إصبع الاتهام
أثناء جولاتي، بعد مغادرة المتحف، في ذلك اليوم الأسود والكئيب، لم يكن لديَّ سوى ذكرياتٍ متشائمة. ولكن كان لا بد لي أن أقطع مسافة كبيرة جدًّا، نظرًا لأنه يفصلني عن موعد العودة إلى العيادة ساعة أو ساعتان، ولذا قضيتُ الفترة الفاصلة في التجول سريعًا عبر الشوارع والميادين، غير مُنتبه لما يحدث حولي، مركزًا فقط على سوء حظي في الوقت الحالي، ومدفوعًا بحافز طبيعي لبذل مجهودٍ بدَني على أمل العثور على الراحة. فالإجهاد الذهني، إذا جاز لنا التعبير، يُولِّد تيارًا مُستحِثًّا للاضطراب البدني؛ بموجب ترتيبٍ رحيم قد تتحول الزيادة الخطيرة في الإثارة العاطفية إلى طاقة مُحرِّكة، وبالتالي يمكن التخلص منها بأمان. ويقوم الجهاز المُحرِّك مقام صمام الأمان للجانب البدني؛ بحيث إذا عمل المُحرِّك لفترةٍ من الوقت، ومع بدء الإجهاد البدني تعود قراءة مقياس الضغط العاطفي إلى أرقامها المعتادة.
كانت هذه هي حالتي. في البداية، لم أكن واعيًا بأي شيءٍ وإنما خيَّم عليَّ شعور تام بالفجيعة، وتحطمت كلُّ آمالي. ولكن، بالتدريج، بينما كنتُ أشق طريقي وسط الحشود المتحركة، صِرت في حالةٍ ذهنية أفضل وأجدر. فعلى أي حال، لم أفقد شيئًا كنتُ قد امتلكته من قبل. لا تزال روث كل ما كانت تُمثله بالنسبة إليَّ، بل ربما أكثر؛ وحتى إن كانت هذه هدية ثرية من الأمس، فلماذا لا تكون كذلك اليوم؟ وكيف سيكون ظلمًا لها إذا تعين عليَّ التفكير باستمرار والحزن على خيبة أملٍ لم تكن غلطتها ولم يكن لها حل؟ ومِن ثَم، فكرتُ في نفسي بتعقل، وبهذا فإنه بحلول الوقت الذي وصلتُ فيه إلى حارة فيتر، كان شعوري بالاكتئاب قد وصل إلى معدلاتٍ يمكن التحكم فيها تمامًا وأخذت قرارًا بالعودة إلى الوضع السابق في أقرب وقتٍ مُمكن.
وفي حوالي الساعة الثامنة، بينما كنتُ أجلس بمفردي في غرفة الكشف، أُقنع نفسي في حزنٍ شديد أنني أصبحت الآن مُستسلمًا تمامًا لما هو حتمي، أحضر لي أدولفوس طردًا مرفقًا بإخطار، وحين رأيتُ الخط المكتوب عليه دق قلبي بسرعةٍ بالغة لدرجة أنني ارتبكتُ كثيرًا حتى وقع وصل الاستلام. وبمجرد أن خرج أدولفوس (بازدراء واضح للتوقيع المُهتز) فتحت الطرد على الفور، وبينما كنتُ أُخرج خطابًا وقعَتْ علبة صغيرة على الطاولة.
كان الخطاب مختصرًا للغاية، وقرأته بنهمٍ مرارًا وتكرارًا بلهفة رجل مَدينٍ يقرأ أمر إرجاء الحُكم عليه:
عزيزي بول
سامحني لأنني تركتك فجأة بعد ظهر هذا اليوم، وتركتكَ في حالةٍ من التعاسة أيضًا. لقد صرتَ الآن في حالةٍ أكثر عقلانية ومنطقية، ولذا أرسل لك تحياتي وأتوسَّل إليك ألا تحزن على ما لا يمكن أن يحدُث قطعًا. الأمر مُستحيل تمامًا، صديقي العزيز، وأتوسَّل إليك، بقدْر ما تهتمُّ بأمري، ألا تتحدَّث عن ذلك مرةً أخرى أبدًا؛ ولا تجعلني أشعر أبدًا بأنني أستطيع أن أبخل عليك بالشيء اليسير بينما تُعطيني أنت الكثير. ولذا، لا تحاول أن تُقابلني لبعض الوقت. سأفتقد زياراتك، وكذلك سيفتقدها والدي، الذي يُكنُّ لك الإعجاب الشديد؛ ولكن حريٌّ بنا ألا نلتقي حتى يتسنَّى لنا استعادة علاقاتنا القديمة؛ إذا كان ذلك مُمكنًا.
