جون بيلينجهام
كانت الأيام القليلة التالية كابوسية يكتنِفها الشعور بالرعب والكآبة. بالطبع، رفضتُ الانصياع لحُكم النفي والإقصاء الذي أصدرته روث عليَّ. فأنا، على الأقل، كنتُ صديقها ووقت الخطر لا بدَّ أن أكون بجوارها. وضمنيًّا أدركَتْ هي الحقيقة — وهذا لحُسن حظِّ الفتاة المسكينة! — وسمحَتْ لي بالوجود بأريحية أكثر في المنزل.
لم يكن هناك حاجة للتستُّر على الموقف. كان الصبية بائعو الجرائد يهتفون بالأخبار ذهابًا وإيابًا على طول شارع فليت من الصباح حتى المساء؛ والمُلصقات المُحطِّمة للأعصاب تنتشر وسط الحشود المُحدقة؛ والصحف تتناقل «التفاصيل الصادمة».
صحيح أنه لم تُوجَّه اتهامات مباشرة؛ لكن التقارير الأصلية لحادثة الاختفاء أُعيد نشرُها بالإضافة إلى هذه التعليقات التي جعلتني أَصرُّ بأسناني من الغضب.
وقسوة تلك الأيام ستظلُّ حاضرةً في ذاكرتي إلى يوم وفاتي. فلا يُمكنني أن أنسى الفزع الذي أثقلني، والقلق الرهيب والخوف الذي تملك قلبي أثناء تفحُّصي خفيةً المُلصقات بالشوارع. وحتى المُحققون البائسون، الذين كانوا يطوفون خلسة حول مداخل شارع نيفيلز، اعتادت عيناي على رؤيتهم كتجسيدٍ للخطر الفظيع الذي يُحدق بسيدتي العزيزة، فعلى الأقل وجودهم يُخبرني بأن الضربة لم تأتِ بعد. بالطبع، بعد فترة من الوقت، اعتدنا تبادل نظرات المعرفة المتبادلة، وأظنُّ أنه بدا عليهم الشعور بالأسى حيالها وحيالي، ولا تروق لهم مُهمتهم بدرجةٍ كبيرة. بالطبع، قضيتُ معظم وقت فراغي في المنزل القديم، رغم أنني كنتُ أشعر هناك بغصةٍ في قلبي أكثر من أي مكانٍ آخر، وحاولت — يؤسفني أن أقول دون نجاحٍ كبير— الحفاظ على سلوكٍ مبتهج وواثق، مُلقيًا نكاتي البسيطة كما عهدتُ في الماضي، ومحاولًا مشاكسة الآنسة أومان. إلا أن المحاولة الأخيرة باءت بفشل ذريع؛ وحين انهارت فجأة في سيلٍ من الدموع الغزيرة على نحوٍ هيستري، توقفتُ عن المحاولة ولم أكرِّرها ثانية.
خيَّم على المنزل القديم حالة من الكآبة المُخيفة. كانت الآنسة أومان المسكينة تتسلل في صمت صعودًا وهبوطًا على الدرج القديم بعينين ذابلتين وذقن مُرتعش، أو كانت تستغرق في التفكير العميق بغرفتها بعريضةٍ برلمانية (تطلب، إذا كنتُ أتذكر بحق، تحديد موعدٍ مع قاضية تتعامل مع قضايا الطلاق والمشكلات الزوجية) موضوعة على طاولتها في انتظار توقيعاتٍ لن تأتي أبدًا. انغمس السيد بيلينجهام، الذي تأرجحت حالته النفسية بين الغضب الشديد والذعر المُطلق في البداية، سريعًا في حالة من الانهيار العصبي التي شهدتُها بفزع كبير. في الواقع، كان الشخص الوحيد المتمالك نفسه بين أهل البيت كلهم هي روث، رغم أنها لم تستطع إخفاء الحزن والقلق والترقُّب والخطر الداهم. لم يتغير سلوكها؛ أو بالأحرى ينبغي أن أقول؛ إنها عادت لسيرتها الأولى حين تعرفتُ عليها أول مرة؛ هادئة ومُتحفظة وصموتة، ونبرة دعابة لاذعة ظاهرة في تعاملها بلطفٍ لا يتغير. حين اجتمعتُ أنا وهي وحدنا، تلاشى تحفُّظها وصارت تتعامل برقةٍ ولطف. ولكن كان الألم يعتصر قلبي حين أنظر إليها، وألاحظ كيف أنها تزداد نحافةً وشحوبًا، يومًا بعد يوم، وأرى وجنتَيها تزدادان ذبولًا؛ وأنظر في عينيها الرماديتين المهيبتين، الحزينتين والكئيبتين رغم شجاعتها وتحديها للقدَر.
كانت فترةً عصيبة، وطوال هذه الفترة طاردتني باستمرارٍ جميع الأسئلة المفزعة: متى ستأتي الضربة؟ ما الذي تنتظره الشرطة؟ ومتى ستأتي ضربتها، وما الذي يتعين على ثورندايك أن يقوله؟
عرفتُ من دكتور نوربيري أنه تواصل مؤخرًا مع السيد ليدربوجين، من برلين — وهو مرجع عِلمِي في الآثار الشرقية — والذي أشار إلى أنه التقى بعالِم آثار مصرية إنجليزي الجنسية في فيينا قبل عامٍ مضى. لم يستطع تذكُّر اسم الرجل الإنجليزي، ولكنْ ثمة إشارات مُعينة في الرسالة جعلت دكتور نوربيري يشكُّ أنه يقصد جون بيلينجهام.
أودُّ أن أجتمع بالسيد والآنسة بيلينجهام في مكتبي هذه الليلة، الساعة ٨:٣٠ لمقابلة دكتور نوربيري والتحدُّث عن خطابه؛ في ضوء أهمية الموضوع، أنتظر منك ألا تَخذُلني.
اجتاحتني موجة من الأمل وشعور بالارتياح. كان لا يزال من الممكن أن تنفرج الكربة؛ وربما يأتي الخلاص قبل فوات الأوان. كتبتُ رسالة سريعة لثورندايك وأخرى لروث، مُحددًا موعدًا؛ وأعطيت كلتيهما إلى بولتون الأمين، وعدتُ بحماسٍ بعض الشيء إلى مهامي المهنية. وشعرت براحةٍ عميقة، حين توقف تدفُّق المرضى، ودخلت العيادة في حالتها المُعتادة من السبات؛ ومِن ثَم استطعتُ، دون اللجوء إلى الحِيَل الكاذبة والوضيعة، الفرار في الوقت المناسب إلى مكان اللقاء.
كانت عقارب الساعة تقترب من الثامنة مساءً حين اجتزت مدخل شارع نيفيلز كورت. لقد تلاشى ضوء فترة ما بعد الظهيرة الدافئ، إذ مضى فصل الصيف سريعًا. تلاشى الوهج الأحمر الأخير لغروب الشمس من فوق الأسطح العتيقة ومواسير المداخن، وبدأت ظلال المساء تجتمع في الزوايا والأركان على طول الشارع الضيق. وصلتُ إلى وجهتي الساعة الثامنة، كانت لا تزال بضع دقائق تفصلني عن تمام الساعة، ولذا سرتُ مُتئدًا على طول الشارع، متأملًا المشهد المألوف والوجوه المعتادة الودودة.
