وداعًا، أرتيميدورس!
من المستحيل أن نعرف ما إذا كان قد تفاجأ السيد جيليكو برؤيتنا أم لا. فكان استغلال ملامحه (التي تخدم الأغراض العادية للوجه، من حيث احتوائها على الأعضاء الرئيسية ذات الحواس الخاصة، بالإضافة إلى مداخل إلى الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي)، كوسيلة للتعبير عن المشاعر، باء بالفشل التام. وبالنسبة لقارئ الأفكار، ربما تكون مُفيدة بنفس قدر إفادة منحوتة وجهٍ على مقبض المظلة؛ ولعلها مقارنة يقترحها قدْر معين من التشابه مع مثل هذا الشيء. فتقدَّم، مُمسكًا دفتر ملاحظاته وقلَمِه، وبعد أن حيَّانا بانحناءة مُتيبسة وقبعة قديمة مزخرفة، صافحَنا وانتظرَنا حتى نتحدَّث.
قالت الآنسة بيلينجهام: «يا له من لقاء سعيد غير متوقع، سيد جيليكو.»
فأجابها: «يسرُّني جدًّا أن تقولي ذلك.»
«ويا لها من صدفة؛ أن نأتي جميعًا إلى هنا في اليوم نفسه.»
فأكد قائلًا: «بالتأكيد صدفة، وإذا تصادف أننا لم نحضر جميعًا — وهو ما يحدُث كثيرًا — فهذه أيضًا ستكون صدفة.»
فقالت: «أعتقد ذلك، ولكني آمُل ألَّا نكون قد قاطعناك.»
«أشكركِ، كلَّا. لقد انتهيتُ لتوِّي عندما أسعدني الحظ بلقائكما.»
فقلت: «أعتقد أنك كنتَ تدوِّن بعض الملاحظات عن القضية.» لقد كان ذلك سؤالًا وجيهًا، طُرح بخبثٍ من أجل مجرد متعة سماعه يتهرَّب منه.
فقال مُكررًا: «القضية؟ ربما تُشير إلى قضية آل ستيفن ضد مجلس الأبرشية؟»
قالت الآنسة بيلينجهام بحدة شديدة، رغم ظهور ابتسامة مُريبة وخافتة على زوايا فمها: «أعتقد أن دكتور بيركلي كان يُشير إلى قضية وصية عمي.»
قال السيد جيليكو: «حقًّا، هناك قضية، هل تُوجَد دعوى؟»
«أقصد الإجراءات التي أقامها السيد هيرست.»
«أوه، ولكن هذا كان مجرد التماسٍ إلى المحكمة، وعلاوة على ذلك، انتهى الأمر وقد فُرغ منه. على الأقل، كما فهمت. بالطبع، أنا أتحدَّث وكلامي خاضع للتصويب؛ فأنا لا أمثل السيد هيرست، كما يسعدكما أن تتذكَّرا.» ثم تابع، بعد فترة توقف قصيرة قائلًا: «في واقع الأمر، لقد كنتُ فقط أنعش ذاكرتي فيما يتعلق بصياغة النقوش على هذه الأحجار، ولا سيما تلك الخاصة بجدك، فرانسيس بيلينجهام. خطر لي أنه إذا تبيَّن من خلال إثبات هيئة المُحلفين أن عمك قد تُوفي، فسيكون من اللائق والرائع أن يتم وضع نصبٍ تذكاري هنا. ولكن، نظرًا لأن المقبرة مُغلقة، فقد يكون هناك بعض الصعوبة بشأن بناء نصب تذكاري جديد، في حين أنه لا يُوجَد مشكلة على الأرجح في إضافة نقشٍ إلى نصبٍ موجود بالفعل. ومن هنا جاءت هذه الفحوصات. لأنه إذا كانت النقوش على حجر جدك قد نصَّت على أن «هنا يرقد جسد فرانسيس بيلينجهام.» فمن الواضح أنه من غير المناسب إضافة «وأيضًا جون بيلينجهام، ابن المذكور أعلاه.» لحُسن الحظ، تمَّت صياغة النقش بشكلٍ أكثر تكتمًا، حيث سجل فقط حقيقة أن هذا النصب «مُخصَّص لذكرى فرانسيس المذكور»، ولا يلزم نفسه بمكان وجود الرفات. لكن ربما أكون أنا من قاطعكما.»
