار تعلوه تعريشة خشبية.
ثم صحت قائلًا: «نعم بالطبع! أذكر المكان الآن. لم أذهب إلى هذا الجزء من قبل، ولكن داخل هذا السياج الذي يليه، والذي يفتح في نهاية شارع هنريتا، كانت هناك وربما لا تزال، على حدِّ علمي، مدرسة التشريح، التي حضرتُ فيها في سنتي الأولى؛ في الواقع، أجريتُ أول تشريح لي هناك.»
قالت الآنسة بيلينجهام: «كان هناك نوع من الملاءمة المُرعبة في موقع المدرسة. كان من الممكن أن يكون الأمر مريحًا حقًّا في أيام سارقي الجُثث. كان من الممكن أن تصل المواد خاصتك إلى باب منزلك. هل كانت مدرسة كبيرة؟»
«كان الحضور مُتنوعًا وفقًا للوقت من العام. أحيانًا كنتُ أعمل هناك بمفردي تمامًا. كنت أسمح لنفسي بالدخول بمفتاح ورفع الجثة التي أعمل عليها من نوعٍ من خزان الجثث عن طريق سلسلة رافعة. لقد كان عملًا بشعًا. ليس لديكِ فكرة عن مدى فظاعة الجسد الذي كنت أنظر إليه بعينيَّ غير المعتادة على ذلك، حيث إنه يرتفع ببطء من الخزان. كان مثل مشهد القيامة الذي نشاهده على بعض شواهد القبور القديمة، حيث يظهر الميت وهو يرتفع من التابوت بينما يسقط الهيكل العظمي، مهزومًا بسهمِه المحطم وانهيار تاجِه.
أتذكَّر أيضًا أن الذي كان يقوم بعرض الجثث كان يرتدي مئزرًا أزرق، مما خلق نوعًا من الانطباع عن دكان جزَّار آكلي لحوم البشر. لكنني أخشى أن أصدمك.»
«لا، أنت لا تصدمني. فكل مهنة لها جوانبها غير اللائقة، والتي يجب ألا يراها الدُّخلاء. فكِّر في استوديو النحات، والنحَّات نفسه عندما يقوم بعمل نموذج شخصية كبيرة أو مجموعة شخصيات من الطين. فإذا حكمتَ عليه من مظهره فقد تعتقد أنه عامل بناء أو عامل تنظيف الطرق. هذا هو القبر الذي كنتُ أخبرك عنه.»
توقفنا أمام شاهد القبر الحجري البسيط، الذي تعرَّض للتقلبات الجوية وأبلاه الدهر، ولكنه ظل في حالة جيدة بسبب أيادي بعض الأشخاص الورعين، وقرأنا النقش، مُشيرًا بفخر متواضع، إلى أن آنا، الابنة السادسة لريتشارد كرومويل، «الوصية» ترقد هنا. لقد كان نصبًا بسيطًا ومألوفًا بدرجة كافية، مع قسوة العصر الزاهد الذي ينتمي إليه. لكنه مع ذلك، أعاد الذهن إلى تلك الأوقات المُثيرة التي كان لا بدَّ من أن أشباح حارة «جرايز إن» قد تردَّدت مع قعقعة الأسلحة والرجال المسلحين؛ عندما كانت ساحة الاستراحة الجرداء هذه عبارة عن فناء ريفي للكنيسة، يقف وسط الحقول الخضراء والأسيجة، وكان المواطنون الذين يقودون خيولهم إلى لندن عبر الطريق يتوقفون للنظر في البوابة الخشبية.
نظرت الآنسة بيلينجهام إليَّ بعمق وأنا أقف مُفكرًا، وعلقت قائلة: «أعتقد أنك وأنا لدينا العديد من العادات الذهنية المشتركة.»
نظرتُ مستفسرًا، وتابعَتْ هي: «لقد لاحظتُ أن شاهدًا قديمًا يبدو وكأنه يجعلك تتأمل. وهذا هو ما يفعله بي أيضًا. فعندما أنظر إلى نصبٍ تذكاري قديم، وخاصة شاهد القبر القديم، أجد نفسي تقريبًا دون وعي أتتبَّع السنوات لأصل إلى التاريخ المكتوب على الحجر. لماذا تعتقد ذلك؟ لماذا يجب أن يكون النصب مُحفزًا للخيال؟ ولماذا يجب أن يكون شاهد القبر المشترك أكثر من أي شيءٍ آخر؟»
أجبتُ متأملًا: «أفترض أن النصب التذكاري لساحة الكنيسة هو شيء شخصي غريب، ويتعلق بطريقة غريبة بعصر مُعين. والظروف التي لم تمسَسْها السنوات الماضية بينما تغير كل شيءٍ حوله، هي ما تساعد الخيال على تغطية هذا الفاصل الزمني. كما أن شاهد القبر المشترك، النصب التذكاري لبعض المُزارعين أو العمال الذين ماتوا وذهبوا والذين عاشوا وماتوا في القرية القريبة، لا يزال أكثر حميميةً وإيحاءً. المنحوتات الطفولية الريفية لبنَّائي القرية والشِّعر الركيك لمدير مدرسة القرية يُعيدان الزمان والمكان وظروف الحياة بشكل أكثر زهوًا ووضوحًا من النقوش الأكثر علمية والإثراء الفني للآثار ذات المزاعم الأكبر. ولكن أين شواهد قبور عائلتك؟»
«إنها هناك في تلك الزاوية البعيدة. هناك شخص ذكي، ولكن في غير محله، يبدو أنه ينسخ المرثيات. أتمنى أن يرحل. أريد أن أريها لك.»
لاحظتُ الآن، ولأول مرة، أن هناك شخصًا يتعامل مع دفتر ملاحظاتٍ في يده، في إجراء مسح دقيق لمجموعة من شواهد القبور القديمة. من الواضح أنه كان يصنع نسخة من النقوش، لأنه لم يكن يدقق باهتمام في الكتابة على وجه الحجَر فحسب، بل كان يساعد نفسه مرارًا وتكرارًا على رؤيتها من خلال تمرير أصابعه على الحروف البالية.
قالت الآنسة بيلينجهام: «هذا هو شاهد قبر جدي الذي ينسخه الآن.» وبينما كانت تتحدث، استدار الرجل وألقى نظرةً فاحصة علينا بعينَين حادَّتَين مُتحمستين.
ثم بدا الاندهاش جليًا على وجوهنا في الوقت نفسه، إذ إن المحقق كان السيد جيليكو!