أرسل إليك هدية تذكارية صغيرة في حالة إذا فرَّقتنا دروب الحياة. إنه الخاتم الذي أخبرتك عنه؛ الخاتم الذي أهداه لي عمي. لعلك تستطيع أن ترتديه نظرًا لأن يدك صغيرة، ولكن على أي حال احتفِظ به كذكرى لصداقتنا. الشعار الموجود عليه هو عين أوزيريس، وهو شعار غامض أكنُّ له عاطفة خُرافية، كما كان عمي المسكين يكنُّ له، والذي كان يرسمه بوشمٍ أحمر على صدره. فهو يُصوِّر قاضي الموت العظيم الذي ينظر إلى البشر ليتأكد من أن العدالة تتحقَّق والحقيقة تسود. أستودعك أوزيريس العظيم، ليحفظك بعينه، ويحرس سعادتك في غياب.
كان خطابًا لطيفًا، في رأيي، حتى إن كان يحمل القليل من العزاء؛ إلا أنه كان هادئًا ومتحفظًا مثل صاحبته، وبه نبرة ودودة. وضعتُه جانبًا في النهاية، وأخرجتُ الخاتم من العلبة، وفحصته في ولع. ورغم كونه مجرد نسخة، فإنه كان يحمل سِحرَ وحسَّ القطعة الأثرية الأصلية، والأهم من كل هذا، كان مُعبئًا بروح مانحة الهدية. كان أنيقًا ورقيقًا، مُزخرفًا بالفضة والذهب، ومُرصَّعًا بالنحاس، لم أكن لأستعيض عنه بماسة كوة نور؛ وحين وضعته في إصبعي كانت العين الصغيرة ذات الطلاء الأزرق تنظُر إليَّ على نحوٍ ودود ومؤنس لدرجة أنني شعرت بسحر خرافات العالم القديم يستحوذ عليَّ أنا أيضًا.
والآن، يا عزيزتي، سأقول كلمتي؛ ولقد قلتها مرةً واحدة، ولن أنبس ببنت شفة عن هذا الموضوع مرة أخرى (وفي الواقع لم أحرك شفة الآن) حتى يتغير الزمان. وإن لم يتغير أبدًا. وإذا مرَّ الوقت، وجاء الوقت المناسب، فسنجلس معًا، بشَعرٍ يغزوه المشيب، وأنف مُجعدة، نسند ذقنينا على عكازينا ونتمتم ونثرثر في حُبٍّ حول الأشياء التي كان من شأنها أن تحدُث لو كان أوزيريس العظيم عظيمًا بقدْر التوقعات. وسأظل راضيًا، لأن صداقتك يا روث أفضل من حُبِّ أي امرأةٍ أخرى. إذن، كما ترين، أنا مُتقبل عقوبتي وأواجه الزمن بابتسامة — اعذريني على هذه الاستعارة المجازية — وأعِدك بإخلاصٍ أن أفعل ما تُريدينه ولن أزعجك مرةً أخرى قط.
كتبتُ العنوان على الخطاب ولصقتُ طابع البريد، ثم بتكشيرةٍ كالحة فرضتُها على نفسي (لا على أدولفوس) وكأنها ابتسامة مرحة، خرجتُ ووضعتُ الخطاب في صندوق البريد، وبعد ذلك شغلت نفسي بدندنة أنشودة نونك ديميتيس مؤكدًا لنفسي أن الموضوع أُغلق تمامًا الآن.
وعلى الرغم من هذا التأكيد المُريح، كنتُ على مدى الأيام التالية شابًّا بائسًا للغاية. من الجيد أن تُدوَّن هذه المشكلات باعتبارها من نوعية المشكلات العاطفية التافهة. ولكنها ليست من هذا القبيل. فحين يجد رجل ذو طبيعة جادة بالأساس امرأةً واحدة في هذا العالم تفي بأسمى مُثل الأنوثة، امرأة واحدة من عشرة آلاف، يمنحها كل ما يملك من حبٍّ وتبجيل، ثم تُحطَّم كل آماله فجأة، ليس بفاجعة هينة. هكذا رأيتُ الأمر. استسلمتُ للواقع المرير، وأخذ يطاردني شبح الاحتمالات ليلًا ونهارًا، ولذا قضيتُ وقت فراغي هائمًا على وجهي في الشوارع، محاولًا طرد الفكرة بلا جدوى. شعرتُ باضطرابٍ بالغ، وحين تسلمتُ خطابًا من ديك برنارد معلنًا وصوله إلى جزر ماديرا، في طريق عودته إلى الوطن، تنفَّستُ الصعداء. لم يكن لديَّ أي خطط للمستقبل؛ ولكني كنتُ أتوق للتخلص من الروتين المزعج للعيادة؛ أن يكون لي مُطلق الحرية للذهاب والمجيء كيفما ووقتما أشاء.
وذات مساء، بينما كنتُ أجلس لأتناول وجبة العشاء الوحيدة بشهية ضعيفة، انتابني شعور مفاجئ بالوحدة. الرغبة، التي شعرت بها حتى هذه اللحظة، في أن أكون وحيدًا مع تأمُّلاتي البائسة، أفسحت المجال أمام الحنين للرفقة البشرية. وتلك الرفقة التي أتوق لها بشدة صارت ممنوعة، ويجب أن ألتزم برغبات سيدتي؛ ولكن كان هناك صديقاي في شارع تيمبل. لقد مرَّ أكثر من أسبوع منذ أن التقيتُ بهما؛ في الواقع لم ألتقِ بهما منذ صبيحة أتعس يومٍ في حياتي. لعلهما يتساءلان عما حلَّ بي. نهضتُ عن الطاولة، وملأت غليوني بكمية صغيرة من التبغ، وانطلقت إلى شارع كينجز بينش ووك.