كان يوم العمل يقترب من نهايته. أغلقَت المحال الصغيرة مصاريعها، وبدأت الأنوار تسطع في نوافذ غرف الاستقبال؛ وارتفع صوت ترانيم مهيبة قادم من كنيسة مورافيا العتيقة، وتسربت أصداؤها عبر المدخل المُظلم الموجود تحت القنطرة والمؤدي إلى الشارع.
هناك كان يجلس السيد فينيمور (رجل ذو مواهب مُتعددة، تنزع مواهبه إلى الرسم والطلاء) بمئزرٍ أبيض اللون وقميص بأكمام، على كرسي في حديقته، يُدخِّن غليونه مُثبتًا ناظريه على زهور الداليا. وعند نافذة مفتوحة، وقف شاب يُمسك بيدٍ فرشة وأُخرى وراء أذنه، يُطيل نفسه في حين وقفت سيدة مُسنة تبسط خريطةً كبيرة بخفة ورشاقة. كان الحلَّاق يُشعل مصباح الغاز في صالونه الصغير، وظهر بائع الخضار والسيجارة في فمه وزهرة النجمة في عروة سترته، ورافقتْ مجموعة من الأطفال عامل إشعال المصابيح في دوريَّاته.
كل هؤلاء كانوا أهل شارع نيفيلز الأصليين؛ المولودين في الشارع، كما كان آباؤهم من قبلهم على مر الأجيال. كان هؤلاء الغالبية العُظمى لسكان المكان. حتى الآنسة أومان نفسها زعمت أنها من السكان الأصليين للمكان، وكذلك الجارة ذات الوجه الصبوح، وهي قريبة لعائلة تروبي الشهيرة المُعتنقة للمذهب الانشقاقي القديم، والذين يعود تاريخهم إلى احتجاجات جوردون. أما بالنسبة للشابِّ النبيل الذي يعيش في المنزل الخشبي والجصِّي العتيق في نهاية الشارع، فيُقال إنَّ أسلافه سكنوا ذلك المنزل منذ عهد جيمس الأول.
فكرتُ في هذه الحقائق أثناء سيري في الشارع، وفي الظاهرة الغريبة لقرية العالم القديم وسكَّانها القُدامى العالقين في قلب المدينة الصاخبة؛ وكأنها جزيرة سلمية وسط مُحيط من الاضطرابات، واحة في صحراء التغيير والحراك.
قادتني تأمُّلاتي إلى البوابة المتهالكة وسط الجدار العالي، وبينما كنتُ أرفع المزلاج وأدفعه لينفتح، رأيتُ روث تقف عند باب المنزل تتحدَّث إلى الآنسة أومان. من الواضح أنها كانت تنتظرني، حيث إنها كانت ترتدي مِعطفها الأسود الداكن وقُبعتها وطرحتها السوداء، وحين رأتْني خرجت، وأغلقت الباب وراءها ومدَّت يدها.
قالت: «أنت دقيق في مواعيدك. ساعة كنيسة سانت دونستان تدقُّ الآن.»
أجبتها قائلًا: «أجل، ولكن أين والدكِ؟»
«لقد أوى إلى الفراش، العجوز المسكين. لم يكن يشعُر أنه بخير بالقدْر الكافي لكي يأتي، ولم أُلحَّ عليه في المجيء. هو حقًّا مريض. هذا القلق المُروِّع سيقضي عليه إذا استمرَّ لوقتٍ أطول من ذلك.»
«لنأمل ألا يحدث هذا!» قُلتها بدون اقتناع وأخشى أن يكون هذا قد بدا في نبرة صوتي.
كنتُ مُعذبًا بأن أراها مُمزقة بسبب القلق على والدها، وكنتُ أتوق لمواساتها. ولكن ما الذي يَسعني قوله؟ كان السيد بيلينجهام منهارًا على نحوٍ جلي تحت وطأة ضغط التهديد المروِّع الذي يحُوم حول ابنته، ولن تجعل كلماتي الحقيقة أقلَّ وضوحًا.
سِرنا في صمتٍ على طول الشارع. حيَّتنا السيدة الواقفة في النافذة بتحية باسمة، وأخرج السيد فينيمور غليونه ورفع قبعته، وفي المقابل أومأت له روث بلطف، ثم مررْنا عبر الطريق المحفوف بالأشجار المؤدي إلى حارة فيتر، حيث توقفت رفقيتي ونظرتْ إليها.
سألتها: «عمَّ تبحثين؟»
أجابت بهدوء: «المُخبر السرِّي. سيكون من المؤسف أن يغفُل الرجل المسكين عني بعد أن انتظرني طويلًا. ورغم ذلك، أنا لا أراه.» ثم توجَّهت إلى شارع فلييت. كانت مفاجأة غير سارة بالنسبة لي أن عينَيها الحادَّتَين حدَّدتا المُخبر السري الذي يُراقب تحركاتها، كما آلمتني أيضًا النبرة الجافة والساخرة في تعليقها، وجعلتني أتذكَّر الأسلوب المُتحفظ القاسي الذي كانت تَصدُّني به في أيام تعارُفنا الأولى. ورغم ذلك لم يسعني سوى الإعجاب بمواجهتها غير المُبالية للخطر المُروِّع الذي يُحدق بها.
قالت، بينما كنَّا نسير في حارة فيتر: «حدِّثني قليلًا عن هذا الاجتماع. رسالتك كانت مُوجزة أكثر من كونها واضحة؛ ولكني افترضتُ أنك كتبتها في عجلةٍ من أمرك.»
«أجل، فعلتُ ذلك. ولا يمكنني إعطاؤك أي تفاصيل الآن. كل ما أعرفه هو أن الدكتور نوربيري لديه خطاب من صديق له في برلين، عالم مِصريَّات، كما فهمت، يُدعى ليدربوجين، الذي يُشير إلى أحد معارفه ومعارف نوربيري يحمل الجنسية الإنجليزية والذي رآه في فيينا قبل عامٍ مضى. ولا يستطيع أن يتذكَّر اسم الرجل الإنجليزي، ولكن في ظل ظروفٍ مُعينة يبدو أن نوربيري يظنُّ أنه يُشير إلى عمكِ جون. بالطبع، إذا اتَّضح أن هذا هو الحال، فلسوف يكون كل شيءٍ في موضعه الصحيح؛ ولذا حرص ثورندايك أن تلتقي أنتِ ووالدكِ بنوربيري وتُناقشوا هذا الأمر معًا.»
قالت روث: «فهمت.» كانت نبرتُها رصينة ولكنها ليست مُتحمِّسة بأي حالٍ من الأحوال.
علقتُ قائلًا: «لا يبدو أنك تُولين أهميةً كبيرة لهذه المسألة.»
«كلَّا، لا يبدو أنها تتناسب مع الظروف. ما الفائدة من اقتراح أن العمَّ جون المسكين لا يزال على قيد الحياة — والتصرُّف كمعتوه، وهو لم يكن كذلك بالتأكيد — بينما عُثِر على جثته؟»
قلتُ بنبرة تنمُّ عن العجز: «ولكن ربما يكون هناك خطأ ما. ربما لا تكون هذه جثته على أي حال؟»
تساءلتْ بابتسامة مريرة: «والخاتم؟»
«ربما تكون مجرد صُدفة. إنه نسخةُ من شكل معروف من الخواتم العتيقة، ولعلَّ أشخاصًا آخرين يمتلكون نُسخًا منه مثلما كان يمتلك عمك.» وأضفتُ بمزيد من الإقناع قائلًا: «علاوة على ذلك، نحن لم نرَ الخاتم. ربما لا يكون خاتمه على أي حال.»