أجابت الآنسة بيلينجهام: «كلَّا، على الإطلاق. لقد كنَّا في طريقنا إلى المتحف البريطاني وجئنا إلى هنا في طريقنا إليه.» (ولكن ذلك لم يكن حقيقيًّا على الإطلاق، حيث إنه كان يُقاطعني بشكلٍ لا يُحتمل).
فقال السيد جيليكو: «أها، ويتصادف الآن أيضًا أنني ذاهب إلى المتحف البريطاني للقاء الدكتور نوربيري. أفترض أن تلك صدفة أخرى؟»
أجابته الآنسة بيلينجهام: «بالتأكيد هي كذلك.» ثم سألته: «هل سنسير معًا؟» وأجابها العجوز المُتحفظ بما أثار ضيقي: «أجل.»
عدنا إلى طريق جرايز إن، حيث كان هناك الآن مُتسع لنا للمشي جنبًا إلى جنب، شرعتُ في تعويض نفسي عن رفقة المحامي غير المُرحَّب بها من خلال إعادة المحادثة إلى موضوع الرجل المفقود.
«سيد جيليكو، هل كان هناك أي شيء في الحالة الصحية للسيد جون بيلينجهام يُرجِّح أنه قد يموت فجأة؟»
نظر لي المحامي في ريبة للحظات ثم علق قائلًا:
«يبدو أنك مُهتم كثيرًا بجون بيلينجهام وشئونه.»
«أنا كذلك فعلًا. فأصدقائي قلقون للغاية بشأنه، والقضية نفسها هي أكثر من مجرد مصلحةٍ مشتركة من وجهة نظر مهنية.»
«وما المغزى من هذا السؤال بالذات؟»
فقلت: «إنه واضح بالتأكيد. فإذا كان من المعروف أن رجلًا مفقودًا قد عانى من علةٍ ما، مثل أمراض القلب، أو تمدد الأوعية الدموية، أو انسداد الشرايين، والتي يحتمل أن تؤدي إلى موتٍ مفاجئ، فستكون هذه الحقيقة بالتأكيد مهمة للغاية للإجابة عن السؤال حول ما إذا كان على الأرجح ميتًا أو ما زال على قيد الحياة.»
قال السيد جيليكو: «لا شكَّ أنك على حق. لديَّ بعض المعلومات الطبية البسيطة، ولكن لا شك أنك مُحق. وبالنسبة للسؤال نفسه، فإنني محامي السيد بيلينجهام ولستُ طبيبه. وبالتالي فإن حالته الصحية ليست من اختصاصي. ولكنك سمعتَ شهادتي في المحكمة التي مفادها أن المُوصي بدا متمتعًا بصحة جيدة، حسب ملاحظتي غير المدروسة. وليس بإمكاني قول أي شيء آخر.»
قالت الآنسة بيلينجهام: «إذا كان السؤال على هذا القدر من الأهمية، فإنني أتساءل: لماذا لم يُستَدعى طبيبه لتحديد ذلك بوضوح. أما انطباعي فهو أنه كان رجلًا قويًّا يتمتع بصحة جيدة. وبالتأكيد قد شُفي سريعًا وبشكلٍ تام بعد الحادث.»
فسألتها: «أي حادثٍ تقصدين؟»
«أوه، ألم يُخبرك والدي؟ لقد وقع الحادث في أثناء إقامته معنا. انزلق من الرصيف وكُسِرت إحدى عظام كاحله الأيسر — كسر على اسم شخص ما.»
«كسر بوت؟»
«أجل، كان هذا هو الاسم، كسر بوت، وكُسرت عظام رضفة رُكبتيه كلتيهما أيضًا. كان على السير مورجان بينيت إجراء عملية جراحية، وإلا كان سيظل معوقًا مدى الحياة. كما هي الحال، كان على وشك ذلك في أسابيع قليلة، وبدا أنه لم يكن شيئًا سيئًا باستثناء ضعفٍ طفيف في الكاحل الأيسر.»