بينما كنتُ أقترب من مدخل بناية ٥أ بالشارع في جُنح الليل، قابلت ثورندايك بنفسه وهو يحمل مقعدين قابلين للطيِّ ومصباح قراءة وكتابًا.
صاح قائلًا: «يا إلهي، بيركلي! أهذا أنت؟ كنَّا نتساءل ماذا حلَّ بك.»
قلت: «لقد مرَّ وقتٌ طويل منذ آخر مرة اطمأننتُ فيها عليك.»
أخذ يُدقق بي باهتمامٍ على ضوء مصباح المدخل، ثم قال: «يبدو أن حارة فيتر لا تتفق معك، تمامًا، يا بني. تبدو نحيفًا وشاحبًا جدًّا.»
«حسنًا، لقد أوشكتُ على الانتهاء من المهمة. سيعود برنارد في غضون عشرة أيام تقريبًا. سترسو سفينته على جزر ماديرا للتزوُّد بالفحم وحمل بعض البضائع، ثم سيعود إلى الوطن. إلى أين ستذهب بهذين المقعدين؟»
«سأجلس عند نهاية الشارع بجانب السور. الجو هناك أكثر برودةً من الداخل. إذا انتظرتَ لدقيقة، فسأذهب وأحضر مقعدًا آخر لجيرفيس، رغم أنه لن يعود قبل فترة قصيرة.» صعد الدرج، وعلى الفور عاد بمقعدٍ ثالث، وحملنا أغراضنا حتى وصلْنا إلى زاويةٍ هادئة من الشارع.
قال حين وضع المقاعد وعلق المصباح على السور: «إذن، لقد انتهت فترة عبوديتك. هل ثمة أخبار أخرى؟»
«كلَّا. هل لديك أنت أي أخبار؟»
«يؤسفني أن أخبرك بأنه ليس لديَّ. فجميع تحرياتي أسفرت عن نتائج سلبية. بالطبع، ثمة مجموعة مهمة من الأدلة، وجميعها تُشير إلى اتجاهٍ واحد. ولكني غير مُستعد لاتخاذ خطوة حاسمة دون وجود شيء مُحدَّد أكثر. أنا منتظر أي إثباتٍ أو شيء من هذا القبيل على أفكاري بخصوص الموضوع؛ منتظر بعض الأدلة الجديدة.»
«لم أعرف أنه كانت هناك أي أدلة.»
قال ثورندايك: «ألم تعرف؟ ولكنك تعرف بقدْر ما أعرف أنا. أنت لديك جميع الحقائق المهمة؛ ولكن من الواضح أنك لم تجمعها وتستخلص معناها. لو كنتَ فعلت ذلك، لكنتَ وجدتها ذات أهمية بالغة.»
«يجدُر بي ألَّا أسأل عن أهميتها، هل تتفق معي؟»
«لا، لا أظن ذلك. عندما أعمل على قضية، لا أذكر تخميناتي لأي شخص — ولا حتى جيرفيس. إذن، يمكنني أن أقول بكل ثقةٍ إنه ليس هناك أي تسريبات. لا تظن أنني لا أثق بك. تذكَّر أن أفكاري هي ملك لعميلي، وأساس الاستراتيجية هو إبقاء العدو في الظلام.»
«نعم، أتفهَّم ذلك. بالطبع، ما كان ينبغي لي أن أسأل.»
قال ثورندايك بابتسامة: «لا ينبغي عليك أن تسأل؛ بل ينبغي عليك أن تضع الحقائق معًا وتُجادل بها بنفسك.»
وبينما كنَّا نتحدث، لاحظتُ أن ثورندايك يحدق بي مستفسرًا من وقتٍ لآخر. وبعد فترة من الصمت، سألني فجأة:
«هل هنالك خطب ما، بيركلي؟ هل أنت قلق بشأن أمور أصدقائك؟»
«كلَّا، ليس هذا على وجه التحديد؛ رغم أن الفُرَص التي تنتظرهم لا تبدو مشرقةً للغاية.»
قال: «وربما ليست سيئة كما تبدو. ولكنني أخشى أن هناك شيئًا يزعجك. تبدو أن روحك المرحة قد اختفت.» سكتَ لبرهة، ثم أضاف قائلًا: «لا أريد التطفُّل على شئونك الخاصة، ولكني أستطيع أن أساعدك بالنصيحة أو غيرها، تذكَّر أننا صديقان حميمان وأنك خليفتي على الصعيد الأكاديمي.»