هزَّت رأسها وقالت في هدوء: «عزيزي بول، لا فائدة من خداع أنفسنا. كل الحقائق المعروفة تُشير قطعًا إلى أنها جثته. جون بيلينجهام مات: لا شكَّ في هذا. وبالنسبة إلى الجميع، باستثناء قاتله المجهول وواحدٍ أو اثنين من أصدقائي المُخلصين، يبدو أنني المسئولة عن وفاته. لقد أدركتُ من البداية أن الشكوك تحوم حولي وحول جورج هيرست؛ والعثور على الخاتم يُثبت التهمة عليَّ قطعًا. أنا مندهشة أن الشرطة لم تقُم بأي تحركات بعد.»
جعلتْني نبرة الاقتناع الهادئة، التي تحدثتْ بها، عاجزًا عن الكلام من الخوف واليأس لبعض الوقت. ثم استعدتُ توجُّه ثورندايك الهادئ والواثق وأسرعتُ أذكِّرها به.
قلت: «هناك أحد أصدقائك لم تُثبَّط همَّتُه بعد. يبدو أن ثورندايك لا يتوقع أي صعوبات.»
فردَّت قائلة: «ورغم ذلك، هو على استعدادٍ للتفكير في أملٍ ضعيف كهذا. ومع ذلك، سنرى.»
عجزتُ عن التفكير في أي شيءٍ لأقوله، وتابعنا طريقنا على طول شارع إنر تيمبل في صمتٍ كئيب وعبْر المداخل المظلمة والطرقات الشبيهة بالأنفاق التي أخرجتنا، أخيرًا، بالقُرب من وزارة المالية.
قلتُ لها، بينما كنا نعبُر شارع كينجز بينش ووك، وأشرتُ إلى صفٍّ من النوافذ المُظلمة والخالية: «لا أرى أي ضوء في شقة ثورندايك.»
«كلَّا، ومع ذلك مصارع النوافذ غير مُغلقة. لا بدَّ أنه بالخارج.»
«لا يمكن أن يفعل ذلك بعد أن حدَّد موعدًا معكِ ومع والدكِ. يا له من أمرٍ غامض للغاية. ثورندايك شديد الحرص على ارتباطاته.»
انكشف اللغز، حين وصلْنا إلى درَج السلم، بسبب قطعة ورقٍ مُعلقة بمسمار على الباب المتين.
«رسالة مُوجزة إلى بول بيركلي على الطاولة.» كانت هذه هي الملاحظة الموجزة: وحين قرأتها وضعتُ مفتاحي، وانفتح الباب الثقيل إلى الخارج، وفتحت الباب الداخلي الأخفَّ وزنًا. كانت الرسالة موضوعة على الطاولة أخرجتها إلى الدرَج لكي أقرأها على ضوء مصباح الدرَج.
أعتذر لأصدقائي لحدوث تغيير بسيط في البرنامج. نوربيري حريص على أن أنتهي من تجاربي قبل عودة المدير، حتى أوفِّر على نفسي المناقشة. ولذا، طلب منِّي أن أبدأ الليلة وقال إنه سيلتقي بالسيد والآنسة بيلينجهام هنا، في المتحف. من فضلك أحضرهما على الفور. أرى أن أمورًا مُهمة ربما تتَّضِح في اللقاء.
قلتُ معتذرًا، بعد أن قرأتُ الرسالة لروث: «آمُل أنكِ لا تُمانعين.»
أجابت قائلة: «بالطبع، لا أمانع؛ بل أنا سعيدة. لدينا الكثير من المعارف في المتحف العتيق العزيز عليَّ، أليس كذلك؟» نظرتْ إليَّ لدقيقة في لهفةٍ غريبة ومُثيرة ثم استدارت لتنزل الدرَج الحجَري.
وعند مدخل الشارع، أشرتُ إلى عربة، وسرعان ما كنَّا نُسرع باتجاه الغرب والشمال على صوت الحركة اللطيفة لجرس الحصان.
سألتني على الفور: «ما هذه التجارب التي يُشير إليها دكتور ثورندايك؟»
أجبت: «لا يُمكنني الردُّ عليكِ إلا على نحوٍ غامض. أعتقد أن الهدف منها هو إثبات ما إذا كانت قابلية الاختراق للمواد العضوية بالأشعة السينية تتغيَّر حسب العمر؛ وما إذا كانت كتلة خشبية قديمة، مثلًا، أقل أو أكثر وضوحًا في ضوء الأشعة مُقارنة بكتلةٍ جديدة بالحجم نفسه.»
«وما الفائدة من المعرفة، لو توصَّل إليها؟»
«لا أستطيع أن أجزم. تُجرى التجارب للحصول على المعرفة بغض النظر عن فائدتها. الفائدة تظهر حين يتم اكتساب المعرفة. ولكن في هذه الحالة، إذا كان من الممكن تحديد عُمر أي مادة عضوية من خلال تفاعُلها مع الأشعة السينية، فربما يكون للاكتشاف قيمة مُعينة في المجال القانوني؛ مثل وضع ختمٍ جديد على وثيقة قديمة على سبيل المثال. ولكني لا أعرف ما إذا كان ثورندايك يلُوح أمامه شيء مُحدد. كل ما أعرفه أن الاستعدادات كانت على نطاقٍ واسع للغاية.»
«ما الذي تقصده؟»
«فيما يتعلق بالحجم. عندما ذهبتُ إلى المختبر صباح أمس، وجدت بولتون ينصب نوعًا من المشانق المحمولة بارتفاع نحو تسعة أقدام، وقد انتهى من تلميع زوجٍ من الصواني الخشبية الضخمة التي يزيد طول كل منها على ست أقدام. بدا أنه وثورندايك كانا يفكران في بضع تجارب مُتعلقة بتشريح الضحايا بعد الوفاة.»
«يا له من اقتراحٍ مُروِّع!»
«هكذا قال بولتون بابتسامته المُستغربة المُجعَّدة. ورغم ذلك، كان قريبًا جدًّا من استخدام الأداة. وأتساءل ما إذا كان بإمكاننا أن نرى أي شيءٍ من التجارب، إذا ما ذهبنا إلى هناك. هذا هو شارع المتحف، أليس كذلك؟»
قالت: «بلى.» وبينما قالتها، رَفعت سديلة إحدى النوافذ الصغيرة في مؤخرة العربة ونظرت من خلالها. ثم أغلقتها بابتسامةٍ هادئة وهازئة قائلة:
«كل شيء على ما يُرام؛ لم يَفقِد أثرَنا. سيكون الأمر بمثابة تغيير بسيطٍ ولطيف بالنسبة إليه.»
اتجهت العربة إلى شارع جريت راسل، وبينما كانت تستدير، رأيتُ عربة أخرى تتبعنا؛ ولكن قبل أن يتسنَّى لي رؤية راكبها الوحيد، كنا قد وصلنا عند بوابات المتحف.
قادنا البواب، الذي بدا أنه يتوقع قدومنا، على طول المَمر المؤدي إلى الرواق الكبير ومنه إلى القاعة الرئيسية، حيث سلَّمنا إلى موظفٍ آخر.