فسألتها: «هل كان يمكنه الصعود إلى الطابق العلوي؟»
«نعم، وكان يلعب الجولف ويركب الدراجة.»
«هل أنت متأكدة أنه قد كُسرت عظام رضفة كلتا الركبتين؟»
«بالتأكيد. أتذكر أنه قد قيل إنها إصابة غير شائعة، وأن السيد مورجان كان سعيدًا للغاية لأنه أجراها.»
«هذا يبدو تشهيرًا إلى حدٍّ ما؛ لكني أتوقع أنه كان سعيدًا بنتيجة العملية. قد يكون الأمر كذلك.»
في هذه اللحظة ساد الحديث فترة هدوء قصيرة، وحتى حين كنت أحاول التفكير في سؤالٍ مُحير للسيد جيليكو، انتهز الرجل الفرصة لتغيير الموضوع.
فسألنا: «هل ستذهبان إلى القاعات المصرية؟»
أجابت الآنسة بيلينجهام: «لا، سنذهب لمشاهدة أواني الفخار.»
«القديمة أم الحديثة؟»
«في الوقت الحالي فإن أواني فولهام هي اهتمامنا الرئيسي، وهي تعود إلى القرن السابع عشر. لا أعرف إن كنتَ تعتبر ذلك قديمًا أم حديثًا.»
قال السيد جيليكو «ولا أنا كذلك. فالقِدَم والحداثة هما مصطلحان ليس لهما دلالة ثابتة. فهما نسبيَّان بشكلٍ بحت ويجب تحديد تطبيقهما في حالة مُعينة بمقياس متدرج. بالنسبة إلى جامع الأثاث، يعتبر كرسي تيودور أو صندوق يعقوب قديمًا؛ أما بالنسبة لمهندسٍ معماري، فإنه يعتبر فترتهما حديثة، وبينما تُعد كنيسة القرن الحادي عشر قديمة؛ لكن بالنسبة لعالِم المصريات، الذي اعتاد على بقايا العصور القديمة المتنوِّعة، فكِلاهما نتاج عصور حديثة يفصلها فترات زمنية ضئيلة.» ثم أضاف وهو يفكر في الأمر: «وأنا أرجح أنه بالنسبة للجيولوجي، فإن آثار الفجر المبكر جدًّا للتاريخ البشري تتعلق فقط بالفترة الأخيرة. إن مفهوم الوقت، مثل جميع المفاهيم الأخرى، نسبي.»
قلت له: «يبدو أنك تلميذ هربرت سبنسر.»
أجاب مُعترضًا: «أنا تلميذ آرثر جيليكو يا سيدي.» وأنا صدَّقته.
بحلول الوقت الذي وصلْنا فيه إلى المتحف، أصبح لطيفًا إلى حدٍّ كبير؛ وإن كان أقل إمتاعًا في هذا الإطار، فقد كان أكثر إفادةً وتسلية لدرجةٍ جعلتني أمتنع عن مضايقته، وسمحتُ له بمناقشة موضوعه المُفضَّل دون عوائق، خاصة أن رفيقتي استمعت إليه باهتمام كبير. ولم يتنازل عن الاستحواذ على اهتمامنا عندما دخلنا القاعة الكبرى، وتبِعنا بخضوع، وهو يقطع الطريق مُتجاوزًا ثيران نينوى المُجنحة والتماثيل العظيمة الجالسة، حتى وجدنا أنفسنا تقريبًا دون أي إرادةٍ منَّا، في القاعة العلوية وسط صناديق المومياوات المبهرجة التي شهدت ولادة صداقتي مع روث بيلينجهام.
قال السيد جيليكو: «قبل أن أترككما، أودُّ أن أريكما تلك المومياء التي كنا نتناقش حولها في الليلة الماضية؛ تلك، كما تتذكَّرين، التي قدَّمها صديقي، جون بيلينجهام، إلى المتحف قبل اختفائه بقليل. النقطة التي ذكرتها ليست سوى نقطة تافهة، لكنها قد تُصبح موضع اهتمامٍ فيما بعد، إذا لاح في الأفق أي تفسير مقبول.» ثم قادنا على طول القاعة حتى وصلنا إلى الصندوق الذي يحتوي على هدية جون بيلينجهام، حيث توقف وحدَّق في المومياء بتأمُّلٍ حانٍ من خبير.