وبصورةٍ فطرية، وبالتحفظ المعتاد للرجال، بدأتُ أُنكر في همهمةٍ وكلام غير واضح؛ ثم توقفت. على أي حال، لماذا لا أثق به؟ لقد كان رجلًا صالحًا وحكيمًا، مُفعمًا بالتعاطف الإنساني، على حدِّ علمي، رغم غموضه وتحفُّظه الشديد بخصوص قدراته المهنية. وكنتُ في أمسِّ الحاجة إلى صديقٍ في الوقت الراهن.
بدأتُ أقول في خجل: «أخشى ألَّا تسمح المسألة بمساعدةٍ كبيرة؛ فإنَّ هذا ليس من نوعية الأشياء التي يجب أن أقلقك بالحديث عنها …»
«إذا كانت كافية لتجعلك حزينًا، يا صديقي العزيز، فهي كافية لتسترعي اهتمامًا جادًّا من جانب صديقك؛ ولذا إذا كنت لا تمانع إخباري …»
قلت: «بالطبع، لا أمانع يا سيدي!»
«إذن، هات ما عندك، ولا تُناديني بسيدي؛ نحن أخوان وزميلان الآن.»
وما إن تشجَّعتُ حتى قصصتُ قصتي الرومانسية القصيرة؛ في البداية بخجلٍ وبعبارات مُتقطعة؛ ولكن بمزيدٍ من الحرية والثقة فيما بعد. لقد استمع باهتمامٍ بالغ، وطرح سؤالًا مرةً أو مرتين حين صار سردي مُفككًا بعض الشيء. وبعد أن انتهيتُ، وضع يده في رفقٍ على ذراعي.
«حظُّك سيئ، يا بيركلي. لا غرو أنك في حالةٍ بائسة. ولا يسعني التعبير عن أسفي بالكلام.»
قلت: «شكرًا لك. إنه لَلُطف بالِغ منك أن تستمع بصبرٍ شديد، ولكن عار عليَّ أن أزعجك بمشكلاتي العاطفية.»
«حسنًا، يا بيركلي، أنت لا تعتقد هذا، وآمُل ألا تعتقد أنني كذلك أيضًا. لا بدَّ أننا علماء سيئون وأطباء على أسوأ مستوى إذا كنَّا سنستخفُّ بأهمية ذلك الجانب الذي يُمثل أهم شواغل الطبيعة. وتتمثل الحقيقة البيولوجية الأبرز على الإطلاق في الأهمية العظيمة للجنس؛ فنحن إذن نعاني من الصمَمِ والعمى إذا كنَّا لا نسمعها ولا نراها في كل شيءٍ حي حين نُلقي نظرة فاحصة على العالم؛ حين نسمع تغريد العصافير في الربيع، أو حين نتأمَّل زنابق الحقل. ومثلما هو حال الإنسان بالنسبة إلى الكائنات الأدنى، يكون الحُب بين البشر مجرد مظاهر انعكاسية للجنس. وسأدَّعي، وأعرف أنك ستتفق معي، أن حُب رجلٍ جاد وجدير بالاحترام لامرأة تستحقُّه هو الشأن الأهم بين جميع الشئون البشرية. إنه أساس الحياة الاجتماعية، وفشله يشكل كارثةً خطيرة، ليس فقط بالنسبة إلى أولئك الذين ربما فسدَت حياتهم بسببه؛ وإنما بالنسبة إلى المجتمع ككل.»
وافقته الرأي قائلًا: «إنها مسألة خطيرة بما يكفي بالنسبة إلى الأطراف المَعنية، ولكن هذا ليس سببًا يدعوهم إلى إزعاج أصدقائهم.»
«ولكنهم لا يفعلون. ينبغي أن يساعد الأصدقاء بعضهم بعضًا ويعتبرونه امتيازًا ممنوحًا لهم.»
«أوه، يجب ألا أمانع القدوم إليك طلبًا للمساعدة، بعدما عرفتك. ولكن لا أحد يستطيع أن يساعد شخصًا بائسًا في قضية كهذه، وبالتأكيد ليس فقيهًا طبيًّا.»
قال معترضًا: «أوه، هيا، يا بيركلي! لا تبالغ في بخس قيمتنا. فأحقر المخلوقات لها فوائدها، حتى النملة الصغيرة، كما يُخبرنا إزاك والتون. يا إلهي، لقد تلقيتُ مساعدة كبيرة من هاوي جمع الطوابع. ثم فكِّر في آلة الحرْق ودودة الأرض والذبابة الزرقاء. كل هذه الكائنات الحقيرة تلعب دورَها في مخطط الطبيعة؛ وهل ينبغي لنا أن نحطَّ من قيمة الفقيه الطبي؟»
ضحكتُ في شجنٍ على مفارقة أستاذي اللطيفة.
وقلت: «ما أقصده أنه لا يُوجَد شيء يجب القيام به سوى الانتظار، وربما إلى الأبد. لا أعرف لماذا هي غير قادرة على الزواج مني، ولا يجب عليَّ أن أسألها. لا يمكن أن تكون متزوجة بالفعل.»