قالها الأخير ردًّا على استفساراتنا: «دكتور نوربيري موجود في إحدى الغرف المجاورة للقاعة المصرية الرابعة.» كان مُستعدًّا لمرافقتنا إلى هناك مُزوِّدًا نفسه بسراجٍ مُحاط بسلك.
وعلى درَج السلم الكبير، الذي كان يُغلفه ظلام غامض، مررْنا في صمتٍ مُسترجعين الذكريات الجميلة ليوم من الأيام التي كنَّا نخطو فيها فوق درجات السلم معًا؛ وعبر الصالون الرئيسي، وقاعة العصور الوسطى والصالون الآسيوي، ومنه إلى سلسلةٍ طويلة من المعارض الخاصة بالأعراق البشرية.
كانت رحلة غريبة. كان السراج المُتأرجح يمتدُّ شعاعه على نطاقٍ واسع إلى ظلام المعارض الكبيرة المعتمة، مُحدثًا وميضًا لحظيًّا على المعروضات الموجودة في نوافذ العرض، ومِن ثَم كانت تُبث فيها الحياة للحظةٍ خاطفة ثم تختفي مرةً أخرى في لمح البصر. أوثان شنيعة بعيون دائرية مُحدقة بزغت من الظلام، حدقت بنا لدقيقةٍ ثم اختفت. أقنِعة غريبة ظهرت فجأةً على الضوء الوامض، لتأخُذ شكل الوجوه الشيطانية التي بدت كأنها تُزمجر لنا وتثرثر أثناء مرورنا. أما بالنسبة إلى التماثيل بالحجم الطبيعي — الواقعية بالدرجة الكافية في ضوء النهار — فكانت هيئتها مُثيرة للفزع قطعًا؛ وبث الضوء المتحرك والظلال فيها الحياة والحركة، ومِن ثَم بدَتْ كأنها تُراقبنا في الخفاء، وتتربَّص وتستعدُّ للتسلل وتتبعنا. من الواضح أن الخيال أثر على روث كما أثر عليَّ أنا أيضًا، إذ اقتربت منِّي أكثر وهمست قائلة:
«هذه التماثيل مُفزعة جدًّا. هل رأيتَ ذلك البولنيزيي؟ شعرتُ وكأنه سينقضُّ علينا.»
قلت معترفًا: «إنها غريبة جدًّا، ولكن الخطر زال الآن. نحن خرجنا بعيدًا عن دائرة نفوذهم.»
وصلنا إلى درَج بينما كنتُ أتحدث ثم استدرْنا ناحية اليسار على طول المعرض الشمالي، ومن منتصفه دخلنا القاعة المصرية الرابعة.
وعلى الفور، انفتح أحد الأبواب في الحائط المقابل، وجاء صوتُ همهمةٍ حادة مسموعة، وخرج جيرفيس على أطراف أصابعه رافعًا يده.
قال: «سِر بخفةٍ بقدر ما يمكنك. نحن نقوم بعرض.»
عاد المرافق بسراجه، وتَبِعْنا جيرفيس إلى القاعة التي خرج منها. كانت قاعة كبيرة، ومضاءة أكثر قليلًا من صالات العرض، حيث إن المصباح المتوهج الوحيد المشتعل في الطرف البعيد من حيث دخلنا جعل باقي القاعة في ظلامٍ شِبه تام. جلسْنا على الفور على الكرسيين اللذين خُصِّصا لنا، وبعد تبادل التحيات، نظرتُ من حولي. كان هناك ثلاثة أشخاص في القاعة بالإضافة إلى جيرفيس: ثورندايك، الذي جلس وساعته في يده، ورجل ذو شعر رمادي والذي توقعت أن يكون دكتور نوربيري، وشخص ضئيل البنية عند الطرف المظلم البعيد، غير محدد، ولكنه بولتون على الأرجح. وعند طرف القاعة الذي جلسنا عنده كان يُوجَد صينيَّتان كبيرتان كنتُ رأيتهما في المُختبر، الآن كانت كل واحدةٍ منهما معلقة على حمالة ومُثبتة بأنبوب تصريف مطاطي متجه إلى أسفل نحو دلو. وفي الطرف البعيد من القاعة انتصب الشكل المشئوم للمشنقة عاليًا في الظلام؛ الآن فقط استطعتُ أن أرى أنها لم تكن مشنقة على أي حال، حيث كان مُثبتًا على العارضة العلوية حوض زجاجي كبير بدون قاع، وداخله لمبة زجاجية تتوهَّج بضوءٍ أخضر غريب؛ وفي قلب اللمبة بقعة حمراء اللون لامعة.
كان كل شيءٍ واضحًا بما يكفي. كان الصوت الغريب الذي ملأ الأجواء هو همهمة مفتاح قطع التيار الكهربائي، وكانت اللمبة عبارة عن أنبوب كروكس، والبقعة الحمراء بداخله، القرص المتوهج الأحمر الساخن لمضاد الكاثود. من الواضح أن صورة فوتوغرافية بالأشعة السينية التُقطت، ولكن لماذا؟ لقد أرهقتُ عيني بالنظر في الظلام إلى الجزء السُّفلي من المشنقة، وبرغم أن بإمكاني تمييز أن ثمة شيئًا مُستطيلًا مُلقًى على الأرض مباشرة تحت اللمبة، فلم أستطع التعرُّف على الشكل وتمييزه إلى شيء معروف. وعلى الفور قدم دكتور نوربيري حلَّ اللغز.
قال: «أنا مندهش إلى حدٍّ كبير من أنك اخترت غرضًا مُعقدًا جدًّا مثل المومياء. كان حريًّا بي أن أفكر في غرض أبسط، مثل التابوت أو جسمٍ خشبي، كان هذا سيُصبح أكثر فائدة.»
أجاب ثورندايك: «ستكون كذلك في بعض النواحي، ولكن المواد المتنوعة التي توفرها لنا المومياء لها فوائدها. أتمنَّى ألا يكون والدكِ مريضًا، آنسة بيلينجهام.»
قالت روث: «هو ليس بخير على الإطلاق، واتفقنا على أن آتي بمفردي. أعرف السيد ليدربوجين تمام المعرفة. لقد أقام لدينا لبعض الوقت حين زار إنجلترا.»
قال دكتور نوربيري: «أنا واثق من أنني لم أزعجك بلا جدوى. السيد ليدربوجين يشير إلى صديقنا الإنجليزي غريب الأطوار ذي الاسم الطويل الذي لا أستطيع تذكره مُطلقًا، وأظن أنه ربما يُشير إلى عمك.»
قالت روث: «ما كان ينبغي لي أن أصف عمِّي بغريب الأطوار.»
قال دكتور نوربيري على الفور: «لا، لا، قطعًا لا. ورغم ذلك، يمكنك أن تُلقي نظرة الآن على الخطاب وتحكُمي بنفسك. يجب ألا نتطرق إلى موضوعاتٍ غير ذات صلة أثناء إجراء التجربة، أليس كذلك يا دكتور؟»
قال ثورندايك: «من الأفضل لكم أن تنتظروا حتى ننتهي؛ لأنني سأُطفئ الأنوار. افصل التيار يا بولتون.»