قال: «طلاء القار هو ما كنَّا نناقشه، يا آنسة بيلينجهام. بالتأكيد قد رأيتِ ذلك.»
أجابت «نعم. إنه تشويه مُروِّع، أليس كذلك؟»
«من الناحية الجمالية، يجب أن نشعر بالأسى، إلا أن ذلك يضيف فائدة تأمُّلية مُعينة للعينة. بالتأكيد لقد لاحظتِ أن الطلاء الأسود يترك الزخرفة الرئيسية والنقش كله على حالهما، وهو بالضبط الجزء الذي يتوقع المرء أن يتم تغطيته؛ في حين أن القدمين والظهر، اللذين ربما لا يحملان كتابة، مُتقشران بشدة. إذا انحنيتِ، يمكنك أن ترَي أن طبقة القار قد دُهِنت بحرية في الأربطة الخلفية، حيث لا تخدم أي غرض، لدرجة أن السلاسل مُضمنة.» ثم انحنى أثناء حديثه، وألقى نظرة فضوليَّة إلى مُؤخِّرة المومياء، حيث كان مرئيًّا بين الدعامات.
سألت الآنسة بيلينجهام: «هل لدى الدكتور نوربيري أي تفسير يقدمه؟»
أجابها السيد جيليكو: «لا شيء على الإطلاق، ومع ذلك فهو يرى الأمر على أنه لغز مُحير مثلي تمامًا. ولكنه يعتقد أننا قد نحصل على بعض المقترحات من المدير عند عودته. فكما تعلمان لديه سلطة كبيرة، كما أنه مُنقب ذو خبرة عظيمة أيضًا. ولكن يجب عليَّ ألَّا أظل أتحدث هنا عن مثل تلك الأمور وأمنعكما من رؤية أواني الفخار. ربما أكون قد أطلتُ البقاء بالفعل، فإذا كان الأمر كذلك فأنا أطلب المعذرة، وسوف أتمنى لكما الآن قضاء فترة ظهيرة ممتعة.» ثم صافحنا بيديه بشدة بعد أن عاد مرة أخرى إلى جموده الخشبي المعتاد، وتوجَّه نحو مكتب أمين المتحف.
قالت الآنسة بيلينجهام، بينما يختفي السيد جيليكو عبر الباب في نهاية القاعة: «يا له من رجل غريب. أو قد يمكنني القول كائن غريب، حيث من الصعب عليَّ التفكير فيه كإنسان. فلم أقابل من قبلُ أي إنسان مثله أبدًا.»
اتفقت معها قائلًا: «إنه بالتأكيد شخص عجوز غريب الأطوار وخطير.»
«نعم! ولكنْ هناك شيء أكثر من ذلك. إنه عديم التأثر تمامًا، بعيد جدًّا، فهو بعيد عن جميع الاهتمامات الدنيوية. إنه يتحرك بين الرجال والنساء العاديين، ولكن كمجرد شيء موجود، متفرج غير متأثر بأفعالهم، مُحايد تمامًا وموضوعي.»
«نعم؛ إنه مستقل بذاته بشكل مذهل؛ في الواقع، يبدو وكأنه، كما قلتِ، يروح ذهابًا وإيابًا بين الرجال، مُحاطًا بنوع من الهالة الشريرة الخاصة به، مثل شبح مارلي. لكنه يتَّسِم بالحيوية والإنسانية بما فيه الكفاية بمجرد التطرُّق إلى موضوع الآثار المصرية.»
«صحيح أنه حيوي، لكنه ليس بشريًّا. إنه دائمًا، بالنسبة لي، ليس إنسانًا على الإطلاق. حتى عندما يكون مُهتمًّا للغاية، ومتحمسًا، فهو مجرد تجسيد للمعرفة. كان يجب أن تزوده الطبيعة برأس منجل مثل تاهوتي؛ ثم كان سيبدو على ما هو عليه.»