«بالتأكيد لا، لقد أخبرتك صراحةً بأنه ليست على علاقة عاطفية برجلٍ آخر.»
«بالضبط. ولا أستطيع التفكير في أي سببٍ آخر وجيه، باستثناء أنها لا تهتمُّ بأمري بالدرجة الكافية. وهذا من شأنه أن يكون سببًا وجيهًا تمامًا، ولكن هذا لن يكون سوى سببٍ مؤقت، ليست العقبة التي لا يمكن التغلب عليها التي تفترِض وجودها، لا سيما أننا نتجاوب معًا على نحوٍ جيد. أتمنى ألا يكون الأمر مُتعلقًا بالتردُّد النسائي الأحمق اللعين. ولا أرى كيف يمكن أن يكون كذلك؛ ولكن أحيانًا تكون النساء مُعقَّدات وعنيدات على نحوٍ مُخيف للغاية.»
قال ثورندايك: «لا أفهم لماذا ينبغي أن نبحث عن دافعٍ شاذٍّ على نحوٍ منحرف بينما يوجد أمامنا تفسير منطقي تمامًا.»
قلت: «هل يُوجَد فعلًا؟ أنا لا أرى تفسيرًا.»
«أنت بطبيعة الحال تَغفُل عن بعض الظروف التي تؤثر على الآنسة بيلينجهام؛ ولكني لا أفترض أنها فشلت في استيعاب مقصدها. هل تدرك حقيقة موقفها؟ أقصد بخصوص اختفاء عمِّها؟»
«لا أظنُّ أنني أفهمك تمامًا.»
«حسنًا، لا فائدة من طمس الحقائق. الموقف كالتالي: إن كان جون بيلينجهام قد ذهب إلى منزل أخيه في وودفورد، فمن شبه المؤكد أنه ذهب إلى هناك بعد زيارته إلى هيرست. تذكَّر أنني قلتُ إن كان قد ذهب، وأنا لا أقول إنني أعتقد أنه فعل ذلك. بيد أنه ذُكر أنه ذهب فيما يبدو إلى هناك؛ ولكن إذا كان قد ذهب فعلًا، فإنه لم يُرَ حيًّا فيما بعد. الآن، لم يدخل من الباب الأمامي. ولم يرَه أحد يدخل المنزل. ولكن تُوجَد بوابة خلفية، كان جون بيلينجهام يعرفها، ولها جرس يرن داخل المكتبة. وستتذكَّر أنه حين جاء هيرست وجيليكو للزيارة، كان السيد بيلينجهام قد دخل للتو. وقبل هذا الوقت، كانت الآنسة بيلينجهام وحدَها في المكتبة؛ بعبارةٍ أخرى، كانت وحدَها في المكتبة في الوقت نفسه الذي قيل إن جون بيلينجهام زاره فيه. هذا هو الموقف، يا بيركلي. لم يُذكَر شيء حتى الآن. ولكن، عاجلًا أو آجلًا، إذا عُثر على جون بيلينجهام، حيًّا أو ميتًا، سيُفتَح التحقيق. ومن المؤكد أن هيرست، دفاعًا عن نفسه، سيستغل أي حقائق قد تدرأ عنه الشكوك وتُوجهها نحو شخص آخر. والشخص الآخر سيكون الآنسة بيلينجهام.»
جلستُ لبضع دقائق مشلولًا من الرُّعب بالمعنى الحرفي للكلمة. ثم أفسح شعوري بالرعب المجال أمام شعوري بالسخط وشرعتُ قائلًا: «ولكن اللعنة! أستميحك عذرًا، ولكن هل يمكن لأي شخصٍ لديه الجرأة الجهنمية للتلميح بأن تلك الشابة اللطيفة والمُثقفة قتلت عمَّها؟»
«هذا ما سيُلمح إليه، إن لم يُؤكد بوضوح؛ وهي تعلم ذلك. وبما أن الوضع على ذاك النحو، فهل من الصعب أن نفهم السبب الذي يجعلها ترفُض السماح لك بالارتباط بها علانية؟ المخاطرة بالزج باسمك المحترم وسط الإجراءات البغيضة الخاصة بمحاكم الشرطة أو المحكمة الجنائية المركزية. وربما إكسابه سمعةً سيئة بغيضة.»
«أوه، يا إلهي! بالله عليك! هذا فظيع جدًّا! لا يعني هذا أنني سأهتمُّ بأمري. سأكون فخورًا بمشاركتها عذاب الفضيحة، إن كان لا بدَّ من ذلك؛ ولكن ما يُغضبني هو انتهاك الحرمات والتجديف عليها ولو حتى بالتفكير فيها من هذا المنطلق.»
قال ثورندايك: «أجل، أنا أفهمك وأتعاطف معك. وبالطبع، أشاركك غضبك المُبرَّر تجاه المسألة البغيضة. ولذا، لا ينبغي عليك أن تعتبرني قاسيًا لتوضيح الأمر بهذه الطريقة.»