اختفى الضوء الأخضر من اللمبة، وانخفض طنين مفتاح قطع التيار الكهربائي بمقدار درجةٍ أو درجتين ثم تلاشى. بعدها قام ثورندايك ودكتور نوربيري من مقعديهما وتوجَّها نحو المومياء، التي رفعاها وسحب بولتون من تحتها ما بدا على الفور أنه مظروفٌ ورقي أسود اللون كبير الحجم. وانطفأت اللمبة الوحيدة المتوهِّجة، لتترك القاعة في ظلامٍ دامس، حتى ظهر فجأة ضوء أحمر برتقالي لامع على الفور فوق إحدى الصينيتين.
التففنا جميعًا لنشاهد، بينما أخرج بولتون — رئيس كهنة هذه الممارسات الغامضة — من المظروف الأسوَد ورقةً كبيرة من البروميد، ووضعها بعناية في الصينية وشرع في ترطيبها بفرشاة كبيرة غمسها في دلوٍ من الماء.
قال دكتور نوربيري: «ظننتُ أنك استخدمت دومًا شرائح زجاجية في هذا النوع من العمل.»
«نحن نفعل ذلك، بناءً على الأفضلية؛ ولكن من المستحيل أن تجد شريحةً زجاجية بمساحة ستِّ أقدام، ولذا لديَّ ورقة ذات طبيعة خاصة وبالحجم نفسه.»
ثمة شيء رائع على نحوٍ مميز في مظهر الصورة المُحمضة، في الظهور الغامض والتدريجي للصورة من السطح الأبيض والمستوي للشريحة أو الورقة. ولكن الصورة الشعاعية؛ صورة الأشعة السينية، تتمتع بسحرٍ خاص بها. فعلى عكس الصور الفوتوغرافية العادية، التي تُسفر عن صورةٍ للأشياء المرئية بالفعل، فإنها تقدم صورةً للأشياء غير المرئية؛ وبالتالي، حين سكب بولتون مُظهِر الفيلم الفوتوغرافي على الورقة المُبتلة بالفعل، مَددْنا أعناقنا جميعًا إلى الصينية في فضولٍ شديد.
من الواضح أن مُحمض الفيلم كان بطيئًا للغاية؛ حيث لم يُرَ أي تغيير يذكر على السطح المستوي لمدة نصف دقيقة كاملة. ثم بالتدريج، وعلى نحوٍ غير ملموس تقريبًا، بدأ الجزء الهامشي يغمق، تاركًا الخطوط العريضة للمومياء بنقشٍ باهت. وبمجرد أن بدأ التغيير تقدَّم بسرعة. وصار هامش الورقة أغمق فأغمق حتى تحوَّل من رمادي أردوازي إلى أسود؛ ورغم ذلك ظلَّ شكل المومياء — صارت الآن ببروزٍ قوي — عبارة عن رقعةٍ طويلة بيضاء اللون. ولكن لم يستمر ذلك طويلًا؛ فعلى الفور بدأ الشكل الأبيض يشوبه اللون الرمادي، وبينما صار اللون أغمق، ظهر منه لون شاحب أكثر وكأنه ينبثق من اللون الرمادي المُستتر مثل شبحٍ أو طيف غريب ورائع. ظهر للعيان الهيكل العظمي.
قال دكتور نوربيري: «إنه أمر مذهل جدًّا. أشعر كما لو أنني أشارك في طقوس غير مُقدَّسة. فقط انظروا إليها الآن!»
كان الظلُّ الرمادي الخاص بالغلاف الكرتوني والضمادات واللحم يتلاشى في الخلفية وبرز الهيكل العظمي الأبيض في تناقضٍ حاد. من المؤكد أنه كان مشهدًا غريبًا.
قال دكتور نوربيري: «ستفقد العظام إذا واصلتَ تظهير الصورة أكثر.»
ردَّ ثورندايك قائلًا: «يجب أن أترك العظام لتصير أغمق، في حالة ما إذا كان هناك أي أجسام معدنية. لديَّ ثلاث أوراق أُخرى في المظروف.»
بدأ الشكل الأبيض للهيكل العظمي يتحوَّل إلى رمادي، كما قال دكتور نوربيري، وصار وضوحها أقل فأقل. انحنى ثورندايك على الصينية وهو يثبت عينيه على نقطةٍ في منتصف الصدر، كنَّا نراقبه جميعًا في صمت. وفجأة قام وقال بحدة: «الآن، يا بولتون، أحضر محلول الهيبوسلفات بأسرع ما يمكنك.»
وضع بولتون، الذي كان ينتظر وبيده حنفية أنبوب تصريف، مُظهِر الفيلم في الدلو وانغمرت الورقة بمحلول تثبيت.
قال ثورندايك: «الآن يمكننا أن نلقي نظرةً عليها في وقت فراغنا.» وبعد الانتظار بضع ثوانٍ، أشعل أحد المصابيح المتوهجة، وبينما غمر فيضان من الضوء الصورة، أضاف قائلًا: «كما ترون لم نفقد الهيكل العظمي بالكامل.»
قال دكتور نوربيري: «كلَّا.» ووضع النظارة الطبية وانحنى على الصينية؛ وفي هذه اللحظة شعرُت بأن يد روث تلمس ذراعي، بخفةٍ في البداية، ثم بقبضةٍ عصبية قوية؛ شعرت بأن يدها ترتعش. نظرت إليها في قلقٍ ورأيتها شاحبة شحوب الموتى.
ونظرًا لأن القاعة كانت، بنوافذها المُغلقة بإحكام، مكتومةً وحارة، سألتها: «هل تُفضلين الخروج إلى المعرض؟»
أجابت بهدوء: «كلَّا، سأبقى هنا. أنا بخير تمامًا.» ولكنها ظلت مُمسكة بذارعي.
نظر إليها ثورندايك باهتمام، ثم أشاح بنظره بينما وجَّه إليه دكتور نوربيري سؤالًا.
«في رأيك، لماذا تبدو بعض الأسنان أكثر بياضًا من غيرها؟»
أجاب ثورندايك قائلًا: «أظن أن البياض هو ظلال بسبب وجود المعدن.»
تساءل دكتور نوربيري: «هل تقصد أنه حشو أسنان؟»
«أجل.»
«فعلًا! هذا مُثير جدًّا للاهتمام. اشتُهر قدماء المصريين باستخدام الذهب لحشو الأسنان واشتُهروا أيضًا باستخدام الأسنان الصناعية، ولكن ليس لدينا نماذج لذلك في هذا المتحف. من المفترض أن تُكشف هذه المومياء. هل تظن أن كل هذه الأسنان محشوَّة بالمعدن نفسه؟ فبياضها ليس متساويًا.»
ردَّ ثورندايك قائلًا: «كلَّا، لا شك أن الأسنان ناصعة البياض محشوة بالذهب؛ أما الأسنان الرمادية فهي محشوة بالقصدير على الأرجح.»
قال نوربيري: «مُثير جدًّا! مُثير جدًّا! وماذا تظن بخصوص تلك العلامة الباهتة الموجودة عند الصدر، بالقُرب من أعلى عظمة القص؟»
أجابت روث عن سؤاله.
قالت بصوت خافت: «إنها عين أوزيريس!»
صاح دكتور نوربيري: «يا إلهي! هي كذلك. أنتِ مُحقة تمامًا. إنها عين حورس أو أوزيريس، إذا كنتِ تُفضلين تسميتها كذلك. أظن أنه شعار مَطلي بالذهب على بعض الأوشحة.»