قلت: «كان سيترك إحساسًا نادرًا في لينكولنز إن كان لديه.» ثم ضحك كِلانا بحرارة على الصورة الخيالية لتاهوتي جيليكو، ذي المنقار النحيف والمرتفع، وهو يمارس عمله في لينكولنز إن ومحاكم العدل الملكية.
اقتربنا من مومياء أرتيميدورس بينما نتحدَّث دون أن نشعُر، والآن توقفَتْ رفيقتي أمام الصندوق وعيناها الرماديتان اللتان تنحنيان حالِمتَين على الوجه الذي ينظر إلينا. شاهدتها بإعجاب شديد. كم بدتْ ساحرةً وهي تقف ووجهها اللطيف العابس الذي تحوَّل بجديةٍ إلى موضوع عاطفتها الغامضة! كم هو ليِّن ومفعم بالكرامة والجمال الأنثوي! وفجأة أدركتُ أن تغييرًا كبيرًا قد طرأ عليها منذ يوم لقائنا الأول. لقد بدت أصغر سنًّا وأكثر طفولة وأكثر رقة. ففي البداية كانت تبدو أكبر منِّي بكثير. امرأة حزينة الوجه، مُرهقة، جادة، غامضة، كئيبة إلى حدٍّ كبير، ذات روح دعابة مريرة وساخرة وباردة. أما الآن فهي رقيقة وحلوة. يشوبها بعض الجدية، هذا صحيح، لكنها صريحة وسخية ومحبوبة للغاية.
هل يعود هذا التغيير إلى صداقتنا؟ وبينما سألتُ نفسي هذا السؤال، كان قلبي يثِبُ من مكانه بأملٍ جديد. كنت أتوق إلى أن أُخبرها بما تعنيه لي، وكل ما كنتُ أتمناه أن يكون كل منَّا للآخر في السنوات المقبلة.
وأخيرًا تجرَّأتُ على اقتحام تأمُّلها.
«ما الذي تفكرين فيه بكل هذه الجدية، يا سيدتي الجميلة؟»
استدارت بسرعةٍ بابتسامة مُشرقة وعينين متلألئتين نظرَتا إليَّ مباشرة. ثم قالت: «كنتُ أتساءل إذا كان يشعر بالغيرة من صديقي الجديد. لكن يا لي من طفلة أتحدَّث بهذا الهراء!»
ثم ضحكتْ بهدوءٍ وسعادة بمسحةٍ جميلة من الخجل.
فسألتها: «ولماذا عليه أن يغار؟»
«حسنًا، كما ترى، من قبل أن نكونَ صديقين، كان قد استحوذ عليَّ بالكامل لنفسه. لم يكن لديَّ صديق من قبل — باستثناء والدي — ولم يكن لديَّ صديق مُقرب على الإطلاق. وكنت وحيدة جدًّا في تلك الأيام، بعد الأزمة التي حلَّت علينا. أنا بطبيعتي شخصية انعزالية، لكني ما زلتُ مجرد فتاة؛ أنا لست فيلسوفة. لذلك عندما شعرت بالوحدة الشديدة، كنتُ آتي إلى هنا وألقي نظرةً على أرتيميدورس وأعتقد أنه يعرف كل الحزن الذي يمرُّ بي في حياتي ويتعاطف معي. كان الأمر سخيفًا للغاية، أعلم ذلك، ولكن مع هذا، كان ذلك بمثابة راحةٍ حقيقية بالنسبة لي.»
«لم يكن الأمر سخيفًا منك على الإطلاق. لا بدَّ أنه كان رجلًا صالحًا، ورجلًا لطيفًا، وسيم الملامح، وفاز بحب أولئك الذين عرفوه، كما يقول هذا النصب التذكاري الجميل؛ وكان من الحكمة والذكاء منك لتلطيف مرارة حياتك بعطر هذا الحبِّ الإنساني الذي يزهر في التراب بعد زوال قرون. لا، لم تكوني سخيفة، وأرتيميدورس لا يغار من صديقك الجديد.»
«هل أنتَ واثق من ذلك؟» كانت لا تزال تبتسِم وهي تطرح هذا السؤال، لكن نظرتها كانت ناعمة — شبه رقيقة — وكانت هناك نبرة قلق غريبة في صوتها.