«أوافقك الرأي. لقد عرضتَ عليَّ الخطر الذي لم ألاحظه بسبب حماقتي الكافية. ولكن يبدو أنك تُلمح لأن هذا الموقف البغيض قد فُرض عن عَمد.»
«بالتأكيد أُلمح لذلك! هذه ليست مسألة صدفة. أما الظواهر فتُشير إلى الوقائع الحقيقية — وأنا متأكد من أنها كذلك — وإما أنها مُختلقة بغرض التوصُّل إلى استنتاجاتٍ خاطئة. ولكن الظروف تُقنعني بأن ثمة مؤامرة متعمدة؛ وأنا أنتظر — بفارغ الصبر، بقدْر ما أستطيع أن أقول — لأضع يدي على الوغد الذي فعل هذا.»
سألته: «وما الذي تنتظره؟»
أجاب: «أنتظر ما لا مفرَّ منه؛ الخطوة الخاطئة التي يأخذها أعتى المُجرمين لا محالة. في الوقت الراهن، هو مُتخفٍّ عن الأنظار؛ ولكنه الآن سيأخذ خطوة، وحينئذٍ سأوقع به.»
«ولكن لعلَّه يظلُّ مُختفيًا عن الأنظار. ما الذي ستفعله حينها؟»
«أجل، هذا هو الخطر. ربما يتعين علينا التعامل مع المجرم المثالي الذي يعرف جيدًا متى يترك الأمور على حالها. لم ألتقِ به قط، ورغم ذلك، ربما يكون موجودًا.»
«ومِن ثَم، علينا أن نقف مكتوفي الأيدي ونشاهد أصدقاءنا يغرقون.»
قال ثورندايك: «ربما.» ثم انغمس كلٌّ منَّا في تفكيرٍ كئيب وصامت.
كان المكان آمنًا وهادئًا، كما يليق بمنطقةٍ نائية في لندن. الصيحات المتقطعة من القطارات والبواخر البعيدة تُنذر بالحياة النابضة بالنشاط على طول منطقة البركة المزدحمة. انطلقتْ همهمة خافتة من حركة المرور من الشوارع الموجودة خارج الضواحي، وجاءت الأصوات الصاخبة لبائعي الجرائد في جوقة متواصلة من ناحية شارع كارمليت. كانت الأصوات بعيدةً جدًّا بحيث لا تكون مزعجة من الناحية المادية، إلا أن الصيحات المتحمسة، خفتت نظرًا لأنها كانت على مسافةٍ بعيدة، حفزت النخاع في عظامي، كانت مُوحية بشكل رهيب بتلك الاحتمالات المستقبلية التي ألمح إليها ثورندايك. بدَت وكأنها أشبه بظلالٍ مشئومة تُنذر بالمصائب القادمة.
لعلَّها استدعت سلسلة الأفكار نفسها في عقل ثورندايك، حيث علَّق على الفور قائلًا:
«بائعو الصحف الليلة بالخارج أشبه بطائر شؤم. لقد حدث شيء غير معتاد؛ كارثة عامَّة أو خاصة، على الأرجح، وهذه الغيلان الصاخبة تتغذَّى على البقايا. رجال الصحافة يتشابهون كثيرًا مع الطيور الآكلة للجِيَف التي تحوم فوق ساحة المعركة.»
مرة أخرى ساد الصمت والتفكير. ثم، بعد فترة قصيرة، سألته:
«هل يمكنني المساعدة بأي شكلٍ من الأشكال في هذا التحقيق الخاص بك؟»
أجاب ثورندايك: «هذا بالضبط ما كنتُ أسأله لنفسي. سيكون من الصواب واللائق أن تفعل ذلك، وأعتقد أنك ربما تفعل.»
سألته مُتلهفًا: «كيف؟»
«لا يُمكنني الارتجال؛ ولكن جيرفيس سيرحل لقضاء إجازته لأول مرة تقريبًا، سوف يذهب في مهمة فعلية الليلة. هناك القليل جدًّا من العمل؛ العطلة الطويلة تقترب منَّا، ويمكنني الاستغناء عنه. ولكن إذا كنتَ ترغب في القدوم إلى هنا لتحلَّ محلَّه، فستكون مفيدًّا جدًّا بالنسبة إليَّ؛ وإذا كان هناك أي شيء يجب القيام به في قضية بيلينجهام، فأنا متأكد أن حماسَك سيُعوِّض أي نقصٍ في الخبرة.»
قلت: «لا أستطيع أن أحلَّ محلَّ جيرفيس، ولكن إذا سمحتَ لي أن أساعدك بأي طريقةٍ فسيكون هذا كرمًا بالغًا منك. وأُفضِّل أن أنظف حذاءك بدلًا من استبعادي تمامًا.»
«عظيم جدًّا. دعنا نتَّفق أنك ستأتي إلى هنا بمجرد أن تنتهي من أمر برنارد. يمكنك أن تأخذ غرفة جيرفيس، والتي لا يستخدمها عادةً هذه الأيام، وأعرف أنك ستكون سعيدًا هنا أكثر من أي مكانٍ آخر. والآن، سأعطيك مفتاح المزلاج كذلك. لديَّ نسخة إضافية في المنزل، واعلمْ أن شقَّتي ملكك أيضًا منذ هذه اللحظة.»