«كلَّا؛ حريٌّ بي أن أقول إنه وشم. وليس شعارًا مَطليًّا بالذهب. وحريٌّ بي أن أقول كذلك إنه وشم باللون القرمزي، نظرًا لأن الوشم الكربوني لا يُظهر ظلالًا مرئية.»
قال دكتور نوربيري: «أعتقد أنك مُخطئ بخصوص ذلك، ولكن سنرى، إذا سمح لنا المدير بكشف المومياء. بالمناسبة، أعتقد أن تلك الأجزاء الصغيرة الموجودة أمام الرُّكبتين هي أجزاء معدنية؟»
«أجل، إنها أجزاء معدنية. ولكنها ليست أمام الركبتين؛ وإنما داخلها. إنها أجزاء من سلكٍ فضي مُستخدم لإصلاح رضفة الركبة.»
قال دكتور نوربيري وهو يُحدق في العلامات البيضاء الصغيرة بانبهار: «هل أنت مُتأكد من ذلك؟ لأنك إذا كنت متأكدًا، وإذا كانت هذه الأجزاء كما تقول، فإن مومياء سبك حتب هي عينة فريدة من نوعها تمامًا.»
قال ثورندايك: «أنا متأكد من ذلك تمامًا.»
قال نوربيري: «إذن، لقد توصَّلنا إلى اكتشاف. الفضل يرجع إلى روحك الباحثة. جون بيلينجهام المسكين! لم يكن يعرف الكنز الذي أهداه إلينا! كم تمنيتُ لو أنه عرف! كم تمنيتُ أن يكون معنا الليلة!»
توقف مرة أخرى ليُحدِّق بانبهار في الصورة. ثم قال ثورندايك بأسلوبه الهادئ والرزين:
«جون بيلينجهام هنا، دكتور نوربيري. هذا هو جون بيلينجهام.»
أجفل دكتور نوربيري وحدَّق في ثورندايك بدهشةٍ أعجزته عن الكلام.
وصاح بعد فترة توقفٍ طويلة: «أنت لا تقصد أن هذه المومياء هي جثة جون بيلينجهام!»
«بلى، أنا أقصد ذلك. لا شك في ذلك.»
«ولكن هذا مُستحيل! المومياء كانت موجودةً في المعرض قبل اختفائه بثلاثة أسابيع كاملة.»
قال ثورندايك: «الأمر ليس كذلك. شاهدتَ أنت والسيد جيليكو جون بيلينجهام آخِر مرة على قيد الحياة في الرابع عشر من أكتوبر، قبل أن تُنقل المومياء من ميدان كوين بأكثر من ثلاثة أسابيع. وبعد هذا التاريخ لم يرَه — حيًّا أو ميتًا — أي شخصٍ يعرفه أو يستطيع التعرُّف عليه.»
أخذ دكتور نوربيري يفكر في صمت لبعض الوقت. ثم سأل بصوتٍ واهن:
«في رأيك، كيف دخلت جثة جون بيلينجهام إلى هذا الغلاف الكرتوني؟»
قال ثورندايك بجفاء: «أظنُّ أن السيد جيليكو هو أكثر شخصٍ قادر على الإجابة عن هذا السؤال على الأرجح.»
ساد الصمت مرةً أخرى، ثم سأل دكتور نوربيري فجأة:
«ولكن ما الذي حدث لمومياء سبك حتب، في رأيك؟ أقصد المومياء الحقيقية؟»
قال ثورندايك: «أظنُّ أن رفات سبك حتب، أو على الأقل جزء كبير منها موجود في مشرحة وودفورد في انتظار التحقيق المؤجَّل.»
وبعد أن أدلى ثورندايك بهذا التصريح، انتابتْني ومضةٌ من الإدراك المتأخِّر يشوبها شعور بازدراء الذات. الآن بعد أن قُدِّم التفسير، كم كان الأمر واضحًا! ورغم ذلك، لقد أخطأت — وأنا مُتخصص كفؤ في علم التشريح والفسيولوجيا وتلميذ ثورندايك — في التعرُّف على هذه العظام القديمة وحسبتُها بقايا جثةٍ حديثة!
تفكَّر دكتور نوربيري في التصريح الأخير لبعض الوقت في ارتباكٍ واضح. وأخيرًا قال: «أعترف أن كل الأمور مُتَّسقة بالقدْر الكافي. ورغم ذلك، هل أنت متأكد تمامًا من عدم وقوع خطأ ما؟ الأمر لا يُصدَّق.»
ردَّ ثورندايك قائلًا: «أؤكد لك أنه لا يُوجَد أي خطأ. ولكي أقنعك، سأقدِّم لك الحقائق بالتفصيل. أولًا، فيما يخصُّ الأسنان. التقيتُ بطبيب الأسنان الخاص بجون بيلينجهام وحصلتُ على تفاصيل من سجل حالته. كان هناك خمسة ضروس محشوة؛ ضرس العقل الموجود في الفك العلوي ناحية اليمين، والضرس الطاحن المجاور له، والضرس الطاحن الثاني في الفك السُّفلي ناحية اليسار، جميعها محشوة بحشوٍ ذهبي. يمكنك أن تراها جميعًا بكل سهولة في صورة الأشعة هذه. والقاطعة الجانبية في الفك السُّفلي ناحية اليسار بها حشو صغير جدًّا من الذهب، والذي يمكنك أن تراه كنقطةٍ بيضاء مُستديرة. بالإضافة إلى هذا، حُشِيت السن الضاحكة الثانية في الفك العلوي ناحية اليسار بمزيجٍ من القصدير، بينما كان المتوفَّى مسافرًا إلى الخارج، هذه هي البقعة الرمادية التي رأيناها بالفعل. كل هذا، في حدِّ ذاته، يُقدِّم وسائل كافية لتحديد الهوية. ولكن بالإضافة إلى هذا، نجد الوشم الخاص بشعار عين أوزيريس …»
تمتم دكتور نوربيري قائلًا: «حورس.»
«حورس، إذن، في الموضع نفسه الذي وشمَه المُتوفَّى، وباللون نفسه فيما يبدو. كما يُوجَد أيضًا قطوب خيوط جراحية في رضفة الركبة؛ أخبرَني السير مورجان بينيت، بعد مراجعة الملاحظات المدوَّنة عن العملية، أنه أدخل ثلاثة خيوط جراحية في رضفة الركبة اليُسرى واثنين في رضفة الركبة اليمنى؛ وهذا ما تُبينه صورة الأشعة. وأخيرًا، كان المُتوفَّى يُعاني من كسر بوت قديم بالكاحل الأيسر. هو ليس واضحًا الآن، ولكني رأيتُه بوضوحٍ تام حين كانت ظلال العظام أكثر بياضًا. أظنُّ أن بعد كل هذا يمكنك أن تعتبر هوية الجثة ليست محلَّ شكٍّ أو سؤال.»
قال دكتور نوربيري في تسليم كئيب: «أجل، يبدو الأمر، كما قلتَ، محسومًا تمامًا. حسنًا، حسنًا، إنه أمر فظيع. العجوز جون بيلينجهام المسكين! يبدو الأمر استثنائيًّا كما لو أنه تعرَّض لمؤامرةٍ فظيعة. ألا تظنُّ ذلك؟»
ردَّ ثورندايك: «أجل هو كذلك. تُوجَد علامة على الجانب الأيمن من الجمجمة تبدو أشبه بكسر. ليست واضحة، نظرًا لوجودها في الجنب، ولكن لا بدَّ من تحميض الصورة لتظهر.»