«بالتأكيد. أنا أمنحك كل تأكيدي بثقة.»
ضحكتْ بمرحٍ ثم قالت: «ثم إنني راضية، لأنني واثقة أنك تعرف ذلك. ولكنْ ثمة خبير في توارد الخواطر يمكنه التواصل والشعور عن بعد بقوة والذي يتمكن من قراءة الأفكار حتى ولو كانت لمومياء. رفيق رائع حقًّا. ولكن أخبرني كيف عرفت ذلك.»
«أنا أعلم لأنه هو مَن منحني صداقتك. ألا تذكرين ذلك؟»
أجابت برقة: «نعم، أذكر ذلك. عندما كنتَ متعاطفًا جدًّا مع رغباتي الحمقاء شعرت أننا صديقان حقًّا.»
«وأنا أيضًا أذكر، عندما أسررتِ لي بخيالك الجميل عن رغباتك، شكرتُك على صداقتك، واعتززتُ بها كثيرًا، وما زلتُ أقدرها، أكثر من أي شيءٍ على وجه الأرض.»
نظرت إليَّ بسرعةٍ ولكن بنظرة يبدو عليها التوتر، ثم أبعدت عينيها. ثم، وبعد لحظاتٍ قليلة من الصمت المُحرج، وكأنها تودُّ إعادة حديثنا إلى مستوًى أقل عاطفية، قالت:
«هل تلاحظ الطريقة الغريبة التي يقسم بها هذا النصب التذكاري نفسه إلى قِسمَين؟»
سألتها دون أن أُبدي اهتمامًا للتغيُّر المفاجئ: «ماذا تقصدين؟»
«أعني أن جزءًا منه مُزخرف بحت وجزءًا مُعبر أو عاطفي. تلاحظ أن التصميم العام ومخطط الزخرفة، على الرغم من كونه يونانيًّا حقًّا، يتبع التقاليد المصرية بشكل صارم. ولكن الصورة تعد بالطريقة اليونانية إلى أبعد حد، وعندما وصلوا إلى هذا الوداع المُثير للشفقة، كان لا بدَّ من التحدُّث بلغتهم الخاصة، وكتابتها بأحرفهم المألوفة.»
«نعم. لقد لاحظتُ ذلك وأعجبت بالذوق الذي أبقوا به النقوش غير واضحة حتى لا يتعارض ذلك مع الزخارف. كان من الممكن أن يُفسد النقش الدخيل بالأحرف اليونانية اتساق المُخطط بأكمله.»
«وافقتْ دون وعيٍ منها وكأنها كانت تفكر بشيء آخر: «نعم، كان سيُفسده.» ومرة أخرى حدقت بتمعن في المومياء. نظرتُ إليها باهتمام شديد، فلاحظتُ أبعاد خدِّها الجميل، والكتل الناعمة من الشعر التي ابتعدت برشاقة شديدة عن جبينها، ورأيتُ أنها أجمل مخلوق وطئ الأرض. وفجأة نظرتْ إليَّ بتأمُّل.
قالت: «أتساءل ما الذي جعلني أُخبرك عن أرتيميدورس. لقد كان نوعًا من التخيُّل سخيفًا وطفوليًّا، ولم أكن لأخبر أي شخصٍ آخر في العالم؛ ولا حتى والدي. كيف عرفتُ أنك ستتعاطف وتتفهَّم؟»
طرحت السؤال بكل بساطةٍ وعيناها الرماديتان الجادَّتان تنظُران إلى عينيَّ. وجاءت الإجابة في ومضة، مع دقات قلبي.
همستُ بشغف: «سأخبرك كيف عرفتِ يا روث. كان ذلك لأنني أحببتُك أكثر ممَّا أحبَّك أي شخصٍ آخر في هذا العالم، ولقد شعرتِ بحُبي في قلبك وسمَّيتِهِ تعاطفًا.»
توقَّفت لفترة قصيرة، لأن وجهها قد احمرَّ خجلًا ثم أصبحت شاحبة. وها هي الآن تنظر إليَّ بعنف، أو برُعب إلى حدٍّ كبير.