سلَّمني مفتاح المزلاج وشكرته بحرارةٍ من كل قلبي، لأنني شعرت بيقينٍ أن الاقتراح ليس بسبب أي فائدة قد أمثلها له؛ وإنما تم لراحة بالي. وكدتُ أن أنتهي من حديثي حين لفتَ انتباهي صوتُ خطواتٍ مسرعة على الطريق المعبَّد.
قال ثورندايك: «ها هو جيرفيس. سنُخبره بأن هناك طبيبًا مؤقتًا مُستعدًّا ليحلَّ محله حين يرغب في الحصول على إجازة.» أضاء المصباح عبر الطريق، وبعد مرور بضع دقائق كان مُساعده يمشي بخطواتٍ سريعة ويتأبَّط رزمة من الصحف.
وأذهلني أن جيرفيس رمقَني بنظرةٍ غريبة قليلًا حين تعرَّف عليَّ في الضوء الخافت؛ كان سلوكه مُتكلفًا بعض الشيء، كما لو أن حضوري كان مصدرًا للإحراج. استمع إلى تصريح ثورندايك بخصوص ترتيبنا الجديد بدون إبداء قدْرٍ كبير من الحماس وبدون تعليقاته المُضحكة المعتادة. ومرة أخرى لاحظتُ أنه يرمُقني بنظرة سريعة، جزء منها فضولي وجزء منها مُرتبك، ومُربكة تمامًا بالنسبة إليَّ.
قال بعدما شرح ثورندايك الموقف: «لا بأس. أظنُّ أنك ستجد بيركلي ذا فائدةٍ مثلي، وعلى أي حال، سيكون حاله أفضل هنا من بقائه مع برنارد.» كان يتحدَّث برزانةٍ غير معهودة منه، وكان في نبرة صوته توتُّر جذب انتباهي وكذلك انتباه ثورندايك، حيث نظر إليه الأخير بفضول، رغم أنه لم يُبدِ أي تعليق. وبعد فترة صمتٍ قصيرة، سأله: «ما الأخبار التي أتى بها أخي الخبير؟ ثمة صيحات قوية بين البرابرة الغرباء وأرى رزمةً من الصحف تحت إبط صديقي الخبير. هل حدث أي شيء على وجه الخصوص؟»
بدا جيرفيس قلقًا أكثر من أي وقتٍ آخر. وأجاب بتردُّدٍ: «حسنًا، أجل. لقد حدث شيء ما. إليك هذا! لا داعي إلى اللفِّ والدوران؛ لعلَّ بيركلي يعرفها منِّي كما سيعرفها من هؤلاء البؤساء الصارخين في الخارج.» أخرج صحيفتَين من رزمته وسلمني واحدةً بصمتٍ وسلَّم الأخرى إلى ثورندايك.
أزعجني سلوك جيرفيس المشئوم، بما يكفي، بقدرٍ كبير. فتحت الصحيفة بفزَعٍ لا يُوصَف. ولكن بمخاوفي المجهولة، والتي قد تزايدت مع الموقف، وحين رأيتُ تلك الصرخات متبلورةً على هيئة سطور العناوين والحروف الكبيرة، شعرتُ بالغثيان والدوار من الخوف.
تُوصِّل إلى حلٍّ جزئي ومشئوم للغاية للغز الذي أحاط ببقايا الجثة البشرية المشوَّهة، التي عُثر على أجزاء منها في مناطق مُتفرقة في كينت وإسيكس. لطالما شكَّت الشرطة، طوال هذا الوقت، بأن تلك البقايا هي بقايا السيد جون بيلينجهام الذي اختفى في ظلِّ ظروفٍ يشوبها الشك والغموض قبل عامين. الآن، ليس هناك أي شك بخصوص الموضوع، حيث عُثر على الإصبع المفقودة من اليد، التي عُثر عليها في منطقة سيدكوب، في قاع بئرٍ مهجورة بالإضافة إلى خاتم، تُعُرِّف عليه باعتباره خاتمًا اعتاد السيد جون بيلينجهام على ارتدائه.
كان المنزل الذي وُجِد البئر في حديقته ملكًا للرجل المقتول، وكان أخوه السيد جودفري بيلينجهام يشغله طوال فترة اختفائه؛ بيد أنَّ الأخير تركه بعد فترةٍ وجيزة، وظلَّ فارغًا منذ ذلك الحين. ومؤخرًا وُضِع قيد التجديدات، وظلَّ هكذا حتى أُفرِغت البئر ونُظِّفت. ويبدو أن المُحقق؛ المفتش بادجر، الذي كان يُفتش الحيَّ بحثًا عن المزيد من البقايا، سمع عن تفريغ البئر ونزل في دلوٍ كبير لفحص القاع، حيث عثر على ثلاث عظام وخاتم.