أخذ دكتور نوربيري نفَسَه بحدَّة من بين أسنانه وقال: «هذا عمل بشع يا دكتور. عمل فظيع، وغريب أيضًا على أُمَّتنا. بالمناسبة، ما موقفنا في هذه المسألة؟ ما الخطوات التي يجب أن نتَّخذها؟»
«عليك أن تُخطر الطبيب الشرعي — سأتولَّى أنا أمر الشرطة — وعليك أن تتواصل مع أحد الأوصياء على تنفيذ الوصية.»
«السيد جيليكو؟»
«كلَّا، ليس السيد جيليكو في ظلِّ هذه الظروف الغريبة. من الأفضل أن تكتب للسيد جودفري بيلينجهام.»
«ولكني أعرف أيضًا أن السيد هيرست يشارك في تنفيذ الوصية.»
قال جيرفيس: «بالتأكيد، هو كذلك بواقع الحال.»
ردَّ ثورندايك: «ليس تمامًا. كان كذلك حين كان واقع الحال؛ إنما الآن هو ليس كذلك. يبدو أنك نسيتَ شرط البند الثاني من الوصية. يذكُر ذلك البند الشروط التي بموجبها يرِث جودفري بيلينجهام الجزء الأكبر من الممتلكات ويشارك في تنفيذ الوصية وهذه الشروط كما يلي: «تُدفن جثة الموصي في مكانٍ مُخول باستقبال جثث الموتى، ويقع ضمن حدود، أو بالقُرب من أماكن العبادة داخل أبرشية سانت جورج، بلومزبيري، وسانت جايلز في فيلدز أو سانت أندرو المُندرج تحتها أبرشية بارز والشهيد سانت جورج.» الآن المومياوات المصرية هي جُثث للموتى، وهذا المتحف هو مكان مُخول باستقبالها، وهذا المبنى موجود داخل حدود أبرشية سانت جورج، بلومزبيري. وبالتالي، فإن شروط البند الثاني مُستوفاة تمامًا، وبالتالي فإن جودفري بيلينجهام هو المُستفيد الرئيسي بموجب الوصية، والمشارك في تنفيذها، وفقًا لرغبات المُوصي. هل هذا واضح تمامًا؟»
قال دكتور نوربيري: «على نحوٍ مثالي، إنها أغرب صُدفة؛ ولكن، سيدتي الشابة العزيزة، أليس من الأفضل أن تجلسي؟ تبدين مُضطربة جدًّا.»
نظر في قلق إلى روث، التي بدت شفتاها شاحبة وكانت تتكئ في تثاقُلٍ على ذراعي.
قال ثورندايك: «أظن يا بيركلي، أنه من الأفضل أن تأخذ الآنسة بيلينجهام إلى قاعة العرض، حيث يُوجَد المزيد من الهواء. لقد كانت هذه ذروة هائلة لجميع الشدائد التي تحمَّلتها بكل شجاعة. اخرُجي مع بيركلي.» وأضاف بلطفٍ وهو يضع يده على كتفها: «اجلسي بينما سنُحمِّض الصورة. يجب ألا تنهاري الآن، تعلمين، حين تمر العاصفة وتُشرق الشمس.» فتح لها الباب وبينما كنَّا نخرج ألان وجهه بابتسامة تنمُّ عن اللطف الشديد قائلًا: «اسمحي لي أن أغلق باب هذه القاعة المظلمة للتصوير الفوتوغرافي الآن.»
وضع المفتاح في القفل وتوجهنا إلى قاعة العرض المُعتمة. لم تكن مُظلمة تمامًا، حيث تسلل ضوء القمر من هنا وهناك عبر الستائر التي غطت المناور. سِرنا ببطءٍ وذراعها تتشابك مع ذراعي، ولم يتحدَّث أي منَّا لبرهةٍ من الوقت. كانت القاعات الكبيرة يسودها صمت شديد وتتَّسم بالهدوء والوقار. تناسَب الصمت والسكون والغموض الذي يكتنف النماذج غير الواضحة المعالم في صناديق العرض من حولنا، مع الشعور العميق بالخلاص الذي غمر قلبَينا.
ومررْنا عبر القاعة المجاورة قبل أن يكسِر أيٌّ منَّا حاجز الصمت. تسللت يدانا على نحوٍ لا شعوري، وحين التقتا وتشابكتا بضغطةٍ متبادلة، قالت روث: «كم كان هذا مُروعًا ومأساويًّا! المسكين، العم جون المسكين! يبدو كما لو أنه عاد من عالم الأشباح ليُخبرنا بهذه الجريمة الشنعاء. ولكن يا إلهي! يا له من شعور مريح!»
التقطتْ أنفاسها في تنهيدةٍ أو اثنتين وضغطتْ على يديَّ بشغف.
قلت: «لقد انتهى الأمر يا عزيزتي. انتهى إلى الأبد. لم يتبقَّ شيء سوى ذكرى حزنك وشجاعتك وصبرك النبيل.»
همهمت قائلة: «لا أستطيع أن أُدرك ذلك بعد. الأمر أشبه بحلمٍ مُخيف لا نهاية له.»
قلت: «لنُنحِّي الأمر جانبًا ونفكر فقط في الحياة السعيدة الوشيكة.»
لم يأتني منها رد، مجرد التقاط سريع لأنفاسها، بين الحين والآخر، وَشَى بالمعاناة الطويلة التي تحمَّلتْها بهدوء بطولي.
سِرنا ببطء، لا نكاد نقطع الصمتَ بوقع خطواتنا الرقيقة، عبر المدخل الشاسع للقاعة الثانية. بدت الأشكال المُبهمة لتوابيت المومياوات تقف مُنتصبةً في نوافذ العرض المُثبتة بالحائط غامضةً وعملاقة. المُراقبون الصامتون يقظون بالذكريات المحبوسة في صدروهم الغامضة. كانوا صحبة رائعة. الناجون المُوقرون من عالم مُختفٍ، ينظرون من مكان إقامتهم الكئيب؛ ولكن بدون تهديد أو حقد في حضورهم الصامت؛ وإنما مباركة مهيبة لبشرٍ عابرين في عالم اليوم.
وفي منتصف القاعة، ظلَّ شكلٌ شبحي، بمعزِل عن باقي صحبته، بدا مكان وجهه بقعةً قاتمة وشاحبة. في نفس اللحظة، وقفنا أمامه.
سألتها: «أتعرفين من هذا يا روث؟»
أجابت قائلة: «بالطبع، أعرف. إنه أرتيميدورس.»
وقفنا، مُتشابكي اليدين، أمام المومياء، تاركَين ذكرياتنا تملأ الصورة الظلية الغامضة بتفاصيلها المحفوظة جيدًا. في تلك اللحظة، اقتربت منها أكثر وهمست لها:
«روث! أتذكرين متى كانت آخر مرة وقفنا هنا؟»
ردَّت بحماس قائلة: «كما لو أن بإمكاني أن أنسى! أوه، بول! الحزن! التعاسة! كم اعتصر الألم قلبي حين قلتها لك! هل كنتَ حزينًا جدًّا عندما تركتك؟»
«حزين! لم أعرف المعنى الحقيقي لكسرة القلب إلا حينها. بدا الأمر وكأن الضوء قد انطفأ من حياتي إلى الأبد. ولكن لم يتبقَّ سوى بقعة ساطعة صغيرة.»