صرخت نادمًا: «هل صدمتك يا عزيزتي روث؟ هل تسرَّعتُ في الحديث؟ إذا كان الأمر كذلك، فسامحيني. لكن كان عليَّ أن أخبرك. لقد كان قلبي يتمزَّق من حُبك لا أعرف منذ متى. أعتقد أنني أحببتُك من اليوم الأول الذي التقينا فيه. ربما لم يكن عليَّ أن أصرح بذلك بعد، لكن يا عزيزتي روث، إذا كنتِ فقط تدرين كم أنتِ فتاة جميلة، فلن تلوميني.»
قالت بصوتٍ هامس: «أنا لا ألومُك. إنني ألوم نفسي. لقد كنتُ صديقة سيئة لك، أنت الشخص المُخلص والمُحب لي. يجب ألَّا أسمح بحدوث هذا. لأنه لا يمكن أن يكون، بول؛ لا أستطيع أن أقول ما تُريدني أن أقول. لا يُمكننا أبدًا أن نكون إلا مجرد صديقين.»
بدا الأمر وكأن يدًا باردةً تقبض على قلبي؛ خوف رهيب لأنني فقدتُ كل ما كنتُ أهتم به، كل ما كان يجعل الحياة مرغوبًا فيها.
سألتها: «لماذا لا يمكننا؟ هل تقصدين أن الله قد أنعم على رجلٍ آخر؟»
أجابت على عجلٍ وبسخط تقريبًا: «لا، لا، بالطبع لا أقصد ذلك.»
«إذن كل ما هنالك أنك لم تُحبيني بعد. بالطبع لم تُحبيني. لماذا عليكِ أن تُحبيني؟ لكنكِ ستفعلين، يا عزيزتي، يومًا ما. وسأنتظر بصبرٍ حتى يأتي ذلك اليوم ولن أزعجك بالتوسُّلات. سأنتظرك كما انتظر يعقوب راحيل؛ وكما بدت له السنوات الطويلة كبضعة أيامٍ بسبب الحُب الذي حملَه لها، سيكون الأمر كذلك بالنسبة لي، إذا كنتِ فقط لن تُبعديني تمامًا بدون أمل.»
كانت تنظر إلى الأسفل، بوجهٍ شاحب، مع تصلُّب شفتَيها كما لو كانت تُعاني من ألمٍ جسدي. ثم همست قائلة: «أنت لا تفهم. لا يمكن أن يكون، لا يمكن أن يكون أبدًا. هناك شيء يجعله مُستحيلًا الآن ودائمًا. لا أستطيع أن أخبرك أكثر من ذلك.»
ناشدتُها يائسًا: «لكن، يا عزيزتي روث، أليس من الوارد أن يُصبح ذلك ممكنًا في يوم من الأيام؟ ألا يمكن تحقيق ذلك؟ يمكنني الانتظار، لكن لا يُمكنني الاستسلام. ألا تُوجَد فرصة لإزالة هذه العقبة مهما كانت؟»
«يؤسِفني أن أقول لك إنها فرصة ضئيلة للغاية. لا تكاد تُذكر. لا، يا بول؛ إنه أمر ميئوس منه، ولا يُمكنني تحمُّل الحديث عنه. دعني أذهب الآن. دعنا نقول وداعًا هنا ولن يرى أحدنا الآخر بعد الآن. ربما نكون صديقين مرة أخرى في يوم من الأيام؛ عندما تُسامحني.»
صحتُ قائلًا: ««أسامحك، يا أعزَّ صديقة!» لا يُوجَد شيء أسامحك عليه. ونحن أصدقاء يا روث. مهما حدث، فأنت أعز صديقة لي على وجه الأرض، أو يمكن أن أحصل عليها على الإطلاق.»
قالت بصوتٍ خافت: «شكرًا لك يا بول. أنت لطيف جدًّا معي. لكن دعني أذهب من فضلك. يجب أن أكون بمفردي.»
مدَّت يدها مُرتجفة، وعندما أخذتُها بين يدي، صُدِمت لرؤية كيف بدت مُضطربة ومُتعَبة.