ومِن ثَم، حُدِّدت هوية الجثة دون أدنى شك، والسؤال القائم هو، من الذي قتل جون بيلينجهام؟ ولعلكم تتذكَّرون أنه عُثِر على حلية، فيما يبدو أنها كانت مكسورةً من سلسلة الساعة، في حديقة هذا المنزل في اليوم الذي اختفى فيه، ولم يرَه أحد على قيد الحياة مرةً أخرى قط. ما الذي ستُبينه هذه الحقائق المهمة؟»
كان هذا كل ما في الأمر؛ ولكنه كان كافيًا. أسقطتُ الصحيفة على الأرض ونظرت خلسة إلى جيرفيس، الذي جلس يُحدِّق في كآبة إلى مقدمة حذائه. كان الأمر مُروِّعًا! كان أمرًا لا يُصدقه عقل! كانت الضربة ساحقةً جدًّا لدرجة أنها تركت قُدراتي في حالةٍ من الخدر، وبدا أنني عاجز عن التفكير بشكلٍ واضح لبعض الوقت.
أفقتُ على صوت ثورندايك، بنبرة هادئة وعملية ورصينة:
«بالطبع، الأمور ستتَّضح بمرور الوقت! وفي غضون ذلك، يجب أن نتحلَّى بالحذَر. لا تنزعج أكثر من اللازم، يا بيركلي. عُد إلى المنزل، وتناول جرعةً كافية من البروميد بالإضافة إلى مشروبٍ كحولي وخذ قسطًا من النوم. أخشى أن تكون هذه صدمة لك.»
قمتُ من فوق الكرسي وكأني في حلمٍ ومددتُ يدي إلى ثورندايك؛ وحتى على الضوء الخافت وفي حالتي المضطربة لاحظتُ أن وجهه تعلوه نظرةٌ لم أرَها من قبل؛ نظرة على قناع جرانيتي لمصيرٍ محتوم وكئيب ومُروِّع.
سار صديقاي معي حتى البوابة عند أول حارة إنر تيمبل، وبينما كنَّا نقترب من المدخل باغتنا ظهور شخص غريب مرَّ علينا سريعًا عند الحارة. وعلى ضوء وهج المصباح خارج كوخ الحارس، نظر إلينا بسرعةٍ من فوق كتفه، ومرَّ علينا سريعًا دون أن يتوقَّف أو يُحيِّنا. كان تعرُّفي عليه مفاجأةً كئيبة لم أتفهمها حينها ولم أتفهمها حتى الآن. كان ذلك الشخص هو السيد جيليكو.
صافحتُ أصدقائي مرةً أخرى وسرتُ في طريقي إلى شارع فليت، ولكن بمجرد أن تخطيتُ البوابة توجهت فورًا إلى شارع نيفيلز. ما الذي كان يجول بخاطري لا أعرف؛ كل ما عرفته أن غريزة الحماية قادتني إلى هناك حيث تبيتُ سيدتي غير واعيةٍ بالتهديد البشِع الذي يتربَّص بها. وعند مدخل الشارع، وقف رجل طويل القامة قوي البنية يتسكع عند الحائط، بدا أنه ينظر إليَّ في فضولٍ أثناء مروري؛ إلا أنني لم أكد ألاحظه ومضيتُ قدمًا نحو الشارع الضيق. توقفتُ عند البوابة المتهالكة للمنزل، حاولت النظر إلى النوافذ من فوق الحائط بقدْر ما يُمكنني. كانت النوافذ جميعها مظلمة. فسكان البيت جميعهم كانوا نيامًا. شعرتُ بالارتياح على نحوٍ غامض حيال ذلك، وسرتُ إلى شارع نيو ستريت من عند نهاية الشارع ونظرت. هناك أيضًا كان يتسكع رجل طويل القامة وضخم الجثة، وبينما كان يتفحَّص وجهي استدرتُ ودخلتُ الشارع مرة أخرى، وعدتُ من حيث أتيت. وحين وصلت مرةً أخرى إلى بوابة المنزل، توقفتُ لألقي نظرة على النوافذ مرة أخرى، وحين استدرتُ رأيت الرجل الذي لاحظته آخِر مرة ورائي مباشرة. وفي لحظة إدراك مُفزعة، فهمت الأمر. هذان الرجُلان هما رجال شرطة في زيٍّ مدني.
وفي لحظة، أعماني الغضب، وتملكني شعور مُتهوِّر يدفعني إلى الاشتباك مع هذا المتطفل المُزعج للانتقام من هذا الشخص بسبب حضوره المُزعج. ولحُسن الحظ أن هذا الشعور كان وقتيًّا، وعدتُ إلى صوابي دون الاشتباك معه. ولكن ظهور هذين الشرطيين فرض شعورًا بالخطر على اللحظة الحالية، لتفرض بذلك حقيقة مُروعة. تصبَّبتْ جبهتي عرقًا باردًا من الرُّعب وشعرتُ بصفير في أذني بينما كنتُ أسير بخطواتٍ مضطربة إلى حارة فيتر.