«ماذا كانت هذه؟»
«لقد قطعتِ لي وعدًا يا عزيزتي؛ وعدًا قاطعًا، وشعرت — على الأقل كنتُ آمل — أن يأتي اليوم، فقط إذا انتظرتُ بفارغ الصبر، حين تتمكنين من الوفاء به.»
اقتربتْ منِّي أكثر فأكثر، حتى استقرَّت رأسها على كتفي ولامسَت وجنتها الناعمة وجنتي.
همستُ قائلًا: «حبيبتي العزيزة، هل الآن؟ هل حان وقت الوفاء بالوعد؟»
تمتمتْ برفقٍ قائلة: «أجل يا عزيزي، الآن، وإلى الأبد.»
احتضنتُها بين ذراعيَّ بإجلال؛ وضممتُها إلى القلب الذي يعشقها بلا حدود. من الآن فصاعدًا، لن تستطيع الأحزان أن تؤذينا، ولا تستطيع فجيعةٌ أن تُربكنا؛ لأننا سنسير متشابكي الأيدي في رحلتنا الدنيوية وسنعثُر على طريق أقصر كثيرًا.
لا شك أن الزمن، الذي تمضي رماله بسرعةٍ غير متكافئة بين العدل والظلم، الفرح والترَح، تخلف مع الإرهاق الذي تركناه في القاعة. أما بالنسبة لنا، فقد كانت حباته الذهبية تسيل سريعًا، تاركةً الزجاجة فارغة قبل أن نلاحظ مروره. أيقظنا من حُلمنا بالسعادة المثالية استدارة مفتاحٍ وفتح أحد الأبواب. رفعت روث رأسها لتسمع، والتقت شفتانا للحظةٍ عابرة. ثم، بتحيةٍ صامتة إلى صديقنا الذي لاحظ حُزننا وشهد نهايتنا السعيدة، استدرْنا وعُدنا بخطواتنا سريعًا، لنملأ القاعات الخاوية بأصداء الثرثرة.
قالت روث: «لن نذهب إلى القاعة المُظلمة، التي لم تعُد مظلمة الآن.»
سألتها: «ولمَ لا؟»
«لأنني عندما خرجتُ كنت شاحبة جدًّا، أنا الآن … حسنًا، لا أظن أنني شاحبة جدًّا الآن. بالإضافة إلى أن العم جون المسكين موجود بالداخل، ولا بد أن أشعر بالخجل وأنا أنظر إليه بقلبٍ أناني يفيض بالسعادة.»
قلت: «يجب ألَّا تكوني كذلك. إنه يومنا ومن حقِّنا أن نكون سعيدَين. ولكن لن تدخلي، إذا كنتِ لا ترغبين.» هكذا قُدتها ببراعةٍ أمام شعاع الضوء الذي يتدفَّق من الباب المفتوح.
قال ثورندايك، وهو يخرج مع الآخرين: «قُمنا بتحميض الصور السالبة، وسأتركها في عهدة دكتور نوربيري، الذي سيمضي على كل واحدةٍ منها حين تجف، نظرًا لأنها قد تُقدَّم كدليل. ما الذي ستفعلانه؟»
نظرتُ إلى روث لأرى ما الذي تتمنَّاه.
قالت: «إذا كنتَ لا تعتبرني جاحدة، أودُّ أن أنفرد بأبي الليلة. إنه ضعيف جدًّا، و…»
قلت بسرعة: «أجل، أتفهَّم ذلك.» وفعلت. كان السيد بيلينجهام رجلًا ذا مشاعر فيَّاضة وعلى الأرجح سيُنهكه التغيير المفاجئ للمقادير وخبر وفاة أخيه المأساوية.
قال ثورندايك: «في هذه الحالة، سأطلب خدماتك. هلَّا ذهبت إلى مكتبي وانتظرتني هناك، بعد أن تُوصِّل الآنسة بيلينجهام إلى المنزل؟»
وافقتُ على هذا، وتوجَّهنا تحت رعاية دكتور نوربيري (الذي حمل المصباح الكهربائي) لنعود من الطريق الذي جئنا منه؛ اثنان منَّا على الأقل كانا في حالةٍ ذهنية مختلفة تمامًا. انفضَّ الجمع عند بوابات الدخول، وحين ودع ثورندايك رفيقتي، أمسكتْ بيده ونظرتْ إلى وجهه بعينين دامعتَين.
قالت: «لم أشكرك بعدُ دكتور ثورندايك. وأشعر أنني عاجزة عن الشكر. فما فعلته من أجلي ومن أجل والدي يفوق سُبل التعبير عن الشكر. لقد أنقذتَ حياته وأنقذتني من العار الفظيع. إلى اللقاء! بارككَ الرب!»
العربة التي انطلقت باتجاه الشرق — بأقصى سرعةٍ بلا داعٍ — حملت اثنين من أسعد المخلوقات داخل الحدود الشاسعة للمدينة. نظرتُ إلى رفيقتي بينما كانت أضواء الشوارع تسطع داخل العربة، كنا مندهشين من التحوُّل. تحوَّل شحوب وجنتَيها إلى اللون الوردي الزهري، واختفت الصلابة والتوتر والقمع الذاتي المنهك الذي جعل وجهها أكبر من سنِّها، وعادت العذوبة الأنثوية التي سحرتني في أيام حُبنا الأولى. وظهرت الغمَّازات أيضًا بمجرد أن رُفعت الأسواط الكاسحة والتقتْ عيناها بعينيَّ بابتسامةٍ رقيقة غير مُتناهية.
لم نتحدَّث كثيرًا في تلك الرحلة القصيرة. كنَّا سعداء بالدرجة الكافية للجلوس، مُتشابكَي الأيدي، مُدركَين أن وقت مُحاكمتنا قد مر، ولن تُفرقنا الأقدار أبدًا الآن.
قادنا سائق العربة المندهش، في ضوء إرشاداتنا، إلى مدخل شارع نيفيلز، وراقبنا في اندهاش ونحن نختفي إلى داخل الممر الضيق. كان الشارع هادئًا ليلًا، ولم يلاحظ أحد عودتنا؛ ولم تنظر إلينا العيون المُتطفلة من جهة المنزل الداكن بينما كان يودِّع كلٌّ منَّا الآخَر، داخل البوابة.
سألتني: «ستأتي لتزورنا غدًا يا عزيزي، أليس كذلك؟»
«هل تظنين أنني يُمكنني البقاء بعيدًا، بعد الآن؟»
«لا آمُل ذلك، ولكن تعالَ في أقرب وقتٍ ممكن. سيتوق والدي كثيرًا لرؤيتك؛ لأنني سأُخبره عنك، كما تعرف. وتذكَّر؛ أنت من أنقذنا وخلَّصنا من كلِّ هذا. طابت ليلتك، بول.»
«طابت ليلتك، حبيبتي.»
رفعَتْ وجهها ببراءة لأُقبلها ثم ركضتْ إلى الباب العتيق، حيث لوَّحت لي مُودعة الوداع الأخير. أغلقتُ البوابة المُهترئة الموجودة في الجدار خلفي وحجبتُها عن رؤيتي؛ ولكن رافَقَني نور حُبها وحوَّل الشوارع الكئيبة إلى طريق للمجد.