توسَّلتُ إليها قائلًا: «ألا يمكنني أن آتي معك يا عزيزتي؟»
صرخت بلهفة: «لا لا! يجب أن أذهب وحدي. أريد أن أكون وحدي. وداعًا.»
«قبل أن أترككِ يا روث — إذا كان عليكِ أن ترحلي — يجب أن أحصل على وعدٍ قاطع منك.»
التقت عيناها الرماديتان الحزينتان بعينيَّ وارتجفت شفتاها بسؤالٍ غير معلن.
فتابعت قائلًا: «يجب أن تعديني إذا رُفع هذا الحاجز الذي يفصل بيننا، فسوف تُخبرينني على الفور. تذكَّري أنني أحبكِ دائمًا، وأنني أنتظركِ دائمًا على هذا الجانب من القبر.»
كانت أنفاسها لاهثةً بنحيبٍ سريع وضغطتْ على يدي.
ثم همست قائلة: «نعم، أعدك، وداعًا.»
ثم ضغطتْ على يدي مرةً أخرى وذهبت؛ وبينما كنتُ أحملق في المدخل الفارغ الذي مرَّت من خلاله، لمحتُ انعكاس صورتها في زجاج على درجات السلم، حيث توقفت للحظةٍ لمسح عينيها. شعرت، بطريقةٍ ما، أنه من غير اللائق أن أتابعها بعيني، وأبعدتُ رأسي بسرعة؛ ومع ذلك، كنتُ مدركًا لشعورٍ أناني بالرضا في التعاطف اللطيف الذي يعنيه حُزنها.
ولكن الآن بعد أن ذهبت، انتابني إحساس رهيب بالأسى. الآن فقط، من خلال وعيي بالخسارة التي لا يمكن تعويضها، بدأتُ أدرك معنى شغف الحُب الذي سُرِق من حياتي فجأة. كيف له أن يمنح بريقًا للحاضر وينشر البهجة على المستقبل الباهت؛ كيف تلاقت عليه كل الملذَّات والرغبات والآمال والطموحات كبؤرة تركيز؛ كيف برز على أنه الحقيقة العظيمة التي بدت وراءها ظروف الحياة الأخرى كخلفية، مُتلألئة، نصف مرئية، غير مادية وغير واقعية. والآن ذهب؛ ضاع، كما بدا، فيما وراء الأمل، وما بقي لي سوى الإطار الفارغ الذي اختفت منه الصورة.
ليس لديَّ أدنى فكرة عن المدة التي وقفتُ فيها ثابتًا في المكان الذي تركتني فيه، مُحاطًا بوعيٍ مُمل بالألم، مُنغمسًا في تخيُّلٍ شبه مُخدَّر. تطايرت الأحداث الأخيرة في ذهني، مثل الحلم؛ مهماتنا السعيدة في قاعة القراءة؛ زيارتنا الأولى للمتحف. وهذا اليوم الذي بدأ بشكلٍ مُشرق وبهذا الوعد. جاءت أشباح السعادة المُختفية واحدةً تلو الأخرى وذهبت. كان الزوَّار من حينٍ لآخر يتجولون في القاعة — لكن صالات العرض كانت فارغة في الغالب ذلك اليوم — يحدقون بفضول في وجودي الثابت، ثم يمضون في طريقهم. ولا يزال الألم الباهت الذي لا يُطاق مستمرًا في صدري، هو الوعي الحي الوحيد الذي تُرِك لي.
والآن، رفعتُ عينيَّ لتلتَقِيا بعينَي مَن باللوحة. نظر إليَّ الوجه اللطيف المتأمِّل للمستوطن اليوناني القديم، بحُزن وكأنه سيمنحني الراحة؛ وكأنه يُخبرني أنه هو أيضًا كان يعرف الحزن عندما كان يعيش حياته في مدينة الفيوم المُشمسة. ويبدو أن العزاء اللطيف، مثل الرائحة الباهتة لأوراق الورد القديمة، يزفر من ذلك الوجه الودود الذي حضر ولادة سعادتي كما رآها تذبُل وتتلاشى. استدرتُ أخيرًا بوداعٍ صامت. وعندما نظرتُ إلى الوراء، بدا أنه يَحثُّني على الإسراع في طريقي مع وداعٍ لطيف.